
احتشد المئات تحت الشمس الحارقة أمام مبنى البرلمان التونسي اليوم الاثنين، تفصل بينهم حواجز معدنية أقامتها الشرطة، لرشق خصومهم السياسيين بالحجارة والزجاجات الفارغة والبيض.
ووقف مئات من أفراد الشرطة للفصل بين أنصار الرئيس قيس سعيد ومعارضيه بعد أن أقال رئيس الوزراء وجمّد البرلمان في ساعة متأخرة من مساء الأحد في خطوة وصفها خصومه بأنها انقلاب.
تسلط الصورة المملوءة بالشروخ خارج البرلمان الضوء على الأشواك التي تعترض طريق تونس وهي تمر بمخاض أكبر أزمة سياسية منذ ثورة 2011 التي وضعت أقدام البلاد على طريق الديمقراطية.
وقال أحمد حفيان أحد أنصار سعيد “هم في واد ونحن في واد آخر.. غايتهم الوحيدة مصلحة حزبهم ونحن نهتم فقط بمصلحة وطننا.. لذلك يحاولون التصدي لقرار سعيد”.
وعلى الجانب الآخر من الحاجز، كانت امرأة تبلغ من العمر 30 عاما تردد الهتاف “لا للانقلاب” وتكيل الاتهامات لأنصار سعيد بالعنف.
وقالت المرأة التي لم تذكر سوى اسمها الأول غفران “لا لا للانقلاب.. نحن نريد الشرعية، التوافق، والوحدة وهم يلقون الحجارة ولا يريدون شيئا غير الفوضى.. هذا هو الفرق بيننا وبينهم”.
يثير الصدام بين مؤيدي الرئيس ومعارضيه أشباح مرحلة جديدة من التصعيد العنيف في شوارع تونس تعيد إلى الأذهان ذكريات الأيام الأولى بعد ثورتها أثناء المواجهات بين الإسلاميين والعلمانيين.
تمكن القادة السياسيون في ذلك الوقت، بمساعدة عناصر المجتمع المدني مثل نقابة العمال القوية، من التوصل لتوافق لتجنب صراع كبير عبر إبرام اتفاق قاد في نهاية الأمر إلى وضع دستور 2014.
رغم ذلك، تحول الركود الاقتصادي فيما بعد والغضب من إساءات الشرطة إلى محرك لاحتجاجات الشوارع من حين لآخر في تونس، بما في ذلك ما حدث في شهر يناير كانون الثاني ثم أمس الأحد.
تركز الغضب العام في هذه الاحتجاجات على الحكومة والأحزاب القديمة في البرلمان، بما في ذلك النهضة، التي جعلت مناوراتها المستمرة لتحقيق مكاسب ومشاحناتها الصغيرة في البرلمان البعض يشعرون بالسأم من الديمقراطية.
وفيما جلس أعضاء البرلمان من حزب النهضة خارج مبنى البرلمان الفسيح الذي يضم أيضا المتحف الوطني، مطالبين بالسماح لهم بالدخول، يرفض معارضوهم دخولهم إلى البرلمان ويصفونهم بأنهم جزء من النخبة السياسية الفاسدة فاقدة المصداقية.
ومن جهته دعا الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط في اتصال هاتفي مع وزير الخارجية التونسي اليوم الاثنين إلى استعادة الهدوء والاستقرار في البلاد بعد قرار الرئيس المفاجئ إقالة الحكومة.
وتواجه الديمقراطية الناشئة في تونس أشد أزماتها بعد قرار الرئيس قيس سعيد إقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان بمساعدة الجيش وذلك في إجراء وصفته الأحزاب الرئيسية بأنه انقلاب.
وقالت الجامعة العربية في بيان إن وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي أطلع أبو الغيط على الموقف في تونس. وأضافت “أعرب الأمين العام خلال الاتصال عن دعم الجامعة العربية الكامل للشعب التونسي، وعن تمنياتها لتونس بسرعة اجتياز المرحلة المضطربة الحالية، واستعادة الاستقرار والهدوء وقدرة الدولة على العمل بفعالية من أجل الاستجابة لتطلعات ومتطلبات الشعب”.
مساء الأحد، أعلن سعيّد “تجميد” أعمال مجلس النوّاب لمدة 30 يوماً، في قرار قال إنه كان يُفترض أن يتخذه “منذ أشهر”.
وأعلن سعيّد عقب اجتماع طارئ عقده في قصر قرطاج مع مسؤولين أمنيّين، أنه سيتولّى بنفسه السلطة التنفيذية “بمساعدة حكومة يرأسها رئيس الحكومة ويُعيّنه رئيس الجمهوريّة”.
وحذر سعيّد في خطابه “أنبّه الكثيرين الذين يحاولون اللجوء إلى السلاح … من يطلق رصاصة واحدة ستجابهه قواتنا المسلّحة العسكرية والأمنية بوابل من الرصّاص”.
ومنع المئات من مناصري الرئيس سعيّد مؤيدي حزب النهضة من الاقتراب من زعيمهم الغنوشي الموجود داخل سيارة أمام البرلمان وتبادل الطرفان الرشق بالحجارة والعبوات، وفق ما أفاد صحافيون في فرانس برس.
وتسبب تجاذب مستمرّ منذ ستة أشهر بين الرئيس سعيّد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي زعيم أكبر الأحزاب تمثيلاً في المجلس، بشلل في عمل الحكومة وفوضى في السلطات العامة، في وقت تواجه تونس منذ مطلع تموز/يوليو ارتفاعاً حاداً في عدد الإصابات والوفيات جراء فيروس كورونا.
ومنع الجيش الغنوشي المعتصم منذ ساعات داخل سيارة سوداء اللون أمام أبواب البرلمان الموصدة من الدخول إلى المبنى.
