عانت القارة الأوروبية لقرون عديدة من حروب ونزاعات عسكرية متوالية صنعت أو اضمحلت خلالها امبراطوريات ودول وجرى تبديل للحدود وهجر السكان بالملايين.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فيما يسميه البعض القارة العجوز في 8 مايو 1945 بالاستسلام غير المشروط من قبل ألمانيا وحتى سنة 1991، لم يسمع صوت المدافع وعرفت المنطقة نوعا من الاستقرار رغم الحرب الباردة الدائرة بين الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو من جهة والولايات المتحدة والحلفاء في الناتو من جهة أخرى.
الأمور تبدلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك دول المنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا، حيث أدى الصراع من أجل كسب النفوذ إلى بروز خطر العودة إلى زمن الحروب الدامية سواء الإقليمية أو تلك المرشحة لأن تجر إلى حرب عالمية ثالثة.
شهدت القارة الأوروبية صراعين عسكريين رئيسيين الأول كان في حروب تفكيك جمهورية يوغوسلافيا في نطاق سلسلة من الصراعات العرقية والعصيان وحروب الاستقلال المنفصلة وتدخلات قوات حلف الناتو ولكنها كانت مرتبطة معا، وحدثت على أرض يوغسلافيا سابقا في الفترة بين عامي 1991 و 2001.
ثم جاءت الحرب الجورجية التي تشكلت من مواجهات دولية وصراعات عرقية في أقاليم أوسيتيا الجنوبية (1988-1992) وأبخازيا (1992-1993)، وكذلك أيضا انقلابا عسكريا عنيفا في 22 ديسمبر 1991 – 31 ديسمبر 1993 ضد الرئيس زفياد غامساخورديا، وانتفاضته اللاحقة في محاولة لاستعادة السلطة (1993).
وفي 7 أغسطس 2008 تدخلت موسكو عسكريا لحماية انفصال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بحكم الأمر الواقع عن جورجيا.
وفي مارس سنة 2014 بدأت حرب أوكرانيا وتسمى أيضا الحرب في الشرق، وهي نزاع مسلح في منطقة دونباس من أوكرانيا حيث خرجت مظاهرات من جانب السكان الروس الذين يشكلون الغالبية في مناطق دونيتسك وهانسك والتي يطلق عليها تسمية "دونباس". وفي نفس التوقيت تقريبا تم ضم شبه جزيرة القرم من قبل الاتحاد الروسي في مارس عام 2014 بعاصمتها سيمفروبول وذلك بعد استفتاء لسكانها وغالبيتهم من الروس.
النزاع سواء في جورجيا أو اوكرانيا جاء نتيجة خلاف حدودي.
الإمبراطورية الروسية سيطرت على القرم وضمتها إبان حكم كاثرين العظيمة في عام 1783، وظلت جزءا من روسيا إلى عام 1954 عندما قام الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف بإهدائها إلى جمهورية أوكرانيا السوفيتية آنذاك "من أجل تعزيز الوحدة بين الروس والأوكرانيين". كما قام خروشوف بإدخال تعديلات على الحدود الداخلية للجمهوريات المكونة للإتحاد والحق بها مناطق أخرى. وفي فترة إنهيار سلطة الكرملين وتفسخ السلطة المركزية لم يطلب الساسة الروس من الجمهوريات التي انفصلت تعديل الحدود وإعادتها إلى سابق عهدها، ولكن الأوضاع تبدلت بعد استعادة موسكو التدريجي لقوتها بعد تولي الرئيس بوتين رئاسة البلاد سنة 2000، وسعى السكان الروس في الدول المنفصلة إلى العودة إلى سلطة البلد الأم.
