يوم الأحد 25 يوليو 2021 أعلن رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد إقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان لمدة 30 يوما قابلة للتمديد في تصعيد مثير للأزمة السياسية والاقتصادية التي تتخبط فيها تونس مما دفع أعدادا كبيرة من الناس للاحتشاد في العاصمة دعما له لكن معارضيه وصفوا هذه الاجراءات بأنها انقلاب.
أدت سنوات من الشلل والفساد وتراجع خدمات الدولة والبطالة المتزايدة إلى استياء تونسيين كثيرين بالفعل من النظام السياسي قبل أن تعصف جائحة كوفيد-19 بالاقتصاد عام 2020 وارتفاع معدلات الإصابة بالمرض صيف سنة 2021.
وكان قد تم انتخاب الرئيس والبرلمان في انتخابات شعبية منفصلة في سنة 2019 في حين تولى رئيس الوزراء هشام المشيشي منصبه في صيف سنة 2020 ليحل محل حكومة أخرى لم تستمر سوى فترة وجيزة.
وتعهد سعيد، المستقل دون وجود حزب خلفه سنة 2019، بإصلاح نظام سياسي معقد يعاني من الفساد. في غضون ذلك أسفرت الانتخابات التشريعية عن برلمان مقسم لم يشغل فيها أي حزب نصيب الأغلبية.
يوم الأحد 25 يوليو 2021 قال الرئيس قيس سعيد إنه سيتولى رئاسة السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس وزراء جديد وذلك في أكبر امتحان لدستور عام 2014 الذي وزع السلطات بشكل ملتبس بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والبرلمان.
وذكر الرئيس إن الإجراءات التي اتخذها تتوافق مع المادة 80 من الدستور وأشار أيضا إلى المادة التي تقضي بتعليق حصانة أعضاء البرلمان.
وقال "لم نكن نريد اللجوء للتدابير على الرغم من توفر الشروط الدستورية ولكن في المقابل الكثيرون شيمهم النفاق والغدر والسطو على حقوق الشعب".
من جانبه اتهم رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي، ورئيس حزب النهضة، الرئيس سعيد "بالانقلاب على الثورة والدستور" وذلك في اتصال هاتفي مع رويترز.
وقال الغنوشي "نحن نعتبر المؤسسات ما زالت قائمة وأنصار النهضة والشعب التونسي سيدافعون عن الثورة".
وانضم زعيم حزب الكرامة والرئيس السابق منصف المرزوقي إلى حزب النهضة في وصف تحرك سعيد بأنه انقلاب.
وصرح المرزوقي بيان مصور إن "هذا انقلاب وادين الانقلاب ولا يمكن القبول به. أطالب الشعب التونسي أن ينتبه إلى من يتصور بداية الحل هو بداية الانزلاق حول وضع أكثر سوء".
الكاتب والمحلل السياسي، باسل ترجمان، وصف من جانبه احتفالات تونسيين بقرارات الرئيس بـ"المنطقية"، قائلا إنها تعبر عن حالة الغضب الشعبي من "فشل المنظومة السياسية التي قادت تونس إلى أن تصبح دولة فاشلة على جميع الأصعدة، الصحية والاقتصادية الاجتماعية، مضافا إليها أزمة سياسية خانقة".
في الأيام التالية اتخذ الرئيس سعيد سلسلة من القرارات بينما قررت السلطة القضائية فتح تحقيقات حول حصول ثلاثة أحزاب تونسية على تمويلات من دول وتنظيمات أجنبية.
الدعم
وكالة رويترز ذكرت في قصاصة لها ليلة الأحد الأثنين 25 و 26 يوليو: تدفق عشرات الآلاف من التونسيين إلى شوارع العاصمة بعد فترة وجيزة من إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد قراراته وذلك للإشادة بهذه الخطوات.
واحتفل أنصار سعيد بقراره وبالسقوط المتصور لحركة النهضة والتي تعد أكبر حزب في البرلمان وخصمه السياسي الرئيسي بالهتافات والزغاريد وإطلاق أبواق السيارات والألعاب النارية.
وأظهر ذلك كيف أنه بعد مرور عشر سنوات على ثورة تونس 2011 التي قادت إلى تطبيق النظام الديمقراطي المستوحى من الغرب، لا يزال نشاط الشارع يمثل قوة محتملة ويمكن أن يؤدي إلى مواجهة بعد أن دعا حزب النهضة الناس إلى الاحتجاج ضد سعيد.
ومثلت الحشود التي تجمعت في ساعة متأخرة من مساء الأحد خرقا لحظر التجول الذي فرضه كوفيد-19 مع تجمعهم في أحياء ومدن في جميع أنحاء تونس وعلى طول شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي في العاصمة والذي يعد منذ أمد بعيد مركزا لأي احتجاجات في العاصمة.
وسار آلاف ومن بينهم عائلات كثيرة على طول الشارع الذي تصطف على جانبيه الأشجار وهم يرفعون علم تونس ويرقصون ويضيئون المشاعل الحمراء.
وقالت أميرة عابد وهي تقبل العلم التونسي بوسط مدينة تونس "كان الرئيس شجاعا جدا.. نعلم أن هذا ليس انقلابا".
وبعد ذلك بفترة وجيزة وصل سعيد نفسه للقاء أنصاره المبتهجين في نفس الشارع الذي شهد أكبر الاحتجاجات في 2011 أثناء ثورة أصبح الآن إرثها الديمقراطي على المحك.
