مواجهة البحر الأسود ومخاطر نشوب حرب نووية عالمية... بين الشرق والغرب رهانات تعديل موازين القوى والتحالفات

ثلاثاء, 2021-06-29 04:02

يوم الأربعاء 23 يونيو 2021 وقرب الظهيرة حسب التوقيت في منطقة شبه جزيرة القرم، كان العالم على بعد خطوات صغيرة من حرب عالمية ثالثة، حيث تواجهت القوات المسلحة الروسية مع المدمرة البريطانية ديفيندر التي توغلت داخل المياه الإقليمية لشبه الجزيرة التي توجد بها القاعدة الرئيسية للأسطول الروسي في البحر الأسود. 

في البداية نفت لندن البلاغات الروسية عن توجيه تحذيرات وإنذارات مختلفة للمدمرة البريطانية لتخرج من المياه الإقليمية، موسكو أكدت أن لندن تكذب بشكل فاضح، لندن تراجعت عن النفي بعد نشر فيلم وثائقي عن المواجهة وصدور تصريحات من جانب قبطان المدمرة وتغطية مراسل الإذاعة البريطانية تثبت الحدث والرواية الروسية، وأخيرا بعد ضياع ثم العثور على ملفات سرية من حوالي 50 صفحة لوزارة الحربية البريطانية توثق لعملية المدمرة ديفيندر والمهمة التي كلفت بها بهدف امتحان رد الفعل الروسي.

مساء الخميس 24 يونيو، عرضت محطة التلفزيون الروسية العامة "روسيا 24" مقطعا مصورا للطلقات التحذيرية الموجهة إلى السفينة البريطانية وفره جهاز الأمن الفيدرالي الروسي.

وفي المقطع المصور، يطلب حرس الحدود الروس مرات عدة من المدمرة البريطانية تغيير مسارها ومغادرة المياه الإقليمية الروسية، قبل أن يلجأوا إلى الطلقات التحذيرية. وسمع في الشريط شخص يقول "يجب عدم إصابة ديفيندر! أطلقوا النيران".

الوزارة الروسية تابعت أن سفينة دورية روسية أطلقت في الساعة 12:06 و12:08 طلقات تحذيرية صوب المدمرة البريطانية، ثم أطلقت قاذفة روسية من طراز "سو-24 إم" في الساعة الـ12:19 أربع قنابل تحذيرية في خط مسار السفينة. وذكرت الوزارة أن المدمرة غادرت في الساعة 12:23.

نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف صرح لوكالات الأنباء الروسية "يمكن أن نلجأ للمنطق ونطلب احترام القانون الدولي وإن لم ينجح ذلك يمكننا أن نقصف". وأضاف أنه في المرة المقبلة لن تكون القنابل التي ألقيت "في مسارها فحسب بل على الهدف".

وأكدت روسيا، إن السفينة البريطانية توغلت لمسافة ثلاثة كيلومترات تقريباً داخل المياه الروسية قرب كيب فيولنت على الساحل الجنوبي للقرم القريبة من ميناء سيفاستوبول.

الاشتباك الروسي البريطاني يعتبر الأول من نوعه في البحر الأسود ويأتي قبل بضعة أيام من بدء المناورات العسكرية "سي بريز 2021"، التي تجري بين 28 يونيو و10 يوليو بمشاركة الولايات المتحدة ودول أخرى من حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا في البحر الأسود، وتثير استياء موسكو.

تعاملت النخب الروسية مع حادثة المدمرة ليس فقط أنه مجرد استفزاز عسكري بقدر ما هو تحرك إستراتيجي يهدف إلى خلق جو من التوتر بين موسكو وبعض عواصم القرار الأوروبي، التي كانت تستعد لفتح حوار معها في أعقاب قمة جنيف بين الرئيسين بوتين وبايدن، وهذا ليس بعيدا عن الخصومة لبريطانيا في روسيا، حيث ينظرإلى بريطانيا كخصم شرس يدفع دائما نحو افتعال الأزمات مع موسكو بهدف عزلها عن أوروبا.

