كنت أحب أن أتوقف اليوم عند ما عرفته أرض الياسمين في الأسبوع الماضي، والذي بدا فيه أن الرئيس التونسي يتجه نحو ترسيخ اليقين العام بأن النظام الرئاسي هو أصلح النظم للشقيقة تونس، لكنني وجدت أن تحليل الأستاذ عبد الباري عطوان، الثلاثاء، هو أقرب إلى الموضوعية والعقلانية من معظم ما قرأته، ولم أجد ما يمكن أن أضيفه للتحليل إلا الأمل في أن تخرج “الخضراء” من الأزمة الحالية ليكون لها دورها الفاعل في تحقيق استقرار المغرب العربي.
وهكذا أعود لاستكمال الحديث الذي كنت بدأته الأسبوع الماضي، مؤكدا مرة أخرى أنني أكنّ للإخوة في المغرب كل تقدير ومحبة واحترام، وما زلت أدعو إلى أن يرجع كل طرف خطوة واحدة إلى الوراء ليتمكن المغرب العربي من أن يقطع خطوات وخطوات إلى الأمام، وهكذا ننتهي إلى الأبد من مشاكل الحدود.
فلم يكن سرّا أن أهم عوامل التوتر في القارة الإفريقية كانت قضايا الحدود التي تشكل قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أي وقت، وكان منطق الجزائر في التعامل مع هذه القضايا منبثقا من قرارات منظمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا عام 1963 والمستكملة في القاهرة عام 1964، والقاضية باحترام الوحدة الترابية في إطار الحدود الموروثة عند استرجاع الاستقلال، والتي تحفظ عليها المغرب، وقيل يومها أن الأمر مرتبط بقضية سبتة ومليلية المحتلتين من قبل إسباني، وقبلت الجزائر هذا المنطق، لأنها كانت ومازالت وستظل تؤمن بالوحدة الترابية للمملكة المغربية في حدودها الجغرافية الدولية، وبدون أن نتناسى المغربية المطلقة لسبتة ومليلية، ولا حديث عن الريف المغربي لأن مجرد ذكر تلك الأرض المغربية الطاهرة خارج إطارها الجغرافي التاريخي هو لغو وتهريج.
كانت الحدود الجزائرية المغربية قد رسمت في القرن الأسبق ابتداء من البحر وحتى نقطة “لا مغنية” (حوالي 120 كم) وبقيت المنطقة التي تلي ذلك جنوبا بدون ترسيم للحدود بالغة الطول، وراحت الاتصالات بين البلدين تزداد أهمية مع اقتراب موعد انعقاد القمة الإفريقية في الرباط في جوان 1972، حيث وُقّعت، بعد شد وجذب، اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين بمحضر نحو أربعين رئيس دولة وحكومة إفريقية (الحدود البرية بين الجزائر والمغرب هي حدود تبلغ 1559 كم من البحر الأبيض وحتى شمال الصحراء الغربية، ورفضت الجزائر قبول التوقيع على طول يبلغ 1601 كم، والذي كانت خلفيته أن تشمل الاتفاقية الحدود مع الصحراء الغربية، وهو اعتراف ضمني بسيادة المغرب على الإقليم المتنازع عليه.)وتم في الوقت نفسه التوقيع على اتفاقية تتضمن الاستثمار “المشترك” لمناجم “غار جبيلات” الواقعة في الأرض الجزائرية، وتتضمن نقل الحديد الخام عبر الأرض المغربية نحو مصنع يملكه البلدان على المحيط ويعمل فيه أساسا عمال مغاربة لينتج الفولاذ لمصلحة البلدين.
وكانت هذه هي خلفية مزاعم الممر الذي قيل أن الجزائر تساوم به المغرب، في حين أن المشروع يتحدث عن نقل الحديد عبر الأرض المغربية المعتمدة دوليا إلى الشمال المحاذي لأوروبا وليس إلى الغرب نحو المحيط الأطلسي، تماما كما أنشئ فيما بعد أنبوب الغاز الجزائري الذي يجتاز المغرب إلى إسبانيا ويستفيد منه الجميع.
ورغم أهمية معاهدة ترسيم الحدود (الموقعة في المغرب في يونيو 1972 والتي صادقت عليها الجزائر في العام التالي ولم يصادق المغرب عليها إلا في التسعينيات) فإن الجزائر كانت تعطي اهتماما خاصة لقضية الاستثمار المشترك لحديد غار جبيلات، انطلاقا من أن القواعد الاقتصادية هي الدعامة الرئيسية للعمل الوحدوي (ويلاحظ هنا أن المغرب تجاهل هذا البند تماما عند تصديقه على ترسيم الحدود، الذي تم بعد سنوات خلال رئاسة الشهيد محمد بوضياف في التسعينيات، وروّج البعض هناك يومها أن السبب هو أن “سي الطيب الوطني” تجاهل تاريخه النضاليّ وقبل الطرح المغربي).
