أفغانستان أو البداية الجديدة لمقبرة الإمبراطوريات.... في كابل ترسم خطوط التماس لآسيا الوسطى وحدود الصين الغربية

ثلاثاء, 2021-07-06 05:50

منذ منتصف شهر مايو 2021 تتقدم قوات حركة طالبان بوتيرة متسارعة على غالبية جبهات المواجهة في المقاطعات الأفغانية وتنهار أمامها قوات حكومة كابل التي دربتها وسلحتها الولايات المتحدة لتكون سندا لقوات حلف شمال الأطلسي طوال العشرين سنة الماضية في حرب أرادت واشنطن أن تنهي قوة حركة طالبان وتحول أفغانستان إلى دولة حليفة للغرب على التخوم الجنوبية لجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وعلى العتبات الغربية للصين. وموازاة مع هذا التقدم تابعت واشنطن والدول التي تحالفت معها في الحرب الأفغانية وفي مقدمتها ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإستراليا سحب وحداتها العسكرية وأعلن البنتاغون يوم الاحد 4 يوليو 2021 أن انسحاب وحداته العسكرية سيكتمل نهاية شهر أغسطس أي 11 يوما قبل الموعد الذي حدده الرئيس الأمريكي جو بايدن بيوم 11 سبتمبر.

في حين تتقدم قوات طالبان بدون تغطية إعلامية واسعة من جانبها، وتوفر وكالات الأخبار الأجنبية المعلومات عن التطورات على ساحة الحرب، تظهر تطورات مختلفة لدى تحالف الناتو وخاصة من جانب واشنطن. البيت الأبيض يتحدث عن إتمام الانسحاب في الموعد أو حتى قبله ولكن مصادر أمريكية تشير إلى أن 650 جندي أمريكي سيظلون في العاصمة كابل بهدف حماية السفارة الأمريكية مترامية الأطراف. في تركيا حليف واشنطن في الحرب الأفغانية طوال عقدين يجري الحديث في أنقرة ليس عن سحب الجيش بل عن بقاء حوالي 800 جندي تركي لحماية مطار كابل الدولي وتأمين البعثات الأجنبية.

في الولايات المتحدة يقوم بعض المحللين ومراكز الدراسات بمقارنة ما يحدث في أفغانستان، بالهزيمة الأمريكية في الفيتنام وانسحابها في ظل فوضى شاملة لحلفائها في القسم الجنوبي من البلاد رغم توفرهم على جيش قالت واشنطن أن عديده يقارب مليوني جندي وذلك بتاريخ 30 أبريل 1975. ولكن على صعيد آخر يحاول السياسيون وجزء كبير من المحللين نفي هزيمة الولايات المتحدة والقول أنها قامت بواجبها تجاه شعب أفغانستان ولكن قادته خذلوها، وأنها تخلصت من تهديدات تنظيم القاعدة، وبعد ذلك يقوم هؤلاء بطرح فرضيات عن نشوب حرب أهلية فيما اصلح البعض على وصفه بمقبرة الإمبراطوريات وتحول البلاد إلى صومال آخر، ويذهب آخرون إلى أن قوى إقليمية ستسعى لسد الفراغ الذي يتركه الانسحاب الأمريكي. البعض يتحدث عن تحول أفغانستان إلى خصم لكل من موسكو وبكين عبر انتقالها إلى تابع لتركيا عضو حلف الناتو مما سينفع واشنطن ويساعدها على تطويق الصين ونسف جهود الكرملين لإعادة تماسك وتحالف الجمهوريات السابقة في الاتحاد السوفيتي.

البعض يصف تصورات الإدارة الأمريكية بحالة إنكار للواقع، وهذا ما قد يقود إلى قرارات خاطئة تزيد من استفحال الأزمات ليس في أفغانستان وحدها.

 

رفض الواقع

 

بداية شهر يوليو 2021 جددت الخارجية الأمريكية أن واشنطن ستواصل دعمها لقوات الدفاع والأمن الوطنية "الحكومية" بعد انسحابها من أفغانستان.

وذكر المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس إن "أي حكومة يتم تنصيبها بالقوة في أفغانستان لن يتم قبولها، ولن تعتبر شرعية، ولن تتلقى المساعدة من المجتمع الدولي".

وأضاف برايس في مؤتمر صحفي أن الولايات المتحدة لا تعتزم أبدا التخلي عن مسؤولياتها، وأنها ستواصل دعم قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية، مشيرا إلى أن بقاء جنود أمريكيين في أفغانستان ضروري لحماية الدبلوماسيين الأمريكيين.

ووصف المتحدث باسم الخارجية الأمريكية تركيا بأنها كانت شريكا بناء ومفيدا للغاية فيما يتعلق بأفغانستان، وبأنها حليف مهم في الناتو، مشيرا إلى أن الرئيس بايدن كانت له فرصة للقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتم بحث دور تركيا في أفغانستان.

وكانت تركيا أكدت أنها قد تواصل القيام على حراسة مطار كابل بعد انسحاب قوات الناتو.

صحيفة "التايمز" البريطانية علّقت في افتتاحيتها على ما رأت أنه خروج مشين لقوات الناتو والجيش الأمريكي، قائلة إن أفغانستان لم تعرف بأنها مقبرة الإمبراطوريات بدون مبرر، ومثل الاتحاد السوفييتي السابق والإمبراطورية البريطانية بل وحتى الإسكندر العظيم، فإن خروج الأمريكيين بعد عشرين عاما قد يتحول إلى هزيمة مشينة.