أزمة المدمرة البريطانية تزامنت مع تراشق أوروبي روسي دفع الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي إلى تأجيل مشروع عقد قمة بينهم وبين روسيا في بروكسل، وقال الرئيس الفرنسي، إمانويل ماكرون، إن الإتحاد الأوروبي يرى أن عقد اجتماع مع بوتين ليس أولوية قصوى الآن، وهذا ما دفع الخارجية الروسية إلى الرد بعنف على المجتمعين في بروكسل والقول إن الاتحاد الأوروبي بات رهينة لأقلية عدوانية.

محللون في العاصمة الألمانية برلين قدروا أن حادثة البحر الأسود مؤشر على عدم نجاح الرئيس الأمريكي بايدن خلال قمته في جنيف يوم 16 يونيو 2021 مع الرئيس الروسي بوتين في الحصول على تفاهمات كان يسعى اليها، وأن واشنطن حرضت لندن على استفزاز الكرملين تحت غطاء عدم اعتراف بعض دول الغرب باسترجاع روسيا لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا سنة 2014. ويضيف هؤلاء أنه ينتظر بعد حادثة المدمرة ديفيندر أن تجري تحديات جديدة في ساحات مختلفة حيث يتواجه الروس مع الأمريكان وخاصة في الشرق الأوسط.

 

ساعة النهاية

 

بداية سنة 2020 ذكرت مجلة ناشيونال انترست الأمريكية أن روسيا أو الولايات المتحدة أو الصين يمكن أن تطلق عن غير قصد حربا نووية عالمية. وكتبت الصحيفة، إن أنظمة المراقبة والاستطلاع لا يقتصر استخدامها في الوقت الحاضر على رصد إطلاق الصواريخ البالستية النووية، إنما والرؤوس الحربية غير النووية. وبسبب ذلك، قد يحدث خطأ، يؤدي إلى ضربة نووية جوابية.

يوم الثلاثاء 18 فبراير 2021 حذر علماء من أن نهاية العالم باتت أقرب من أي وقت مضى، وذلك على خلفية الأخطار الكبيرة والمخاوف التي تهدد البشرية، لا سيما اندلاع حرب نووية وأزمة تغير المناخ.

وقال علماء من أعضاء دورية "نشرة علماء الذرة"، خلال مؤتمر صحفي إن عقارب "ساعة القيامة" تقدمت 100 ثانية إلى منتصف الليل، وهي أقرب نقطة إلى منتصف الليل "الذي يمثل ساعة الصفر" ويرمز إلى نهاية العالم خلال تاريخها الذي يرجع إلى 75 عاما، حسب موقع "فايس" الأمريكي.

وأضافت الدورية في بيان "لا تزال البشرية تواجه خطرين وجوديين متزامنين -الحرب النووية وتغير المناخ- يتفاقمان بفعل حرب المعلومات السيبرانية التي تضاعف التهديد، والتي تقوض قدرة المجتمع على الاستجابة".

وتابع البيان: "الحالة الأمنية الدولية سيئة، ليس فقط بسبب وجود هذه التهديدات، ولكن لأن زعماء العالم سمحوا للهياكل السياسية الدولية التي تتولى إدارتها بأن تتآكل".

ووفقا للدورية، فإن ساعة يوم القيامة هي تمثيل مرئي لمدى قرب البشرية من القضاء على نفسها. كل عام منذ نشأة الساعة في عام 1947، يجتمع مجموعة من العلماء والخبراء لمناقشة احتمال نهاية العالم وتعديل الساعة وفقا لذلك، والمقصود منه التحذير.

ودورية "نشرة علماء الذرة"، هي مجموعة غير هادفة للربح من العلماء وخبراء الأمن الذين يرصدون احتمال حدوث "هرمجدون" أو نهاية العالم بسبب البشر.

 

تحقيق في فضيحة

 

يوم الأحد 27 يونيو أعلن في لندن أن وزارة الدفاع البريطانية تحقق في فضيحة تسرب وثائق عسكرية سرية عثر عليها مواطن صباح الثلاثاء 22 يونيو خلف محطة حافلات في مقاطعة كينت جنوب غربي لندن. وتتضمن الوثائق التي تقع في نحو 50 صفحة مناقشات كبار المسؤولين حول مسار المدمرة البريطانية "إتش إم إس ديفيندر" في البحر الأسود قرب شواطئ شبه جزيرة القرم، إلى جانب معلومات حساسة عن خطط قوات المملكة المتحدة في أفغانستان في ظل الانسحاب الأمريكي وقوات "ناتو" منها، ومعلومات أيضا عن صفقات سلاح بريطانية وغيرها.

