هل ينجح حلف الناتو في منع سيطرة طالبان على كابل بخلق فوضى اقليمية ومحلية ؟ عدوى انتكاسة واشنطن في افغانستان مرشحة للإنتقال إلى العراق وسوريا

ثلاثاء, 2021-07-13 06:04

تتسارع التطورات على الساحة الأفغانية بصورة لم يتوقعها سوي عدد قليل من المتابعين للصراع الدائر في تلك المنطقة الإستراتيجية بالغة الأهمية في منتصف جنوب آسيا، فحركة طالبان توسع سيطرتها بسرعة فائقة جعلت بعض العسكريين في المنطقة يقدرون أن العاصمة كابل ستسقط قبل نهاية شهر أغسطس 2021 وليس خلال ستة أشهر كما أفاد آخر تقرير للمخابرات المركزية في شهر يونيو 2021، وأن أعضاء حكومة الرئيس أشرف غني سيغادرون من مطار العاصمة على متن طائرات ستنقلهم إلى ملاذهم في الولايات المتحدة الأمريكية وربما دول أخرى حليفة لواشنطن، وذلك بعد تفكك قوات الجيش والأمن التابعة لهم التي صرفت الحكومة الأمريكية مئات ملايين الدولارات على تشكيلها وتسليحها.

ديفيد سيدني، نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق، أكد يوم الأحد 11 يوليو أن الحركة الأفغانية تريد الحصول على نصر عسكري، وأنها لم تدخل في أية مفاوضات جادة مع حكومة كابل.

فبعد عشرين عاماً من الوجود في أفغانستان، وخسارة 2.3 تريليون دولار، و7400 قتيل من العسكريين والمتعاقدين، وآلاف الجرحى والمعاقين من الأمريكيين، لم ينجح حكام البيت الأبيض في تحويل أفغانستان إلى بلد مستقر تابع للتحالف الغربي. انسحب الأمريكيون تاركين وراءهم قوة صغيرة لا تتجاوز 900 عسكري، زيادة على قوة تركية مكونة من حوالي 750 جندي لحراسة المطار، ومبنى سفارتهم وبقية السفارات، ومساعدة قوات الأمن الحكومية. الناطق باسم طالبان اعتبر وجود القوة المتبقية خرقا لاتفاق الجلاء الموقع بين الحركة وواشنطن في الدوحة، مهدداً بأنها ستكون هدفاً عسكريا لقواتهم. 

ساسة واشنطن يضربون أخماسا في أسداس، في بحثهم عن تكتيكات قادرة على منع الانتصار الكامل لطالبان أو على الأقل تأجيل حدوث ذلك. 

في العاصمة الأمريكية واشنطن لا يخفي السياسيون أنهم يراهنون على صراعات دول الجوار لأفغانستان وعلى أمراء الحرب والنزاعات الطائفية والعرقية لجعل ذلك البلد ساحة حرب دائمة.

طالبان تعتبر نفسها صاحبة اليد العليا في البلاد، أما الحكومة الأفغانية فهي في موقف لا تحسد عليه وذكرت أنها فوجئت بقرار الانسحاب الأمريكي، ويؤكد مراقبون ومحللون أن الانهيار "قادم لا محالة"، ويشككون في احتمالات تكرار مشهد الفوضى الصومالي.

لم تتوقف طالبان التي أطاحت بها الولايات المتحدة في غزوها لأفغانستان عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 عن القتال، لكنها عرفت أيضا نهج التفاوض، الذي أفضى إلى توقيع الأمريكيين اتفاقا معها في الدوحة في 29 فبراير 2020 بعد ما يقرب من 20 عاما من الحرب، إتفاق إعتبره غالبية المحللين وثيقة استسلام من طرف قوة عالمية كبرى لتنظيم مسلح وصفه الأمريكان في وقت سابق بالتنظيم الإرهابي، تنظيم قاتل في بلد امتصت تضاريسه الجبلية الفائقة الوعورة جزء هاما من التفوق التقني العسكري الغربي ورسخت وصفه بمقبرة الامبراطوريات.

 

هزيمة ساحقة

 

كتبت مجلة إيكونوميست البريطانية خلال الثلث الأول من شهر يوليو 2021 إن الولايات المتحدة التي خاضت حربا طوال عقدين من الزمان في أفغانستان تدعو الآن لإنهاء هذه "المغامرة المؤسفة" برمتها دون وجود أي شيء تقريبا تفتخر بعرضه.