بداية شهر مايو وفي واشنطن قال النائب الأمريكي مايكل والتز، والذي حارب في أفغانستان سابقا، إن الانسحاب الأمريكي بمثابة "تخل عن موطئ قدم استراتيجي في الفناء الخلفي لأعظم المنافسين لأمريكا" فمن خلال التخلي عن قاعدة باغرام في أفغانستان، لن يكون لدينا مطار أمريكي في بلد على الحدود مع الصين أو على الحدود الجنوبية لروسيا، وستتخلى إدارة بايدن أيضا عن موطئ قدم استراتيجي رئيسي على طول الجناح الشرقي لإيران، وعلى طول الجناح المجهز بالأسلحة النووية لباكستان غير المستقرة.

وأضاف، أن الرئيس، جو بايدن "صدم" العالم بإعلانه أن جميع القوات الأمريكية ستنسحب من أفغانستان.

وشدد والتز في مقال بصحيفة "مليتري تايمز" قائلا: "بصفتي أحد المحاربين القدامى في الحرب في أفغانستان، وجدت هذه الأخبار مفجعة لأنني أعرف حجم الدماء الأمريكية التي أريقت في أفغانستان، ومصير الملايين الذين من المحتمل أن يعودوا إلى الحياة تحت حكم طالبان".

 

لم نكن مستعدين

 

نشر موقع الحرة التابع للحكومة الأمريكية تقريرا عن أفغانستان يوم 3 يوليو 2021 جاء فيه:

يعيش الرئيس الأفغاني، أشرف غني، في عزلة مستمرة داخل القصر الرئاسي، وفق ما نقلت صحيفة "نيويورك تايمز"، وهو غائب عن المشهد باستثناء التصريحات العرضية حول الاقتصاد أو الفساد.

يذكر مسؤولون وخبراء أمنيون إن جذور الانهيار الحالي داخل إدارة غني يعود لثلاثة أسباب أبرزها الوهم الأمني الذي تعيشه الإدارة الأفغانية بسبب الغطاء الذي كانت تقدمه القوات الأمريكية، علاوة على طبيعة حرب العصابات بين القوات النظامية وعناصر طالبان الأكثر ذكاء في هذا النوع من الحروب، بالإضافة إلى اختزال الحكومة في شخص غني نفسه وبعض المساعدين المتعلمين في الخارج.

وفي وقت سابق من شهر يونيو، التقى الرئيس الأمريكي جو بايدن، بالرئيس الأفغاني غني في البيت الأبيض.

وقال بايدن على هامش الاجتماع مع غني، إن الشراكة بين الولايات المتحدة وأفغانستان "لم تنته.. إنها ستستمر" على الرغم من انسحاب القوات الأمريكية.

والجمعة الثاني من يوليو، ذكر المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، جون كيربي، "نعتقد أننا سننهي عملية الانسحاب من أفغانستان بنهاية أغسطس"، مشيرا إلى أن واشنطن ستواصل دعمها للسلطات الأفغانية "في مواجهة الإرهاب ومن أجل إحلال الأمن".

ولفت كيربي إلى أن وزير الدفاع، لويد أوستن، اتخذ القرار بنقل القيادة في أفغانستان، الجمعة 2 يوليو، من الجنرال سكوت ميلر إلى الجنرال كينيث ماكنزي. وقال إن ماكنزي سيحتفظ بجميع السلطات الحالية كقائد للقوات الأمريكية في أفغانستان.

والمعروف أنه في نهاية شهر يونيو، صرح قائد القوات الأمريكية في أفغانستان، الجنرال سكوت ميلر، إن المكاسب الأخيرة التي حققتها حركة "طالبان" مقلقة للغاية حتى وإن لم تكن غير متوقعة.

وسيطرت حركة طالبان على أكثر من ربع مقاطعات البلاد البالغ عددها 421 مقاطعة منذ أوائل مايو، في حملة كاسحة استهدفت إلى حد كبير شمال أفغانستان وشهدت حتى بعض عواصم المقاطعات محاصرة من قبل مقاتلي الحركة.

وانسحبت القوات الأفغانية في بعض المناطق دون مقاومة أو قتال مع عناصر طالبان بسبب نفاد الذخيرة، كما تقول الصحيفة الأمريكية.

لكن دبلوماسي غربي غير مصرح له بالتحدث علنا، قال إنه اكتشف وجود مؤشرات على أن نوعا من الإستراتيجية تنفذها القوات الأفغانية حاليا، وهي تتمثل في التخلي عن المناطق الريفية غير الأهمية الإستراتيجية القصوى لتوحيد القوات المتبقية بشكل أفضل في الأماكن ذات القيمة لدى الحكومة.

وبينما قال نائب وزير الدفاع السابق، الجنرال هلال الدين هلال، "لم يكن لديهم خطة استراتيجية لمرحلة ما بعد رحيل الأمريكيين"، اعترف رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية في البلاد، الدكتور عبد الله عبد الله، بالشيء ذاته في اجتماع أخير.

وقال عبدالله: "لم نكن مستعدين لقرار سحب القوات الأمريكية من أفغانستان". وأضاف إن الحكومة تطالب بالسلام، ولكن رقعة الحرب وصلت إلى أبواب العاصمة كابل، معتبرا أن انسحاب القوات الأجنبية أحدث فجوة أمنية كبيرة في أماكن كثيرة. كما أكد عبد الله أن بإمكان الأمم المتحدة وقطر أن تلعبا دورا مهما، كونهما وسيطين في عملية السلام.

 

ستة أشهر على الأكثر

 

خلص تقرير للمخابرات الأمريكية إلى أن الحكومة الأفغانية ستسقط بيد طالبان في غضون 6 أشهر، بمجرد اكتمال الانسحاب الأمريكي من البلاد.