وطفت أكذوبة الممر علي السطح الإعلامي بعد أن أعلنت الجزائر موقفها من قضية الصحراء الغربية، وكان الجديد فيها أن الممر المزعوم كان عبر أراضي الصحراء الغربية، ولم يتوقف بعض الأشقاء والرفقاء عند مجموعة من الحقائق المرتبطة بذلك الادعاء المُضحك، وأولها أن الجزائر بلد متوسطي، تتجمع كثافته السكانية في شمال البلاد ولا يمكن له إطلاقا أن يسعي لارتباط بالأطلسي لا يُفيد منه شيئا، ولا ينتظر منه شيئا، وبالتالي فإن التفكير في ممر نحو المحيط هو أمر خارج المنطق السليم، حتى ولو خصص لأنابيب الصرف الصحي، التي سيتحتم أن تجتاز أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر لتلقي ما تحمله من إفرازات وقاذورات في مياه الأطلسي، نكاية في الحلف الأطلسي !! (الناتو).
ويحضرني هنا أمرٌ أسجله لطرافته، فقد حاولت الجزائر استيراد السمك الأطلسي من موريتانيا في مرحلة معينة للتغلب علي أزمة عابرة في اللحوم الحمراء، ولكن شعبنا، الذي ألف أسماك البحر الأبيض المتوسط، لم يُقبل علي ذلك السمك، مما دفع السلطات إلي التوقف عن استيراده، رغم أنه ممتاز، وخصوصا القمرون (الجمبري).
ولم يحاول كثيرون إلقاء نظرة علي الخريطة الجغرافية للمنطقة ليتأكد من أن أهم مناجم الحديد الجزائري موجودة في أقصي الشرق الجزائري، في منطقة الوانزا على وجه التحديد، ونقلها إلي الغرب هو إجراء غبي لا يفكر فيه إلا الحمقى.
ثم إنه ليس هناك ما يُمكن للجزائر تصديره أو استيراده من المحيط الأطلسي ليبرر ممرا لم يجرؤ من يلوكون قصته على تحديد عرضه أو مساحته، علما بأن حدود الجزائر مع الصحراء الغربية هي تقريبا في حدود 50 كيلومترا.
ثم من هو الساذج الذي يتصور أن بلدا، لا يفتقد قادته الحكمة والذكاء، يُطالب بممر أرضيّ سيكون دائما تحت رحمة الطرف الآخر، الذي يمكنه أن يُغير رأيه في أي وقت شاء، ضغطا أو ابتزازا أو مساومة، ويُمكنه غلق الممر في أي لحظة تحت أي ذريعة مُختلقة أو حقيقية.
وصاحب القرار الجزائري لا يجهل قضية ممر “دانزغ” الذي كان من أسباب الحرب العالمية الثانية.
والغريب أن الأشقاء الذين يلوكون هذا الأمر ينسون أن هناك ممرّاً جزائريّاً بالفعل عبر الأراضي المغربية نفسها، وهو الذي يجتازه أنبوب الغاز الجزائري المتجه إلي إسبانيا، وتستفيد منه الجزائر والمغرب وإسبانيا، تماما كأنبوب الغاز الجزائري المتجه إلي إيطاليا عبر تونس، وكان إنشاء الأنابيب بإرادة مشتركة بين الأقطار التي كانت ترمز للمغرب العربي في الخمسينيات وما قبلها (ويبدو أن هناك من يفكر في المساومة على وجود أنبوب الغاز مع اقتراب نهاية المهلة الزمنية التي يحددها الاتفاق بين المعنيين، علما بأنه من العسير فتح بابٍ بعد إغلاقه)
وأتذكر أن قضية الممر المزعوم وردت خلال دردشة مع الدكتور بطرس غالي خلال زيارته للجزائر، فقد سألته بشكل محدد عمّا إذا كانت الجزائر قد طرحت عليه الأمر عندما كان يحاول، كأمين عام للأمم المتحدة، حل قضية الصحراء، خلال جولات مكوكية في المنطقة.
ونفي بطرس غالي ذلك، وعدت أسأله عمّا إذا كان أحس ولو بشكل غير مباشر من أن الجزائر تريد ممرا من أي نوع عبر أراضي الصحراء الغربية، فعاد ينفي ذلك من جديد، وهو ما سجلته كتابيا يومها لأن الأمين السابق للأمم المتحدة كان لا يزال قادرا علي تكذيب ما أقوله.
ولا بد للأمانة من القول أن جل الأشقاء المغاربة الأذكياء لم يعودوا يذكرون قضية الممر المزعوم، غير أن بعض من توقفت عقارب ساعاتهم في السبعينيات مازالوا يجترون هذه القضية التي أصبحت نكتة لا تضحك حتى المعجبين بجحا أو عشاق فرناندال ولويس دو فونيس وجيري لويس.
ويبقى الأمل في نظرة عملية وموضوعية لما يعرفه المغرب العربي من أحداث، لا يعيبها أن تكون متشبعة بالعاطفة التي تسترشد بالمثل الجزائري…”خوك خوك …لا يغرّك صاحبك” (تمسك بأخيك ولا يخدعنك تقرب صاحبك).
وما زلت أقول … خطوة صغيرة إلى الوراء قد تُمكن، إن حسُنت النوايا وصلُح العزم، من قطع خطوات إلى الأمام.
مفكر ووزير اعلام جزائري سابق