فقد بات مقاتلو الحركة -تضيف المجلة- يسيطرون بشكل كامل على حوالي نصف البلاد ويهددون باحتلال الباقي، فيما الحكومة الأفغانية الموالية للغرب التي اقتاتت على الكثير من الدماء والأموال الأمريكية حكومة فاسدة ومكروهة على نطاق واسع وفي تقهقر مستمر.

وتؤكد إيكونوميست أنه من الناحية النظرية فإن كلا من حركة طالبان والحكومة الأفغانية المدعومة من الغرب في مسار تفاوضي من أجل التوصل لاتفاق سلام يلقي بموجبه المتمردون أسلحتهم ويشاركون بدلا من ذلك في نظام سياسي يعاد تصميمه والتوافق بشأنه.

وفي أفضل السيناريوهات قد ينجح الدعم الأمريكي القوي للحكومة ماليا وعسكريا وفي شكل ضربات جوية مستمرة على طالبان، إلى جانب الضغط الهائل على أصدقاء الحركة مثل باكستان، في إنتاج شكل من أشكال الاتفاق على تقاسم السلطة. 

لكن حتى لو حدث ذلك رغم أن فرص حصوله ضئيلة -تضيف المجلة- فسيكون المشهد الأفغاني مشهدا مثيرا للإحباط. 

ورغم أن الحركة لم تنجح حتى اللحظة في الاستيلاء على أي مدينة أفغانية وفرض سيطرتها عليها، وقد تفتقر بالفعل للقوة البشرية اللازمة لفعل ذلك في الكثير من المناطق في وقت واحد، فإنها قد تفضل -وفق المجلة- خنق الحكومة الأفغانية ببطء بدل مهاجمتها وجها لوجه، ومن الواضح أن زخم التطورات الميدانية يصب في صالحها.

 

مستقبل قاتم لأمريكا

 

يحذر عدد من الساسة الغربيين من أن انتكاسة مخططات واشنطن في أفغانستان وجوارها التي انطلقت قبل عشرين سنة تحت شعار وغطاء ضرب تنظيم القاعدة، ستشكل بداية لمسلسل التراجع الأمريكي الغربي على أكثر من واجهة.

يوم 4 يوليو انتقدت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية تعامل الرئيس جو بايدن مع ملف أفغانستان، محذرة من "مستقبل قاتم".

وذكرت الصحيفة في تصويرها ما سمته "المستقبل القاتم"،"يمكن لخصوم الولايات المتحدة مثل إيران والصين وروسيا أن يتوصلوا إلى استنتاج مفاده أن بايدن يفتقر إلى الجرأة للدفاع عن حلفاء الولايات المتحدة المحاصرين مثل هؤلاء في العراق وتايوان وأوكرانيا".

وأضافت الصحيفة في افتتاحية لها: كان يجب على بايدن أن يعيد النظر في الانسحاب السريع الذي أمر به في ضوء الانهيار الأولي للحكومة الأفغانية والجيش الذي أمضت واشنطن عقدين من الزمن تساعد في بنائه.

وأن على بايدن أن يسمح باستخدام القوة الجوية الأمريكية لدعم وحدات الجيش الأفغاني حتى بعد الانسحاب، وإيجاد طرق للحفاظ على القوات الجوية الأفغانية حتى بعد انسحاب مقاولي الصيانة الأجانب، كما يجب التوصل إلى اتفاق مع تركيا بشأن استخدام قواتها لإبقاء مطار كابل مفتوحا، وبدون ذلك -تقول الصحيفة- من الممكن إجبار السفارة الأمريكية على الإغلاق.

وأوضحت واشنطن بوست أن ما حذرت منه في أبريل 2021 من أن نتيجة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ستكون كارثية على سكان البلاد البالغ عددهم 38 مليون نسمة يبدو أنه يتحقق حاليا، حيث تتكشف المأساة بسرعة أكبر مما تخيله كثير من المتشائمين.

ففي الأسابيع الأخيرة تقول الصحيفة استولت قوات طالبان على عشرات المناطق في هجوم على مستوى البلاد، وطوقت العديد من عواصم المقاطعات وأغلقت الطرق الرئيسية المؤدية إلى العاصمة كابل.

وتوقعت الصحيفة أن يتم القضاء على وحدات الجيش الأفغاني من قبل طالبان أو أن تستسلم دون قتال، أو أن تخاطر حكومة غني في خضم يأسها بالعودة إلى الصراع الفوضوي وأعمال اللصوصية التي ابتليت بها البلاد في التسعينيات وفي خضم اليأس، خاصة أنها دعت المليشيات العرقية لإعادة التعبئة.

 

البكاء على الأطلال

 

كما حدث قبل 46 سنة تقريبا أي سنة 1975 عندما سقطت سايغون عاصمة جنوب الفيتنام في قبضة الثوار الفيتناميين بعد حرب أمريكية ضدهم استمرت أكثر من عشر سنوات، لجأت وسائل الاعلام الغربية إلى أساليب تصوير هزيمة الغرب في أفغانستان على أنها مأساة إنسانية وكارثة لسكان البلد.

كتب باتريك كوبيرن مراسل الشؤون الدولية في صحيفة الاندبندنت يوم الاثنين 12 يوليو 2021:

على مدى الأسبوع الماضي، كنت أشاهد حركة طالبان تجتاح خريطة شمال أفغانستان، مستولية على أماكن زرتها للمرة الأولى عام 2001 في بداية الحرب المدعومة من الولايات المتحدة. فقد استولى مقاتلو طالبان على الجسر الرئيس المؤدي إلى طاجكستان على آموداريا جيحون، وهو نهر عبرته على متن عوامة غير عملية بعد بضعة أشهر من اندلاع النزاع.

وغادر آخر قائد أمريكي قاعدة باغرام الجوية العملاقة، الواقعة شمال كابول والتي كانت في السابق مقراً لـ100 ألف جندي أمريكي في البلاد، في منتصف ليلة الجمعة الثاني من يوليوخلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي من دون إبلاغ خليفته الأفغاني، الذي قال إنه لم يعلم عن الإخلاء النهائي الأمريكي إلا بعد ساعتين من حدوثه.

وكان السبب الأكثر مباشرة وراء انهيار قوات الحكومة الأفغانية إعلان الرئيس بايدن في 14 أبريل عن مغادرة آخر قوات أمريكية للبلاد بحلول 11 سبتمبر. لكن شكاوى الجنرالات الأمريكيين والبريطانيين من أن هذا كله يحدث بسرعة أكبر مما يحتاجونه لإعداد قوات الأمن الأفغانية للوقوف على رجليها والاعتماد على نفسها، سخيفة، ذلك لأنهم أمضوا عقدين من الزمن وهم يفشلون في القيام بهذا على وجه التحديد.

ومع انتهاء التدخل العسكري الغربي، يجدر بنا أن نسأل أنفسنا عن الأسباب التي أدت إلى هذه الكارثة المذلة. ما الذي يجعل العديد من طالبان على استعداد للموت من أجل قضيتهم، في حين يفر جنود الحكومة أو يستسلمون، لماذا أصبحت الحكومة الأفغانية في كابل فاسدة وغير فعالة ومتعثرة إلى هذا الحد، ماذا حدث لمبلغ الـ2.3 تريليون دولار الذي أنفقته الولايات المتحدة، وهي تحاول وتفشل في الفوز بحرب في بلد لا يزال فقيرً في شكل بائس؟.

وفي شكل أكثر عموما، لماذا تحول ما قدم باعتباره انتصاراً حاسما من قبل القوات المناهضة لطالبان والمدعومة من الولايات المتحدة قبل 20 سنة إلى الهزيمة الراهنة؟.

 

كلمة حاسمة

 

تتمثل إحدى الإجابات في أن أفغانستان، على غرار لبنان وسوريا والعراق، ليست بلداً يصلح فيه استخدام كلمة "حاسمة" على الإطلاق لوصف أي انتصار أو هزيمة عسكريين. فالفائزون والخاسرون لا يظهرون، لأن عدد الأطراف الفاعلة داخل البلاد وخارجها أكبر مما ينبغي، ولا يمكنها تحمل الخسارة، أو رؤية عدو يفوز.

والواقع أن المقارنات البسيطة بفيتنام عام 1975 مضللة. فطالبان لا تملك أي شيء يشبه القوة العسكرية التي تمتع بها الجيش الفيتنامي الشمالي. فضلاً عن ذلك، تشكل أفغانستان فسيفساء من المجتمعات المحلية والقبائل والمناطق الإثنية، التي ستكابدها طالبان في حكمها بغض النظر عما قد يحدث لحكومة كابل.

