أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أن فرنسا بدأت بتنفيذ إجراءات تقيّد دخول مسؤولين لبنانيين إلى الأراضي الفرنسية، بتهمة عرقلة العملية السياسية في لبنان أو بسبب تورطهم بالفساد، وأنها "تحتفظ بحق اتخاذ إجراءات إضافية بحق كل من يعوق حلّ الأزمة اللبنانية بالتنسيق مع شركائنا".
وفي هذا الإعلان الفرنسي الذي يحصر العقوبات على مسؤولين لبنانيين بمنع السفر إلى فرنسا (من دون حجز أموالهم)، يظهر أن الأخيرة أعلنت فشل مبادرتها التي أتى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان بعد انفجار المرفأ في 4 آب/أغسطس 2020، كما يظهر تراجع النفوذ الفرنسي والعجز عن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والتمتع بنفوذ جدّي وحقيقي يجعل الفرنسيين يقررون في السياسة اللبنانية، كما كانوا يفعلون في محطات تاريخية عدّة.
ويعود سبب الإخفاق الفرنسي إلى عوامل عدّة، أبرزها ما يلي:
1- الإفشال الأميركي للمبادرة
لا شكّ في أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم تكن مستعدة لإعطاء الفرنسيين الضوء الأخضر لتنفيذ المبادرة وإنقاذ لبنان، في ظل سعي ترامب إلى ممارسة الضغوط القصوى على اللبنانيين لانتزاع موافقتهم على خط "هوف" لترسيم الحدود البحرية، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وتحجيم "حزب الله" في لبنان وإخراجه من المعادلة السياسية... هكذا، وفي ظل الاندفاعة الفرنسية لحلّ الأزمة اللبنانية، فرض الأميركيون العقوبات على مسؤولين سابقين، وتصلّبت السعودية في مواقفها تجاه لبنان.
2- أخطاء فرنسية في إدارة المبادرة
مباشرة بعد تسمية مصطفى أديب لترؤس الحكومة اللبنانية، أخطأ الفرنسيون أخطاءً قاتلة في إدارة المبادرة، وذلك بإيكال مهمة تشكيل الحكومة إلى ما يسمى "نادي رؤساء الحكومات السابقين"، فمارس هؤلاء الكيدية السياسية والإقصاء للمكوّنات اللبنانية الأخرى والكتل النيابية التي سمّت أديب أيضاً. ما قام به الفرنسيون، من ترك الأمر بيد السنيورة والحريري وميقاتي وسلام، أوحى كأن المبادرة الفرنسية وصفة لإقصاء الغالبية النيابية من السلطة، تحت ضغط التهديد بالعقوبات والانهيار الاقتصادي، وكأن المبادرة تأتي لتحقق ما عجزت الضغوط الأميركية القصوى على لبنان عن تحقيقه.
وفي المرحلة الثانية، بعد اعتذار أديب، أخطأ الفرنسيون في الرهان على قدرتهم على تذليل العقبات الداخلية والخارجية أمام سعد الحريري لتشكيل الحكومة عبر الضغوط والتهديد، واتكالهم على قدرته على إنضاج حل سياسي في لبنان فيما هو جزء من المشكلة نفسها، وخصوصاً بعد أن لمسوا تصلباً سعودياً في عدم قبوله لتشكيل الحكومة.
3- التهويل الفرنسي الذي لا يمكن صرفه أوروبياً
بعكس الولايات المتحدة الأميركية التي تستطيع فرض العقوبات على مَن تريد من معارضيها بواسطة قانون "ماغنتسكي"، الذي يعطيها هامشاً سياسياً واسعاً ومفتوحاً، فإن القوانين الأوروبية أكثر صرامة، ولا تدرج الاتهامات السياسية والفساد ضمن لائحة تمكّن فرض العقوبات.
