لقد كتبت الاستاذة /النجاح بنت محمذفال/ مقالا في موقع "موريتانيا الآن" للكتاب الموريتانيين، واستهلته بالحديث الموجه للدكتور /ناجي محمد الإمام/، وهو الشاعر القومي الوحدوي، ولعل المناسبة، هي القاؤه لقصيدته التي ذكرت الاستاذة مقطعا منها، وعلقت عليه تعليقا سياسيا، خرجت به عن مجال تخصصها الادبي الذي كانت تكتب باسلوبه، وسنبادلها التعليق بالتعليق، والجميل باللا مجاملة، دون تجاوز للموضوعية، والحوار الأخوي.
ومن تابع المقالات الأخيرة للكاتبة النجاح في رحلة العودة الى مدينتها " بوتيلميت"، لن يستغرب شاعريتها التي استلهمتها في بداية هذا المقال، وحديثها الموفق عن المفارقة بين " الاستلهام"، و"الاصغاء"، و"الاستماع"، ولنا أن نجاري الاستاذة في تتبع منهجيتها النقدية التساؤلية التي فضلتها على اسلوبها الإيحائي الأسترجاعي في مقالاتها، حيث كانت تستدعي الزمن المختزل في الذاكرة بما يشبه الوصف الجميل الاقرب الى " النسيب"، منه الى" التبراع" على الرغم من حضور إسم والدها، وهو عشيقها" الأول" الكامن في اللاوعي الطفولة ــ على رأي اصحاب المنهج الاستبطاني ــ ومن هنا، فإن المكان، ومحيطها الاجتماعي حضرا بشكل متساوق، لكن هل من تناسب بينهما، حتى يتسنى تحديد هوية ـ لا هواية ـ ذلك الاغتراب المعبر عنه في حنين الى الماضي العمري، او الأسري العائلي؟، وهل كان "الاغتراب"،الإقصائي، الأنزياحي جواني، معرفي مكتسب، أو استغراق لا إرادي في مسارب الذاكرة المخدوشة بالوقوف على الاطلال في استنطاق المواقف المتكررة في الحاضر، كما في مقالها الأخير الذي حاولت التعبير فيه عن رفض، وتشاؤم لم يستجب للوعود في مقطع الشاعر " أن نستعيد كرامة مهدورة"،؟
وبالرجوع الى ثلاثي المفاهيم( الاستلهام، الاصغاء، الاستماع) في المقال، وهل في الأخير توجيه برؤية مكتملة بديلة، أو موازية لدعوة الشاعر ناجي محمد الإمام في قصيدته اليقينية " قسما بروحك، بالعروبة، بالفدى، بدم أريق على تلال الدامر"، وواضح أن الضمير المتصل " ك" يخاطب به جمهور الشاعر من القوميين، ويقسم بوعيهم في المجال الخاص، وفي العام، فإن الشاعر كان يقسم بأمته العربية التي وجه اليها الخطاب من اجل استنهاض الضمائر الحية، كقوة واعية بدورها في التغيير، واصلاح الشأن العام ، وهو المختل في مجتمعاتنا العربية، وقد حان الوقت لمواجهة " بيجن وصنوه من عازر"، وهذه النقلة عبرت عن رؤية نحو الخاص المشار اليه بالتضحيات " الدم المراق على تلال الدامر" الى العام بتحرير فلسطين، وطرد الصهاينة منها ، لكن ما هي رؤية الاستاذة النجاح في مقالها؟ وما هو المخيب فيهما؟
وللإجابة على السؤالين لاحظنا ما يلي:
1ـ ومن جهة الاسلوب إن الكاتبة، كانت واعية لدورالأسئلة في التغييم، والتعويم في اللغة ، ولذلك سبحت وجهة نظرها في سرابية، كان الأولى تجنبها ما دامت مقتنعة بتقديم رأيها للقراء، الأمر الذي كان يفترض منها اختيار لغة توضيحية بدلا من الأسلوب الايحائي الغامض الى حد ما، ولكن لبعض قرائها، وليس لكلهم بالضرورة، وهل للقراء ان ينصفوا الاستاذة، لترجيح وجهة النظر الأخرى من جهة، تأثرها بالأسلوب الأدبي المحاكي للغة الشعر في الايحاء، التلميح، الترميز في " المقال" خارج " المقام"؟
2ـ ومن المخيب للنظر، تعميم موقف الكاتبة على القوميين نظرا لعلاقة فئة انتهازية بالأنظمة السياسية، وتموقعها في "كواليسها"، وحتى في المخافر الأمنية التي عبرت عنها ــ الكتابة ــ بإدانة نشترك فيها معها " لصياغة بعض المواقف الأمنية"،، ولكن هل التعميم مقصود من الكاتبة، أو أنه غير مقصود وعبرعن قصور في الرؤية ليس إلا ؟
3ـ وفي مجال النظرة من الخارج، يسوقفنا الحكم المجحف على احداث التاريخ السياسي: كما لو أن الأخير نص يحلو للكاتبة استنطاق قاموسه الخاص بصيغ ثابتة، او متحولة خاضعة لتمكنها من تفكيكه، بينما التاريخ توجهه الحوادث في الفترة الرائعة، حيث الوعي التحرري القومي الذي قاد الى الاستقلال من هيمنة القوى الامبريالية،، وتاريخ الأمم الحديثة مليء بالانتصارات، كما بالهزائم، ومنه التاريخ القريب للمجتمعات العربية، الذي أشارت اليه الكاتبة بالنظر الى قيادة القوميين الوحدويين الذين واجهوا التحديات الداخلية، وقوى الخارج، وحققوا انتصارات عظيمة أخرجت الأمة من عصور الظلام والهيمنة، وستبقى الهزائم السياسية ليست قدرا على الأمة، لا قدرة على مواجته، وانما هي المعارك المحكومة بموازين القوة، وليس بهزيمة الارادة،، أما النظر الى التاريخ على أساس أن " قوى أرضخته لمفاهيم اسقطتها أمتعة الزمن عند أول امتحان"، فهل هي قراءة متشائمة، حتى لا نصفها بالخارجة على الواقعية من جهة، و على الوعي الوطني، والقومي من جهة أخرى؟
ويضاف الى هذه المغالطة أخرى، كالزعم بأن الوعي الحداثي ساهم في تدمير مجتمعاتنا العربية التي حكمتها القوى القومية، بل إن الأستهداف هو لقوى الوعي، ولمظاهر التحديث والتقدم في الأمة، وذلك من اجل ابقاء الأمة متخلفة، والشاهد على ذلك استهداف المجتمعات العربية من طرف الاحتلال، خلافا للمجتمعات العربية المتخلفة المستسلمة لقوى الخارج، ومن هنا، يمكن القول ان الكاتبة تجاوزت حدود المغالطة في تقديرنا حين صرحت بهذا الموقف في تساؤلها اليقيني في الاقتباس التالي: " هل هو ــ الفكر الجمعي الحداثي ــ طلع من الدول التي انهكتها الحروب ضد الإرهاب التي اشعلتها ضد نفسها" ،ولعل هذا كالذي نسمع ليل نهار في الابواق المأجورة أن تدمير ليبيا، والعراق، وسورية، راجع الى رؤسائها رحمهم الله، كأن المطلوب منهم كان أن يخرجوا من أوطانهم، دون مقاومة للمحتل : كما خرج حاكم غرناطة منها،، وقد نعت عليه والدته ذلك، بينما الآن تتعالى نداءات تعترض عليها ومنها ــ ربما ــ احدى حفيداتها، وغيرها ممن استحسن الاستسلام في ما يجري من احداث في واقعنا،، !