في الأيام التالية ليوم الأحد 25 يوليو أصبحت أحداث تونس محور انشغال وتحرك حكومات وسياسيين اقليميا ودوليا وأظهرت كما كان متوقعا تباينا في المواقف، كما انشغلت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بالحدث التونسي، وانقسمت القنوات التلفزيونية ومحطات الاذاعة بين من تروج على أن هذا الحدث انقلاب على الديمقراطية، وأخرى وصفته تصحيحاً لمسار التحول الديمقراطي.
آخرون قدروا أن التحولات الأخيرة في تونس تشكل الفصل الختامي لمشروع المحافظين الجدد حول الشرق الأوسط الجديد القاضي بتقسيم المنطقة إلى ما بين 54 و 56 دولة على أسس عرقية وطائفية ودينية.
خطوات
الرئيس قيس سعيد أكد أن البلاد ستتجاوز العقبات والاختلالات المالية وأنه اختار الوقوف في صف الشعب للحفاظ على وحدة الدولة، مؤكداً أن جملة من القرارت الأخرى ستصدر في شكل أوامر "وفق الدستور حتى يعود السلم الاجتماعي إلى البلاد وننقذ الدولة والمجتمع".
وجدد سعيد تأكيده على أنه لا تراجع عن الحقوق والحريات ولا مجال للمساس بها أو الاعتداء عليها، مشيراً إلى أنه اختار أن يقف في صف الشعب التونسي للحفاظ على وحدة الدولة وحمايتها من الفساد الذي نخر مفاصلها.
يتفق متابعون للشأن العام في تونس على أهمية التسريع في إعلان اسم رئيس الحكومة وبدء المشاورات وإطلاع الرأي العام على نوع الحكومة وتركيبتها، علاوة على توضيح معالم الفترة المقبلة وتقديم خريطة طريق واضحة تتضمن جدولاً زمنياً ومحطات معلومة لجميع التونسيين، من أجل وضع حد للشائعات التي تنتشر في المناخ السياسي المرتبك.
ويرى أستاذ تاريخ العلوم السياسية محمد ذويب أن "أولوية المرحلة المقبلة هي اتخاذ جملة من الإجراءات اللازمة المتعلقة بالوضع الصحي، كتسريع عملية التطعيم، إضافة إلى بعض الإجراءات الاقتصادية المتعلقة بالواقع اليومي للمجتمع التونسي الذي أُنهكت فئاته وطبقاته بمعظمها بسبب الفقر والبطالة، مثل خفض أسعار المواد الأساسية وضرب الاحتكار واللوبيات التي تتحكم في توزيع المواد الأساسية، وضمان توافرها في الأسواق".
ويعتقد أن ثمة "ضرورة لاتخاذ جملة من الإجراءات السياسية، خصوصاً تركيز حكومة مصغرة من الكفاءات وتمتاز بالخبرة ونظافة الكف، والتسريع في وضع آليات فاعلة لمكافحة الفساد، وإيقاف كل من تتعلق به شبهات فساد، ووضع خريطة طريق واضحة لطمأنة الداخل والخارج، خصوصاً مع حالة التوجس والترقب، من جهات عدة داخل تونس وخارجها، لا سيما من شركائها الاقتصاديين".
ثلاثة سيناريوهات
ويتقاسم النائب السابق هشام الحاجي مع ذويب الهواجس ذاتها، مشددا على ضرورة التسريع في الإعلان عن خطة العمل خلال المرحلة المقبلة. ويأمل بذل الجهد في مقاومة تفشي فيروس كورونا وطمأنة المواطنين بشأن الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
ويؤكد أن إصلاح الوضع الراهن المتأزم يحتاج إلى وقت وجهد، إلا أن الإجراءات العاجلة الاجتماعية والاقتصادية ربما تتضمن رسالة بشأن التوجهات المقبلة لسعيد.
ويدعو الحاجي رئيس الجمهورية إلى الإعلان عن خريطة طريق للمرحلة المقبلة، وتحديد موعد الانتخابات السابقة لأوانها، وتحديد إن كانت تشريعية فحسب أم تشريعية ورئاسية، وهل سيكون هناك إجراء استفتاء حول تعديل الدستور أم لا؟
جاء في تحليل نشر في العاصمة الأمريكية واشنطن:
ثلاثة سيناريوهات جرى تداولها منذ اللحظة الأولى لاشتعال الحدث التونسي: تركيا 2016، مصر 2013، الجزائر زمن العشرية السوداء...مع أن هذه السيناريوهات جميعها، سيفقد أرجحيته، بعد أيام قلائل فقط، انقضت على قرارات سعيد الاستثنائية.
أولاً، في السيناريو التركي، إذ بدا للوهلة الأولى، أن "شيئاً ما" قد دار في خلد زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي في الساعات الأولى لانقلاب سعيد، عندما دعا أنصار حركته والشعب التونسي، للنزول إلى الشوارع لحماية الثورة والدستور، ولاذ معتصماً ببوابة البرلمان التونسي المغلق والمجمد...بيد أن الصدمة الأولى لزعيم النهضة وأنصاره، جاءت مزدوجة: فلم تلق نداءاته الاستجابة الشعبية المأمولة، فيما غالبية وزانة من الشعب التونسي، آثرت الاحتفال بقرارات سعيد وإجراءاته...هنا وقعت الخيبة الأولى، وبدا أن إعادة انتاج سيناريو الانتفاضة الشعبية ضد محاولة الانقلاب العسكري على رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية في العام 2016، تبدو متعذرة، إن لم نقل مستحيلة.