وحين أدرك الشخص الذي عثر عليها أهميتها اتصل بهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، التي قالت إنها لن تنشر بعض المعلومات الحساسة التي تتضمنها الوثائق لأنها تشكل خطرا على القوات البريطانية في مسرح العمليات.

وقال متحدث باسم وزارة الدفاع البريطانية إن الموظف الذي فقد المستندات أبلغ عنها يوم الاثنين، وإن تحقيقاً في الأمر بدأ بالفعل ومن غير المناسب التعليق على الموضوع بأكثر من ذلك.

أهم ما تتضمنه الوثائق وكشفت عنه "بي بي سي"، المناقشات حول مسار المدمرة البريطانية في البحر الأسود. واحتوت المستندات على خرائط وشرائح "باور بوينت" وتفاصيل النقاش حول الخيارات المطروحة لمسار المدمرة واحتمالات رد الفعل الروسي على تلك الخيارات. وتوضح إحدى الشرائح الخيار بين مسارين، أحدهما بعيداً من أوكرانيا والآخر بالقرب من شواطئ القرم التي ما زالت حسب الغرب جزءا من أوكرانيا على الرغم من ضم روسيا لها وبعد استفتاء سكانها الروس.

وتوضح الوثائق أن تلك الاحتمالات نوقشت على أعلى مستوى، بخاصة رد الفعل الروسي. وخلاصة ما في المستندات أن وزارة الدفاع كانت تقدر احتمال أن يكون الرد الروسي "غير آمن وغير مهني"، وذلك من بين ثلاثة خيارات متوقعة.

وقد سخرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا من الحكومة البريطانية عبر تطبيق تليغرام للتواصل الاجتماعي وقالت: "لجأت لندن لعدد من الأكاذيب للتستر على الاستفزاز الأخير. لم يعد العميل 007 "جيمس بوند" كفؤا كما كان".

 

تمويه حقائق الاشتباك

 

كتب كيم سنغوبتا مراسل الدفاع والأمن يوم الخميس 24 يونيو في صحيفة الاندبندنت البريطانية:

بلغت الاتهامات والاتهامات المضادة درجة من الخطورة، باتت معها تنذر بعواقب مقلقة للغاية، فقد ادعت وزارة الدفاع الروسية أن قواتها وجهت طلقات تحذيرية ضد سفينة حربية بريطانية في البحر الأسود، كما ألقت قنبلة في مسارها على سبيل الإمعان في تنبيهها من احتمال أن يتطور الموقف، ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.

في المقابل، زعمت الحكومة البريطانية أن أيا من تلك الطلقات التحذيرية المفترضة لم يطلق باتجاه المدمرة "إتش إم إس ديفيندر" من طراز 45 التي كانت تبحر في المياه الدولية. وأشارت وزارة الدفاع البريطانية من جانبها إلى أن القوات الروسية كانت تجري تدريبات على الرمايات المدفعية في الوقت الذي يفترض أن يكون الاشتباك قد حصل فيه، وأنها أبلغت الملاحة الدولية بموعد إجراء هذه التدريبات قبل وقت طويل، إلا أن رواية موسكو للأحداث ذات العلاقة كانت محددة بشكل واضح، واشتملت على اتهام المدمرة "إتش إم إس ديفيندر" بدخول المياه الإقليمية الروسية على عمق ميلين "3.21 كيلومترا" بصورة متعمدة، لأنها تجاهلت التحذيرات التي دعتها إلى الابتعاد من المنطقة المحظورة، الأمر الذي استدعى توجيه طلقات تحذيرية إليها من قبل اثنين من زوارق الدوريات البحرية. وحين واصلت المدمرة البريطانية تقدمها في المياه الإقليمية الروسية قامت طائرة مقاتلة من طراز "سوخوي إس يو- 24" برمي قنبلتين موجهتين على مسارها الملاحي.

يذكر أن مياه البحر الأسود كانت موضع نزاع مع روسيا منذ ضمت شبه جزيرة القرم إليها عام 2014، وقد شهدت المياه نفسها منذ ذلك الحين مواجهات بين سفن روسية وأخرى أوكرانية.