حركة التاريخ
الصراع من أجل السيطرة وبسط النفوذ سنة بشرية لا يكاد يخلو منها التاريخ الإنساني، حيث التنافس بين الأمم ومحاولات الهيمنة والتفوق تحرك التاريخ، بل وتصنع المستقبل في العديد من الحالات، ومن الأمثلة الدالة على دور الصراع والتنافس في رسم ملامح الأمم ما يوضحه المؤرخ البريطاني بريندان سيمز، في كتابه "أوروبا... الصراع من أجل الهيمنة من 1453 إلى الآن"، ويسعى من خلاله إلى إعادة تتبع تاريخ القارة الأوروبية من الصراعات والحروب المتواصلة التي رسمت حاضرها اليوم بعدما تركت ندوباً غائرة في وعيها ما زالت آثارها مستمرة حتى اللحظة.
وبعيداً عن التاريخ الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو الفكري للقارة، يرى الكاتب أن المحدد الأساسي لتطورها والثابت الوحيد في رسم معالمها هو الصراع بين قواها المختلفة على الهيمنة، بين من يحاول التكتل والنهوض ثم السيطرة، سواء أكان ألمانيا في فترة معينة، أو فرنسا في فترة أخرى، وبين القوى الأخرى المتوجسة والساعية لصدها، مع ما ينتج عن ذلك من حروب تعددت أسماؤها فيما هدفها الوحيد هو السيطرة على القارة. ومع أن أوروبا لا تتجاوز مساحتها 7 في المئة من إجمال الكرة الأرضية، فقد استطاعت منذ عام 1800 السيطرة على 35 في المئة من إجمالي الأرض، وتوسعت هيمنتها في 1914 لتشمل 84 في المئة من الكرة الأرضية، لكن ذلك لا يهم الكاتب في شيء، حيث يركز اهتمامه على الصراع الدائر داخل القارة الأوروبية نفسها، وهو منشغل بمحاولات الدول الأوروبية نفسها الهيمنة على القارة، هذه الأخيرة التي يحب الكاتب تنبيهنا إلى أنها على مدار تاريخها الطويل كانت ساحة للحروب المستمرة، من حرب "الوردتين" في إنجلترا بين الأسر المتنافسة على الحكم وحتى الحرب على الإرهاب.
الصراع في القارة العجوز أصبح منذ عقود عديدة يضم الامتداد الأوروبي على الضفة البعيدة للمحيط الأطلسي أي الولايات المتحدة الأمريكية، ويشكل جزء من تركيبة النظام العالمي.
في 27 سبتمبر 2020 وحتى 10 نوفمبر من نفس السنة خاضت أذربيجان وأرمينيا حربا جديدة حول مرتفعات قرة باغ انتصرت فيها أذربيجان واستعادت المنطقة التي كانت قد فصلت عنها في معارك متقطعة ما بين 1988 و 1994.
بعض المراقبين والمحللين يقدرون أن تلك المواجهة تشكل أحد العناصر التي تحرك الصراع المتجدد الأن حول شرق أوكرانيا على أساس أنه يمكن لحكومة كييف بدعم غربي استعادة المناطق التي انفصلت عنها وتحجيم دور موسكو رغم ما قد يفرزه ذلك من احتمالات حرب واسعة في وسط أوروبا خاصة على ضوء سعى الادارة الأمريكية لإضعاف روسيا وتعويض النكسات التي تعرضت لها سياسة البيت الأبيض سواء في سوريا وبعض مناطق الشرق الأوسط أو أفغانستان.
بداية من نهاية شهر فبراير 2021 تصاعدت الاشتباكات بين جيش كييف والانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا فيما اعتبر مؤشرا على تحرك حكومة أوكرانيا لإستعادة المنطقة.
أهداف واشنطن
يوم الثلاثاء 13 أبريل 2021 اعتبر نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، أن التصريحات الأمريكية التي مفادها أن روسيا ستدفع الثمن مقابل الوضع في دونباس ليست مقبولة. وأضاف ريابكوف للصحفيين: "يتحدثون عن ثمن باهظ، لكنهم لا يحددوه. كل ما فعلوه حتى الآن خبرناه جيدا، هذا أولا. وثانيا، تكيفنا معه، وثالثا، لا نعتقد أن استخدام مصطلحات مثل "الثمن والدفع" وغيرها مقبولة في إطار التصدي لأي أعمال نقوم بها. إننا ندافع عن مصالحنا وعن مصالح مواطنينا والسكان الناطقين باللغة الروسية وسنواصل الدفاع عنهم لاحقا".
وتابع: "لكن يبقى السؤال هنا هو ما هي الاستنتاجات التي ستخلص إليها كييف ورعاتها. لسوء الحظ هذه الاستنتاجات لا تخلق حالة إيجابية".
وأشار الدبلوماسي الروسي إلى أن أي تهديد لن يزيد روسيا إلا قناعة بأنها تمارس سياسة صحيحة.
وأوضح: "لأن الولايات المتحدة خصمنا تعمل ما بوسعها لتقويض مواقع روسيا على الساحة الدولية، ولا نرى في تعاملها معنا أي شيء آخر".
وتتهم الدول الغربية روسيا بتكثيف "الأعمال العدوانية" وتطالب بتفسير لتحركات القوات في شبه جزيرة القرم ومنطقة روستوف قرب الحدود الأوكرانية.
وصرح الكرملين في هذا الصدد بأن القوات تتحرك عبر الأراضي الروسية وهذا لا يهدد أحدا ولا ينبغي أن يزعج أحدا.
وأكدت موسكو مرارا أنها ليست طرفا في الصراع الأوكراني الداخلي وأنها مهتمة بأن تتغلب كييف على الأزمة السياسية والاقتصادية.
ويوم الاثنين 12 أبريل 2021 أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن موسكو تحذر تركيا ودولا أخرى من مغبة تشجيع "النزعة العسكرية" في أوكرانيا.
وذكر لافروف في أعقاب محادثات أجراها في القاهرة مع نظيره المصري سامح شكري: "نحث جميع الدول المسؤولة التي نتواصل معها، ومنها تركيا، على أن تقوم بتحليل الوضع والتصريحات النارية دائما للنظام في كييف، ونحذرها من تشجيع النزعة العسكرية (في أوكرانيا)".
وجاءت تصريحات لافروف هذه في تعليقه على سؤال عما إذا كانت روسيا قلقة من توريد أنقرة أسلحة لكييف، وذلك في ضوء نتائج الزيارة الأخيرة للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي إلى تركيا.
وفي ختام محادثاته مع زيلينسكي قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن التعاون العسكري بين أنقرة وكييف غير موجه ضد دول ثالثة.
وأعرب أردوغان عن أمله في نهاية التوتر شرقي أوكرانيا وأكد أن تركيا مستعدة لتقديم كل الدعم الضروري لذلك. وأشار إلى أن بعثة المراقبة الأوروبية الخاصة إلى أوكرانيا يجب أن تواصل مهمتها لتحقيق الاستقرار في منطقة دونباس.
وفي سياق آخر، أوضح أن هدف بلاده الأساسي هو أن يظل البحر الأسود واحة للسلام والاستقرار والتعاون.
كما تحدث أردوغان عن تتار القرم، حيث قال إن تحسين مستوى معيشة تتار القرم الذين اضطروا لمغادرة وطنهم، مسؤولية تاريخية وإنسانية.
وأكد دعم أنقرة لـ"منصة القرم" التي تهدف أوكرانيا من خلالها إلى توحيد المجتمع الدولي حول حقها في شبه الجزيرة.
وفي وقت سابق كشفت شركة "بايكار" التركية المتخصصة في تقنيات الطائرات بدون طيار أن أوكرانيا قد اشترت عددا من طائرات "بيرقدار" التركية المسيرة.
ويشير خبراء عسكريون في العاصمة الألمانية برلين إلى أن الدعم التركي لاوكرانيا يمكن أن يكون له تأثير وازن فقط إذا اقتصر الأمر على مواجهة الانفصاليين في دونباس، أما إذا تدخل الجيش الروسي فإن الأسلحة التركية لن تبدل الأمر.