والحقيقة التي غابت عن ذهن زعيم النهضة على ما يبدو، أن حركته اليوم لم تعد بالقدر ذاته من الصدقية والجماهيرية الذي كانت عليه زمن الإطاحة بزين العابدين بن علي، ومع أن الأرقام والمعطيات سبق وأن أعطت ما يكفي من مؤشرات على تآكل شعبية النهضة، لكن يبدو أن "التفكير الرغائبي" يُلقي بأصحابه إلى قارعة "حالة إنكار" شديدة الغرابة والخطورة...والأرقام قالت أن النهضة خسرت ثلثي طاقتها التصويتية "مليون صوت تقريباً" ما بين أول وآخر انتخابات جرت في تونس في العقد الأخير، ثم أن الحركة التي ظلت تتقدم صفوف الأحزاب في كل الانتخابات، برغم تراجع حصتها من أصوات الناخبين ومقاعد البرلمان، لا بد وأن تتحمل القسط الأوفر من المسؤولية عن إخفاقات السنوات العشر الماضية، اقتصادياً واجتماعياً وصحياً "كورونا مؤخراً"، والحركة أصابها ما أصاب أي حزب سياسي من أمراض البقاء في السلطة وعوارضها، دع عنك تداعيات نظرية "التمكين" الإخوانية، التي تؤثر الجماعة على المجتمع، والحزب على الدولة.
وثمة اعتقاد بأن فرص إعادة إنتاج سيناريو تركيا – 2016 في تونس، تتراجع مع كل يوم يمر على إجراءات الرئيس سعيد، ومع كل حزب أو نقابة أو منظمة، تعيد تقييم وتقويم موقفها من "الانقلاب"، وليس مستبعداً أبداً أن تجد النهضة نفسها، وحيدة ومعزولة في مواجهة طوفان القرارات والإجراءات الاستثنائية التي يتخذها الرئيس سعيد، سيما وأن قوى شعبية ونقابية وحقوقية وحزبية تونسية وازنة، ما انفكت تراجع مواقفها وتتراجع عن ردة فعلها الأولى.
هنا أيضاً نفتح قوسين، لنورد ملاحظة هامة في سياق هذا التحليل، وهي أن الرئيس سعيد، بخلاف جنرالات الجيش التركي، جاء إلى سدة موقعه عبر صناديق الاقتراع، وهو في الأصل رجل دستور وحقوق، وجاء انتخابه من خارج المنظومة الحزبية والطبقة السياسية التونسية، بمثابة صفعة للمنظومة والطبقة سواء بسواء، وهو بخطواته الاستثنائية، حظي بتأييد الجيش والمنظومة الأمنية وقطاعات واسعة من الشعب التونسي، قبل أن يلقى تفهماً "وتأييداً في كثير من الأحيان" من كبريات المنظمات المدنية التي لعبت دور "شبكة الأمان" لتونس ما بعد ابن علي، واستحقت جائزة نوبل للسلام تقديراً لجهودها.
والجيش في تونس، بخلاف التجربة التركية، ليس له تاريخ في التدخل بالسياسة وتنظيم الانقلابات، وهو وإن محض الرئيس تأييده المضمر، إلا أنه يفعل ما يفعل من منظور "تفويضه" في حفظ أمن البلاد وسيادتها واستقلالها وسلامة حدودها، وهو يحظى بتقدير وثقة غالبية التونسيين، على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم.
ثانياً، في السيناريو المصري "2013"، منذ الإطاحة بالملكية في مصر قبل سبعة عقود، ظلت المؤسسة العسكرية المصرية في قلب دائرة الفعل السياسي، قبل أن تصبح في صميم المعادلة الاقتصادية المصرية كما حصل مؤخراً...هذه الحالة لم تعرفها تونس بعد الاستقلال ولا قبله بالطبع، والجيش التونسي أقرب إلى مفهوم "الجيش المهني" الملتزم ثكناته...وإذا كانت العلاقة بين "الدولة العميقة" في مصر، وإخوانها، هي في التحليل الأخير، تجسيد للعلاقة بين الجيش والإخوان، فإن المعادلة في تونس تبدو مختلفة نوعاً.
بخلاف مصر، تجذرت العلمانية – البورقيبية في الدولة والمجتمع والمدرسة الوطنية، ولعب المجتمع المدني التونسي دور "المعادل الموضوعي" لنفوذ الإخوان "النهضة" وشعبيتهم، لم تكن هناك حاجة للدولة العميقة وجيشها لخلق هذا "المعادل الموضوعي" كما في التجربة المصرية... مصر دولة قوية ومجتمع ضعيف، بخلاف تونس حيث تتفوق قوة المجتمع على قوة الدولة... الأمر الذي تنتفي معه الحاجة لتكرار سيناريو الانقلاب العسكري المتدثر بلبوس "ثورة شعبية"...إن تأثير "رباعي الوساطة" بقيادة الاتحاد التونسي للشغل، كان أبلغ وأفعل من التأثير الذي لعبه المجلس العسكري المصري في مرحلة الانتقال، ولعل هذا – من بين عوامل أخرى – هو ما جعل تونس تمثل "الاستثناء" في عشرية الربيع العربي، وأكسبها كل هذا العطف والتضامن على المستويين الإقليمي والدولي...ولا حاجة لتونس بسيناريو مصر – 2013، ولا فرص جدية لرجحان كفة هذا السيناريو.
ثالثاً، عشرية الجزائر السوداء، حين استجر "الانقلاب" على فوز الإسلاميين في الانتخابات العامة، بحراً من الدماء والضحايا "150-200 ألف قتيل"، وعشر سنوات من الرصاص والدم، وهو السيناريو الذي خشيه البعض، إذ ظن بأن النهضة قد تقتفي أثر الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، مدشنة مرحلة من العنف والاقتتال الأهليين في البلاد.