لكن ما الداعي إلى وجود منطقة ساخنة إلى حد تصبح معه بؤرة اشتعال قد تنشر الحرائق؟ وما الذي حصل فعلاً؟ يفيد جوناثان بيل، مراسل "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) لشؤون الأمن، الذي كان موجودا على متن المدمرة "إتش إم إس ديفيندر"، بأن سفينتين روسيتين لخفر السواحل قد تابعتا السفينة الحربية البريطانية، وحاولتا جعلها تغير مسارها في الطرف الجنوبي لشبه جزيرة القرم، التي أصر قائد المدمرة، الكوماندر فنسنت أوين، على أنها ممرات ملاحية تحظى باعتراف دولي. 

إلا أن هذه الحادثة ليس فريدة من نوعه، إذ كانت مؤشرات عدة على إبداء الروس مزيداً من العدوانية تجاه سفن شتى وصلت إلى حد التهديد بإطلاق النار. وقال بيل: "سمعنا أصوات طلقات عن بعد لكنها كانت بعيدة للغاية خارج المدى." وقال آمر المدمرة أوين إن حوالى 20 طائرة عسكرية حلقت فوق السفينة الحربية البريطانية خلال عبورها في تلك الممرات.

ولذلك لم تتعرض المدمرة البريطانية إلى أية طلقات، كما لم يتم إلقاء قنابل من أي نوع على مسارها، طبقاً للرواية البريطانية، بيد أن الوضع لايزال محفوفاً بالمخاطر وينذر بانفجارات قد تكون لها تداعيات مخيفة. يشار في هذا السياق إلى أن أعضاء طاقم المدمرة "إتش إم إس ديفيندر" اتخذوا أوضاعاً قتالية، كما جرى تلقيم نظام الأسلحة في المدمرة تأهبا للدخول في صدام فعلي جراء المضايقات الروسية.

لكن ما هو السبب الممكن لكل هذا؟ لا يستبعد محللون متخصصون ومصادر عسكرية أن يكون الروس حاولوا اعتراض سلسلة من المناورات والأعمال العسكرية التي تقوم بها المملكة المتحدة، لا سيما أنه جرى الترويج لهذه النشاطات البريطانية على نطاق واسع، وجدير بالذكر أن الأسطول الملكي البريطاني كان يشارك الأسطولين الأمريكي والأوكراني في مناورة بالبحر الأسود، علماً أن السفن الحربية الأوكرانية كثيراً ما وجدت نفسها قاب قوسين أو أدنى من خوض معارك حقيقية مع سفن حربية روسية، وكانت المملكة المتحدة تعهدت في اتفاق تم توقيعه على متن المدمرة "إتش إم إس ديفيندر"، بتعزيز قدرات الأسطول الأوكراني.

في غضون ذلك، تنتمي "إتش إم إس ديفيندر" إلى مجموعة هجومية تقودها حاملة الطائرات البريطانية الجديدة "إتش إم إس كوين إليزابيث"، التي باشرت وهي في مياه المتوسط أعمالا عسكرية ضد أهداف تابعة لتنظيم "داعش"، وأُفيد أيضا بأن طائرات شبح بريطانية وأمريكية من طراز " إف-35 بي" شاركت في مهمات هجومية استهدفت قوات معادية في العراق وسوريا، وفي سياق تلك الهجمات "أغلقت المجال الجوي" فوق المناطق ذات العلاقة في وجه الطائرات العسكرية الروسية التي تحلق هناك لدعم الجيش العربي السوري.

وشهد الأسبوع الأخير من شهر يونيو 2021 أيضاً مناورة عسكرية ضخمة في إحدى دول الشرق الأوسط شاركت فيها قوات بريطانية، وذلك في عملية مرتبطة بمجموعة حاملة الطائرات "إتش إم إس كوين إليزابيث" الهجومية، وتجدر الإشارة إلى أن المناورة أُجريت في منطقة لموسكو مصالح استراتيجية فيها،

وبطبيعة الحال فمن الممكن أيضاً أن تكون هناك عوامل أخرى ربما أسهمت في وقوع الحادثة التي تعرضت لها المدمرة "إتش إم إس ديفيندر"، إلا أن المناوشة توضح الأخطار التي قد يؤدي إليها وجود قوات مدججة بالأسلحة الثقيلة في منطقة مضطربة.

 

رأس الحربة

 

يوم 23 يونيو 2021 ذكر رئيس الأركان العامة للجيش الروسي فاليري غيراسيموف، إن روسيا تحتفظ بحق استخدام السلاح النووي، فقط للرد على استخدام أسلحة الدمار الشامل أو الأسلحة التقليدية ضدها.

وشدد غيراسيموف، في مؤتمر موسكو التاسع للأمن الدولي، على أن سياسة روسيا النووية تبقى في طبيعتها، دفاعية بحتة. وأضاف: "تحتفظ روسيا بحق استخدام الأسلحة النووية فقط للرد على استخدام الأسلحة النووية وأنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل ضدها أو ضد حلفائها، وكذلك في حالة الاعتداء على روسيا باستخدام الأسلحة التقليدية، عندما يكون وجود الدولة في حد ذاته مهددا".

وتابع غيراسيموف القول: "في ظل هذه الظروف، يظل الردع النووي عنصرا من عناصر الاستقرار الاستراتيجي لروسيا. وبمساعدة هذه الأداة، تم ضمان الأمن على مدى العقود الماضية، وأحيانا في حالات الأزمات الشديدة".

ونوه غيراسيموف، بأن روسيا أعلنت ذلك رسميا لأول مرة في عام 2020 في "أسس سياسة الدولة الروسية في مجال الردع النووي".

 

لعبة خطرة

 

كتب أنطون لافروف ورومان كريتسول، في "إزفيستيا"، حول حادث المدمرة البريطانية:

لا تعترف بريطانيا وجميع دول الناتو بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم والحدود البحرية والجوية الروسية في شبه الجزيرة. ومع أن سفن الناتو وطائراته ومركباته الجوية المسيرة تقترب بانتظام منها، إلا أنها لم تعبرها قبل هذا الحادث. ومع كل اقتراب، تتم مراقبة تحركاتهم من قبل السفن والطائرات التابعة لأسطول البحر الأسود، وكذلك من قبل قوات حرس الحدود التابعة لجهاز الأمن الفدرالي.

وكما قال نائب الأمين العام السابق للأمم المتحدة، سيرغي أورجونيكيدزه، لـ"إزفستيا"، إن هذا أمر غير مسبوق. لقد أوضحوا للسفينة البريطانية أن أي قنبلة أو صاروخ قادم يمكن أن يصيبك. الآن، سيكون هناك خلاف دوري. سنقوم بتقديم مذكرة احتجاج، وسيقدمون ردا ويصرون على أن المدمرة كانت تمارس حق المرور السلمي المنصوص عليه في الاتفاقية. يمكن للمرء أن يتخيل كيف كانت ستكون ردة فعل لندن لو دخلت سفينة لنا تحمل صواريخ على متنها المياه الإقليمية البريطانية..

وقال المؤرخ العسكري دميتري بولتينكوف لـ "إزفيستيا": "لم تقع مثل هذه الحوادث مع البريطانيين في العقود الأخيرة. لذلك ما حدث يثير الدهشة. أغامر بالقول إن البحارة البريطانيين فقدوا إلى حد ما مؤهلاتهم ولا يتقنون استخدام أجهزة الملاحة على المدمرة الأحدث. ولكن، لم يلاحظ في العالم شيء من هذا القبيل في السنوات الأخيرة. فحتى إذا دخلت سفينة ما المياه الإقليمية لدولة أخرى، تعدل مسارها بعد تحذيرات.

محلل سياسي في مقال بصحيفة رأي اليوم التي تصدر في لندن أشار أن تصريحات غيراسيموف هي في الواقع رسالة مبطنة إلى التحالف الأمريكي البريطاني الجديد، وفي إشارة إلى تحركات حلف الناتو في البحر الأسود الذي يراه الروس بحيرة نفوذهم الإقليمي، تماما مثلما ينظر حلفاؤهم الصينيون إلى بحر الصين أحد نقاط التوتر الرئيسية مع الولايات المتحدة التي ترسل أساطيلها إلى مياهه، فهل نرصد هنا تبادل أدوار بين بريطانيا وأمريكا في البحرين المذكورين؟.

