يقدم تاريخ الحروب دروسا، تشكل تراكما معرفيا، يدرس في الكليات العسكرية للمجتمعات المعاصرة، ويساوي الفكر الاستراتيجي بين نتائج الحروب التي تمت فيها الانتصارات للأمة، وبين تلك التي خسرت فيها معركة ما، ومن تلك المنطلقات ما تعلق بالخلفية، أن كلا الحالتين تساعدان على المعرفة بعوامل الانتصار، وما يستفاد منها في سبيل تكرار الخطط المتبعة، والعكس بالنسبة لعوامل الإخفاق من جهة تجنبها لئلا تتكرر ذات النتيجة في معارك لاحقة،،
إن بعض الدراسات العسكرية، ركزت على انعكاس النتيجة في الحرب على نسبة التراجع عن الهدف الذي قامت الحرب من أجله، وهو الأمر الذي فرض النظر الى كل من الانتصارالظاهر، و الهزيمة المنكرة على أساس نسبي، فلو وقعت هزيمة عسكرية، ولم تسبب تراجعا عن الهدف الذي قامت من أجله الحرب، كان المنتصر، أكثر خوفا ــ هزيمة نفسية ــ من المنهزم عسكريا لانفسيا، وهو المتحفز للقيام بفعل معاكس، يسترد به حقوقه المستلبة، ويغير به نتائج المعركة السابقة في اسرع وقت،، ومن هنا يمكن ان يستحضر الباحث المقولات التي رددها القادة العسكريون بعد هزيمة" ألمانيا " في الحرب العالمية الأولى 1914من جهة أن بعضهم أرخ للحرب القادمة بعد عشرين سنة،، وماذا يعني ذلك؟ إنه يظهر التشكيك في نتائج الحرب بالنسبة للمنتصرين، وتوقعهم لحرب تعكس النتائج السابقة، وهذا في حد ذاته شكل انتصارا لإرادة المنهزم على إرادة المنتصر قبل معارك الحرب العالمية الثانية التي انهزم فيها الجميع، وانتصر العدو الخارجي عليهما معا، وهو أمر لم يك في حسبان المنخدعين بالنتائج المادية، كجمهور الرأي العام المضلل بالإعلام المروج للدعاية عقب تلك الحرب،،
لذلك سارع المنتصرون لتثبيت الانتصارات بقواعد جبرية بهدف انتزاع الأعتراف بالهزيمة نفسيا بالنسبة للمنهزم، وقبوله بقواعد جديدة فرضتها المتغيرات المستجدة،،ومتى قبلها أصبح لنتائج المعركة العسكرية قيمة يعتد بها المنصرون، وهذا الذي افتقده الصهاينة في حرب حزيران في 1967م، لأن مصر لم تعترف بالهزيمة، بل اعتبرتها نكسة عسكرية، ولم ترضخ للمعطيات التي أوقفت الحرب، بل بدأت القيادة السياسية ممثلة في الزعيم الراحل عبد الناصر ــ رحمه الله، وبتأييد رافض للهزيمة نفسيا، وفكريا من طرف الجماهير العربية في مصر، والوطن العربي في يومي 9 و 10 من حزيران ــ تخطط، فحاربت على جبهة القتال بحرب الاستنزاف التي انتهجت أساليب حرب العصابات التي تمرس عليها الثوار، وعبرت عن ارادتهم في القتال التي لاتهزم، وبها هزموا الجيوش الغازية في المستعمرات المحررة، كما أعتبرها العسكريون الصهاينة، أشد الحروب التي واجه بها العرب الصهاينة في ذلك الوقت.