مثل هذه "النبوءة السوداء"، لم تلحظ الفوارق الجوهرية بين زمنين وتجربتين، فلا النهضة تنتمي إلى مدرسة "الإنقاذ" ذاتها، برغم قواسمهما "الاسلاموية" المشتركة...ولا تونس ما بعد الاستقلال، هي جزائر ما بعد حرب التحرير، إن لجهة طبيعة الدولة ومستوى علمنتها، أو لجهة أدوار المجتمع المدني وأوزانه، ثم أن السياق الإقليمي والدولي بين تونس اليوم وجزائر ما قبل ثلاثة عقود، يظهر قدراً أقل من التسامح مع حركات إسلاموية مدججة بالسلاح والكراهية، سيما بعد أن اكتوى الإقليم والعالم، بنيران داعش والقاعدة، طيلة عشريتين من السنين.
لقد أدركت النهضة الحدود الضيقة لما يمكن أن تفعله، وآثرت "النجاة" و"السلامة"، مع أن خطاب "المظلومية" الذي تستحضره بقوة هذه الأيام، قد يفسح في المجال أمام فئات منها أو أمام إسلاميين متشددين من خارجها، للتفكير "وربما العمل" باللجوء إلى خيارات القوة والعنف...لكن وبفرض أن أمراً كهذا، قد يحدث، إلا أنه في جميع الأحوال، لن يبلغ ضفاف "السيناريو الجزائري".
أغلب الظن، أن "الاستثناء التونسي" سيعاود اجتراح طريق خاص بتونس للخروج من مأزقها، وأغلب الظن، أن ثمة قدر كبير من المبالغة في الخشية والقلق على المسار الانتقالي التونسي...فالعطف الدولي على تونس، نجح بعد أيام قلائل من قرارات الرئيس سعيد وإجراءات الاستثنائية، في "تدوير الزوايا" في مواقف الرئيس والنهضة سواء بسواء...الأول، لا يتوقف عن إطلاق الالتزامات بالعودة إلى المسار الديمقراطي – المؤسسي في أقرب الآجال، متراجعاً خطوة للوراء عن "وضع يده" على القضاء التونسي، ومرغَماً على تنسيق خطوات مع أبرز مؤسسات المجتمع المدني...والنهضة، تبدي الاستعداد لتقديم "تنازلات مؤلمة" إن تطلب الأمر، لاستئناف هذا المسار، بعد أن وجدت الجَمعَ آخذ في الانفضاض من حولها، وبعد أن أدركت أن تونس 2021 ليست تونس 2011.
وأياً كانت مضامين خريطة الطريق التي سيتقدم بها سعيد أو غيره من منظمات المجتمع المدني وأحزاب تونس، وأياً كانت آجالها الزمنية، فإن ثمة "كتلة تاريخية"، قادرة على حماية الثورة وحفز مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد، وتصحيح ما اصاب التجربة من شقوق وثقوب، وتحديداً في ميادين الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي والصحي.
الطريق إلى الأزمة
قدرت عدة مراكز رصد منذ نهاية سنة 2020 أنه إن لم تحدث تحولات جذرية في تونس قبل نهاية سنة 2021 فإن البلاد ستصل إلى مرحلة الفشل التام خاصة على الصعيد الاقتصادي وقد تنجر إلى حالة من الفوضى كتلك التي تعاني منها ليبيا.
جاء في بحث نشر في العاصمة الألمانية برلين بتاريخ 30 مايو 2021:
مؤشرات عديدة للاقتصاد التونسي تنبئ بأزمة إفلاس تهدد بتراجع الإنتاج والخدمات ومزيد من البطالة والتدهور في مستوى المعيشة التونسيين.
تشير العديد من مؤشرات الاقتصاد التونسي هذه الأيام إلى تدهور ينذر بأزمة مشابهة لأزمة الاقتصاد اللبناني. فمصادر الدخل تتراجع بأسرع من المتوقع، لاسيما وأن تبعات كورونا على السياحة كارثية. ومن أبرز مؤشرات التدهور انكماش الاقتصاد بنحو 9 بالمائة خلال عام 2020 وارتفاع معدل البطالة الرسمي إلى 18 بالمائة في الوقت الذي يتوقع وصوله بين الشباب إلى أكثر من 30 بالمائة.
كما تضخم جبل الديون إلى حد أن تونس لا تستطيع دفع الأقساط والفوائد دون الحصول على قروض جديدة من صندوق النقد الدولي. ويتعين على البلاد هذه السنة تسديد ما يزيد على 4.5 مليار دولار لخدمة الديون والحصول على نحو 6 مليارات دولار أخرى لتمويل الموازنة وسد العجز فيها. وقد وصل الدين الخارجي إلى نحو 30 مليار يورو أي ما يزيد على 100 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في وقت تقدر فيه نشرة الغرف الاقتصادية النمساوية احتياطات البلاد بنحو 7 مليارات يورو فقط.
وحسب وزير المالية السابق حكيم بن حمودة فإن الأزمة الحالية تهدد بإفلاس وشيك للدولة التي تبحث عن مصادر مالية جديدة وسط أزمة سياسية تلقي بظلالها على الوضع الاقتصادي الذي يزداد تعقيداً وصعوبة. وقد أوصلت هذه الخلافات البلد إلى حالة من الشلل السياسي، لاسيما وأنها تدور على أعلى المستويات وخاصة بين رئاسة الجمهورية ممثلة بالرئيس قيس سعيد، وحركة النهضة، وهي أقوى حزب في البرلمان الحالي الذي يتولى رئاسته زعيمها راشد الغنوشي.
وعلى ضوء قوة الحركة في البرلمان فإنها قادرة على التحكم بشكل واسع بقرارات الحكومة شبه المستقلة التي يرأسها هشام المشيشي الذي لا ينتمي إلى حزب سياسي. وفي الوقت الذي يصف فيه وزير الاقتصاد التونسي على الكعكي الوضع بالحرج، فإن البعض يذهب إلى حد التحذير من تكرار سيناريو الأزمة الاقتصادية اللبنانية في تونس، ما لم يأتي الإنقاذ من الخارج.
الأزمة الحالية
معروف عن الاقتصاد التونسي أنه كان من أكثر اقتصاديات الدول العربية تنوعاً، لاسيما وأنه كان قبل عقد من الآن يتمتع بزراعات متنوعة وفي مقدمتها الزيتون التونسي ذو الشهرة العالمية. كما تتمتع بصناعات انسجة وألبسة وصناعات تحويلية أخرى شكلت إيراداتها آنذاك أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي لتونس.
غير أن مرحلة الانتقال السياسي المستمرة والصعبة بعد سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي وتبعات جائحة كورونا وما سبقها من هجمات إرهابية ألحقت الإهمال بالقطاعات المحلية المنتجة من قبل النخب السياسية التي تولت السلطة منذ ذلك الحين. وبغض النظر عما يقال في الجدل الحاد حول خلفيات الأزمة الحالية، فإن الأوضاع الاقتصادية ما كانت لتصل إلى هذا الحد من التدهور لولا هذا الإهمال وانشغال هذه النخب بمعارك سياسية هامشية بعيداً عن وضع خطط تنموية مستدامة تعزز دور القطاعات التونسية المنتجة بتكاليف أقل بكثير من تكاليف الاقتراض الخارجي ودفع مليارات الدولارات لاستيراد سلع مدعومة ومنافسة للمنتجات المحلية.
كما ان النخب المذكورة لم تحاول إصلاح وإعادة هيكلة مؤسسات القطاع العام بشكل جدي بهدف زيادة الصادرات والحد من عجز الميزان التجاري المستمر بالتفاقم. وقد تراوح هذا العجز بين 6 وأكثر من 7 مليارات خلال السنوات الثلاث قبل الماضية. وعلى ضوء تبعات جائحة كورونا لا يتوقع أن يكون هناك تراجع في نسبة العجز المذكور.
ومع استمرار الجائحة ومعها تدهور السياحة إلى أكثر من 64 بالمائة خلال عام 2020 حسب نشرة الغرف الاقتصادية النمساوية، إضافة إلى تراجع أداء الزراعة والصناعة وارتفاع الأسعار وتراجع الإيرادات الضريبية يبدو الأمل الوحيد في الوقت الحالي معلقاً على قرض جديد من صندوق النقد الدولي حسب خبراء ومسؤولين بينهم توفيق الراجحي، وزير الإصلاح السابق الذي قال مؤخراً بأن "القرض فرصة أخيرة لتحاشي انهيار وشيك". ويدعم هذا الاستنتاج تراجع حماسة الدول الداعمة لتونس تراجعت على صعيد استعدادها لتقديم المزيد من الهبات والقروض والمساعدات لأسباب عدة من بينها تراجع قدرتها على ذلك في ضوء تبعات كورونا على اقتصادياتها.
صعوبة الوفاء بشروط النقد الدولي
تتفاوض الحكومة التونسية برئاسة المشيشي على قرض رابع من صندوق النقد الدولي بقيمة حوالي 4 مليارات دولار. وفي حال سارت الأمور على ما يرام فإن هذا القرض ينبغي أن يبدأ تقديمه نهاية صيف 2021 وسيكون الرابع من نوعه في غضون عشر سنوات. ولم يسبق للبلاد أن اعتمدت مثل هذه الوتيرة في طلب قروض من الصندوق. وفي الوقت الذي يرى فيه محافظ البنك المركزي مروان العباسي أنه لا يوجد حل إلا بالتفاوض مع هذا الصندوق لا يجاد تمويلات لموازنة البلاد، فإن المشكلة تكمن في الوفاء بشروط هذه التمويلات.
ومن أبرز الشروط قيام الحكومة بإصلاحات اقتصادية عميقة ومؤلمة على الصعيد الاجتماعي. ومن ضمن ما تشمله تقليص دعم السلع الأساسية وتخفيض الإنفاق على الأجور في القطاع الحكومي وبيع أسهم وحصص الدولة في مؤسسات القطاع العام وإعادة هيكلة هذا الأخير. وتكمن المعضلة الأساسية هنا في ضعف قدرة الحكومة بالقدرة على القيام بالإصلاحات في خضم خلافات عميقة بين أركان السلطة ومعارضة الشارع والاتحاد التونسي للشغل الذي يحظى بشعبية كبيرة من جهة أخرى.
لكن من بين الأسئلة التي يتم طرحها في هذا السياق، هل يمكن لقرض من هذا النوع حل مشاكل تونس الاقتصادية في حال تم الاتفاق عليه رغم الخلافات السياسية القائمة بين صناع القرار الأساسيين من منطلق الحرص على تعزيز فترة الانتقال الديمقراطي؟.
تونس والسيناريو اللبناني
يشبه الاقتصاد التونسي نظيره اللبناني في أكثر من مجال، لاسيما عندما يتعلق الأمر بدور السياحة وقطاعات خدمية وتحويلات المغتربين والاعتماد على القروض الخارجية. وإذا كان لبنان قطع الشوط الأكبر في الطريق إلى انهيار اقتصادي، فإن تونس تبدو على هذا الطريق بشهادة أكثر من خبير ومسؤول. ورغم أهمية قرض صندوق النقد الدولي في الوقت الحالي، فإنه كالقروض السابقة لن يكون أكثر من جرعة تهدئة مؤقتة تتعلق مدتها باستمرار الظروف الحالية كتلك المتعلقة بصراعات أركان السلطة وجائحة كورونا والفساد الذي يأخذ مجده في ظل التشرذم السياسي القائم. ومع أهمية الإصلاحات الاقتصادية العميقة والمتعلقة بإعادة النظر في آليات الدعم الحكومي للسلع والخدمات وإعادة هيكلة مؤسسات القطاع العام، فإن الحلول الأكثر استدامة، وعلى ضوء خبرة الكثير من الدول ومن ضمنها ألمانيا تقتضي دعم المنتج المحلي الأقل تكلفة من تكاليف الدعم والاستيراد من الخارج.
أما مؤسسات القطاع العام الحيوية، فلا ينبغي بيعها أو خصخصتها، بل تحسين مستوى أدائها الإداري والمالي والإنتاجي لإمداد السوق المحلي بالسلع والخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء والغاز والأسمدة والمشتقات النفطية بأسعار مناسبة ورفد ميزانية الدولة بموارد إضافية. وبالنسبة للمؤسسات المتعثرة يمكن التوصل مع مستمثرين ورجال أعمال مهتمين من القطاع الخاص المحلي والأجنبي إلى حلول تقضي بتحديثها من خلال ضخ استثمارات مشتركة فيها وإدارتها بشكل مشترك يضمن استمرار تطويرها وتحديثها وتوزيع عائداتها بحسب مساهمة كل طرف فيها.
أما دور القطاع الخاص فينبغي دعمه في مختلف المجالات وفي مقدمتها الزراعة والصناعات التحويلية والحرفية التي تنبغي المراهنة عليها أكثر من أي وقت مضى بدلاً من الارتهان إلى القروض الخارجية ودعم الدول المانحة التي لا تقدم مساعداتها بشكل يتعارض مع مصالحها الاقتصادية ولو كانت هذه المصالح على حساب الاقتصاد الوطني للدول التي تتلقى المساعدات. وفيما عدا ذلك فإن المسافة المتبقية لسقوط تونس في حفرة أزمة شبيهة بالأزمة اللبنانية تبدو أقصر مما يرى صناع القرار فيها. وستكون بدايتها في تضخم يؤدي إلى تراجع قيمة الدينار التونسي على غرار ما حصل لليرة اللبنانية.
وضع اقتصادي كارثي
كيف وصلت تونس إلى حافة الهاوية؟. سؤال يطرحه كثيرون. حسب تقرير نشر في الاتحاد الأوروبي يوم 30 يوليو 2021:
يختلف التونسيون حول الأزمة السياسية التي تعصف بالبلد وأسبابها وتداعياتها، غير أن لا أحد منهم سيختلف حول حقيقة الوضع الاقتصادي المتدهور. ففي الوقت الذي نجحت فيه تونس في أن تكون منارة للانتقال السلمي للسلطة في المنطقة العربية، فقد أخفقت إلى الآن في خلق استقرار اقتصادي.
أرقام النزيف الاقتصادي واضحة، فنسبة التضخم ارتفعت إلى 5,7 بالمئة خلال شهر يونيو 2021، ونسبة النمو تعاني ضعفا منذ عام 2013. كما يغرق البلد في الديون.
ولم تكن تونس محظوظة طوال السنوات العشر الأخيرة، فقد عاشت فترة عدم استقرار سياسي، وعانت كذلك من وضع أمني مقلق بسبب بعض العمليات الإرهابية التي أدت إلى تراجع السياحة كما وقع عام 2015، وما إن بدأت السياحة تستعيد بعضا من نشاطها حتى جاءت جائحة كورونا بتداعياتها المعروفة، وأدت إلى تدهور نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020 إلى أسوأ معدل على الإطلاق منذ عام 1966، إذ بلغت ناقص 8,6 المئة حسب بيانات البنك الدولي.
في نوفمبر 2016، كان رئيس الحكومة آنذاك الشاب يوسف الشاهد، مسرورا وهو يعلن أن تونس تمكنت من جميع حوالي 15,4 مليار دولار، جلها على شكل تعهدات مالية من أكثر من 70 دولة ومنظمة مانحة، كما تم الإعلان عن استثمارات ضخمة من دول كفرنسا وقطر والإمارات وماليزيا وذلك عشية مؤتمر "تونس 2020" عام 2016 الذي عولت عليه قيادة البلاد لانتشالها من الأزمة كان هذا المؤتمر الذي أشرف عليه الرئيس التونسي السابق الباجي قايد السبسي جزءا من خطة تنموية لتونس ما بين 2016 و2020، غير أن الحصيلة في عام 2021 لم تبعث على السرور، إذ لم تتجاوز نسبة إنجاز المخطط 40 بالمئة حسب ما ذكرته رئيسة لجنة التنمية الجهوية بالبرلمان ابتهاج بن هلال لوكالة الأنباء المحلية، وذكرت أن أهم العراقيل هي عدم واقعية المشاريع أو عدم جدوى بعضها أو عدم توفر الإعتمادات اللازمة لإنجازها.
أعلنت الحكومة التونسية عن مخطط جديد، لكن طارق الكحلاوي، المدير العام السابق للمعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية "ما بين 2012 و2014" يرى أن مشكل التخطيط يعود إلى عدم وجود رؤية مفصلة معلنة للرأي العام وإرادة لتنفيذها، مشيراً إلى أن المخطط التنموي "أصبح مجرد وثيقة إنشائية شكلية بدون متابعة أو تنزيل ترتيبي وليس محور نقاش عام"، وأن الاقتصاد عموما لا يوجد ضمن مواضيع الاستقطاب السياسي.
نموذج اقتصادي ضعيف
يتحدث الكحلاوي في تصريحات "لدويتشه فيله عربية" عن أن مضمون الرؤى الاقتصادية الموجودة يبقى كلاسيكيا ولا يختلف عن اثنين: أولا الاستمرار في النموذج الذي أدى إلى حدوث الثورة، وهو الذي يعمق الهوة بين الفئات الاجتماعية والمناطق. ثانيا مشاريع قادمة من المانحين الدوليين خصوصا صندوق النقد الدولي يكتبها تقنيون أجانب غير متخصصين، وتطلب هدفاً متناقضا: إنهاء برامج اجتماعية والحد من الانفاق العمومي مقابل الحفاظ على الطبقة الوسطى وعدم التأثير سلباً على الفئات الفقيرة.
وهناك من يرى أن عدم الاستقرار السياسي في تونس ساهم في فشل مخططات التنمية بسبب كثرة الحكومات، فوزارة المالية لوحدها شهدت أكثر من 10 وزراء منذ الثورة، يختلف بعضهم عن سابقيهم في الاستراتيجية المتبعة. وهناك عامل آخر أن تونس عانت بعد الثورة من سلسلة إضرابات في كثير من القطاعات أوقفت سلسلة الإنتاج، كما أدت الاحتجاجات على البطالة إلى اضطرابات كما جرى في جزيرة قرقنة، من نتائجها مغادرة الشركة البريطانية بتروفاك للبلد.
من يتحمل مسؤولية الأخطاء؟.
تشبه المسؤولية في تونس القول العربي الشهير "ضاع دمه بين القبائل"، بسبب كثرة الحكومات، وكذلك تغير سياسة كل رئيس على حدة والاتهامات فيما بينهم، خصوصا أن الوضع في تونس لم يتحسن كثيرا على مدار السنوات الماضية، وفي كل مرة تأتي ذكرى الثورة تحدث احتجاجات على البطالة.
لكن الكحلاوي يرى أن أسس تدهور الاقتصاد تعود أكثر إلى المرحلة التي سبقت انتخابات 2019، بسبب عدم اكتمال البرنامج التمويلي الذي بدأه صندوق النقد الدولي إثر عدم التزام حكومة يوسف الشاهد بتعهدات "البرامج الإصلاحية"، ثم طلب حكومة الياس الفخفاخ إنهاء البرنامج رسميا بهدف التفاوض على برنامج جديد في خضم مواجهة ازمة كوفيد-19 عام 2020، ثم تباطؤ حكومة هشام المشيشي في إنجاز الاتفاق، ما جعل تونس غير قادرة على تعبئة موارد مالية من الخارج لتغطية العجز المالي المتفاقم.
وعموما يرى الكحلاوي أن الأطراف السياسية لم تأت بتصورات اقتصادية تستطيع إنجازها "بل انشغلت بالصراع من أجل الاستقطاب أو التموقع في الدولة بدون رؤية. وهكذا تم اهمال التحدي الاقتصادي والاجتماعي".
ومن هذه الأطراف حركة النهضة، إذ يقول الكحلاوي: "عندما ننظر منذ 2011 فإن الطرف الأكثر حضوراً في السلطة هو حركة النهضة سواء كحزب أول أو ثاني لكنه فشل في الإصلاح. ولهذا هناك احتقان كبير مركز عليه، بما يفسر استهداف مقرات الحزب في الاحتجاجات الأخيرة".
الأوليغارشية التي تخدم نفسها
في عملية التقييم لأحداث تونس وتأثيرها على التحالفات في المنطقة الشرق أوسطية والعلاقات البينية، يتابع المراقبون مواقف العديد من الأطراف التي لها روابط وتأثيرات.
يسجل أن تركيا التي لها سياسات معروفة تجاه سوريا والعراق واليمن وتنظيمات ما يسمى بالاسلام السياسي عبرت عن قلق شديد من قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد وذهب الرئيس أردوغان أبعد من أي رئيس أجنبي في العالم بتوجيه أكثر من "نصائح" الى ساسة تونس.
فيوم الأثنين 2 أغسطس 2021 أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن استمرار البرلمان التونسي بأعماله رغم كل الصعوبات أمر مهم بالنسبة لديمقراطية تونس والمنطقة، حسبما أفادت وكالة الأتاضول للأنباء.
وشدد أردوغان في اتصال هاتفي، مع نظيره التونسي قيس سعيد، على أهمية الحفاظ على استقرار تونس وسلمها الداخلي الهام لاستقرار المنطقة.
وأضاف أردوغان: “حماية الديمقراطية وضمان الحريات واحترام سيادة القانون في تونس أمور قيمة للغاية”.
بموازاة مع ذلك شنت المواقع الاعلامية والصحف المحسوبة على أنقرة وخاصة تلك التي تتلقى دعما ماديا منها أو من حلفائها عرب وغير عرب، حملة قوية ضد قرارات الرئيس التونسي وساندت محاولات حركة النهضة التونسية في تجنيد الشارع للثورة ضد الرئيس سعيد.
في الدول الغربية سجل كذلك أن وسائل الاعلام التي عرفت بمساندتها لما يوصف بالاسلام السياسي وتأييدها لما جرى ويجري في كل من سوريا وليبيا والعراق حملة لتصوير ما يحدث في تونس بأنه إنقلاب على الديمقراطية.