وكان تفكك الجيش الأفغاني وقوات الأمن الأفغانية وراء تسريع وتيرة هجوم طالبان، الذي واجه في كثير من الأحيان قدراً ضئيلاً من المقاومة، وهو ما مكنها من تحقيق مكاسب إقليمية مذهلة. وتغذي تغيرات سريعة في الأحوال، كهذه في ساحة المعركة في أفغانستان تقليدياً أفراد ومجتمعات محلية لتنقل ولاءها بسرعة إلى الجانب الفائز. فالعائلات ترسل شبابها للقتال إلى جانب الحكومة وطالبان معاً كشكل من أشكال الضمان. ويجنب الاستسلام السريع للمدن والمناطق الانتقام، في حين تؤدي المقاومة البعيدة الأجل إلى مذبحة.

وسبق أن عرفت البلاد نمطاً مماثلاً لما يجري اليوم عام 2001. ففي حين كانت واشنطن وحلفاؤها المحليون في التحالف الشمالي يتباهون بانتصارهم السهل على طالبان، كان مقاتلو طالبان يعودون سالمين إلى قراهم، أو يتسللون عبر الحدود إلى باكستان في انتظار أيام أفضل. وعاد هؤلاء بعد أربع أو خمس سنوات، عندما بذلت الحكومة الأفغانية قدراً كافياً من الجهد لتشويه سمعتها وخسارة مصداقيتها.

وأكبر مصادر قوة طالبان مرده إلى أن الحركة تحظى دوما بدعم باكستان، الدولة المسلحة نوويا التي يبلغ عدد سكانها 216 مليون نسمة، ويبلغ طول حدودها مع أفغانستان ألفا و616 ميلاً أي ألفين و600 كيلومتر. ولم تتقبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قط أنهما لن تتمكنا من الفوز في الحرب ما لم تكونا مستعدتين لمواجهة باكستان.

وتتلخص عناصر القوة الأخرى التي تتمتع بها طالبان في نواة من القادة والمقاتلين المتعصبين المخضرمين الذين تمتد جذورهم إلى مجتمع البشتون المحلي، الذي يشكل 40 في المئة من السكان الأفغان. وذات يوم، سألني عقيد باكستاني يتولى قيادة قوات بشتونية غير نظامية في المقلب الآخر من حدود أفغانستان عن الجهود الأمريكية والبريطانية الرامية إلى "الفوز بالقلوب والعقول" في جنوب أفغانستان الذي يغلب عليه البشتون. فقد تصور أن فرص نجاحها كانت ضئيلة، وقال إن التجربة علمته أن إحدى السمات الأساسية للثقافة البشتونية هي أنهم "يكرهون الأجانب حقاً".

ولطالما كانت الدعاية حول "بناء الأمة" من قبل محتلين أجانب في أفغانستان والعراق متعالية وغير واقعية. فتقرير المصير الوطني ليس بالأمر الذي يمكن تعزيزه من قبل قوى أجنبية، أيا كانت النوايا الحسنة المفترضة لهذه القوى. فهذه القوى ترجح على نحو ثابت لا يتغير كفة مصالحها الخاصة أولا وأخيرا، وأدى اعتماد الحكومة الأفغانية عليها إلى نزع مشروعيتها في أعين الأفغان، وخسارتها تأييد المجتمع الأفغاني.

وأنتجت المبالغ الهائلة من الأموال المتاحة بسبب الإنفاق الأمريكي نخبة كليبتوقراطية. فقد أنفقت الولايات المتحدة 144 مليار دولار على التنمية وإعادة البناء، لكن نحو 54 في المئة من الأفغان يعيشون تحت خط الفقر، مع مداخيل تقل عن 1.90 دولار يوميا.

وشرح لي صديق أفغاني كان يعمل ذات يوم لدى وكالة التنمية الدولية الأمريكية بعض الأوليات التي مكنت الفساد من الازدهار. قال إن مسؤولي الإغاثة الأمريكيين في كابول كانوا يعتقدون أن زيارة مشاريع كانوا يمولونها أمر محفوف بكثير من المخاطر. وظلوا بدلاً من ذلك في مكاتبهم المحمية بشدة واعتمدوا على الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو التي كانت تظهر لهم التقدم المحرز في المشاريع التي كانوا يدفعون ثمنها.

وفي بعض الأحيان كانوا يرسلون موظفا أفغانيا مثل صديقي لكي يرى بنفسه ما كان يحدث على الأرض. وفي زيارة إلى قندهار لمراقبة بناء مصنع لتغليف الخضروات، اكتشف أن شركة محلية أشبه باستوديو أفلام كانت تلتقط، لقاء رسم، صورا مقنعة للعمل الجاري. وباستخدام إضافات وخلفية مناسبة، تمكنت من إظهار موظفين في سقيفة منهمكين في فرز الجزر والبطاطس، على الرغم من عدم وجود مرفق كهذا.

وفي مناسبة أخرى، اكتشف مسؤول المعونة الأفغاني أدلة على حدوث احتيال، وإن غابت هذه المرة أي محاولة تذكَر للتستر على هذا الاحتيال. فبعد ما بحث من دون جدوى عن مزرعة دجاج جيدة التمويل لكن غير موجودة بالقرب من جلال آباد، التقى مالكيها الذين نبهوه إلى أن طريق العودة إلى كابول طويل. وإذ فسر هذا بأنه تهديد بقتله إذا ما كشف أمرهم، بقي صامتا واستقال من منصبه بعد ذلك بفترة وجيزة.

لقد نجحت المساعدات الخارجية في بناء مدارس وعيادات حقيقية، لكن الفساد تسبب في تآكل كل مؤسسة حكومية. وعلى الجبهة العسكرية، عنى هذا وجود جنود "أشباح"، وإبقاء حاميات المواقع الأمامية المهددة من دون ما يكفي من المواد الغذائية والذخيرة. 

لا شيء من هذا جديد. في زيارة قمت بها إلى كابل وغيرها من المدن على مر السنين، شعرت بأن تأييد حركة طالبان كان محدودا، لكن الجميع كانوا يعتبرون المسؤولين الحكوميين طفيليات يمكن التحايل عليها أو رشوتها. وفي كابل أخبرني أحد الوكلاء العقاريين المزدهر الأعمال– وهذا القطاع غير متعاطف عادة مع التغيير الجذري– أن من المستحيل أن يستمر نظام مشبع بالفساد "من دون ثورة".

لكن ما حدث بدلاً من ذلك هو أن فشل الحكومة مكن طالبان من الاعتقاد بأنها قادرة على العودة إلى السلطة في غضون سنة. واحتمال كهذا يخيف العديد من الناس. فما سيكون، مثلاً، رد فعل أقلية الهزارة حوالي أربعة ملايين نسمة، وهم من الشيعة وقريبون من إيران؟ في وقت سابق من هذا العام قتلت قنابل في كابول 85 تلميذة ومعلمة من الهزارة أثناء مغادرتهن مدرستهن. وكما كانت الحال عام 2001، فإن الحرب الأبدية في أفغانستان لم تنته بعد.

الهجوم بالقنابل المذكور تبنته حركة داعش التي يتهم الكثيرون أمريكا بصنعها وتمويلها في الحروب المختلفة والتظاهر بشن الحرب ضدها كما هو الأمر في سوريا والعراق وليبيا.

 

رهان على دور أنقرة

 

يوم الجمعة 9 يوليو أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن أنقرة وواشنطن اتفقتا على "ترتيبات" تولي قوات تركية تأمين مطار كابول. وذكر أردوغان للصحافيين، "حددنا مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ترتيبات المهمة المستقبلية وما نقبله وما لا نقبله". وأضاف، "طرحنا هذا الموضوع خلال اجتماعات الناتو وخلال لقائي مع بايدن وأثناء ا مناقشات بين وفودنا... سننفذ هذا الإجراء في أفغانستان بأفضل طريقة ممكنة".

وسط هذه الأجواء، قال مسؤولون محليون بأفغانستان إن قائداً بارزاً بفصيل مسلح خاص سيساعد القوات الأفغانية في قتالها مع حركة طالبان، لاستعادة السيطرة على أجزاء من غرب البلاد منها معبر حدودي مع إيران.

والأمر يتعلق بمحمد إسماعيل خان وهو وزير سابق نجا من هجوم نفذته طالبان عام 2009، وهو عضو رئيس في التحالف الشمالي الذي ساعد مقاتلوه القوات الأمريكية في الإطاحة بطالبان في 2001.

وأفاد مسؤول إن من المقرر أن يعقد القائد الطاجيكي إسماعيل خان، الذي يعرف بلقب "أسد هرات"، اجتماعاً لإعداد قواته لمحاربة طالبان والدفاع عن قاعدة سلطته في "هرات". وأضاف أن عددا من القادة العسكريين السابقين المناهضين لـ"طالبان" يدعمون القوات الأفغانية الواقعة تحت ضغط شديد في الدفاع عن الحدود في الغرب والشمال.

في مواجهة محاولات واشنطن لحشد خصوم محللين وإقليميين ضد طالبان سعى ثلاثة مسؤولين من طالبان وفي مؤتمر صحفي في موسكو يوم الجمعة 9 يوليو لتأكيد أن الحركة لا تشكل تهديدا للمنطقة.

وذكروا إن طالبان ستبذل كل ما في وسعها لمنع تنظيم الدولة الإسلامية من العمل على أراضي أفغانستان، وأضافوا أنهم سيسعون للقضاء على إنتاج المخدرات.

وصرح شهاب الدين ديلاوار المسؤول في الحركة مستعينا بمترجم "سنتخذ كافة الإجراءات لمنع الدولة الإسلامية من العمل على أراض أفغانية... لن تستخدم أراضينا أبدا ضد جيراننا".

وذكر الوفد نفسه أن الحركة لن تهاجم الحدود الطاجيكية الأفغانية وهو الأمر الذي تركز عليه روسيا وآسيا الوسطى.

وذكرت وكالة إنترفاكس نقلا عن وزارة الخارجية الروسية يوم الجمعة 9 يوليو أن موسكو لاحظت زيادة حادة في التوتر على الحدود بين البلدين والتي تسيطر طالبان على ثلثيها في الوقت الراهن.

وقالت وكالة الإعلام الروسية إن وزارة الخارجية ناشدت جميع أطراف الصراع في أفغانستان ضبط النفس، وقالت إن موسكو وتكتل منظمة معاهدة الأمن الجماعي الذي تقوده روسيا سيتحركان بحسم لمنع أي اعتداء على الحدود عند الضرورة.

وأفاد وفد طالبان في نفس المؤتمر الصحفي إن الحركة ستحترم حقوق الأقليات العرقية، وأشار إلى أن جميع المواطنين الأفغان سيكون لهم الحق في الحصول على تعليم لائق في إطار الشريعة الإسلامية والتقاليد الأفغانية.

وقال ديلاوار "نريد من جميع ممثلي المجتمع الأفغاني... المشاركة في تأسيس دولة أفغانية".

 

الفوضى

 

حسب تقرير لوكالة فرانس برس: يعزز ضعف الجيش الأفغاني موقف زعماء الحرب، ما يفاقم المخاوف من أن تغرق البلاد في حرب أهلية جديدة على غرار ما حصل عام 1992 إثر سقوط النظام الشيوعي بعد انسحاب الجيش الاحمر من البلاد عام 1989 الذي دعمه لعشرة أعوام في مواجهة تمرد.

ولم تعد القوات الحكومية تسيطر بشكل رئيسي إلا على الطرق الرئيسية وعواصم الولايات التي يتم توفير الامدادات لبعضها عن طريق الجو.

من جهته حذر السفير الباكستاني في كابل من التورط "الخطر" لميليشيات أفغانية في النزاع ضد طالبان. وأشار خان من أنه "إذا أسفر الوضع عن نوع من الحرب بين الميليشيات وطالبان، فسيكون ذلك خطرا (...) وسيستمر الوضع في التدهور".

 

الفرار

 

أفادت وكالة الانباء الفرنسية أن السلطات الأفغانية، أعلنت يوم الأحد 11 يوليو، تشغيل "نظام دفاع جوي" لحماية العاصمة كابل من التعرض لقذائف وصواريخ في ظل التقدم الجامح لحركة "طالبان" في أرجاء البلاد.

فلم تعد القوات الأفغانية تسيطر سوى على المحاور الرئيسة وكبرى المدن الإقليمية وسط حصار تفرضه طالبان حول الكثير منها والخشية من احتمال مهاجمتهم كابل في المدى المنظور، لاسيما أن "طالبان" باتت تسيطر على عدة مناطق مجاورة للعاصمة الأفغانية في نطاق لا يتجاوز الـ100 كيلومتر.

وذكرت وزارة الدفاع الأفغانية في بيان إنّ "نظام الدفاع الجوي حديث الإنشاء دخل طور التشغيل عند الساعة 02.00 فجر هذا الأحد" "21.30 السبت بتوقيت غرينتش". وأضافت "أثبت هذه المنظومة فاعليتها في أرجاء العالم في صد الهجمات بالصواريخ والقذائف".

بيد أن الوزارة لم توضح لا اسم المنظومة ولا تاريخ نشرها ولا هوية الطرف الذي أرساها، غير أن مصادر متعددة في أفغانستان وجوارها أفادت أن الجيش التركي يشرف ويشغل هذه المنظومة.

والمعروف أنه طوال عدة سنوات في أفغانستان كانت القوات الأمريكية قد زودت قواعدها بعدة منظومات من طراز "سيرام/C-RAM" القادرة على رصد القذائف وتدميرها.

وتتيح هذه المنظومة التي كانت في قاعدة باغرام، الأبرز بين القواعد الأمريكية وتقع على مسافة 50 كيلومتراً شمال كابل، إصدار إشارات الإنذار ضمن النطاق الذي تغطيه.

إلى ذلك، دعت سلطات كابل الدول الأوروبية إلى وقف ترحيل المهاجرين الأفغان خلال الأشهر الثلاثة المقبلة بسبب احتدام القتال في البلاد.

وأعلنت الحكومة الأفغانية أنها قررت عدم قبول "الإعادة القسرية" للمهاجرين من دول الاتحاد الأوروبي أو من الدول الأوروبية غير الأعضاء فيه والتي أبرمت معها كابل اتفاقات تعاون بشأن الهجرة.

 

تهديدات كبيرة

 

إذا كان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يجري بسرعة خاطفة باغتت الكثيرين، فالواقع أن واشنطن قررت قبل أربعة أعوام أن عليها أن تحول اهتمامها إلى مجال المنافسة مع دول كبرى مثل الصين وروسيا حتى تحافظ على النظام العالمي الذي برز بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن الماضي وجعل الولايات المتحدة القطب الأول عالميا.

فالحملة ضد مجموعات مسلحة خارجة عن نطاق أي دولة استهلكت كل إمكانات المؤسسة الأمنية الأمريكية والتهمت تريليونات الدولارات منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، بحسب وكالة الانباء الفرنسية التي تضيف:

وصل الرئيس السابق دونالد ترمب إلى السلطة عام 2017 على وعد بالخروج من أفغانستان، واصفا الحرب في هذا البلد بأنها مجرد "فوضى" و"إهدار".

فالحرب في أفغانستان كما في العراق تحولت إلى انتشار عسكري لا يمكن توقع نهاية له، وعنف متواصل وعجز عن إلحاق هزيمة حاسمة بالعدو.

اعتبارا من عام 2013، راجع القادة الأمنيون الأمريكيون سياستهم حين باشر الرئيس الصيني الجديد شي جين بينغ عملية مكثفة لتعزيز القوات العسكرية الصينية.

وفي مسعى للتصدي للقوة العسكرية الأمريكية بل حتى التفوق عليها، بدأت الصين إقامة قواعد عسكرية في جزر صغيرة متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، كما أقامت قاعدة في جيبوتي وخططت لإقامة قواعد أخرى في آسيا والشرق الأوسط.

في هذه الأثناء، اجتاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم عام 2014 التي كانت قد الحقت بأوكرانيا سنة 1954 ودعم حركة انفصالية روسية تقاتل قوات كييف في شرق البلاد.

وبعد عامين، شنت موسكو حملة شديدة للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

وخلال الفترة ذاتها، باشر الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون خطة طموحة لتطوير صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية يمكنها تهديد الولايات المتحدة.

وأكد ترمب هذا المنعطف في استراتيجيته للأمن القومي عام 2017. وجاء فيها أن "الصين وروسيا تتحديان القوة والنفوذ والمصالح الأمريكية، محاولتين إضعاف الأمن والازدهار الأمريكيين".

وأوضحت أن البلدين "مصممان على جعل الاقتصادات أقل حرية، وتطوير قواتهما العسكرية، والسيطرة على الأخبار والمعلومات لقمع مجتمعيهما وتوسيع نفوذهما".

وعملا بهذا الخط الجديد الذي يذكر بحقبة الحرب الباردة، دفع البنتاغون في اتجاه توسيع قوته البحرية وبناء قاذفات صواريخ بعيدة المدى وغواصات هجومية أقوى، وتحديث أسلحته النووية.

كما تحتم التصدي للتحدي الصيني والروسي في مجالات جديدة، مع استحداث قيادة فضائية وقيادة إلكترونية.

وترسخت الأولويات الجديدة في عهد ترمب، وأكدها بايدن في مارس عند إصدار وثيقة سياسته للأمن القومي. وجاء فيها أن "توزيع القوة عبر العالم يتبدل، مولدا تهديدات جديدة. الصين بصورة خاصة ازدادت تصميما بشكل سريع".

وتابعت أن "كلا من بكين وموسكو استثمرتا بقوة في جهود هدفها التصدي للقوة الأمريكية ومنعنا من الدفاع عن مصالحنا وعن حلفائنا عبر العالم".

وباتت أوكرانيا وتايوان نقطتي الارتكاز الجديدتين بدل أفغانستان ومنطقة سوريا والعراق.

وتلقى كلاهما أسلحة أمريكية أكثر تطورا للتصدي لروسيا والصين على التوالي.

وأنشأ البنتاغون مكتبا جديدا يتركز عمله على الصين، كما ترسل واشنطن بانتظام سفنا إلى المياه المحيطة بتايوان وبحر الصين الجنوبي، في تحد ضمني لتأكيدات الصين بشأن السيطرة على هذه المناطق البحرية.

أما بالنسبة إلى روسيا، فعمد بايدن إلى توطيد العلاقات مع الحلفاء الأطلسيين.

وشاركت سفن حربية أمريكية خلال نهاية شهر يونيو وبداية شهر يوليو 2021 في تدريبات في البحر الأسود حيث تقوم القوات الروسية بمناورات عسكرية.

ويشدد البنتاغون على أن مكافحة الإرهاب لا تنتهي بالانسحاب من أفغانستان.

غير أنها تتخذ منحى مختلفا يعتمد على الضربات الجوية والصاروخية من قواعد بعيدة وعلى أطراف حليفة تتحرك في أفغانستان حيث لا يزال تنظيم القاعدة ينشط.

وقال بايدن "إننا نعيد نشر مواردنا ونكيف وضعيتنا في مكافحة الإرهاب للتصدي للتهديدات حيث تكمن الآن".

 

مخاوف

 

أفاد تقرير لشبكة "فوكس نيوز" الأمريكية، أن الحزب الشيوعي الصيني يعتبر أفغانستان منفذا يمكن من خلاله للجيش الصيني الوصول إلى بحر العرب عبر إيران أو باكستان. وأن بكين ترى في انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان فرصة للتغلغل في البلاد الغنية بالمعادن، والتي توفر بوابة نحو عدد من المناطق والبلدان ذات الأهمية الإستراتيجية العالية، ويضيف التقرير أن فرص نجاح بكين في ذلك تبقى موضع شك لدى خبراء.

ويمكن لأفغانستان أن تسهل الوصول إلى إيران والشرق الأوسط وتوفر طريقا إلى المحيط الهندي وإلى أفريقيا.

وفي مقابلة مع الشبكة، يعبر الخبير في شؤون الحزب الشيوعي الصيني المقيم في الولايات المتحدة، غوردون تشانغ، عن شكوكه حول قدرة بكين على ضمان نفوذ طويل في أفغانستان.

وتوقع الخبير أن تحصل بكين على فرصتها في أفغانستان، ولكن الفرصة لا تعني النجاح، وأضاف "أعتقد أنهم سيستغرقون وقتا أطول للفشل".

ويشير الخبير إلى أن الصينيين إن دخلوا إلى أفغانستان سيكون من الصعب عليهم الخروج منها.

وبحسب تقرير الشبكة، فإن الموارد الطبيعية الأفغانية الهائلة كانت دائما هدفا قديما للقوى الأجنبية، إذ "تتراوح قيمة ثروة البلاد المعدنية بين تريليون وثلاثة تريليونات دولار"، بما في ذلك الأحجار الكريمة النادرة والنحاس والحديد والذهب واليورانيوم والليثيوم.

ويرى الخبير أن استخراج الموارد الطبيعية في أفغانستان سيكون مكلفا جدا للصين وأكثر مما يتوقعه القادة الصينيون.

عمر نجيب

[email protected]