أوكرانيا.. الاختبار الروسي لبايدن
جاء في تقرير نشر على موقع الحرة الأمريكي يوم 3 أبريل 2021: أدى تدهور الأوضاع العسكرية على الحدود الروسية الأوكرانية إلى تصاعد حدة التوتر السياسي بين البلدين، وصل إلى مستوى التهديدات بالحرب، وازدادت المخاوف من انفجار الأوضاع بعد تصريح لوزير الدفاع الأمريكي أثار حفيظة الكرملين، الذي سارع إلى الرد بعنف على البنتاغون. فقد أكد الأخير لكييف خلال اتصال أجراه وزير الدفاع الأمريكي مع نظيره الأوكراني أنه "في حالة تصعيد العدوان الروسي فإن الولايات المتحدة لن تترك أوكرانيا وحدها".
الكرملين من جانبه، سارع إلى رسم خطوطه الحمراء، وبعث برسالة صارمة لجميع المعنيين (أوكرانيا، أوروبا، الولايات المتحدة ومن خلفهم الأطلسي، بأنه لن يسمح بوجود قوات أمريكية في أوكرانيا تحت أي ذريعة. فبالنسبة لموسكو يمثل وجودهم على حدودها تهديدا مباشرا لأمنها القومي، لذلك حذرت أن الأمر سيزيد من حدة التوتر وسيدفعها إلى اتخاذ إجراءات إضافية لضمان أمنها. وأكد الناطق باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، أن " التصريحات الأوكرانية حول إمكانية ظهور عسكريين أمريكيين على الأراضي الأوكرانية، غير مقبولة وغير مناسبة".
في المقابل، فإن واشنطن التي اتهمت موسكو بمحاولة زعزعة أمن أوكرانيا، تتعرض لأول اختبار جدي في أوروبا، حيث باتت مصداقيتها على المحك بسبب ضيق خيارتها، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بالدفاع عن حلفائها، وحماية أمن أوروبا الجماعي من الخطر الروسي المتجدد، ما يضع إدارة بايدن أمام أول اختبار لمصداقيتها في تنفيذ وعودها بإعادة بناء الثقة والشراكة بين ضفتي الأطلسي وعودة واشنطن لقيادة العالم الحر والدفاع عنه.
من جهتها تقوم موسكو بعملية حشد لقواتها على طول الحدود الشرقية، تظهر استعداداتها للقيام بعملية عسكرية في عمق الأراضي الأوكرانية، ما دفع كييف إلى التخوف من سيناريو روسي جديد شبيه بما جرى في شبه جزيرة القرم، يكون أقرب إلى حركة استباقية روسية لقطع الطريق على أي مناورة تقوم بها كييف تهدف إلى تغيير الواقع الميداني في إقليم دونباس الانفصالي الذي تسيطر عليه قوات موالية لموسكو.
إن دفع موسكو بأرتالها العسكرية إلى الحدود الأوكرانية وتموضعها هناك أقرب إلى إنذار مبكر لكييف بعدم القيام بمغامرة عسكرية لاستعادة أراضي دونباس، خصوصا بعد أن حصلت على وعود أمريكية بدعمها، واحتمال حصولها على أسلحة أمريكية فتاكة تؤمن لها توازنا ميدانيا، إضافة إلى تطويرها لسلاح المسيرات مع تركيا، الأمر الذي زاد من شكوك موسكو باحتمال قيامها بحرب تكتيكية خاطفة تستعيد فيها مناطق من إقليم دونباس على غرار الحرب التي خاضتها باكو في إقليم ناغورني قراه باغ.
إلى جانب التوترات العسكرية، يخوض البلدان مواجهة دبلوماسية يحاول كل طرف لي ذراع الآخر، فقد عملت موسكو في الأسابيع الأخيرة على تهميش دور كييف في رباعية النورماندي، ولجأت إلى الحوار مباشرة مع أفراد مجموعة فرنسا وألمانيا. ومن المؤكد أن اجتماع الترويكا الأوروبية الأخير روسيا فرنسا ألمانيا ومحاولات التقرب مع روسيا قد أثارت ريبة كييف، خصوصا أن موسكو تخطط لتحقيق انتصار دبلوماسي عليها وإجبارها تطبيق بنود اتفاقية مينسك.
يقول الخبير المتخصص بالشأن الأوكراني في المجلس الأطلسي بيتر ديكنسون إنه: "من الواضح أن ألمانيا اليوم مهتمة بإتمام مشروع "نورد ستريم 2" لنقل الغاز الروسي إليها مباشرة، وبغض النظر عن تداعياته السياسية والأمنية". لا شك أن الاهتمام الأوروبي بروسيا ومحاولة تطمينها وعدم الانجرار وراء التصعيد الأمريكي معها، دفع النخبة السياسية الأوكرانية إلى اعتبار ما جرى في لقاء الترويكا أشبه بتواطؤ أوروبي مع روسيا ضد أوكرانيا، لذلك تعالت الأصوات في كييف بالدعوة إلى التفاهم أكثر مع واشنطن ومنحها مجالا سياسيا يوازي دور الرباعية.
يذكر أن وكيل وزارة الخارجية الفرنسية لشؤون الاتحاد الأوروبي، كليمان بون، صرح يوم الخميس 15 أبريل أنه لا يرى أفقا جديا لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. وأضاف في بث إذاعة "Radio J"،: "يمكن أن تكون علاقاتنا مع أوكرانيا جيدة، ويمكن أن نؤيد أوكرانيا. وهذا ما نعمله في الوضع الصعب الحالي مع روسيا. لكن ذلك لا يعني الانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. ولا أعتقد أنه يوجد هناك أفق جدي لذلك".
الضغط الروسي على كييف لا يمكن فصله عما تتعرض له القوى السياسية الأوكرانية الموالية لموسكو، خصوصا بعد قرار إقفال 3 محطات تلفزيونية تابعة للمعارضة، التي تراجع حضورها بسبب تراجع شعبية القوى السياسية الموالية لموسكو، إذ يؤكد أستاذ العلوم السياسية في أكاديمية "مو هيلا" الأوكرانية تاراس كوزيو قوله "كانت هذه القوى قادرة على تشكيل الأغلبية البرلمانية والفوز بالانتخابات الرئاسية قبل عقد من الزمن، لكنها تكافح الآن لاجتياز حاجز 20 في المئة في الإنتخابات الوطنية".
وعليه لا تبدو كييف مطمئنة للموقف الأوروبي، ولا يمكنها أن تقف وحيدة بوجه مغامرة روسية محتملة، لذلك باتت المسؤولية تقع على عاتق إدارة بايدن، فهل ستقرن أقوالها بالأفعال وتعود مرة جديدة إلى الواجهة أو المواجهة على حدود أوروبا الشرقية حيث تتملك موطئ قدم على مرمى حجر من موسكو.
الأسلحة النووية
خلال الثلث الأول من شهر أبريل 2021 كتب دوغلاس ماكغريغور، المستشار السابق لوزير الدفاع في إدارة ترمب، في مجلة "ذي أمريكان كونسيرفتف"، إن الوعد الأمريكي بدعم كييف في الموقف من دونباس فارغ تماما.
وأعرب ماكغريغور عن اعتقاده بأن رفض الولايات المتحدة الاعتراف بأهمية الجزء الشرقي من أوكرانيا لأمن روسيا، وكذلك التصريحات الصاخبة من قبل كييف حول نيتها استخدام القوة المسلحة في هذه المنطقة، يؤدي عمليا وبشكل حتمي إلى تأجيج الصراع بين موسكو وواشنطن.
ويرى الخبير أن الإدارة الأمريكية "لا يوجد بها شخص بالغ يتحدث علانية ضد الصقور المتشددين الذين لا يدركون العواقب المحتملة لهذا الصراع".
وذكر مكغريغور في هذا السياق: "إن تعهد الرئيس بايدن بدعم الرئيس الأوكراني يوحي بأنه يشرب أيضا من نبع مسموم للحكومة الأمريكية الضعيفة والإدارة العسكرية".
ولفت المستشار العسكري الأمريكي السابق إلى أن موسكو بفضل العدد الكبير وتدريب الجيش الروسي، ستحرز النصر في حالة اندلاع حرب مع أوكرانيا، حتى مع تدخل القوات الأمريكية وحلفاء الناتو، ومن غير المرجح أن تحرز القوات البرية للجيش الأمريكي ومشاة البحرية النصر، ولا يجدر التعويل إلا على القوات الجوية.
ونصح مكغريغور حتى في مثل هذه الحالة بعدم الاستهانة بأنظمة الدفاع الجوي الروسية المزودة بهوائي مصفوف مرحلي، مشيرا إلى أن بعض مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية يخشون بوجه خاص من أن حتى الطائرات مثل "إف – 22" و"إف – 35" و"بي – 2" معرضة لخطر التدمير بفضل أحدث أنظمة الدفاع الجوي الروسية "إس – 500".
ولم يستبعد في الوقت نفسه احتمال استخدام روسيا الأسلحة النووية إذا لجأت الولايات المتحدة إلى الأسلحة النووية التكتيكية.
قوات معادية
يوم الثلاثاء 13 أبريل صرح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بأن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ينقلان قوات لهما إلى حدود الجزء الأوروبي القريب من روسيا ، مع التركيز على منطقتي البحر الأسود والبلطيق.
وأضاف شويغو في اجتماع بمدينة سيفيرومورسك شمالي البلاد: "الآن يتم نقل قوات أمريكية من الوحدات المتمركزة في أمريكا الشمالية عبر المحيط الأطلسي إلى أوروبا. وتتحرك القوات في أوروبا باتجاه الحدود الروسية. وتتركز القوات الرئيسية في منطقتي البحر الأسود والبلطيق."
وأوضح الوزير أن الناتو بصدد حشد 40 ألف جندي و15 ألف قطعة من الأسلحة والمعدات العسكرية، بما فيها الطيران الاستراتيجي، بالقرب من حدود روسيا.
وأشار إلى أنه "يتم تعزيز القوات الأمريكية المرابطة في بولندا ودول البلطيق، وتتضاعف كثافة الاستطلاع الجوي مقارنة بعام 2020، فيما زادت كثافة الاستطلاع البحري بمقدار النصف".
وشدد شويغو على أنه "سنويا ينظم الناتو في أوروبا ما يصل إلى 40 فعالية تدريبية عملياتية كبيرة لها طابع مناهض لروسيا بشكل واضح. وفي ربيع هذا عام 2021، انطلقت القوات المسلحة المشتركة للحلف في تدريبات Defender Europe 2021 وهي الأوسع نطاقا من نوعها منذ ثلاثين عاما".
وأكد شويغو أن روسيا تتخذ إجراءات ردا على أنشطة الناتو العسكرية المهددة لها، مضيفا أن تدريبات كبيرة للجيوش والقوات المحمولة جوا أظهرت استعدادها الكامل لضمان أمن البلاد.
وذكر: "في إطار إجراءات المراقبة والتدريبات خلال فترة التدريب الشتوية، تم إجراء فحص مفاجئ للجاهزية القتالية لقوات المنطقتين الغربية والجنوبية العسكريتين، حيث تم "نشر جيشين وثلاث وحدات محمولة جوا بنجاح في غضون ثلاثة أسابيع على الحدود الغربية للبلاد.
وذكر شويغو أن الأسطول الشمالي أيضا يعزز قدراته القتالية ويمكنه التصدي بشكل فعال لما يواجه روسيا من تحديات وتهديدات في القطب الشمالي.
وجهة نظر غربية
ذكرت الأكاديمية في مجال السياسة بجامعة أكسفورد ببريطانيا، ليانا سيمشوك، في مقال لها بموقع "ناشونال إنترست" الأمريكي: إن التعزيز الروسي الأخير لقوات يبلغ قوامها 80 ألف جندي على حدودها الغربية مع أوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم، وضع المجتمع الدولي في حالة تأهب قصوى، مضيفة أن هناك مخاوف واسعة النطاق بشأن نوايا موسكو وتهديد محتمل بالحرب.
وأشارت سيمشوك إلى أنه من الناحية الفنية، فإن موسكو وكييف في حالة حرب منذ أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في 2014، ودعمت القوات الانفصالية في المناطق الشرقية لأوكرانيا. واستبعدت الكاتبة أي حل للأزمة بين الدولتين قريبا، نظرا للأهمية الإستراتيجية لأوكرانيا بالنسبة لروسيا.
وأوضحت أن هناك عوامل ترجح استبعادها لحرب وشيكة، وهي:
بعد انتخاب جو بايدن رئيسا لأمريكا، كان التدهور في العلاقات بين موسكو وواشنطن متوقعا، حيث كان تصاعد الأعمال العدائية في شرق أوكرانيا أحد السبل، التي من المرجح أن تظهر بها روسيا هيمنتها.
كان هناك تكثيف مؤخرا للمناقشات حول تسريع أوكرانيا لعضويتها في الناتو، علما بأن موسكو تعارض ذلك بشدة.
في فبراير 2021، كثف الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، جهوده الرامية إلى الحد من نفوذ القوى السياسية الموالية لروسيا في أوكرانيا.
فشلت موسكو حتى الآن في حل مشكلات انعدام الأمن المائي المزمنة في شبه جزيرة القرم، والتي تعهدت بمعالجتها بحلول صيف 2021، بعد أن قطعت كييف إمدادات المياه عن شبه الجزيرة. وما يزال هذا يؤدي إلى تكاليف باهظة للغاية بالنسبة لموسكو، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن السيطرة على شبه جزيرة القرم كلف روسيا حوالي 23 مليار دولار أمريكي خلال السنوات الخمس الماضية. لذلك، قد يكون الحشد العسكري الأخير وسيلة للضغط على كييف بشأن هذه القضية.
زادت تركيا مؤخرا دعمها لأوكرانيا وأدانت العدوان الروسي خلال اجتماع بين الرئيسين التركي والأوكراني في 12 من شهر أبريل. وأفادت تقارير أن روسيا أعربت عن مخاوفها بشأن وجود طائرات تركية بدون طيار في أوكرانيا، ومن المرجح أن تكون هذه القضية مثيرة للجدل بشكل خاص بالنظر إلى أن العلاقات الروسية التركية تعرضت لتوتر شديد، بعد أن قدمت تركيا دعما قويا لأذربيجان في حربها عام 2020 مع أرمينيا، واعتبرت روسيا هذا تدخلا في مجال نفوذها الإقليمي.
ورغم هذا التصعيد، تقول الكاتبة، فإن خطر المواجهة العسكرية بين البلدين أو الغزو الروسي الصريح لأوكرانيا يظل حاليا غير مرجح نسبيا، للأسباب التالية:
هناك سابقة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في استخدام المغامرات في السياسة الخارجية، لتعزيز معدلات قبول الجمهور به، مثل ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. لذلك، ربما يكون هدفه من التصعيد الحالي هو تعزيز معدلات قبول الجمهور به قبل الانتخابات البرلمانية الحاسمة في سبتمبر 2021، لكن من المرجح أن تكون التكاليف الاقتصادية المحتملة، التي قد يجلبها مثل هذا التدخل، كبيرة للغاية.
بداية شهر أبريل فرضت واشنطن عقوبات جديدة على روسيا تقيد شراءها ديونا سيادية جديدة. وهذا أمر مهم يظهر أن الرئيس الأمريكي جو بايدن مستعد لدعم خطابه بالأفعال.
أي توسع روسي إضافي في الأراضي الأوكرانية ستكون نتائجه أكثر ضررا بالاقتصاد الروسي، إلى جانب أن احتمال تحويل خط سير أنابيب الغاز الروسي "نورد ستريم 2" إلى ألمانيا قد يكون مكلفا للكرملين للغاية.