في لندن وبداية شهر أغسطس نشرت صحيفة الغارديان مقالا من توقيع سايمن تيسدال لملاحظات حول نجاح الديمقراطية وفشلها في ضوء المستجدات التونسية.
ويرى المقال أن “الشهادات الناشئة من تونس، وهي أحدث دولة تواجه أزمة حول كيفية إدارتها، تشير إلى أن العديد من المواطنين رحبوا بالتعليق القسري للبرلمان المنتخب ديمقراطيا الذي فشل في معالجة مشاكل الناس وجرى لعنه على نطاق واسع باعتباره الأوليغارشية التي تخدم نفسها”.
وذكر تيسدال إنه “يبدو أن العديد من التونسيين – أو على الأقل أولئك الذين خرجوا إلى الشوارع في الأيام القليلة الماضية – لديهم علاقة متناقضة مع الديمقراطية”.
ونقل عن ستيفن كوك، من المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية، قوله: “يبدو أن التونسيين يريدون دولة أكثر فعالية يمكنها توفير الوظائف وشبكة أمان اجتماعي بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي”.
وتابع كوك “وعلى الرغم من استمرار البحث عن مجتمع أكثر عدلا وديمقراطية، من الممكن أنه بعد عقد من تمتع التونسيين بحريات شخصية أكبر، جعل الافتقار إلى الازدهار عددا كبيرا منهم أكثر استعدادا لمحاولة أخرى لإعطاء فرصة لنسخة ما من الاستبداد”.
وقال تيسدال “غالبا ما تتعثر التحولات الديمقراطية بسبب قضايا أكثر اعتدالا – الضائقة الاقتصادية، وعدم المساواة، وانعدام الفرص، وسوء التعليم، وانعدام الأمن”.
ويقول الكاتب إن معظم الصينيين “يعرفون الديمقراطية ليس من حيث الانتخابات أو الحرية الشخصية ولكن من حيث النتائج التي تخدم مصلحة الشعب. بمثل هذه المعايير، يمكن القول إن الرئيس شي جينبينغ يبلي بلاء حسنا”.
ويستنتج الكاتب من ذلك أن “الرسالة الواسعة من جميع أنحاء العالم هي أنه إذا تم الحفاظ على سلامة الناس وتوفير الطعام والسكن والعمل لهم من قبل الأنظمة غير الليبرالية، فقد يكونون مستعدين للتخلي عن الرفاهية النسبية للديمقراطية على النمط الغربي.
وختم الكاتب بالقول “إذا كان الرئيس جو بايدن جادا في قلب المد الاستبدادي، فيجب على الولايات المتحدة وأوروبا بذل المزيد من الجهد لإقناع التونسيين، من بين آخرين، بأن الازدهار الاقتصادي والأمن، والحقوق الديمقراطية الجماعية والفردية، ليست متعارضة ولكنها تعزز بعضها البعض. يمكنهم الحصول على كليهما – وهما يستحقان القتال من أجلهما”.
سلطة الأقلية
الأوليغاركية أو الأوليغارشية، مشتقة من اليونانية، وهي سلطة الأقلية، بحيث يكون النفوذ محصورا بفئة صغيرة تستند إلى عصبوية عائلية أو طبقية أو سياسية أو دينية أو عسكرية. إنها مجموعة قليلة من الناس تحكم دولة أو منظمة أو حزباً أو شركة.
وقد عرِفَت الأوليغارشية بأنَها: "النظام السياسي الذي يمارس السلطة من قِبل مجموعة صغيرة من الأفراد، مؤلفة من النخبة المثقّفة (الأرستقراطية) أو الأقليَة المالكة (النخبة الثرية)، أو زمرة عسكرية أو ميليشيوية، ويتم الخلط بينهم في كثير من الأحيان لتشكل الطبقة الحاكمة".
يعتبر أفلاطون أوَل مفكر سياسي ذكر الأوليغارشية التي تعني حكم القلة، وذلك في كتابه "الجمهورية". وجاء أرسطو من بعده، ليعتبر أنَ الأوليغاركية مسخ للأرستقراطية، وتنتهي دائماً بحكم الطغيان والاستئثار بالسلطة.
ويلخص ميكيافيللي المصطلح الألوليغارشي في كتابه "المطارحات"، بأن الأرستقراطية إذا فسدت تحولت إلى الأوليغارشية. ويستخدم هذا التعبير في العصر الحديث، لوصف الحكومات التي ليس لها رصيد جماهيري، بحيث تعتمد على دوائر التأثير في السلطة، مثل رجال المال والدين والعسكر والعائلات. تتشكل قيادتها من فئة صغيرة تحتكر أدوات النفوذ، وتحصرها في شلة متماسكة تتحكم بالقرار لكي تحافظ على وجودها وديمومتها.
من جهة أخرى، تعتبر الزمرة الحاكمة في الشركات التجارية والمالية، هي نوع من الأوليغارشية العابرة للأوطان ومتعددة الجنسيات، لتأمين المصالح... حيث يتركز القسم الأكبر من الثروة بأيدي قلة تسيطر على السلطة الاقتصادية في بلد أو أكثر.
يقول جان جاك روسو، في "العقد الاجتماعي": "لم توجد ديموقراطية حقيقية على الإطلاق. ولن توجد على الإطلاق". كما أن الفوضوية حلم مثالي غير ممكن تحقيقه، لذلك الأوليغارشية هي السائدة الوحيدة بأشكال وأساليب مختلفة. أما جماهير هذه الخيارات، فتعاني من حالة خيبة وحيرة... وتنتظر.
عمر نجيب