هذا الخلاف البريطاني الروسي المتصاعِد في البحر الأسود ربما يؤدي إلى مواجهة عسكرية قد تتطور إلى حرب عالمية، فالاحتقان يتفاقم، وبات في انتظار المفجر أو عود الثقاب، وأكبر الحروب تنفجر في معظم الأحيان من حوادث عرضية.

المعسكر الغربي الذي تتزعمه أمريكا يفقد زعامته للعالم بشكل متسارع بسبب صعود القوة الصينية عسكريا واقتصاديا، وتحالفها مع روسيا، وهو التحالف الذي يعتبره هنري كيسنغر الخطر الأكبر، يوصي بمنعه بأي شكل من الأشكال، ولا نستبعد أن تكون أزمة أوكرانيا هي الشرارة التي ستشعل فتيل الحرب القادمة إذا لم يتم تطويقها ونزع فتيلها بالحوار.

ختاما نقول أن ما لا يدركه جونسون أن بريطانيا لم تعد دولة عظمى، وان الشمس غابت عن إمبراطوريتها منذ حرب السويس، ولم تعد أوروبية ولن تصبح أمريكية، وفوق هذا وذاك مهددة بالتفكك.

 

تحدي الناتو

 

يوم السبت 26 يونيو قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إن المناورات المشتركة بين كييف وحلف شمال الأطلسي تعتبر استفزازا يتسبب في زعزعة لا نهاية لها للاستقرار على طول الحدود الروسية.

وأشارت زاخاروفا إلى أن الناتو يجري سبع مناورات في أوكرانيا هذا العام، وفقا لوكالة أنباء تاس الروسية.

وذكرت “إننا ندرك جيدا أن هذه المناورات لها هدفان عالميان. الأول هو زعزعة لا نهاية لها للاستقرار على طول الحدود الروسية. وهذا استفزاز من أجل الاستفزاز، فهم يسعون لأن يكون هناك رد. ويجب أن يكون هناك رد لأن هذه دولة ذات سيادة، وحدود ذات سيادة. وتقديم هذا الرد بإستمرار على أنه نوع من العمل العدواني هو نشاط استفزازي”.

وأضافت زاخاروفا أن “الهدف الثاني هو نقل أنواع مختلفة من المعدات والأسلحة إلى الأراضي الأوكرانية وتركها هناك”، مشيرة إلى أن هذه الإجراءات تنتهك الاتفاقات القائمة.

تتعامل موسكو بحذر شديد مع فكرة توسع الناتو في الفضاء الأوروبي، الذي سيعطي مزيدا من التوسع القاري للحلف وحتى للاتحاد الأوروبي ويجعلهما أقرب للحدود الروسية، التي ستعتبر هذا التوسع المحتمل مشروعا لا نهاية له يهدف إلى تطويقها، وبمثابة عملية هجومية تنطلق من نقاط مختلفة لا حدود لنهايتها.

لقد كشفت الأزمة الأوكرانية حجم التراكمات الروسية من عدم الالتزام الغربي بالتفاهمات التي جرت ما بين دول الناتو وموسكو بعد نهاية الحرب الباردة، وكانت قضية ضم القرم نقطة تحول دراماتيكية في العلاقة ما بين الجانبين، قضية فرضت على موسكو هجوما تكتيكيا للدفاع استراتيجيا، ردا على وصول طوق الناتو إلى حدودها الأوكرانية، وهو بالنسبة للكرملين بمثابة إزالة لكل القيود التي حاولت موسكو وضعها لعرقلة توسع الناتو شرقا.

 

استهداف الأورال

 

كتب يفغيني رومانوف، في "فزغلياد" يوم 24 يونيو مقالا حول محاولات واشنطن لتطويق روسيا، وحول سلاح يشكل خطرا كبيرا على روسيا تنشره الولايات المتحدة في بولندا.

وجاء في المقال: في منطقة ريدجيكوفو البولندية، بدأ العمل النهائي لتجميع وتركيب الدرع الصاروخي الأمريكي Aegis Ashore. بدأ الأمريكيون في تركيب المعدات دون انتظار اكتمال القاعدة نفسها. يشكل نظام إيجيس تهديدا خطيرا لروسيا. فيمكن استخدام هذا النظام ليس فقط لإطلاق صواريخ دفاعية مضادة للصواريخ، إنما وصواريخ مجنحة قادرة على الوصول إلى الأورال الروسية.