لا شك في أن التهويل الفرنسي بفرض العقوبات على مسؤولين لبنانيين بتهمة "عرقلة تشكيل الحكومة والفساد"، اعترضته عوائق عدّة، قد يكون أبرزها:
أ- تهمة "عرقلة تشكيل الحكومة اللبنانية" هي تهمة سياسية، وليست جنائية، وبالتالي كيف يمكن للقضاء الفرنسي إصدار مذكرة بحجز أموال بناء على اتهام سياسي؟ كما أن تهمة الفساد تحتاج إلى إثباتات موثقة، وليس تصريحات إعلامية أو سياسية. وإذا كان الفرنسيون يودون فعلاً مساعدة الشعب اللبناني، فالأولى بهم أن يكشفوا عن تحويلات الأموال المهربة خارج لبنان، والناتجة من تبييض الأموال وسرقة المال العام الذي تمّ تحت أعين الأوروبيين وإلى بنوكهم.
ب- لا يتضمن القانون الأوروبي أي إشارة إلى إمكانية فرض العقوبات بناءً على اتهام سياسي أو اتهام بممارسة الفساد، وبالتالي لم يكن من الممكن فرض عقوبات أوروبية شاملة، كما سرّب الفرنسيون في السابق.
تشابهاً مع قانون "ماغنتسكي" الأميركي والبريطاني، أقرّ المجلس الأوروبي في 7 كانون الأول/ديسمبر 2020 نظام عقوبات ضد منتهكي حقوق الإنسان في العالم (لم يسمِّه "ماغنتسكي" لئلا يثير غضب الروس).
يمكّن هذا القانون الاتحاد الأوروبي من استهداف الأفراد والكيانات والهيئات - بما في ذلك الجهات الحكومية وغير الحكومية - المسؤولة عن الانتهاكات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، أو المتورطين فيها، أو المرتبطين بها في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن مكان حدوثها، وذلك عبر منع سفرهم إلى الاتحاد الأوروبي، وحجز أموالهم، ومنع الشركات الأوروبية من التعامل معهم.
لكن بخلاف قانون "ماغنتسكي" الأميركي الذي يتضمن خانة الفساد وسوء استخدام السلطة، إضافة إلى ارتكابات حقوق الإنسان، لم يذكر القانون الأوروبي الفساد وسوء استخدام السلطة مطلقاً، بل حدد بشكل دقيق الجرائم التي يمكن للأوروبيين فرض عقوبات بموجبها، وهي أعمال الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، والتعذيب والمعاملة أو العقوبة اللاإنسانية أو المهينة، والعبودية، والإعدام خارج نطاق القضاء، والإعدام التعسفي، والقتل، والإخفاء القسري للأشخاص، والاعتقالات خارج القضاء أو الاعتقالات التعسفية، أو أي انتهاكات أخرى لحقوق الإنسان إذا كانت واسعة النطاق أو منهجية، أو غير ذلك من الأمور التي تثير قلقاً خطِراً في ما يتعلق بأهداف السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي.
ج- إن شرط "الإجماع" الذي يحتاجه قرار العقوبات الأوروبي، يعطّل قدرة فرنسا على التفرد بالقرار وممارسة ضغوط لإصدار قرار أوروبي موحد. وبخلاف القانون الأميركي والبريطاني حول حقوق الإنسان (ماغنتسكي)، الذي يمكن أن تتخذه السلطة السياسية بطريقة انفرادية، فإن نظام العقوبات الأوروبي المتعلق بحقوق الإنسان يحتاج إلى تصويت "بالإجماع" داخل المجلس الأوروبي، وهو ما يتعذر تأمينه بشكل دائم، بسبب مصالح الدول المتباينة داخل المجلس.
وعليه، يبدو أن الفرنسيين أضاعوا فرصة ذهبية أتيحت لهم للعودة بقوة إلى الساحة اللبنانية، وهو ما يعد مؤشراً على تراجع الدور الفرنسي في الشرق الأوسط.
ليلى نقولا أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية