يستمر الجدل حول حسابات الربح والخسارة في المواجهة المسلحة التي دارت من 10 وإلى 21 مايو 2021 بين المقاومة الفلسطينية بقطاع غزة متمثلة أساسا في حركتي حماس والجهاد من جهة والجيش الإسرائيلي من جانب آخر. على الصعيد الرسمي العلني يؤكد كل من أطراف الصراع أنه المنتصر، في حين ينقسم رأي وتقديرات الخبراء والمحللين عسكريين وسياسيين عربيا ودوليا، الأمور قد تظهر غامضة للبعض نتيجة تحيز كثير ممن يوصفون بالخبراء لأحد المعسكرين، ومما يزيد من صعوبة التحليل حجم هيمنة إسرائيل ومن يناصرها على الشبكة المعقدة والمتشعبة لأجهزة الإعلام والتواصل.
هناك مخارج من هذه المتاهة فيما يخص الحصيلة العسكرية وتكمن في إقامة مقارنة شاملة مع سابقتها منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة في 15 أغسطس 2005 وإجلائه 8600 مستوطن في فترة قياسية ناهزت 8 أيام، ثم المواجهات العسكرية الرئيسية الثلاث التي تبعت ذلك منذ عام 2008 والجولة الرابعة لمايو 2021.
أحد سمات المواجهة العسكرية الرابعة، تمثلت بزمام المبادرة، ففي الحروب الثلاثة السابقة، كانت إسرائيل هي من خطط وبدأ الحرب، فيما بدأ نزاع مايو 2021، أو سيف القدس، حسب التسمية الفلسطينية، بقرار من فصائل المقاومة في غزة، في سياق الدعم للشعب الفلسطيني في القدس، ولتحقيق هدف سياسي ومعنوي جوهري يتمثل بإفشال محاولات إسرائيل عزل قطاع غزة، عن سائر أنحاء فلسطين، ولاسيما القدس المحتلة.
يتفق المحللون على أنه لا يمكن المقارنة بين القدرات العسكرية للمقاومة وما تمتلكه إسرائيل، فالمقارنة الصرفة غير منطقية مع التفوق العسكري الكبير لإسرائيل على المستوى الإقليمي، لكن المقاومة ابتدعت أساليب وقدرات مكنتها من مجاراة القوة الإسرائيلية، وتشكيل تهديد دائم على المستوى العسكري، على أساس تطوير تسليحي مستمر وإستراتيجية استنزاف صبورة وبعيدة المدى.
في سياق هذه الإستراتيجية، استخدمت فصائل المقاومة ما يعرف بالنمط "الهجين" من العقيدة العسكرية، وهو الذي يجمع بين تنظيم القوات النظامية من حيث التشكيلات والضبط العسكري والهرمية القيادية، وأساليب حرب العصابات التي دأبت عليها حركات المقاومة في العالم في مواجهة الجيوش النظامية، خلال القرن العشرين بشكل خاص.
خلال المواجهات الأربع، اعتمدت المقاومة تكتيكات عسكرية اعتمدت بشكل أساسي على القدرات الصاروخية، ومثل هذه القدرات لها أهداف نفسية وسياسية تفوق ما تحدثه من أضرار ودمار، وهي أهداف مناسبة تماما لتجاوز التباين الشاسع في القدرات العسكرية بين طرفي الصراع.
إذا كانت هناك خلافات كبيرة حول المحصلة العسكرية لمواجهة تواصلت 11 يوما، فإن الأمر مخالف بالنسبة للأبعاد السياسية.
عودة الروح للقضية الفلسطينية
جاء في تقرير نشرته وكالة الأنباء الفرنسية يوم 19 مايو 2021:
عادت القضية الفلسطينية مجددا إلى واجهة المشهد الدولي بسبب التوترات في مدينة القدس الشرقية المحتلة والعنف المستمر منذ 10 مايو بين الدولة العبرية وحركة حماس في قطاع غزة.
زياد ماجد، الأستاذ في الجامعة الأمريكية في باريس والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط، ذكر في مقابلة مع فرانس24 "إن القضية الفلسطينية، على خلاف ما اعتقده البعض من أنها دفنت بالفعل، تبعث من جديد. فهي في الواقع كانت تمر بفترة تحول ثقافي وسياسي، بفضل جيل جديد من الفلسطينيين المقيمين على وجه الخصوص في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا، وكذلك من هم في الأراضي الفلسطينية. وهو الجيل الذي يتفهم بالتأكيد بشكل متزايد أهمية ربط هذه القضية بقضايا النضال الأخرى في جميع أنحاء العالم ولا سيما قضية الأمريكيين من أصل أفريقي الذين يدعون إلى حقوق متساوية في الولايات المتحدة في إطار حركة ’حياة السود مهمة‘".
وبرأي الأستاذ ماجد، فإن هذه المقاربة أعادت تعريف القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرير وتحرر لا تختلف عن قضايا النضال ضد العنصرية وضد الاستعمار. "وهي استراتيجية منفتحة على العالم تضفي عليها بعدا عالميا وإنسانيا يسمح لها بالابتعاد عن الاعتبارات الإقليمية، أو الدينية والسياسية التي لا تنفك تذكرها وسائل الإعلام والخطب التي تختزل المعادلة الفلسطينية في صواريخ حماس أو حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" كما يؤكد ويشير زياد ماجد أيضا إلى ما نلمسه في وسائل الإعلام الغربية من وجود قدر معين من المساحة المعطاة للفلسطينيين للتعبير عن أنفسهم على أرض الواقع أكثر بكثير من ذي قبل. يضيف قائلا: "فنحن نرى أيضا، سواء في الرأي العام أم على شبكات التواصل الاجتماعي والشبكات الأكاديمية، حشدا متزايدا لمصلحة الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، ولا سيما الحضور المتزايد لمفردات اللغة القانونية التي تستحضر القانون الدولي وقضايا حقوق الإنسان المعتمد بخاصة على التقارير التي أعدتها منظمات غير حكومية ذات مصداقية لا يرقى إليها الشك، وأحيانا من قبل منظمات إسرائيلية أو فلسطينية تعمل هناك".
هذا التحول الذي يركز الانتباه "على كرامة الإنسان، وعلى الصعوبات التي يواجهها الفلسطينيون في حياتهم اليومية في ظل الاحتلال ومصادرة الأراضي التي تقوم بها سلطة تفتخر بكونها ديمقراطية، وعلى الحواجز العسكرية والعنف الذي يرتكبه المستوطنون الإسرائيليون". كل ذلك أضفى بعضا من الشرعية على الخطاب الفلسطيني وجعله سهل المنال وذا مغزى لمن يعتبرون أنفسهم مضطهدين".
ويتابع بالقول إن "القضية الفلسطينية قد تتحول إلى موضوع لنقاشٍ حقيقيٍ في الولايات المتحدة. فبالنظر إلى أن هذا البلد هو الحليف الأول لإسرائيل، فمن الطبيعي أن تجري المعركة هناك، كما بات من الطبيعي بالنسبة للأعضاء التقدميين في الحزب الديمقراطي والمثقفين المرتبطين به، وكذلك لبعض النشطاء الأمريكيين من أجل الحقوق المدنية وتحرير الأمريكيين من أصل أفريقي، أن تكون هناك صلات وتآزر مع القضية الفلسطينية والتنديد بإسرائيل، كما تفعل النائبة عن نيويورك ألكسندريا أوكاسيو كورتيز، بوصفها دولة فصل عنصري".
خلاصة القول: "يأتي العنف الحالي لتذكير من نسوا أنه لا يمكن أن يكون هناك سلام في المنطقة دون استعادة حقوق الفلسطينيين واحترامها، وأنه من حي الشيخ جراح في القدس إلى غزة وحيفا والضفة الغربية وعمان وباريس ولندن وحتى واشنطن، لا تزال القضية الفلسطينية حية لم تمت".
بايدن يعيد ترتيب أولويات سياسته
جاء في تحليل نشرته وكالة أنباء رويترز يوم 22 مايو 2021:
تولى الرئيس الأمريكي جو بايدن منصبه في يناير 2021 معتزما تركيز فترته وطاقته على مواجهة جائحة فيروس كورونا والتراجع الاقتصادي في الداخل وتحديات كبرى في الخارج كالصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية.
لكن وبعد الصراع الذي اندلع في قطاع غزة وتطلّب دبلوماسية أمريكية مكثفة من وراء الكواليس، بات لزاما على معاونيه إعادة ترتيب أولوياتهم مع السعي لتثبيت وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس ووضع خطة لإعادة إعمار غزة والحيلولة دون تكرار المواجهة التي صارت أولى أزمات السياسة الخارجية في طريق بايدن.
وقال مسؤول أمريكي إن التركيز ينصب على "ما سيحدث لاحقا مع التطلع قدما إلى تجاوز العنف... بحيث نفعل كل ما بوسعنا للحد من احتمالات تكرار مثل هذا الوضع خلال خمسة أعوام أو عامين".
وتحمل نبرة الإدارة الأمريكية تغييرا واضحا عن أسلوب النأي بالنفس الذي اتسمت به الشهور الأولى لرئيس يعزف عن الخوض في الصراع القائم منذ عقود بين إسرائيل والفلسطينيين والذي أربك مساعي رؤساء سابقين لصنع السلام.
ولم يبد بايدن حتى الآن اهتماما بالانغماس في مسعى جديد لإحياء جهود السلام المتوقفة منذ فترة طويلة في وقت يرى معظم المحللين فيه أنه لا توجد آفاق كبيرة لإجراء مفاوضات ناجحة.. إن كانت هناك آفاق أصلا.
لكن ثمة إشارات متزايدة على تجدد الانخراط الأمريكي الآن في ظل ما يبدو من توقف القصف الصاروخي من غزة والضربات الجوية من إسرائيل. يأتي هذا بعدما واجه بايدن ضغوطا شديدة ليلعب دورا أكثر وضوحا ويتخذ نهجا أكثر صرامة تجاه إسرائيل، وهي ضغوط جاءت من الديمقراطيين التقدميين الذين كان دعمهم له حاسما في الفوز بانتخابات عام 2020.
وبعد اتصالات دبلوماسية على مدار الساعة بحد وصف مسؤولين أمريكيين مما ساعد في إنجاز اتفاق وقف إطلاق النار يوم الخميس، سيوفد بايدن وزير خارجيته أنتوني بلينكن للقاء زعماء إسرائيليين وفلسطينيين وإقليميين هذا الأسبوع في أولى زيارات بلينكن للشرق الأوسط.
حزمة مساعدات كبيرة
يتصدر قائمة المهام الأمريكية جمع مساعدات إنسانية لغزة وأخرى لإعادة إعمار القطاع. فبعد ضربات جوية إسرائيلية على مدى أيام، قال مسؤولون في غزة إن 16800 منزل تضررت ولا تتوفر الكهرباء إلا لثلاث أو أربع ساعات يوميا فقط. وقدر المسؤولون الفلسطينيون تكلفة إعادة الإعمار بعشرات الملايين من الدولارات.
وذكر بايدن يوم الخميس إن الولايات المتحدة ستعمل من خلال الأمم المتحدة ومع أطراف دولية أخرى وسيجري التنسيق لمثل هذه المساعدات مع السلطة الفلسطينية التي تحكم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة. ويصنف الغرب وإسرائيل حماس جماعة إرهابية.
وذكر مسؤولون أمريكيون إن الإدارة تجهز حزمة مساعدات ومن المتوقع إعلان قرارات قريبا. وسيضاف هذا إلى مساعدات للفلسطينيين بقيمة 235 مليون دولار أعلنت عنها واشنطن في أبريل واستئناف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين وإعادة مساعدات أخرى أوقفها الرئيس الأمريكي السابق ترمب.
وأفاد مصدر قريب من الأمر إن هناك خطوة أخرى قيد البحث تهدف لإصلاح العلاقات مع الفلسطينيين التي تكاد تكون انهارت خلال فترة ترمب، وتتمثل في إعادة فتح القنصلية الأمريكية بالقدس الشرقية والتي كانت تخدم الفلسطينيين وأغلقها ترمب.
من ناحية أخرى ذكر مسؤولون أمريكيون أن إدارة بايدن تتطلع لاستخدام اتفاقات أبراهام، وهي اتفاقات موقعة في عهد ترمب لتطبيع علاقات إسرائيل مع البحرين والإمارات ومع المغرب والسودان، في تسهيل الاتصالات بين إسرائيل والفلسطينيين.
ويقول الكثير من الفلسطينيين إنهم شعروا بخيانة إخوانهم العرب لموافقتهم على عقد اتفاقات مع إسرائيل دون المطالبة بتحقيق تقدم تجاه إقامة دولة فلسطينية.
وأفاد المسؤول الأمريكي "ما تعلمناه من اتفاقات أبراهام هو أن تجاهل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا يقلص فحسب آفاق المفاوضات بل يمكن بالفعل أن يضيف شرارة أخرى".
وأي مسعى لربط تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربية بما تفجر من عنف في الآونة الأخيرة سيلقى رفضا على الأرجح من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وتحدث بايدن معه ست مرات خلال مفاوضات وقف إطلاق النار. وعلى الرغم من موافقة الزعيم اليميني الذي كان مقربا من ترمب على وقف الضربات الجوية، لا يزال على خلاف مع بايدن حول الاتفاق النووي مع إيران وقضايا أخرى.
وعبر ديمقراطيون تقدميون عن سعادتهم بوقف إطلاق النار لكنهم دعوا إدارة بايدن إلى العمل من أجل حل أطول مدى.
وكتب رو كانا عضو مجلس النواب الأمريكي على تويتر يقول "يمكننا البناء على هذا التقدم من خلال معالجة جذور العنف والعمل باتجاه حل الدولتين وإنهاء الحصار والاحتلال، مع الضغط من أجل سلام دائم للإسرائيليين والفلسطينيين".
وتتزايد الضغوط على إدارة بايدن من الخارج أيضا.
ففي الأمم المتحدة، قال دبلوماسي عربي كبير مشترطا عدم ذكر اسمه "التواصل الفوري مع قوة بثقل" الإدارة الأمريكية مطلوب الآن في إطار "المعايير الصحيحة" لاستئناف جهود أوسع نطاقا لتحقيق السلام.
بل إنه دار حديث عن إحياء رباعي الوساطة في الشرق الأوسط، الذي تشكل قبل وقت طويل ويضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة ولم يستخدم كثيرا خلال سنوات ترمب، في محاولة لإقناع الإسرائيليين والفلسطينيين بالعودة إلى طاولة التفاوض.
لكن المحللين لا تحدوهم آمال تُذكر في أي مبادرة دبلوماسية كبيرة قريبا.
تحولات الرأي العام في الغرب
كتب جوناثان فريدلاند يوم 22 مايو في صحيفة الغارديان مقالا بعنوان "على إسرائيل أن تأخذ في الاعتبار: أن ثقل الرأي العام ينقلب ضدها".
يقول الكاتب أن "الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لم ينته، لأنه ما انتهى أبدا. لكن كان هناك على الأقل أمل في توقفه". ويضيف أنه "بعد أقل من أسبوعين من مقتل ما يقرب من 250 شخصا، اتفقت كل من حماس وإسرائيل في وقت متأخر من يوم الخميس 20 مايو على وقف إطلاق النار، وصاغ كل منهما قصة نصر يخبر بها العالم ويتحدث بها إلى نفسه".
فبالنسبة لحماس، السرد بسيط بما فيه الكفاية. وعلى الرغم من كون قوات الحركة محبوسة في منطقة صغيرة، فقد تمكنت، بقدر بسيط من الموارد، من مفاجأة العدو وضرب قلبه المدني. وأطلقت العنان لسيل من الصواريخ، أكثر تطورا من ذي قبل، بعضها خرق نظام القبة الحديدية الدفاعي الإسرائيلي وهبط ليس فقط على البلدات المحيطة بغزة ولكن أيضا في وسطه مدينة تل أبيب.
ويرى الكاتب أن حماس يمكنها أن تدعي، قبل منافسيها من حركة فتح في الضفة الغربية المحتلة، أنها الوصي على الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس. وعلاوة على ذلك، شاهدت بارتياح تمزق النسيج الاجتماعي لإسرائيل، مع قيام المواطنين اليهود والعرب بمهاجمة بعضهم البعض في الشوارع التي كانوا يتشاركون فيها.
أما بالنسبة لإسرائيل، فيشير الجنرالات إلى أن عملية "حراس الأسوار" العسكرية الإسرائيلية أضعفت القدرة العسكرية لحركة حماس، وأن معظم القتلى كانوا من مقاتلي حماس، وأنه تم إنجاز المزيد في الأيام العشرة الماضية أكثر مما تم إنجازه في هجمات 2009 و 2012 و 2014 مجتمعة.
لكن لا يمكنهم أن يخدعوا أحدا، فنقلا عن رئيس تحرير صحيفة هآرتس، إن إسرائيل تعرف أنها تحملت كارثة إستراتيجية، هي الحرب الحدودية الأكثر فشلًا وعديمة الجدوى" في تاريخها.
بل لم تكن تتوقع هجوم حماس، لأنها اعتقدت أنها أنهت القضية الفلسطينية كليا، مقتنعة بأن "اتفاقات أبراهام" مع دول الخليج وغيرها جعلت الفلسطينيين غير مهمين، لقد رأت الآن حماقة هذا الوهم.
ويشير الكاتب إلى "الخطر الاستراتيجي الآخر لإسرائيل". فقد يقول البعض أن ما حدث لغزة حظي بالاهتمام الدولي لفترة قصيرة ويمكن أن يزول بسرعة، كما يحدث دائما في أي هجوم إسرائيلي على غزة، لكن الكثير من المراقبين يتساءلون عما إذا كان قد تم الوصول إلى نقطة تحول في الأسبوعين الماضيين في الطريقة التي ينظر بها إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في جميع أنحاء العالم وخاصة في الغرب.
ويعتقد الكاتب أنه ربما تتم إعادة صياغة الأمر ليس على أنه صراع وطني بين مطالبات متنافسة، ولكن باعتبارها مسألة تتعلق بالعدالة العرقية.
بل إنه يمكن لوسم فلسطين حرة أن يكون في طريقه للانضمام إلى وسم حياة السود مهمة كمسألة يعتبرها جيل عالمي ذات أهمية قصوى، والتي لا تقتصر المشاركة فيها على السياسيين فحسب ، بل على الشخصيات البارزة في الثقافة الشعبية، من لاعبي كرة القدم إلى المطربين وحتى المؤثرين في الموضة مع الملايين من المتابعين.
تحول في سياسات الحزب الديمقراطي
بتاريخ 22 مايو 2021 كتب أنتوني زورتشر مراسل بي بي سيفي أمريكا الشمالية تحليلا حول التحولات في الداخل الأمريكيبشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي جاء فيه:
كشفت الاشتباكات الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين مدىتحول الثقل السياسي في الحزب الديمقراطي بشأن الصراعالفلسطيني الإسرائيلي في السنوات الأخيرة.
ويقول خبير استطلاعات الرأي جون زغبي، الذي طالما عارضالمواقف الأمريكية بشأن الشرق الأوسط، إن هذا التحول "جذريومزلزل". ويزيد تعاطف الأجيال الأصغر مع الفلسطينيين، وهذهالهوة العمرية أصبحت واضحة تماما داخل الحزب الديمقراطي.
وفي الوقت الذي يعبر فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن عن وجهاتنظر تقليدية، ويؤكد مراراً على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسهاضد صواريخ حماس، يجد أن الأجواء الحزبية المحيطة به تعبرعن قلقها، على أقل تقدير، من ظروف معيشة الفلسطينيين فيغزة والضفة الغربية، وترى أن السياسات الإسرائيلية تزيد منمآسيهم.
ويمكن البدء بالنظر في الكونغرس، كونه المؤسسة الأكثر تمثيلاللمناخ السياسي الأمريكي، لرصد تحول سياسات الحزبالديمقراطي بشأن فلسطين وإسرائيل. غالباً ما كانت تسيطروجهات النظر المتعاطفة مع إسرائيل على السياسة الخارجيةالأمريكية فيما يتعلق بالصراعات الإقليمية، بسبب أصواتالناخبين اليهود (وهي قاعدة كبيرة للحزب الديمقراطي) أوالكنيسة الإنجيلية (وهي قاعدة موازية للحزب الجمهوري).
وكان لزيادة التنوع في الكونغرس الأمريكي نتائج خطيرة علىالموقف الأمريكي تجاه إسرائيل. وفي عام 2021، بلغت نسبةالسود واللاتينيين والآسيويين والأمريكيين الأصليين في غرفتيالكونغرس 23 في المئة، وذلك وفقا لدراسة أجرتها مؤسسة بيو.
وقبل عقدين فقط، كانت هذه النسبة 11 في المئة، في حين لم تتعدواحد في المئة عام 1945.
وأدى هذا التنوع في الخلفيات إلى تنوع أكبر في وجهات النظروتفتت للقوى. ويتجلى ذلك في مجموعة عضوات الكونغرسالليبراليات اللاتي يُطلق عليهن اسم "الفريق"، ومن بينهنالفلسطينية الأمريكية رشيدة طليب عن ولاية ميشغان، واللاجئةالصومالية إلهان عمر عن ولاية مينيسوتا.
وأحد أهم أفراد هذه المجموعة هي ألكسندريا أوكاسيو-كورتيز عنولاية نيويورك، والتي فازت بالمقعد بعد الإطاحة بـ جو كروالي، أحدكبار أعضاء الكونغرس الديمقراطيين، والذي طالما ساند إسرائيلفي مواجهاتها السابقة في الأراضي المحتلة.
وبشكل عام، تعتبر أوكاسيو-كورتيز، البالغة 31 عاما وتعودأصولها إلى بورتوريكو، أكثر تمثيلا للحزب ولقاعدته الانتخابيةمقارنة بكروالي البالغ من العمر 59 عاما، وهو أمر بالغ الأهمية.
وقال زغبي لـ بي بي سي إن "هناك قاعدة سكانية غير بيضاء،خاصة بين الديمقراطيين، وهم يشعرون بحساسية شديدة تجاه ماتلقاه المجتمعات غير البيضاء الأخرى. هم يرون إسرائيل كمعتدٍ".
وأضاف أن هذه المجتمعات غير البيضاء لا تعرف شيئا عن تاريخإسرائيل والمحن السابقة.
"هم يعرفون ما يجري منذ الانتفاضة، والحروب المختلفة، والقصفغير المتكافئ، والمدنيين الأبرياء الذين قُتلوا".
تأثير بيرني
وإذا كان للحركة التقدمية اليسارية دور في زيادة التنوع فيالكونغرس وانتخاب أشخاص مثل أوكاسيو-كورتيز، فالفضل فيذلك يعود إلى رجل واحد، هو الديمقراطي الاشتراكي بيرنيساندرز.
نشأ بيرني كيهودي في المراحل الأولى من مسيرته السياسية فيإسرائيل وعاش لبعض الوقت في ستينيات القرن الماضي هناك،وكان متعاطفاً مع السياسات الإسرائيلية بشكل عام. ومع خوضهمعركة انتخابات الرئاسة لأول مرة عام 2016، عبر عن دعم أكبرللمخاوف الفلسطينية، وهو ما أحدث شرخاً بينه وبين المزاج العامفي الحزب الديمقراطي.
وفي المناظرة الأولية مع هيلاري كلينتون في مارس 2016، التيتزامنت مع هجمات صواريخ حماس تجاه إسرائيل، تحدثساندرز بصراحة عن معاناة الفلسطينيين، وارتفاع معدلاتالبطالة "وظروف السكن المزرية والقطاع الصحي المتردي والتعليمالمتردي".
وكتب صحفي الغارديان آنذاك، إد بيلكينغتون، أن هذا الخطابكسر "قاعدة راسخة" بأن الحديث عن معاناة الفلسطينيين قضيةخاسرة بالنسبة للساسة الساعين للمناصب العليا.
وبالطبع خسر ساندرز السباق الانتخابي، لكن شعبية الأفكارالتي طرحها فتحت الباب أمام الديمقراطيين المغمورين للدفع بهاومناقشتها، تماما كما فعلوا في غيرها من القضايا التقدمية، مثلالتأمين الصحي والتعليم الجامعي المجاني ورفع الحد الأدنىللأجور والإصلاح البيئي.
واشتدت إدانة ساندرز لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهومنذ ذلك الحين، وقال عنه إنه "مستبد يائس وعنصري". وكتبساندرز مقال رأي في صحيفة نيويورك تايمز خلال شهر مايو، لميتوان فيه عن الهجوم على نتنياهو، وهو أمر لم يعد مجرد رأيهامشي داخل الحزب الديمقراطي.
وجاء في مقال ساندرز إنه "في حقيقة الأمر، تظل إسرائيل سلطةواحدة في أرضين هما إسرائيل وفلسطين. وبدلا من الاستعدادللسلام والعدالة، تعزز إسرائيل من سيطرتها غير المتكافئة وغيرالديمقراطية".
واختتم ساندرز مقاله بالثناء على صعود "جيل جديد منالنشطاء" في الولايات المتحدة. "رأينا النشطاء في الشوارعالأمريكية في الصيف الماضي، بعد مقتل جورج فلويد. ونراهمفي إسرائيل، ونراهم في الأراضي الفلسطينية".
وكان السطر الأخير في مقاله اقتباسا واضحا من حركة حياةالسود مهمة، فقال "حياة الفلسطينيين مهمة".
ويشير ساندرز إلى ما أصبح جليا في الاشتباكات الأخيرة بينالقوات الإسرائيلية والفلسطينيين طوال الأسبوعين الماضيين. أمسك الأمريكيون بزمام صوتهم السياسي خلال الحركة الناشطةفي أرجاء الولايات المتحدة الصيف الماضي، ويتحولون الآنبروايتهم وصوتهم إلى ما يرون أنه قمع مماثل مسكوت عنه فيالشرق الأوسط.
تلويح بقطع المعونات
وقفت النائبة كوري بوش، عضو مجلس النواب عن سانت لويزوالممرضة السابقة، في قاعة المجلس وقالت: "سانت لويز أرسلتنيهنا لأنقذ حياة الناس". وكانت بوش قد أطاحت بنائب ديمقراطيمخضرم العام الماضي.
وتابعت: "هذا يعني أننا نعترض على استخدام أموالنا لدعمالشرطة المسلحة والاحتلال وأنظمة القمع العنيف والصدمة. نحنضد الحرب وضد الاحتلال وضد الفصل العنصري".
وتحول هذا الكلام إلى مطالب متزايدة بقطع المساعدة العسكريةالأمريكية لإسرائيل، أو على الأقل التلويح بذلك، للضغط علىنتنياهو للتخلي عن سياساته القمعية في الأراضي المحتلة.
وباتت لحملة "اقطعوا الدعم عن الشرطة" في الولايات المتحدةحملة موازية على صعيد السياسة الخارجية عنوانها: "اقطعواالدعم عن الجيش الإسرائيلي".
وما زاد من تعقيد الأمر بالنسبة للديمقراطيين التقليديين الموالينللدولة اليهودية هو زيادة التحزب والشقاق داخل الحزب، كحال كلالقضايا التي لها علاقة بالسياسات الأمريكية.
بوتقة الصراع
صحيفة الفاينانشال تايمز نشرت مقالا بعنوان "الغضب الفلسطيني يفضح أوهام نتنياهو".
يشير المقال إلى أنه قبل حوالي أسبوعين، كان عدد قليل من الإسرائيليين قد تساءل عن أحد الإنجازات التي تحققت في مسيرة نتنياهو السياسية التي امتدت لثلاثة عقود: وهي قدرته على إبقاء الفلسطينيين محاصرين مع تعزيز أفضل لعلاقات إسرائيل مع جيرانها العرب.
لكن نتنياهو، الذي قال للناخبين في الانتخابات الأخيرة إن الإسرائيليين آمنون ومزدهرون في الداخل، لم يعبأ بآلاف الشبان الفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة، بوتقة صراع إسرائيل مع الفلسطينيين، الذين وقفوا في شهر رمضان، أمام اليمين المتطرف في إسرائيل، الذي كان عدوانيا بشكل خاص، وكرر الوعود بطرد العرب من القدس الشرقية، مؤكدا الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة التي تضم المسجد الأقصى.
وما هي إلا أيام حتى كانت إسرائيل تقاتل تمردا فلسطينيا على ثلاث جبهات مختلفة: حماس تطلق آلاف الصواريخ على المدن والبلدات الإسرائيلية، فتنة طائفية واسعة النطاق اندلعت بين فلسطينيي الداخل وجيرانهم اليهود، واشتباك آلاف المتظاهرين مع جنود الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة.
وينقل المقال عن مصطفى البرغوثي، العضو البارز في منظمة التحرير الفلسطينية قوله "اعتقدت إسرائيل أنها ستعمل على إضفاء الطابع الإسرائيلي على الفلسطينيين في الداخل وستقوم بتدجين الفلسطينيين في الضفة الغربية تحت الاحتلال وأنهم سيفصلون غزة إلى الأبد.. لقد فشلوا في الأمور الثلاثة، والآن لدى الفلسطينيين في كل مكان الآن هدف واحد - إنهاء الفصل العنصري الإسرائيلي - وهو أمر غير مسبوق منذ عام 1948".
ويخلص المقال إلى أنه بعد 11 يوما من العنف، تبددت أي آمال إسرائيلية في احتواء القضية الفلسطينية خلف الجدران والحواجز مع قيام إسرائيل بتوسيع المستوطنات - التي يعتبرها معظم العالم غير قانونية - في الضفة الغربية وأبقت غزة الفقيرة معزولة تحت الحصار.
من الرابح؟
يتساءل مراسل شؤون الشرق الأوسط، ريتشارد سبنسر، في مقاله في صحيفة التايمز "أزمة غزة: من ربح من 11 يوما من الحرب؟.
يرى الكاتب أن هذه الحرب كانت غير متوقعة وانتهت بسرعة نسبيا، وأن الذين استفادوا أكثر من الضغط الدولي على إسرائيل لإنهاء القتال هم سكان غزة.
ويشير إلى أن قتلى هذه الغارات الجوية الإسرائيلية يمثل عشر عدد القتلى في عام 2014، عندما أعقب الضربات غزو بري إسرائيلي للقطاع.
وحاولت إسرائيل مرارا وفشلت في اغتيال القائد العسكري لحركة حماس الأكثر كاريزما، محمد ضيف، الذي أصابه الجيش الإسرائيلي لكنهم فشلوا في قتله، وفشلوا مرة أخرى في محاولتين هذه المرة، حسب الكاتب.
ومع ذلك، يدعي الجيش الإسرائيلي أنه دمر 60 ميلا من الأنفاقالتي تعتمد عليها حماس لإخفاء أفرادها وقوتها العسكرية عن أنظار الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار الإسرائيلية.
يقول الكاتب أن حركتا حماس والجهاد الإسلامي خسرتا، كالعادة ، من الناحية الفنية. فلم يدمروا إسرائيل، هدفهم المعلن، وتكبدوا خسائر عسكرية. صحيح أنهم ألحقوا أضرارا بممتلكات في إسرائيل وتسببوا في معاناة واسعة النطاق، ولكن ليس بالطريقة المركزة التي عانت منها غزة.
كما انهم، من وجهة نظر الكاتب، فشلوا حتى في هدفهم المحدود والمعلن المتمثل في "حماية" سكان القدس الشرقية. إذ لم تقدم إسرائيل أي تنازلات فيما يتعلق بمنع المزيد من عمليات الإخلاء للسكان الفلسطينيين أو عرض تغيير الطريقة التي تسير بها حرم المسجد الأقصى.
لكنهم مع ذلك، يؤكد الكاتب، حققوا مكاسب كبيرة بطرق أخرى. إذ أثاروا احتجاجات السكان الفلسطينيين في إسرائيل، وأثبتوا، مرة أخرى، أنهم المتحدثون الفلسطينيون الوحيدون الذين سيواجهون إسرائيل بالفعل.
كما أثبتوا أيضا أنه بدون إحراز تقدم في القضية الفلسطينية، لن تضمن اتفاقات أبراهام للسلام، وأن نموذج تطبيع العلاقات الذي تتبعه دول الخليج والدول العربية الأخرى بناء على طلب إدارة ترمب، لن يضمن السلام.
ولعل الأهم من ذلك أن هذه الجولة من القتال أثارت شيئا ما في أمريكا: صوت عام مؤيد للفلسطينيين في وسائل الإعلام والكونغرس لم يسبق له مثيل من قبل.
الجزء الصعب
في صحيفة الإندبندنت الإلكترونية كتب كيم سينغوبتا مقالا بعنوان "وقف لإطلاق النار ولكن الآن يأتي الجزء الصعب بالنسبة لإسرائيل وحماس".
فقد خرج الناس من منازلهم في الساعات الأولى من صباح الجمعة 21 مايو وتدفقوا إلى الشوارع للاحتفال بوقف إطلاق النار بعد 11 يوما من القتال الوحشي الذي أودى بحياة المئات وألحق دمارا هائلا.
نهاية الصراع الأخير بين إسرائيل وحماس، على الأقل في الوقت الحالي، ترك القضايا الرئيسية دون حل، والعداوات المريرة والمتنامية بين المجتمعات داخل إسرائيل دون إصلاح، وكشفت أيضا عن الانقسامات بين الحلفاء الغربيين.
وأعلن كلا الجانبين النصر، كما كان متوقعا، لكن تباينت الروايات حول ما تم الاتفاق عليه لإنهاء القتال.
أصر الإسرائيليون على أنهم لم يقبلوا أي شروط. وذكرت حماس أن حكومة نتنياهو قدمت تنازلات مهمة في النزاع على القدس، بشأن طرد العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح والتوترات الدينية في المسجد الأقصى.
الكاتب نقل عن أسامة حمدان، أحد كبار مسؤولي حماس، قوله إنه تلقى ضمانات من وسطاء بأن "الاحتلال سيرفع يده عن الشيخ جراح والأقصى".
ونفى مسؤولون إسرائيليون هذا القول. وقال وزير الدفاع بيني غانتس: "الواقع على الأرض سيحدد استمرار الحملة ... الهدوء سيقابل بالهدوء".
ويعتقد أن المحادثات ستستمر بشأن المطالب التي طرحها الجانبان على الطاولة.
وتشمل مطالبة حماس إسرائيل بوقف اغتيال قادتها، والمطالبة الإسرائيلية بوقف حماس بناء أنفاقها تحت الأرض، ووقف الهجمات الصاروخية والمظاهرات على الحدود.
لكن الأمر الأهم من وجهة نظر السياسية الفلسطينية المخضرمة، حنان عشراوي، هو أن هذا الصراع أعاد قضية فلسطين إلى الاهتمام الدولي. ويجب على المجتمع الدولي "إعادة الانخراط، وإلا فإن هذه الصراعات الرهيبة ستستمر في تكرار نفسها بتكلفة بشرية هائلة".
نتنياهو والبقاء في السلطة
يوم 22 مايو 2021 أكدت صحيفة "نيويورك تايمز" في تحليل لها أن الصراع الأخير بين إسرائيل والفلسطينيين قوى رئيس الوزراءالإسرائيلي، نتنياهو، لكن ثمن ذلك قد يكون باهضا لـ"الساحر الذي تمكن من خلال موهبته ومكره من حكم إسرائيل لمدة 15 عاما".
وتشير الصحيفة إلى أن المعركة مع حماس قد تفيد نتنياهو سياسيا على المدى القصير، لكنها لا تحل مشاكله الأساسية.
وضع نتنياهو، الذي كان محفوفا بالمخاطر قبل اندلاع النزاع، تغير بعد إعلان وقف إطلاق النار.
وأشار تحليل الصحيفة إلى أن استغلال الأزمة، باتت طريق نتنياهو منذ فترة طويلة، لتأكيد مركزيته وضرب حماس، ولكنه ضرب ليس كاف لتغيير الوضع الراهن الذي يترك الفلسطينيين منقسمين بين غزة والضفة الغربية.
ويبدو أن المحادثات بشأن ائتلاف الوحدة الوطنية، التي كان من شأنها أن تطيح بنتنياهو وتؤدي إلى دخول حزب عربي إسرائيلي إلى الحكومة للمرة الأولى، كانت تتقدم في أوائل مايو، لكنها الآن باتت تحت الأنقاض، بحسب تعبير الصحيفة الأمريكية.
وتقول الصحيفة إنه بعد ثلاثة أيام من بدء حماس بإطلاق الصواريخ من غزة، أعلن نفتالي بينيت، وزير الدفاع السابق اليميني الذي كان محور خطة التحالف البديلة، "لن تكون حكومة التغيير مع التركيبة المخطط لها قادرة على التكيف".
وفي الأزمة سرعان ما ظهرت ثنائية "اليهودي ضد العربي" داخل إسرائيل، وكان من الواضح أن شخصا واحدا فقط يمكنه التعامل مع الوضع: بيبي "نتانياهو" كما هو معروف داخل إسرائيل.
وقالت الصحيفة إن نتنياهو عمل بجد لصياغة هذه الصورة ونسجها في عمق اللاوعي الإسرائيلي، ورسالة ذلك القوية هي أنه لا يزال الضامن الوحيد للأمن الإسرائيلي ضد تهديدات حماس في غزة، ومن إيران ولبنان.
كما أنه هو الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه ضد "العرب الذين يصوتون بأعداد كبيرة" كما قال ذات مرة.
وعلى الرغم من محاكمته بتهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، إلا أنه في أفضل وضع لإبراز المصالح الإسرائيلية، بدعم أمريكي، على الساحة العالمية.
وينقل التحليل عن إيتامار رابينوفيتش، السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن، "بالنسبة لسياسي متهم، فإن عدم خسارة أربع انتخابات متتالية هو إنجاز كبير".
وخلص تحليل الصحيفة إلى أنه على مدى أكثر من عقد من الزمان، لم يثبت أن هناك أي بديل وسطي مقنع لنتنياهو.
وسمح على مدى سنوات، بتمويل قطري كبير لحماس، في ما اعتبره العديد من المراقبين، تقول الصحيفة، محاولة لتقويض وضع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، مصمما على إبقاء الحركة الفلسطينية منقسمة بين فتح في الضفة الغربية وحماس في غزة.
وتستدرك الصحيفة أن الإضراب الوطني الذي نظمه الفلسطينيون هذا الأسبوع في كل من الضفة الغربية وإسرائيل نفسها استعراض غير عادي للوحدة، وهو استعراض قد يكون من الصعب على السلطات الإسرائيلية احتواؤه.
ويختم التحليل بالقول إنه حتى في الولايات المتحدة، حيث لا يزال الدعم لإسرائيل قويا، يتحدث عدد متزايد من الديمقراطيين في واشنطن ضد المعاملة القاسية لإسرائيل للفلسطينيين، لذلك لا يمكن لنتنياهو أن يعتمد بعد الآن على "الصداقة بدون انتقاد" كما كان عليه الحال في عهد الرئيس الأمريكي السابق ترمب.
حسابات صرفة
قد يكون من السهل حصر خسائر الصراع الدامي الذي استمر 11 يوما. فقد استشهد من الجانب الفلسطيني 248 شخصا، بين مدنيين ومحاربين، ودمر القصف الإسرائيلي ما لا يقل عن 258 مبنى، بينها بنوك ومستشفيات، فيما تضررت البنية التحتية وشبكة الكهرباء والصرف الصحي، طبقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية المعروف اختصارا بـ "OCHA".
أما إسرائيل فتقول أن القبة الحديدية استطاعت اعتراض أغلب الصواريخ التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية المسلحة، ورغم مواجهتها لنحو 4300 آلاف مقذوف من غزة، قتل 12 من سكان إسرائيل، وفقا لما نقلته صحيفة "واشنطن بوست".
لكن حسابات الربح والخسارة في الحروب تبقى أكثر تعقيدا من أرقام القتلى ومليارات الخسائر الاقتصادية وإعادة الإعمار.
لفت محللون إلى أن الصراع الأخير أثبت تطور قدرات الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حركة حماس التي أطلقت كمية كبيرة من الصواريخ تجاه إسرائيل وصلت لحدود المناطق الشمالية في البلاد، وضربت العاصمة الاقتصادية، تل أبيب، ما أدى لشل حركة الملاحة الجوية وتجميد كبير للنشاط الاقتصادي.
ويشير تقرير لصحيفة بلومبرغ إلى أن حماس أطلقت أكثر من 4000 صاروخ في 11 يوما من القتال، مقارنة بـ 4500 صاروخ وقذيفة في غضون 51 يوما خلال حرب 2014.
ويتابع بأن "جودة ترسانة حماس من الصواريخ تحسنت خلال الصراع الأخير، وباتت نيرانها قادرة على الوصول لداخل إسرائيل أكثر من قبل".
واستخدمت حماس "الطائرات المسيرة الانتحارية" لأول مرة، وهو ذات الأسلوب الذي اتبعته مؤخرا ميليشيات عراقية والحوثويون في اليمن.
ويعتقد مسؤولون إسرائيليون، بحسب بلومبرغ، أن حماس تمتلك الآن نحو 15 ألف صاروخ، تم تهريب بعضها من الخارج ولكن معظمها صنع في غزة.
ورغم نجاح نظام القبة الحديدية في اعتراض 90 بالمئة من صواريخ الفصائل، يرى أستاذ العلوم السياسية في قطاع غزة، جمال القاضي، إن حركة حماس تشعر بأنها انتصرت "لأنها تمكنت من الضرب في عمق إسرائيل"، قائلا لوكالة فرانس برس: "لم تتمكن إسرائيل من منعها من ضرب المدن الإسرائيلية بالصواريخ".
ويقول أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدولية، الدكتور منذر الدجاني، إن "أغلب الصواريخ التي أطلقت باتجاه إسرائيل كانت في مناطق مفتوحة (...) كما أن أعداد الضحايا أقل بكثير من أي صراع بين إسرائيل وحماس"، مرجحا وجود مبادرة لإشراك حماس في العملية السياسية الفلسطينية.
يتابع الدجاني أن "الطرفين انتصرا" وحققا إنجازات لهما، باعتبار أن حماس رفعت من شعبيتها، ورئيس وزراء إسرائيل استطاع إبعاد الضوء عن قضية الفساد التي تلاحقه.
سنخسر الحرب تدريجيا
كتب المحلل الإسرائيلي دافيد هوروفيتس في موقع "إسرائيل اليوم" يوم 23 مايو 2021:
ليس هناك طريق آمن نحو اتفاق، وصعود حماس يظهر مخاطر الانسحاب. لكن التوقف عن دعم حل الدولتين، حتى من حيث المبدأ، يجعل إسرائيل أكثر هشاشة عند اندلاع الصراع.
متحدثا بعد رئيس الوزراء يوم الجمعة، حذر وزير الدفاع بيني غانتس من أنه “إذا لم نتصرف دبلوماسيا بسرعة وبحكمة”، فإن هذه العملية ستكون “مجرد جولة أخرى من الصراع تتبعها الجولة التالية”، ودعا نتنياهو إلى تجنب تحويل “نصر عسكري غير مسبوق، إلى فرصة دبلوماسية ضائعة”، قائلا إنه يجب التعامل مع مستقبل القطاع الآن على المدى الطويل.
لا يوجد لأحد فكرة واضحة عن كيف يمكن أن يكون ذلك ممكنا، لكن نداء غانتس المبهم للمحاولة، وأن ينظر إليه على أنه يحاول، هو أمر حيوي، ويجب أن يمتد إلى ما وراء غزة، إلى الصراع الفلسطيني الأوسع.
لا يوجد هناك حل سريع. حتى الآن، لم نعثر على حل بطيء أيضا. لكن إسرائيل بحاجة إلى إظهار استعدادها ورغبتها في أن تكون طرفا مركزيا في الجهود المبذولة لإيجاد حل، وألا تتبع سياسات تزيد من تقليص الاحتمالية.
يعتبر الكثير منا، ومن ضمنهم هذا الكاتب بشكل مؤكد، أن حل الدولتين هو أمر ضروري إذا أردنا ألا نفقد أغلبيتنا اليهودية، أو ديمقراطيتنا، أو كليهما، وحتى لا نكون عالقين إلى الأبد بين ملايين الفلسطينيين المعادين. كثيرون منا، ومن ضمنهم هذا الكاتب بشكل مؤكد، لا يمكنه حاليا رؤية طريق آمن لمثل هذه التسوية.
للمرة الأخيرة، هذا لا يهم. وطالما أن إسرائيل لا تضع نفسها بحزم وبشكل واضح إلى جانب أولئك الذين يسعون إلى إطار قابل للتطبيق لتحقيق السلام والأمن على المدى الطويل لأنفسنا وللفلسطينيين، فسوف ينظر إلينا على أننا نعيق هذا الإطار. وحتى عندما تواجه عدوا تهكميا وغير أخلاقي وعنيدا بصورة جلية مثل حماس، فإن إسرائيل القوية عسكريا ستتحمل مسؤولية الخسائر في الأرواح على جانبي الصراع.
قد نستمر في كسب المعارك، على الرغم من أنها ستزداد صعوبة إذا امتد القتال إلى جبهات أخرى وتعمق فيها، لكننا سنخسر الحرب تدريجيا.
تهاوي الثقة
يوم 24 مايو 2021 عدد نائب رئيس هيئة أركان الجيشالإسرائيلي السابق، يئير غولان، الإنجازات التي قال إن حركة"حماس" حققتها في المعركة الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة،ساخرا من إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهوالنصر.
وفي تحليل نشرته صحيفة "هآرتس"، كتب غولان، الذي يشغلحالياً عضو لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، أن "حماس" حققت أهدافها الرئيسة عند بداية الحرب، والتي شملت إطلاقآلاف الصواريخ، وتعطيل نسق الحياة، وتقويض مستوى الشعوربالأمن الشخصي لدى الإسرائيليين.
وأشار إلى أن مسار الحرب دلل على افتقار إسرائيل إلىاستراتيجية هجومية فعالة، حتى في مواجهة التهديد المحدودالذي تمثله حركة "حماس"، ناهيك عن "حزب الله"، مما يثيرالشكوك حول قدرة إسرائيل على مواجهة صواريخ إيران التينشرتها في سوريا والعراق واليمن.
واستدرك غولان قائلاً إن أهم الإنجازات الاستراتيجية التيحققتها "حماس" تمثّل في تولّيها قيادة النضال الوطنيالفلسطيني، من خلال طرح ذاتها بوصفها "المدافع عنالأقصى"، فضلاً عن أن مسار الحرب أفضى إلى اشتعالمظاهر احتجاج داخل إسرائيل والضفة الغربية.
وشدد غولان على أنه لا يوجد لدى إسرائيل وصفة استراتيجيةلتحييد المخاطر التي تمثلها حركة "حماس"، منوهاً إلى أنالقضاء على حكم "حماس" يتطلب تنفيذ عملية برية واسعةالنطاق، تسفر عن خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي،فضلاً عن أنه لا توجد طريقة تضمن إعادة السلطة الفلسطينيةإلى حكم غزة بعد الحرب، مما يزيد من فرص صعود قوى أكثرتطرفا من "حماس"، على حد قوله.
وسخر غولان من إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنياميننتنياهو، النصر، وحديثه عن توجيه ضربة قوية لـ"حماس" وأنهاستتعلم الدرس، مشدداً على أن "حماس" ستواصل استهدافإسرائيل وستزداد جرأة وستتعاظم قوتها مع الوقت.
ولفت إلى أن صواريخ "حماس" أظهرت على السطح عمقالخلافات بين إسرائيل والولايات المتحدة.
وحسب غولان، فإن أسوأ نتائج الحرب تمثل في تهاوي ثقةالجمهور الإسرائيلي في قيادته وفي منظومة الحكم، واتساعالصدع بين فلسطينيي الداخل واليهود.
خيبة أمل إسرائيلية
في داخل الكيان الصهيوني تزداد الانتقادات لحكومة نتنياهووقيادات الجيش ويقول عدد من الخبراء أن العملية العسكريةالإسرائيلية ضد قطاع غزة لم تكن ناجحة. وقد واصلت بعضالقيادات السياسية وكبار المعلقين الإسرائيليين التعبير عن خيبةالأمل من نتائجها، وذلك مع بدء سريان وقف إطلاق النار.
واعتبر زعيم المعارضة يئير لبيد، المكلف بتشكيل الحكومة، أنرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، هو المسؤول المباشر عن الفشلفي الحرب، مشيرا إلى أن هذه الحرب "لم تسفر عن تغيير جذريفي المنطقة".
وكتب لبيد على حسابه على "تويتر": "لقد ظهر نتنياهو خلالالحرب بمنتهى الضعف، ولم تكن تُوجهه سياسات واضحة، وبدونمسؤولية أو استراتيجية، لقد تعرض المستوطنون في منطقة غلافغزة والجنوب لقصف عنيف، لكنهم في المقابل لم يحصلوا على أيإنجاز ولم يروا تحولا في الواقع، مظاهر فشل نتنياهو تمتد علىكل الصعد".
وانضم لبيد في هجومه على نتنياهو بسبب نتائج العدوان علىقطاع غزة المحاصر، إلى ما صدر عن قادة الأحزاب اليمينية: "يمينا"، "تكفاه حدشاه"، "يسرائيل بيتينو" و"الصهيونيةالدينية"، الذين اعتبروا الحرب فشلا ذريعا.
وكتب زعيم حزب "يسرائيل بيتينو"، أفيغدور ليبرمان، على حسابهعلى "تويتر" ساخرا من نتائج الحرب، أن نتنياهو سيرد بدفع"الإتاوة" لـ"حماس".
وفي السياق، كشفت صحيفة "هآرتس" أن نتنياهو شرع فيتحميل الجيش والمخابرات المسؤولية عن نتائج الحرب. ونشرتالصحيفة يوم الجمعة 21 مايو تقريراً لمعلقها العسكري، عاموسهارئيل، جاء فيه أن نتنياهو سمح لمقربيه بتسريب معلومات منجلسات المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن تظهر توجيهالوزراء انتقادات حادة إلى أداء الجيش والمخابرات وأن هذا الأداءهو المسؤول عن نتائج الحرب.
وحسب هارئيل، فإن حرص نتنياهو على إغراق وسائل الإعلامالإسرائيلية بالتسريبات حول النقاشات في اجتماع المجلسالوزاري المصغر لشؤون الأمن هدف إلى النأي بنفسه عنالمسؤولية عن الفشل وتحميلها لجيش الاحتلال وأجهزةاستخباراته. وأضاف هارئيل: "ما يجري حاليا بين قيادة الجيشوالمستوى السياسي يمثل الحضيض الذي وصلت إليه العلاقة بينالجانبين".
وأقر هارئيل بأن "إنجازات" إسرائيل في الحرب كانت متواضعة،مشيرا إلى أن ضغوط الرئيس الأمريكي، جو بايدن، كان لها دورمهم في وقف الحرب على الرغم من أن إسرائيل لم تدلّل علىتحقيق أهدافها فيها.
في غضون ذلك، واصل باحثون وكتاب إسرائيليون توجيهانتقادات لاذعة إلى المستويين السياسي والعسكري بسبب الفشلفي الحرب. فقد كتب المعلق في صحيفة "معاريف"، بن كاسبيت،على حسابه على "تويتر": "كم يمكن أن يكون القائد حقيرا عندمايتهرب من المسؤولية ويلقي بها على الجيش والمخابرات"، فيإشارة إلى نتنياهو.
مجرد كذبة
وعلى حسابه على "تويتر"، كتب الباحث في "مركز هرتسليامتعدد الاتجاهات"، أوري غولدبرغ: "كيف بإمكانكم أن تعرفوا أنهذه الحرب كانت مجرد كذبة؟ لو كان هناك إنجاز واحد يحسنأمن الإسرائيليين لكان سارع الجميع إلى تحمل المسؤولية عنه،لكن عندما يحاول كل المسؤولين النأي بأنفسهم عن نتائج الحرب،فهذا يدل على أنها لم تحقق أية إنجازات".
من ناحيته، كتب المعلق العسكري، يوآف ليمور، على حسابه على"تويتر" أن المستوى السياسي الذي لا يفوت فرصة للظهورالإعلامي اختفى فجأة ويتهرب من شرح نتائج الجمهور للرأيالعام في إسرائيل.
إلى ذلك، اعتبر مراسل صحيفة "يديعوت أحرونوت" في الأراضيالفلسطينية، إليئور ليفي، أن احتفاء الفلسطينيين في القدس"بنصر حماس وإشادتهم بجناحها العسكري على مسمع ومرأىمن عناصر الشرطة الإسرائيلية هما أكبر صور النصر التيحصلت عليها حماس".
فشل عقيدة الحرب الخاطفة
أحاطت النخبة السياسية والإعلامية في إسرائيل رئيس هيئةأركان جيش الاحتلال الحالي، أفيف كوخافي، بهالة كبيرة منالتقدير والإعجاب منذ أن تولى منصبه قبل ثلاث سنوات، قبل أنتتحول الإشادة إلى انتقادات في الآونة الأخيرة بالتزامن معالحرب على قطاع غزة.
ولعل أكثر ما لفت أعضاء المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمنوكبار المعلقين والمراسلين العسكريين في تل أبيب الذين كانوا علىاحتكاك بكوخافي، انفراده عكس كثير ممن سبقوه في المنصب،بتأصيل رؤيته العسكرية والاستراتيجية المتعلقة بمواجهةالتحديات التي تواجهها إسرائيل في إطار فكري فلسفي، وهو مادفع الكثير من المعلقين إلى نعته بـ"الفيلسوف".
وقد تجسدت رؤية كوخافي، لضمان تعاظم القوة العسكرية وآلياتمواجهة التهديدات على الساحات المختلفة في خطته متعددةالسنوات، التي أطلق عليها "تنوفا"، والتي قدمت على أنها تمثل"ثورة" في كل ما يتعلق بتوسيع وتعميق التنسيق والتكامل بينأذرع الجيش المختلفة في الحروب والمواجهات، وتضخيم قوةالنيران المستخدمة، بحيث يفضي الجهد الحربي إلى حسم أيمواجهة يمكن أن تنشب على أي من الساحات في وقت قصير،لضمان عدم المس بالجبهة الداخلية الإسرائيلية لأمد بعيد.
ومن المفارقة، أن خطة "تنوفا"، التي تمثل "عقيدة كوخافي" العسكرية، وضعت أساسا لتجنب ما تعرضت له إسرائيل خلالهجومها السابق على قطاع غزة في عام 2014، وعلى وجهخصوص على صعيد إطالة أمد الحرب، حيث إن الحرب السابقةامتدت 50 يوما، لتكون ثاني أطول حرب تخوضها إسرائيل بعدحرب 1948. وحسب منطق كوخافي، فإن أي مواجهة مع غزةيجب حسمها في وقت قصير، لضمان عدم استنزاف الجبهةالداخلية.
وقد تأثرت رؤية كوخافي بطابع المواقع التي شغلها والمهامالعملياتية والاستخبارية التي تولاها، حيث كان قائداً للواءالمظليين، وفرقة غزة، ورئيساً لشعبة الاستخبارات العسكرية،وقائداً للمنطقة الشمالية ونائباً لرئيس هيئة الأركان.
وقد كان من المفارقة أنه عندما وضع خطة "تنوفا" موضع التنفيذفي الحرب الدائرة على غزة، التي تعد أضعف حلقات المناهضةلإسرائيل، فإن هذه الخطة فشلت في تحقيق الحسم من جهة، ولمتسهم في تقصير أمد المواجهة، وتقليص الكلفة التي تتكبدها"الجبهة الداخلية" الإسرائيلية مقارنة بحرب 2014.
فحسب ما ذكرته صحيفة "يديعوت أحرنوت"، فإن عدد الصواريخالتي أطلقتها حركة "حماس" في الأسبوع الأول من الحرب يعادلعدد الصواريخ التي أطلقتها الحركة في 50 يوما من حرب 2014،بالإضافة إلى أن مدى وقدرة الصواريخ التي استخدمتها المقاومةفي هذه الحرب أكبر من تلك التي استخدمت المرة السابقة.
والنتيجة أن تحولت معظم "الجبهة الداخلية" الإسرائيلية إلىساحة مواجهة، وهو ما دفع السلطات إلى إغلاق المدارس من بئرالسبع في الجنوب إلى هرتسليا، شمال تل أبيب، فضلا عنتعطيل جلسات البرلمان، وإغلاق مطار بن غوريون، الذي يعد أهمالرموز "السيادية" للكيان الصهيوني، وتوقف العمل في أنبوب نقلالنفط "إيلات عسقلان"، الذي راهنت إسرائيل على تقديمه بديلاًلقناة السويس، وإغلاق منصة استخراج الغاز في حقل "تمار"،أكبر حقول الغاز التي سيطرت عليها إسرائيل في حوضالمتوسط.
أخطار أكبر
فشل "تنوفا" في اختبار الحرب الدائرة في غزة، أثار تساؤلاتعن النتائج التي سيؤدي إليها تطبيقها خلال مواجهات علىساحات وضد أطراف أخرى تحوز قوة عسكرية أكبر من المقاومةفي غزة، مثل "حزب الله" وإيران.
وبسبب نتائج الحرب، فقد تحول الإعجاب والإشادة بكوخافي إلىنقد ومطالبة بإعادة النظر في أداء الجيش تحت قيادته، ولا سيمابعدما تبين، كما يرى بعض المعلقين في تل أبيب، أنّ مسار الحربدلّ على أن جيش الدفاع لم يحرص على الاستعداد بالشكلالمطلوب لهذه المواجهة.
ففي مقاله في "هارتس"، دعا محررها ألوف بن، إلى ضرورةالتحقيق في أسباب إخفاق الجيش، مشيراً إلى دلائل تؤكد غيابالاستعداد وسوء الأداء.
خسائر الاقتصاد الإسرائيلي
تترتب على شن الحرب على قطاع غزة كلفة عسكرية باهظة،تتمثل في قيمة القذائف والصواريخ والذخائر وما تطلبه تشغيلمنظومات الدفاع الجوية، فضلا عن كلفة إدارة وتشغيل المنظوماتالتقنية والاستخبارية.
وتتعامل إسرائيل مع كلفة العمليات والجهد الحربي كأسرار لا يتمالكشف عنها، لكن من الواضح أن الجيش في أعقاب هذه الحربسيطلب إدخال زيادة على موازنته والتي تبلغ حوالي 22 ملياردولار.
ولعل المعطى الوحيد الذي بالإمكان الكشف عنه من حيث الكلفةالعسكرية يتمثل في كلفة تشغيل منظومة "القبة الحديدية"، التيتستخدم في اعتراض الصواريخ التي تنطلق من قطاع غزة. فقيمة الصاروخ الواحد تبلغ 50 ألف دولار، وحسب التقديرات فإنهذه المنظومة اطلقت عدة آلاف من هذه الصواريخ.
إلى جانب ذلك، فإن استدعاء قوات الاحتياط للخدمة في محيطقطاع غزة يؤثر بشكل مباشر على عجلة الاقتصاد الإسرائيلي،حيث إن ضباط وجنود الاحتياط يعملون في الأوضاع الطبيعيةفي القطاعات الخدماتية والإنتاجية والجهاز البيروقراطي.
عمر نجيب