انسحبت الولايات المتحدة من معاهدة الدفاع الصاروخي مع روسيا في العام 2002، موضحة هذه الخطوة بضرورة تطوير نظام دفاع صاروخي عالمي للحماية من إيران وكوريا الديمقراطية، ثم ظهرت عناصر من الدرع الصاروخي الأمريكي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وبولندا ورومانيا.

يحذر الخبراء من أن ظهور المنشآت العسكرية في بولندا يشكل خطرا جديا على روسيا ويتطلب تدابير مناسبة. ويربط النائب السابق لقائد قوات الدفاع الجوي للقوات البرية لشؤون التسليح، ألكسندر لوزان، قرار الأمريكيين بعدم انتظار استكمال البنية التحتية بفتور العلاقات الروسية الأمريكية. 

وقال لوزان: "إيجيس ليس مجرد نظام دفاع صاروخي. إنه نظام عام لديه قاعدة إطلاق قادرة على إطلاق صواريخ مضادة للصواريخ وصواريخ مجنحة. ولتغيير الصواريخ، يتطلب الأمر إعادة تشغيل البرنامج فقط، ويستغرق ذلك حوالي ساعتين، وستكون إيجيس جاهزة لإطلاق صواريخ مجنحة بمدى يزيد عن ألفي كيلومتر. لو حسبنا المسافة من بولندا فسوف تصل إلى ما بعد الأورال. لذلك، عارضت موسكو بشدة نشر هذه الأسلحة في أوروبا الشرقية".

وكما أوضح الجنرال المتقاعد، فمن أجل تحقيق التوازن في ميزان القوى في المنطقة، نشرت روسيا صواريخ إسكندر في منطقة كالينينغراد. وإذا لزم الأمر، فسيكون عليها تدمير منصات إطلاق الصواريخ التابعة لحلف شمال الأطلسي في بولندا. وقال: "صاروخ مجمع إسكندر غير قابل للاعتراض من قبل الصواريخ الأمريكية أثناء مساره. إنه يغير جميع مكونات مساره الأربعة.. ولا أحد في الخارج لديه مثل هذه الصواريخ حتى الآن". وبحسب لوزان، إذا لزم الأمر، سيكون إسكندر بالتأكيد قادرا على حمل أسلحة نووية تكتيكية، "والغرب بالطبع يخشى ذلك".

 

غياب الموقف الموحد

 

تحاول روسيا تثبيت الإنجازات الأمنية التي حققتها في إقليم دونباس شرق أوكرانيا وتحويلها إلى واقع سياسي يمكن الركون إليه في إبعاد خطر تهديد حلف شمال الأطلسي لأمنها القومي، وهذا الأمر في نظر روسيا يشمل مراجعة النظام الأمني الأوروبي بشكل كامل، ويحد من الرهان الأوروبي على الإدارة الأمريكية لتحديد المصالح الأمنية المشتركة للطرفين ويعزز من إرباك العلاقات العسكرية المتواصلة بين واشنطن والقارة العجوز منذ الحرب العالمية الثانية.

يوم 25 يونيو أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أن نتائج القمة الأوروبية ببروكسل تدل على أن الاتحاد لا يزال يواجه صعوبات في وضع أي إستراتيجية لتطوير علاقاته مع روسيا،

"أظهرت المناقشات في القمة الأوروبية أن موقف الاتحاد الأوروبي من علاقاته مع روسيا تحددها الدول المعادية لروسيا، ولا يزال الاتحاد الأوروبي في أسر مصالح تلك الدول، المتناقضة مع طموحات السكان الأوروبيين.

ونتيجة لذلك لا يزال الاتحاد الأوروبي يواصل "السير في دائرة"، ويمدد مرة أخرى "مبادئ موجيريني" التي تمت الموافقة عليها عام 2016 والتي تربط مستقبل العلاقات الروسية الأوروبية بتنفيذ اتفاقيات مينسك، التي تعرقلها كييف منذ سنوات".

وتابعت: "نؤكد استعدادنا لمواصلة الحوار المتكافئ مع الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك في المواضيع التي تم ذكرها في القمة الأوروبية والتي نهتم بها. لكن مثل هذا الحوار، رغم آمال بعض العواصم الأوروبية، لا يمكن إطلاقه بشروط مسبقة، لا سيما العقوبات الأحادية الجانب وغير الشرعية ضد بلادنا والتي، كما تعرفه بروكسل، سنرد عليها بالمثل".

جاء في تحليل نشر في فبراير 2021:

تتعاون روسيا والاتحاد الأوروبي، وتربط بينهم علاقات اقتصادية وأخرى جيواستراتيجية، بالرغم من الأزمات السياسية، وهناك محاولات لفصل الخلافات السياسية عن العلاقات الاقتصادية، وكان الضرر الاقتصادي الكلي بسبب عقوبات الاتحاد الأوروبي بعد أزمة أوكرانيا، وشبه جزيرة القرم، منخفضا للغاية لعدة سنوات متتالية، كما تنأى روسيا بنفسها عن الانتقام القاسي.

تتسم العلاقات بين موسكو وبروكسل بأنها ذات طابع استراتيجي، إلا أن هذه العلاقة بالغة الصعوبة، إذ ليس لدى الاتحاد الأوروبي سياسته الخاصة في الملفات الأمنية، والمعادلة معقدة بسبب الاستراتيجيات الأمريكية، ونقطة ضعف الاتحاد الأوروبي تنبع من افتقاره للقيادة الفعلية التي عجزت الدول الأوروبية عن توفيرها لاتحادها، وبرغم مرور العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بعدة منعطفات حادة خلال السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك لم يزعزع استقرار العلاقة بين الطرفين.

ونشرت مجلة "دير شبيغل" الألمانية مقالا تحدثت فيه عن التداعيات المحتملة لإيقاف مشروع الغاز الروسي "السيل الشمالي2"، والذي يواجه ضغوطات من قبل الولايات المتحدة، وبأن ألمانيا ستلحق الضرر بنفسها في حال رفضت إكمال تنفيذ المشروع الهادف لمد أنبوبي غاز من روسيا إلى ألمانيا عبر قاع بحر البلطيق، وأشارت إلى أن العقوبات التي يفرضها الجانب الأمريكي على الشركات المشاركة في المشروع يتم فرضها بسبب رعبة واشنطن بيع الغاز الأمريكي في أوروبا، وأضافت أن سكان أوروبا سيضطرون إلى دفع أموال إضافية لقاء الغاز الأمريكي، الذي يعتبر سعره أعلى من الغاز الروسي.

وتتمتع روسيا حالياً بموقف قوي مقابل الاتحاد الأوروبي، خصوصا أنها قادرة على التحكم في إمدادات النفط والغاز إلى الدول الأوروبية، فالاتحاد الأوروبي ثالث أكبر تكتل في العالم مستهلك للطاقة، وروسيا من أهم موردي الطاقة في العالم، وأهم مصدر للغاز والنفط للاتحاد الأوروبي، ومن خلال السيل الشمالي1، الذي تم إنجازه عام 2011، والسيل الشمالي 2، من المفترض أن ينتهي عام 2021، ستعزز موسكو موقفها كدولة مصدرة أساسية للطاقة، حيث أكثر من 40 بالمئة من الغاز و29 بالمئة من النفط الذي تستورده أوروبا يأتي من روسيا، ولا يوجد لدى الاتحاد الأوروبي حتى اليوم، بديل حقيقي للطاقة الروسية، وتجيد موسكو جيداً استخدام الطاقة كورقة ضغط سياسي، ورأينا ذلك خلال أحد فصول الأزمة الأوكرانية.

وللاتحاد الأوروبي مصلحة ولو بالحد الأدنى في علاقات جيدة مع روسيا، فهي بلد مجاور للتكتل الأوروبي، وأي خلافات في مواقف دول حدودية مع روسيا يمكن أن تؤثر على الاستقرار في كامل الاتحاد كما حصل في أزمة أوكرانيا عام 2014، ولتطويق النفوذ الصيني لابد من دور روسي.

يبقى القول، إن إصلاح العلاقات بين موسكو وبروكسل رغبة متبادلة ولكن هناك حالة من عدم الثقة في الكرملين، فهو لا يتردد في استخدام القوة العسكرية عندما تتطلب مصالحه، حتى لو تجاوز الأعراف السائدة، وبالمقابل موسكو غير مستعدة للتنازل عن استقلاليتها وقرارات تعتبرها سيادية.

عمر نجيب

[email protected]