وندّد حزب النهضة في بيان نُشر عبر فيسبوك مساء الأحد بـ”انقلاب على الثورة والدستور”. وتوجه الغنوشي ونوابٌ آخرون من النهضة إلى المجلس منذ الثالثة فجراً (02,00 ت غ)، مصحوبا بنائبته سميرة الشواشي عن حزب “قلب تونس”.
وقالت الشواشي في مقطع فيديو نشرته وسائل اعلام محلية لقوات الجيش التي تحرس البرلمان “من فضلكم دعونا نمر، نحن حماة الدستور”.
وأجابها أحد العسكريين “نحن حماة الوطن” و”ننفذ الأوامر”.
بدوره قال الغنوشي “الشعب التونسي لن يقبل الحكم الفردي مجددا… ندعو كل القوى السياسية والمدنية والفكرية الى ان يقفوا مع شعبهم للدفاع عن الحرية… ما دامت الحرية مهددة فلا قيمة للحياة”.
وقال في مقطع فيديو نشره على صفحته الرسمية ان سعيّد “يريد تحويل طبيعة النظام من نظام برلماني ديمقراطي الى نظام رئاسي فردي استبدادي”.
وأكد الغنوشي أن الرئيس لم يستشره قبل أخذ القرارات استنادا إلى الفصل 80 من الدستور التونسي الذي ينص أن على “لرئيس الجمهورية في حالة خطرٍ داهمٍ مهددٍ لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدّولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشّعب وإعلام رئيس المحكمة الدّستورية، ويعلن عن التّدابير في بيان إلى الشعب”.
ويطبق هذا الفصل لمدة ثلاثين يوما ويعهد للمحكمة الدستورية رفض أو اقرار مواصلة العمل به.
لكن ومنذ اقرار دستور 2014 لم يتم انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية الى اليوم وذلك بسبب تجاذبات سياسية حادة بين الأحزاب.
– إضعاف الديموقراطية –
ويرى مراقبون أن من شأن هذه التطورات السياسية أن تضعف من الديموقراطية الناشئة في تونس والتي تأتي اثر ستة أشهر من الصراعات والخلافات الحادة بين سعيّد والغنوشي بينما تمر البلاد بوضع صحيّ متأزم.
وتسجّل البلاد مع حوالى 18 ألف وفاة من أصل 12 مليون نسمة، أحد أسوأ معدّلات الوفيات جراء كوفيد في العالم.
وإثر خطاب سعيّد خرج المئات من التونسيين للاحتفال في الشوارع بالرغم من حظر التجول الليلي الذي أقرته السلطات لمكافحة وباء كوفيد-19.
وندد كل من حزب “قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة” بقرار سعيد.
ورفض حزب “التيار الديمقراطي” الذي دعم سعيّد سابقا في عديد المواقف، توليه كل السلطات.
لكن الحزب حمل في بيان الاثنين “مسؤولية الاحتقان الشعبي المشروع والأزمة الاجتماعية والاقتصادية والصحية وانسداد الأفق السياسي للائتلاف الحاكم بقيادة حركة النهضة وحكومة هشام المشيشي”.
إلى ذلك ساند حزب “حركة الشعب” قرارات الرئيس في بيان الاثنين واعتبرها “تصحيحا لمسار الثورة”.
من جهتها وصفت “حركة مجتمع السلم”، أكبر حزب إسلامي بالجزائر، الاثنين، ما حدث في تونس بأنه “انقلاب على الدستور وعلى الإرادة الشعبية “.
جاء ذلك في بيان للحزب توج اجتماعا لمكتبه التنفيذي، واطلعت عليه وكالة “الأناضول”.
واعتبر الحزب، وفق البيان، “ما يحدث في تونس انقلابا على الدستور التونسي وعلى الإرادة الشعبية لأشقائنا التونسيين، المعبر عنها في الانتخابات التشريعية السابقة، وإفشالا ممنهجا للانتقال الديمقراطي التونسي الذي صنع التميز والأمل لدى التونسيين والشعوب الحرة في العالم”.
وتابع: “يمثل هذا الانقلاب صورة من الانقلابات التي وقعت في البلاد العربية، والتي ترعاها أنظمة عربية معروفة، والتي أوصلت الدول الضحية إلى فوضى ومزيد من التخلف والانهيارات الاقتصادية والتمزقات الاجتماعية”.
ودعا الحزب “الشعب التونسي إلى التمسك بمؤسساته الشرعية ورفض الانقلاب وحل مشكلاته بالحوار والتوافق الواسع، عبر الحلول الدستورية لتجاوز الانسدادات القائمة والمفتعلة”.
ومساء الأحد، أعلن الرئيس قيس سعيد، عقب اجتماع طارئ مع قيادات عسكرية وأمنية، تجميد اختصاصات البرلمان، وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من مهامه، على أن يتولى هو بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة يعين رئيسها.
وحتى ظهر اليوم، عارضت أغلب الكتل البرلمانية قرارات سعيد، إذ اعتبرتها حركة النهضة “انقلابا” على الشرعية، وقالت كتلة ائتلاف الكرامة، إنها “باطلة”، ورأت كتلة قلب تونس أنها “خرق جسيم للدستور”، وقال الحزب الجمهوري إنها “خروج على الدستور وانقلابا عليه”، فيما أيدتها فقط حركة الشعب (قومية).
كما أدان البرلمان بشدة في بيان لاحق، قرارات السعيد، وأعلن رفضه لها.
وجاءت قرارات سعيد إثر احتجاجات شهدتها عدة محافظات تونسية بدعوة من ناشطين؛ والتي طالبت بإسقاط المنظومة الحاكمة واتهمت المعارضة بالفشل، في ظل أزمات سياسية واقتصادية وصحية.
ا ف ب – رويترز