كما ركز الباحثون في علم الاجتماع الصناعي على النتائج غير المتوقعة للحروب الحديثة التي قادت جميع المتحاربين الى نهضات حديثة، نظرا للتنظيم الذي فرضته على المجتمع من جهة تفعيل دور كل من الفرد، والنظم العامة، كنظام الأسرة، و المواصلات، والإدارة المنظمة بدلا من المترهلة، ومركزية الحكم، وتنظيم الموارد الاقتصادية، وتوجيهها، وتنامي الوعي الوطني والقومي لدى المواطن، وهي من الأمور التي اعتبرت من أنضج مستويات الوعي الجمعي، وتفاعلت المجتمعات مع نتائجها، كمعطيات مستجدة يجدر توظيفها لتحقيق المطالب العامة التي تعبرعن " المثل العليا" التي ساعدت على النقلة النوعية من المجتمع التقليدي الى المجتمع الحديث، كما أن من النتائج القيمة ما عكسته حركات التطور المجتمعي لدى كل من المنتصرين والمنهزمين على حد سواء، وذلك شكل في حد ذاته ردات الفعل في الحروب اللاحقة، وهو ما لاحظه ابناء الأمة، والعالم أجمع في حرب أكتوبرفي العام 1973 من انتصار عسكري أثبت إرادة الأمة، متى قادتها قيادة عسكرية مخلصة، ومصممة على انتصار جيشها العربي في مصر، كما في العراق فيما بعد ضد إيران،، وأن الحرب هي السبيل لانتزاع الحقوق المستلبة، وأن فلسطين لن تتحرر إلا بالقوة، وأن الاستسلام، هو انتزاع للإرادة، واستلاب للفاعلية السياسية، والتطورية الاجتماعية، والتنظيمية الحداثية، وهذه عوامل للأنتصار،وعكسها للهزيمة التي رفضتها الأمة العربية في حرب حزيران 67.
إن من تداعيات الحروب الاقليمية بين المجتمعات العربية، وكذلك مع المجتمعات المجاورة، تأجيل معركة الأمة مع الكيان الصهيوني كقاعدة احتلالية للامبريالية الامريكية التي اعلنت على المكشوف، أنها تدافع عنها في فلسطين،، ولعل تراكم الخبرات من الحروب مع الامبريالية، والاستسلام لها من جهة أخرى، أكد حقائق ستوظف معرفيا، لتساعدنا في مواجهات لاحقة، بعد الانكشاف الفاضح للعالم الحرالذي أدعي ــ ويدعي ــ زيفا الديموقراطية وحقوق الانسان، وهي قيم مناقضة لما قام به من الحروب الاستعمارية التي يراد بها إرجاع الانسانية الى القرن التاسع عشر، وما تميز به من وحشية الرجل الابيض، وهمجية سلوكه، وإقامة المشروع الحضاري الغربي على نقيض التقدم العام الذي هو مشروع التطور الحضاري للإنسانية جمعاء.
كما أن الاستسلام، كان ــ وسيبقى ــ مدعاة لحرق أوراق القائمين عليه والداعين له، وذلك لتهافت منطقهم، لأنه يعمق من قيم الانحطاط الاجتماعي، والركود الحضاري، إذ لا تقدم تحت الاحتلال، والهيمنة، والقتل على الهوية، كسلوك وحيد للمحتل في فلسطين،،وبالتالي ف"العود الأحمد" هو للسلوك العملي الأوحد المتاح لإبناء أمتنا العربية، وهو التمسك بمبدأ الحرب من أجل النصر على العدو، كسبيل لابديل له، وذلك لتغيير موازين القوة، وهذا الذي يجعلنا في ذكرى 5 حزيران نجدد الوعي بالقيم الرفيعة، قيم الحرية،وتجديد العهد للأمة، والقادة الأحرارالذين لم ينهزموا في حروب التحرير، وطالما رفعت صورهم في بداية كل ثورة تجدد الوعي، وتوجيه بوصلة النضال العربي بالفترة القومية، والتجربة الناصرية ــ كما فعل الثوار في مصر سنة 2011 حين رفع الجيل الثاني صور عبد الناصرــ والتمسك بقيم الأمة الرافضة لكل اشكال الهزائم العسكرية، والنفسية، والاجتماعية، والفكرية، ولعلها من أهم الدروس المستفادة لشحذ الهمم، والتمسك بالمبادئ، وقيم الرفض على غرار ما اليه قادة، وفلاسفة مذهب "إرادة القوة" في قولهم إن " الحياة، هي أن تقول : لا " على حد تعبير الفيلسوف نيتشه.
د/ إشيب ولد أباتي