4 ـ إن الإشارة الى الموقف السابق، يحيلنا الى رؤية الكاتبة حول الوعي المسكوت عنه من خلال تعريضها بفكر النهضة، وفكر الاخوان المسلمين،، وذلك في الاقتباس التالي " فلم تكن حركة النهضة لتطبق المفاهيم الصرفة للاسلام، ولا كذلك كان الاخوان المسلمون في مصر ليطبقوها" ، ولعلها ـ الكاتبة ـ كانت تقصد بفكر النهضة، الفكر التحرري القومي،، لكن السؤال الذي ينتظر الاجابة من الاستاذة القديرة، يتعلق بمقاصدها السياسة في" الاسلام الصرف"، فهل قصدت التجربة السياسية للملأِ من" التصوفيين"، تجربة كان للموريتانيين لقاء معها بلا موعد، وفراق بلا عودة على المستوى المنظور، او أن الكاتبة تأثرت بحركة" التبليغ" الجوالة باحثة عن مجتمع خارج الزمن الحديث، و في مكان من المواقع الطرفية؟
5 ـ ومن الانصاف الذي نتوخى في القراءة التي نتمنى عليها الموضوعية، حين نستحضر الاشارات التي تساعد على تحديد ــ وليس تصويب ــ وجهة نظر الكاتبة التي أرادت بالكاد إيصالها في مقالها الجميل الذي ذكًرت فيه بالدور الغائب بما اسمته ب" الطبقة المتوسطة المعول عليها أصلا في تدبير الاحزاب القادرة على صيانة الدستور"، ولكن كيف لنا أن نفصل وعي الطبقة المتوسطة عن واقعها في وعي الاحزاب الذي أدانته الكاتبة في التنبيه الى " عمالة القبائل واستهلاك المزابل"؟ فأي حزب غير جهوي، وقبلي، وشرائحي، وعرقي في بلادنا؟
وحدهم القوميون الذين لايعرف بعضهم بالقبيلة، أو الجهة، ولايعنيهم في شيء المكانة الاجتماعية للمواطن الموريتاني، ولا لونه،،
فهل قصدت الكاتبة بالطبقة المتوسطة تلك التي في المجتمعات المعاصرة خارج مجالها الاجتمعي والمكاني، حيث الاحزاب فيها تطالب بالحقوق المدنية للمواطن، وتدافع عن الثوابت الوطنية للمجتمع، وشتان بينها وبين فئات من النخبة في مجتمع قبلي، شرائحي، إثني، عرقي،، كذب على نفسه بقبول استراده للمؤسسات المعطلة التي يجوز توصيفها ب"الصورية " نظرا لتغييب دورها في فصل السلطات الثلاث، والدفاع عن الثوابت الوطنية، والحقوق المدنية في مجتمع حضري، لا مجتمعا محكوما بجدلية التنقل في هجرات موسمية الى مدينة العمل الوظيفي ـ نواكشوط ـ من (مدن) الأهل، والاحبة، والتعلق بالأخيرة في سبيل التشبث بالمكانة الاجتماعية في المجتمع " الآلي" ـ على رأي دوردوركايم ـ ، والمخيب للأمل أن يتساوى وعي المثقف مع باقي المواطنين الأميين، وكأني بالمواطن الموريتاني في رحلة "سندباد" البحري في قصيدة " رحل النهار ولم ترحلي" لبدر شاكر السياب،،
أخيرا: نجدد الدعوة الى ضرورة السمو بوعي المجتمع الى الوعي الحداثي، التحرري القومي تحديدا باعتباره أداة التغيير المطلوب لإسترجاع الهوية الوطنية، واسترجاع حقوقنا في ثرواتنا، واستقلالنا الوطني، واستحداث مجتمعنا، واستبعاث النهوض، وكذلك فهم الإسلام الصرف على صفائه الروحي وسيلة تقربنا الى الله زلفى، لا وسيلة سياسية للتقرب من الحاكم، أو عقد الصفقات الخيانية مع الأمبريالية التي تقوض رسالة الله بتدمير الأمة،، وهو ماجعلنا نعاني بما لا يقاس الا بمأساة البطل" دونكيشوت" في الرواية السيكولوجية" في عصور خلت، حيث اعتقد أن عدوه في جسمه، وبالتالي، كان التخلص من العدو، هو بالقضاء على الذات الجمعوية في غياب وعينا المخلص، والتمسك بغيره من الوعي الوهمي، والمراوحة فيه تختصر قصور فهم بعضنا، واكثر من ذلك معاناتها جميعا التي نتجرع مرارتها في عجزنا عن تغيير واقعنا السياسي جراء عدم تجاوز الوعي الانتهازي لدى نخبنا التي تمارس غواية تملق افرادها للنظام، ومنه تهديدهم السابق بمحاكمة الرئيس ــ كمعادل موضوعي للتمسك بهم سدنة له ــ ، ومن هو؟ إنه " دمى " فرنسية تهدد بالمحاكم، اذا لم تترشح في الانتخابات المزورة لا على أساس الكفاءة، او الوطنية، بل لإستحقاقها للحكم دون غيرها ــ على حد تعبيرابرز "نموذج" ممثل للطبقة المتوسطة التي راهن عليها معظمنا ولا زال ــ، ومع ذلك، فلا بديل عن التشبث بهذه "الطبقة " والنفخ فيها، كقربة مثقوبة ناشفة، لكن المسافر لازال يعلقها على "السنم"، والآمال المحبطة تسوق الجميع الى حفر التخلف، والكل يلتفت خلفه من حين لأخر توهما،، وبما أن معظم ساكنة الوطن في العاصمة نواكشوط الشاطئية، أو نواذيبو، فإن الطبقة، ك" القشة" بالنسبة للغريق، والسؤال هو الى متى نصحو من وعي الوهم؟
إشيب ولد أباتي