ويستبعد التقرير الذي نشرته يوم الأربعاء 23 يونيو 2021 صحيفة "وول ستريت جورنال" التقييمات الأكثر تفاؤلا التي تم إجراؤها في وقت سابق، وذلك بعدما حققت قوات طالبان تقدما كبيرا ضد الحكومة الأفغانية.

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين في الاستخبارات الأمريكية لم تسمهم، دحضهم ترجيحات سابقة بأن الحكومة الأفغانية ستبقى على قيد الحياة لمدة عامين بعد خروج الولايات المتحدة.

وأوضحوا أن الجدول الزمني لبقاء الحكومة دون انهيار أصبح الآن يتراوح بين 6 أشهر إلى عام واحد.

ووصلت الاستخبارات الأمريكية إلى تقييمها الجديد للوضع في أفغانستان، بالتزامن مع إعلان الجيش الأمريكي اكتمال أكثر من 50 بالمئة من عملية انسحابه.

وحسب الصحيفة الأمريكية، شهد الأسبوع السابق لتقريرها استسلام العديد من القوات الأفغانية لحركة طالبان، مع تداول صور ومقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تشير إلى أن مقاتلي الحركة استولوا على مخزونات كبيرة من المعدات والمركبات العسكرية التي تركها الجيش الأمريكي.

رغم ذلك، قلل مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة، من أهمية التقدم الذي أحرزته طالبان خلال إدلائه بشهادته أمام الكونغرس، الأربعاء. وقال: "هناك 81 مركزا محليا نعتقد أنها تخضع حاليا لسيطرة طالبان، لكن هذا من أصل 419 مركزا".

وأضاف: "لا توجد عاصمة تابعة لأحد أقاليم أفغانستان خاضعة لسيطرة طالبان"، مشددا على أن الجيش الأمريكي يراقب التطورات عن كثب.

 

أوهام ونوايا

 

في نطاق ما يقدر ملاحظون أنها أوهام لإخفاء الانكسار والفشل، يتوقع مركز “ستراتفور” الأمريكي للدراسات الإستراتيجية والأمنية أن يؤدي تدهور الوضع الأمني في أفغانستان إلى اندلاع حرب أهلية فوضوية في أقل من ستة أشهر بعد انسحاب القوات الأجنبية.

ويحذر مسؤولون أمريكيون ومراكز دراسات غربية منذ أشهر من تداعيات سلبية وخطيرة للانسحاب من أفغانستان في ظل وجود حكومة ضعيفة في كابل، وفشل جهود إتمام السلام مع الحركة الإسلامية التي عززت من مكاسبها العسكرية في ظل هزائم القوات الحكومية في أكثر من منطقة إستراتيجية.

ويرى مركز "ستراتفور" أنه على الرغم من إطلاق القوات الحكومية حملة تعبئة وطنية وتسليح المدنيين والميليشيات المحلية لمواجهة تقدم طالبان إلا أن الحركة ستظل تحقق انتصارات أمام الميليشيات بسهولة، وذلك لعدم تمكن تلك المجموعات من التدريب الكافي والمعدات العسكرية.

ويعتبر المركز أنه “نظرا للتاريخ الطويل للميليشيات الأفغانية في تغيير الولاءات والصراعات على السلطة والنزاعات الإقليمية، ليس هناك ما يضمن أن تلك الجماعات لن تستخدم الأسلحة الجديدة للقتال ضد بعضها البعض بدلا من طالبان، مما يزيد من العنف والاضطراب بين الطوائف”.

ويرى مركز "ستراتفور" أن “المكاسب الإقليمية تمنح طالبان أوراق مساومة إستراتيجية لكسب المزيد من النفوذ في المفاوضات المستقبلية مع الحكومة الأفغانية، بالإضافة إلى توسيع النفوذ على الأرض لمصلحتها”.

ويتوقع المركز الأمريكي أن يصبح “شمال أفغانستان ساحة قتال لطالبان والجماعات غير البشتونية المكونة من أقليات عرقية مثل الطاجيك والأوزبك، حيث من شأن هذا العنف أن يزيد من زعزعة استقرار البلاد وقد يؤدي إلى هجرات وأزمات لاجئين في دول آسيا الوسطى”.

كما يرى أن جنوب أفغانستان، الذي تسكنه أغلبية من البشتون، سيصبح قاعدة لمقاتلي القاعدة والدولة الإسلامية، حيث سيكون لديهم حرية تشغيلية أكبر بكثير للقيام بمجموعة من الأنشطة، بما في ذلك التجنيد والتدريب والتخطيط للهجوم.

وتشير التوقعات كذلك إلى احتمال أن تتسبب الفوضى المتزايدة في أفغانستان إلى “تعرض أمن البلدان المجاورة للخطر من خلال توفير أرض تدريب للجماعات المسلحة الإقليمية”.

وحسب التقرير الذي يتضمن بين سطوره إشارات حول مخططات واشنطن: أن هناك مخاوف أخرى لن تكون أقل حدة من غيرها من السيناريوهات المتوقعة الحدوث في أفغانستان على غرار تحرك حركة طالبان الباكستانية المتمركزة في المنطقة الحدودية بين أفغانستان وباكستان على تكثيف هجماتها ضد باكستان، حيث يرى مركز "ستراتفور" أن هذا الأمر “سيؤدي إلى استفزاز إسلام أباد لزيادة تدخلها في أفغانستان”.

ويوجد نحو 5 آلاف مقاتل من طالبان الباكستانية في المنطقة الحدودية مما يشير إلى أن المجموعة مستعدة للاستفادة من سيطرة طالبان على مناطق جديدة في أفغانستان.

كما يتوقع أن يكون للجماعات الموصوفة غربيا بالإرهابية التي تعمل ضد الهند مثل جيش محمد وعسكر طيبة عمق استراتيجي أكبر لتنفيذ هجماتها في المنطقة بسبب صلاتها بحركة طالبان، حيث يمكن للهجمات أن تدفع نيودلهي إلى التدخل ضد هذه الجماعات في باكستان وأفغانستان.

ويقدر مركز "ستراتفور" أن “مجرد تغلب طالبان على القوات الأفغانية سيعيد تنظيم القاعدة إلى العمل في أفغانستان”، كما لا يمكن استبعاد عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، الذي أكد قدرته على الصمود والسيطرة على الأجزاء الجنوبية من البلاد.

ويكمل المركز بالقول إن نجاح هذا السيناريو “سيشكل زيادة كبيرة في التهديد الإرهابي للغرب، نظرا إلى أن كل من القاعدة والدولة الإسلامية يحافظان على نية استراتيجية لاستخدام ملاذ أفغاني آمن لضرب أهداف في الخارج”.

على عكس توقعات مركز ستراتفور الأمريكي ذكرت صحيفة التايمز يوم 23 يونيو أن مسؤولو طالبان أكدوا حصريا للصحيفة أن الحركة أجرت محادثات مع دبلوماسيين هنود في الأسابيع الأخيرة. وتمثل هذه الخطوة تحولا تاريخيا في إستراتيجية دلهي بعد عقود من العداء تجاه الحركة الإسلامية، التي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع جار الهند وخصمها اللدود، باكستان. ومثل بقية القوى الإقليمية، بما في ذلك روسيا والصين وإيران، اتخذت الهند قرارا عمليا بالتواصل مع المتمردين في إطار سعيها للاحتفاظ بنفوذها في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي. 

 

التخلي عن أحلام الهيمنة

 

جاء في تقرير نشر في واشنطن بتاريخ 27 يناير 2021 باتت تطلعات الهيمنة الأمريكية تمثل عبئا كبيرا على أمريكا نفسها والشعب الأمريكي، فهل يواصل الرئيس الجديد جو بايدن سياسة أسلافه في التورط في النزاعات الدولية، أم أنه سيخلّص أمريكا منها ؟.

بينما كان جو بايدن يستعد لمغادرة منصب نائب الرئيس قبل 4 أعوام، أخبر المنتدى الاقتصادي العالمي أنَ الولايات المتحدة الأمريكية ستواصل قيادة النظام الليبرالي العالمي، بصفتها دولة لا غنى عنها، لكن السنوات التي تلت ذلك لم تتوافق مع تأكيدات بايدن. رفض الرئيس دونالد ترمب دور الولايات المتحدة في قيادة هذا النظام العالمي، وأطلق العنان لقومية أمريكية متمثلة في شعار "أمريكا أولا". 

وعندما بدأ بايدن حملته الرئاسية، في عام 2020، لم يعد يتحدث كثيرا عن النظام الليبرالي العالمي أو حتمية الدور الأمريكي. في المقابل شدَد بايدن على تضميد الجروح المحلية والتأثير في الآخرين "ليس من خلال نموذج قوتنا، لكن بقوة نموذجنا"، على حسب تعبيره.

ومع ذلك، سيحتاج بايدن إلى مزيد من الجرأة إذا أراد النجاح لفترة رئاسته، حسبما ورد في تقرير لمجلة فورين أفيرز الأمريكية.

يرث بايدن استراتيجية أمريكية كبرى طويلة الأمد، يتعذّر إصلاحها بمجرد إدخال تعديلات سياسية طفيفة. على مدى العقود الـ3 الماضية، واصل الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون، بمن فيهم ترمب، توسيع حروب الولايات المتحدة والتزاماتها الدفاعية، وحجم انتشار قواتها، سعيا لتحقيق الهيمنة الأمريكية العسكرية في جميع أنحاء العالم، بدلا من الاكتفاء بالدفاع عن أمنها الخاص. 

لكن هذا المسعى كلَّف الولايات المتحدة ثمناً باهظا، فاكتسبت العديد من الخصوم حول العالم، الأمر الذي أدَى إلى تعاظُم تكاليف ومخاطر هذه الهيمنة، نتيجة لذلك فشلت السياسة الخارجية الأمريكية في تحقيق هدفها الأساسي، إذ جعلت الأمريكيين أقل أمناً أينما كانوا.

تبدأ إدارة بايدن عملها عازمة على استعادة الهيمنة الأمريكية، ومع ذلك ستصطدم بالوضع على أرض الواقع. فبينما يعالج بايدن الأولويات الملحة في الأيام الأولى لرئاسته، المتمثلة في إصلاح الديمقراطية المتضررة في الداخل والسيطرة على جائحة فيروس كورونا وإنقاذ الدبلوماسية الأمريكية، سيجد أن أعباء الهيمنة العالمية تتعارض مع أولوياته وأهدافه الخاصة عند كل منعطف.

يستعد بايدن لاتخاذ قرارات فورية، إما أن تضعه على مسار بناء أو تورطه في نفس طريق أسلافه المؤمنون بوهم الهيمنة الأمريكية.

تعهد الرئيس الأمريكي بإنهاء ما يسمى بـ"الحروب الأبدية" للولايات المتحدة، وتعزيز الدبلوماسية في الشرق الأوسط. يستطيع بايدن تحقيق ذلك من خلال فرصتين محددتين في وقت معين، الأولى من خلال استعادة الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015. ثانيا، الالتزام باتفاق السلام الموقع في الدوحة مع حركة طالبان، وسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان.

لن تكون العودة إلى الاتفاق النووي أمرا سهلا، بعد أن مزقته إدارة ترمب وشددت العقوبات على إيران بلا مبرر. سيحتاج بايدن إلى المزيد من الحزم والإبداع لإجراء التغييرات الاستراتيجية اللازمة لإنجاز الصفقة. على الرغم من نجاح إدارة أوباما في التوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015، ظلَّت تؤكد للجمهور الأمريكي أن طهران لا تزال تشكل تهديدا كبيرا للولايات المتحدة وعوضت خصوم إيران في الشرق الأوسط بالمساعدات العسكرية ومبيعات الأسلحة.

يجب أن تتعلم إدارة جو بايدن الدرس الصحيح، فلا ينبغي فقط أن تعود إلى الاتفاق النووي الإيراني على الفور وتتجنب استخدام عقوبات ترمب وسيلة ضغط، بل يتعين عليها أيضا المضي قدماً نحو حقبة جديدة من العلاقات الدبلوماسية الطبيعية مع إيران، حسب المجلة الأمريكية.

وبدلا من مكافأة شركاء الولايات المتحدة في المنطقة، ينبغي لبايدن الوفاء بتعهداته بإنهاء الدعم الأمريكي للتدخل السعودي في اليمن، وخفض مبيعات الأسلحة للسعودية، وإعادة تقييم المساعدات لإسرائيل. ثمة حاجة إلى اتخاذ مثل هذه الإجراءات الجذرية لإنقاذ الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط.

ولكن اللافت أن فريق الرئيس جو بايدن أعلن في ساعاته الأولى أن العودة السريعة للاتفاق النووي الإيراني أمر غير مرجح، ما قد يؤدي إلى إطالة أمد أزمة السياسة الخارجية التي كان الكثيرون في واشنطن يأملون في حلها بسرعة.

ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية الجديدة تريد إدراج اتفاقية خاصة بالصواريخ الباليستية الإيرانية، ودعم طهران للجماعات الشيعية في المنطقة، وهو أمر من المتوقع أن ترفضه طهران.

تعتبر أفغانستان فرصة مبكرة أخرى لبايدن لإجراء تحسينات سريعة ومستدامة. يجب أن يأمر الرئيس الأمريكي بانسحاب كامل للقوات الأمريكية من أفغانستان، ويلغي خطة حملته الانتخابية للإبقاء على قوة مكافحة الإرهاب، لأن الفشل في تنفيذ الانسحاب الكامل سيؤدي إلى إلغاء الاتفاقية المبرمة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، ومن ثم تستمر حرب الولايات المتحدة في أفغانستان.

لا شك أنَ بعض المسؤولين الأمريكيين لن يوافقوا على ذلك، مجادلين بضرورة تأجيل الانسحاب الكامل لإتاحة مزيد من الوقت للأطراف داخل أفغانستان للتفاوض على تسوية نهائية، لكن مثل هذه المفاوضات يمكن أن تحدث من دون القوات الأمريكية، التي وجودها قد يعيق الأفغان عن إيجاد آلية لتحقيق التوازن المستقر الخاص بهم. يتعين على بايدن عدم التراجع عن هدف الانسحاب الكامل، لأنَ أنصاف الحلول والتدابير الجزئية لن تؤدي إلى شيء سوى إدامة دورة حرب لا نهاية لها. 

وأعلنت إدارة بايدن أنها ستراجع اتفاق السلام الذي أبرمه الرئيس السابق دونالد ترمب مع طالبان، ويتضمن انسحاب القوات الأمريكية بالتزامن مع إطلاق عملية سلام في البلاد، حيث تقول إنها تريد التأكد من أن طالبان "تفي بالتزاماتها".

ومع تصاعد الحديث عن مراجعة الاتفاقية، وما يسمى الوجود الأمريكي المسؤول في أفغانستان، تبدو هذه المراجعة للاتفاقية أشبه كثيراً بانسحاب ترمب من الاتفاق النووي الإيراني، الذي أبرمه سلفه باراك أوباما، بدعوى أن الاتفاق مزر وقدم تنازلات لإيران (وهو أمر قد يكون حقيقيا)، وقد يكون ذلك علامة على أن النكوص الأمريكي عن الاتفاقات ليس صفة جمهورية فقط.

ولكن الأهم بالنسبة للأمريكيين، أن موقف بايدن الجديد سيجدد التورط الأمريكي بأفغانستان في مواجهة حركة مسلحة تبدو أقل براغماتية من الإيرانيين، وأكثر استعداداً لدفع ثمن باهظ مقابل مواقفها المتعنتة.

في الواقع، ليس الهدف هو تحويل إيران أو طالبان إلى فاعلي خير، وإنما جعلهما لا يشكلان مصدر تهديدات أو مشكلات للولايات المتحدة. ستواصل إيران أنشطتها الخبيثة في الشرق الأوسط، وستظل حركة طالبان قمعية، لكن لن يصبح استهداف الولايات المتحدة ذا منفعة كبيرة بالنسبة لهما، في حال توقفت عن محاولة السيطرة على الأحداث في منطقة جوارهما. على هذا النحو تتخلّص الولايات المتحدة من أعداء غير ضروريين، وتحرر نفسها لتعزيز مصالحها وتستعيد السيطرة على سياستها الخارجية. 

بعد تحقيق نجاحات مبكرة في منطقة الشرق الأوسط، تستطيع إدارة بايدن تطبيق منطقها الاستراتيجي في أماكن أخرى، تقدم كوريا الشمالية مثالا ممتازا. 

يتعين على الولايات المتحدة سلك مسار مختلف بعد الفشل في كل محاولات جعل النظام يتخلَّى عن الأسلحة النووية. ينبغي قبول امتلاك النظام الكوري الشمالي قدرة نووية في المستقبل المنظور، وتشجيع بناء السلام في شبه الجزيرة الكورية، والتحرك نحو تطبيع العلاقات. 

ينبغي العمل على إزالة الأسباب المحتملة التي تجعل كوريا الشمالية تستهدف الولايات المتحدة بدلا من السعي لنزع فتيل كل قنابلها، هذه أفضل طريقة لمواجهة تهديد كوريا الشمالية. 

 

الصين وروسيا

 

ستواجه إدارة بايدن المهمة الأصعب لضبط علاقاتها مع روسيا والصين، كان بايدن قد أعرب بالفعل عن رغبته في العمل مع بكين في مجال الصحة العامة والبيئة، ومع موسكو في جهود الحد من التسلح، وهي مؤشرات على تخفيف عقيدة الهيمنة الأمريكية.

ومن أجل الحد من العداوات التي تضر بالمصالح الأمريكية، ينبغي مقاومة الدعوات المتزايدة للالتزام بشن حرب مع الصين للدفاع عن تايوان، ويجب الشروع في تجديد الإستراتيجية العسكرية الأمريكية في منطقة شرق آسيا. 

وبدلا من الوجود في الخطوط الأمامية وممارسة الهيمنة، ينبغي تجهيز حلفاء أمريكا وشركائها لحرمان الصين من الهيمنة على الممرات المائية والمجال الجوي.

في أوروبا، ينبغي أن يطالب بايدن بوقف توسعات الناتو التي أرهقت الولايات المتحدة بالتزامات غير مبررة، وألحقت الضرر بالعلاقات مع روسيا، وخنقت المبادرة الأوروبية. تستطيع الولايات المتحدة، في ظل هذا الانحسار المتزن الحكيم، التعايش مع الصين وروسيا وإيجاد أرضية مناسبة تجمع بين المنافسة والتعاون بما يتوافق مع المصالح الأمريكية.

تواجه الولايات المتحدة تحديات وجودية في الداخل. يحتاج الشعب الأمريكي إلى كل جهد من حكومته لتحسين حياته وتقوية ديمقراطيته، لكن إستراتيجية الهيمنة الأمريكية العسكرية تفعل العكس، حيث تديم العداء مع العالم، وتثير الخوف من الأجانب والأعداء الداخليين المفترضين، وتبدد أكثر من نصف الإنفاق التقديري الفيدرالي على البنتاغون عاما تلو الآخر.

لهذا السبب، يمتلك جو بايدن فرصة مذهلة، يستطيع تعزيز الوحدة الوطنية من خلال إعادة القوات الأمريكية الموجودة في الخارج إلى أرض الوطن والتخلص من أوهام الهيمنة الأمريكية. لقد حان الوقت أخيرا لتلبية مطالب الجمهور بتقليل الاهتمام بالخارج، وصب مزيد من التركيز على الداخل. تظل الولايات المتحدة أمة لا غنى عنها لشعبها، وتستطيع فقط من خلال خدمة هذا الشعب الاضطلاع بدور مسؤول في العالم.

 

الفراغ الأمريكي

 

يرى عدد من المحللين أن أحد أسباب تعثر السياسة الأمريكية في عدة مناطق من العالم تعود إلى تراكم التقديرات الخاطئة. وهكذا ووفقا لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، من المتوقع أن يخلق الانسحاب الأمريكي من أفغانستان فراغا في السلطة، تتنافس القوى الإقليمية على ملئه، ما ينذر بظهور صراعات جيوسياسية جديدة في البلاد.

وبحسب المجلة، فإن الساحة الأفغانية باتت تشهد تنافسا محتدما بين كل من إيران والصين والهند وباكستان وروسيا، لتعزيز نفوذها في البلاد بعد انسحاب القوات الأمريكية منها.

وقالت المجلة إن الدول آنفة الذكر تعمل على "إطلاق مسرحيات سلطة دبلوماسية هادئة موجهة نحو الحكومة الأفغانية وطالبان على حد سواء".

ولفتت المجلة إلى اجتماع جمع ما بين وزراء خارجية الصين وباكستان وأفغانستان، شهر يونيو، كان هدفه مناقشة مستقبل أفغانستان.

وبحسب "فورين بوليسي"، فقد قامت الصين بمحاولات لتعزيز نفوذها في آسيا الوسطى، وتوسيع استثماراتها في أفغانستان، التي تنظر إليها كورقة رابحة في مشروعها "الحزام والطريق".

وفي الأثناء، باتت الهند تتراجع عن سياستها القديمة والتي تنص على عدم التعامل مع طالبان، وبدأت محادثات دبلوماسية مع الجماعة المسلحة في قطر، وفقا لصحيفة "تايمز أوف إنديا".

وبحسب "فورين بوليسي"، فهناك محللون يحذرون من أن المعارك الدبلوماسية بالوكالة قد تساهم بالمزيد من زعزعة الاستقرار، في هذا البلد المضطرب أصلا، ما سينتهي بتمكين طالبان لفرض سيطرتها بشكل أكبر.

في موسكو ذكر المبعوث الخاص للرئيس الروسي لأفغانستان، إنه لا يجوز أن تتحول عملية سحب القوات الأمريكية من أفغانستان إلى إعادة انتشار لبنية الناتو التحتية وكذلك الأمريكية في دول آسيا الوسطى.

وأضاف كابلوف، الذي يشغل منصب مدير القسم الثاني لآسيا في الخارجية الروسية يوم 2 يوليو: "هذه العملية، لا يمكن ولا ينبغي أن تتحول إلى إعادة نشر البنية التحتية العسكرية للولايات المتحدة والناتو، في الدول المجاورة لأفغانستان، وخاصة جمهوريات آسيا الوسطى. لقد أرسلنا هذه الإشارة إلى واشنطن على مستويات مختلفة، ونأمل أن تنصت لذلك".

وتابع كابولوف: "نعتقد أن السبيل الوحيد الممكن للخروج من المأزق الحالي، هو تشكيل حكومة ائتلافية جديدة بمشاركة ممثلين عن أكبر القوى العرقية والسياسية في البلاد، بما في ذلك حركة طالبان. لكن يجب أن تتفق على ذلك الأحزاب الأفغانية نفسها".

وأضاف كابولوف إن، "المجتمع الدولي سيقدم المساعدة المناسبة، لأن الأفغان لم ينجحوا بعد في ذلك، لكنهم هم أنفسهم سيتخذون القرار النهائي بشأن تشكيل ومعايير هيكل السلطة في المستقبل".

وأضاف الدبلوماسي الروسي: "نعتقد أنه بحلول الخريف، عندما تهدأ الرؤوس المتهورة في معسكر المسلحين، ستظهر لحظة مواتية مرة أخرى لبدء عملية التفاوض".

ونوه كابولوف بأن الجانب الروسي لا يستبعد عقد الجولة القادمة من المحادثات حول أفغانستان في شكل "الترويكا الموسعة" روسيا والولايات المتحدة والصين وباكستان.

خداع سطوة القوة

 

دونالد رامسفيلد كان أحد من يوصفون بالصقور في واشنطنوهو من المحرضين على الغزو الأمريكي في العراق وأفغانستانوقد وافته المنية بعد أن شهد الإنهيار الكامل للمغامرة التي قادهافي أفغانستان وكذلك تعثر مشروع واشنطن في العراق. موقعالحرة الأمريكي نشر تحليلا يوم 5 يوليو عن تجربة أفغانستان عبرعيون رامسفيلد بعنوان: رامسفيلد.. خديعة الربع الأخير من"العبارة الساحرة" جاء فيها: 

في مقدمة الفيلم الوثائقي الشهير "The Life and Times of Donald Rumsfeld"، الذي يعرض سيرة وزير الدفاع الأمريكيالسابق دونالد رامسفيلد، وواحد من أهم صقور تيار المحافظينالجدد الأمريكيين، حيث وافته المنية منذ أيام قليلة، في تلكالمقدمة، يقوم الوزير بقراءة واحدة من أدق وأعمق وأعقد العباراتالسياسية التي اشتهرت في الولايات المُتحدة وكامل الأدبالسياسي العالمي خلال العقدين الماضيين.

يقول: "ثمة أشياء نعرفها، ونعرف أننا نعرفها، وثمة أشياء نعرفها،ولا نعرف أننا نعرفها، وثمة أشياء لا نعرفها، ونعرف أننا لا نعرفها،وثمة أشياء لا نعرفها ولا نعرف أننا لا نعرفها".  

كانت تلك العبارة بمثابة آلية تفكير ومفتاح لسيرة حياة وأعمالوذهنية رامسفيلد، الشخص الذي بقي عضواً في نادي النخبالأمريكية الحاكمة لقرابة نصف قرن كامل، منها مرتين وزيراًللدفاع، بفاصل ربع قرن بين كل مرة، وواحد من صناع سياسةوإيديولوجية "أمريكا الإمبراطورية" والمنفذ الفعلي لتطلعاتها. حتى أن تلك العبارة جعلت رامسفيلد يعنون مذكراته حسبها"The Unknown Known"/"المعروف المجهول".  

قياسا لتلك العبارة، التي تختصر سيرة الوزير ومعه سيرة حيززمني وسلوكي وفير من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية الحديث،ومقارنة بمحصلة مشاريعه العالمية في لحظة رحيله، يبدو أن الربعالأخير منها فقط هو الذي صح، بالرغم من بعدها المأساوي "ثمةأشياء لا نعرفها، ولا نعرف أننا لا نعرفها".  

فبعد مرور عقدين من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001،والحروب الأمريكية الشهيرة التي نُفذت بعدها، في أفغانستانوالعراق، والتي صنفت كتنفيذ عملي لسياسة "أمريكاالإمبراطورية"، ثمة مشهد تراجيدي يختصر كل ذلك، وفي لحظةوفاة رامسفيلد نفسها.   

فالقوات الأمريكية تنسحب من أفغانستان باستعجال استثنائي،في مشهد يعيد للأذهان لحظة الانسحاب السوفييتي من ذلك البلدعام 1989، أو ما شابهه من انسحاب أمريكي من فيتنام. وفيوقت تقول الأنباء إن حركة طالبان المتطرفة صارت تسيطر علىأكثر من ثُلث مساحة البلاد، بما في ذلك ثمانين مقاطعة إداريةمن أصل 300 مقاطعة، وتهدد بالوصول إلى العاصمة كابولقريبا، واقتلاع الحكومة المنتخبة وكل مؤسساتها ومؤيديهاوطبقاتها التي نمت خلال عقدين من "الهيمنة الأمريكية".  

على الدفة الأخرى، فإن فصائل الحشد الشعبي العراقية، التيتهاجم مصالح الولايات المُتحدة ومراكز وجودها في العراق كل يومتقريبا، وتعلن صراحة عداءها ومناهضتها لـ"القيم الأمريكية"، أوتلك التي تؤمن بها الولايات المُتحدة على الأقل، كالديمقراطيةوحقوق النساء وفصل السلطات وسيادة القانون، ومع ذلك تنظمعرضا عسكريا احتفالياً، يحضره رئيس الوزراء، ويصدر قراراتوأوامر عسكرية تتجاوز كل مؤسسات وشرائع حكم البلاد، ويحذرمن أي تجاوز لخياراتها السياسية والعسكرية. فالفصائلالمذكورة، وبكل تلك الأفعال، هي النواة الصلبة للسلطة الفعلية فيالبلاد.  

كان رامسفيلد، ومعه نخبة حكم أمريكية مطابقة له فيالإيديولوجية والسلوك والمنطق السياسي، هم من أطلقوا الربعالأخير من العبارة السحرية "ثمة أشياء لا نعرفها، ولا نعرف أننالا نعرفها"، وادعوا أنها قيمة عليا في تطلعاتهم السياسية، لكنمزيجا من سطوة القوة الأمريكية مع الثقة الفائضة بالذات،وحضور استثنائي للمعتقدات الليبرالية الرسمية حول المشاريعوالمجتمعات، جعلتهم الضحية الأولى لتلك "البداهة"، والطرفالأقل يقظة تجاه سحرها البالغ. 

فالمثاليون الأمريكيون، حيث كان رامسفيلد واحدا من أشهرهم،كانت تأخذهم أحلام إعادة تأسيس الدور الرسولي للولاياتالمتحدة، بالذات الذي كان في أربعينيات وخمسينيات القرنالمنصرم. فخلال سنوات قليلة من ذلكم العقدين، تمكنت الجيوشالأمريكية من تحطيم "قوى الشر" الثلاث، في ألمانيا إيطالياواليابان، وأسست مشاريع تاريخية سمحت بـ "دمقراطة" فضاءات واسعة من العالم، بالذات في أوروبا وشرق آسيا.  

كان المثاليون الأمريكيون مأخوذين بإعادة أمجاد من مثل تلك،لكنهم لم يكونوا يعرفون، ولا يعرفون أنهم لا يعرفون، أن البنيةالمجتمعية والذهنية والروحية والتاريخية التي ساندت تلكالمغامرات الأمريكية في كل من ألمانيا وإيطاليا واليابان وكوريا،وسمحت لها بالنجاح، غير متوفرة بتاتا في دول مثل أفغانستانوالعراق وما يحيط بها من بلدان، بل ومضادة تماما لمثل تلكالتطلعات، في المدى المنظور على الأقل.  

لا يتعلق الأمر بتوجه عنصري يرى الأمور في "جوهرانيةالمجتمعات" بل بمنظور موضوعي يعتبر التجارب التاريخية المديدةوالمتراكمة نواة الوعي والشخصية الراهنة لأي جماعة أو مجتمع. فالشعوب الألمانية والإيطالية واليابانية، وبكل كبواتها الفظيعة فيإنتاج الشموليات الفاشية وقتئذ، إلا أنها، وبالإضافة لذلك، كانتتنتمي لسلسلة عصور الأنوار والنهضة العلمية والمنتجات الفكريةالعظيمة.  

تلك المداخل التي لم تكن متوفرة في عوالم المغامرة الأمريكيةالثانية، مثل أفغانستان والعراق وما حولهما، وما كان للعقلالجمعي لجماعة المثاليين الأمريكيين أن تُدرك مثل تلك البداهة،انسياقاً وراء عبارة مثالية أخرى "الإنسان هو الإنسان"، التيربما تكون صحيحة تماماً في المجالات الحقوقية والبيولوجية،لكنها مجرد خديعة لفظية ودعوة للاستفزاز في مجال علمالاجتماع السياسي.  

فالمثاليون الأمريكيون لم يكونوا يعرفون شيئاً عميقاً عن الروحالعميقة للمجتمعات التي نفذوا مغامراتهم في جوانبها، ولم يكونوايعرفون أنهم لا يعرفون. بل كانوا متأكدين بأن رؤيتهم الرسوليةستبهر كل متعامل معها، أياً كان وكيفما كان. 

كذلك سمحت "سطوة القوة" لطبقة رامسفيلد السياسيةوالإيديولوجية بأن ينخدعوا، ولا ينتبهوا للربع الأخير من العبارةالساحرة المذكورة سابقاً. 

كان الأمريكيون يعرفون جيدا أن الدول المحيطة بأفغانستان لنتتهاون في التعاون فيما بينها من أجل تحطيم المشروع الأمريكيهناك.

لكن إيمانهم بسطوة القوة التي يكتنزونها، كانت تدفعهم للاعتقادبأن مساومة ما مع الإيرانيين بشأن أفغانستان هنا، أو إرسالرسالة تهديدية للنظام السوري عبر الوزير كولين باول وقتها منهناك، وبين الأمرين وضع أكياس الخش في رؤوس الجنودالأتراك الذين قُبض عليهم في العراق، سيدفع هذه الأنظمةالسياسية للتعاون مع المشروع الأمريكي، كما فعلت فرنساوبريطانيا أبان الحرب العالمية الثانية، وأعادت تشييد عدوتيهماألمانيا وإيطاليا عبر إنجاح المشروع الأمريكي فيهما.  

كان ذلك إيماناً "ساذجاً" بالقوة فحسب، وتحطيماً لكل معرفةوحقيقة خاصة بالأنظمة السياسية الشمولية في منطقتنا، المبنيةوالمفطورة على معتقدات فطرية مطلقة، ترى في تحديث لأي نظامسياسي ما، مجرد عداء كلاني ومطلق لها.

لم يكن المثاليون الأمريكيون يعرفون ذلك، ولم يكونوا يعرفون أنهملا يعرفون، لكنها كانت سطوة القوة، التي تخادع كل معرفة.

 

عمر نجيب

[email protected]