يوم الخميس 15 أبريل 2021 صرح قائد القوات الأمريكية في أوروبا، الجنرال تود وولترز، إن احتمال غزو روسيا لأوكرانيا في الأسابيع المقبلة "تقلص إلى النصف"، وذلك بعدما شهدت الحدود بين الدولتين حشداً عسكريا.
وردا على سؤال أمام لجنة بمجلس النواب الأمريكي حول التصعيد الأخير بين روسيا وأوكرانيا، قال قائد القيادة الأوروبية للجيش الأمريكي "يوكوم" الذي يقود أيضا قوات حلف شمال الأطلسي، إنه "قلق للغاية".
لكن عندما طلب منه نائب تقييم احتمال غزو أوكرانيا في الأسابيع المقبلة، أجاب: "تقلّص إلى النصف".
ثم سأله نائب آخر عما إذا كانت فرص الغزو ستزداد بعد بضعة أسابيع، فأجاب أن ذلك يعتمد على التحركات التالية للقوات الروسية. وأضاف: "شعوري، بالنظر إلى ما أراه حاليا، هو أن هذا الاحتمال سينخفض".
جوستاف جريسيل، كبير زملاء السياسة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في برلين قال: "من الناحية المعنوية، إنهم يريدون في موسكو إذلال أوكرانيا، فهم يريدون الضغط على كييف لتقديم تنازلات سياسية يمكنهم استخدامها لإدارة البلاد من وراء الكواليس. هذا هو الهدف من خطوة الحرب برمتها".
والموقف الرسمي للكرملين هو أنه يتوقع وفاء كييف بشروط ما يعرف باتفاقيات مينسك، التي وقعتها أوكرانيا في عام 2015 عندما ساء وضع الحرب في دونباس.
ويدعو هذا الإجراء إلى إقرار وضع خاص بخصوص منطقتي دونيتسك ولوغانسك، اللتين قدمت روسيا لسكانهما أكثر من 500 ألف جواز سفر روسي. ويعتقد العديد من الأوكرانيين أن نية روسيا الحقيقية هي استخدام هذا الوضع لعرقلة تطلعات أوكرانيا لعقد علاقات أوثق مع أوروبا أو الانضمام إلى حلف الناتو يوما ما.
هل تراجعت واشنطن ؟
بينما تتأرجح الأوضاع في وسط أوروبا بين التصعيد والتهدئة يرى مراقبون أن البيت الأبيض يسير على خط يبعده عن التورط في نزاع مباشر مع موسكو ولكنه في نفس الوقت لا يشجع كييف على فعل نفس الأمر.
كتب قسطنطين كوريليف، في "إكسبرت أونلاين"، حول مخاطر نشوب حرب في منطقة البحر الأسود بعد حشد عدة دول قطعات من جيوشها هناك.
وجاء في المقال: تدرس الولايات المتحدة إرسال سفن حربية إلى البحر الأسود في الأسابيع المقبلة. وقد صرح متحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية لشبكة CNN بأن هذا الإجراء سيتم اتخاذه لدعم أوكرانيا وسط زيادة حشد القوات الروسية بالقرب من حدودها. هكذا تنوي الولايات المتحدة الاستجابة للوضع الذي تفاقم مؤخرا في دونباس.
بالإضافة إلى نيتها إرسال مدمرات إلى البحر الأسود، تواصل البحرية الأمريكية التحليق بطائرات استطلاع في المجال الجوي الدولي فوق البحر الأسود. الغرض من هذه الطلعات الجوية هو مراقبة تصرفات البحرية الروسية وتحركات القوات الروسية في شبه جزيرة القرم.
ومن خلال أن موسكو ترى في مثل هذه الإجراءات استعراضا للقوة ونية لردع روسيا، فهي تسعى بدورها أيضا إلى تعزيز موقفها من خلال نقل قوات إضافية إلى المنطقة. بدأت أكثر من عشر سفن وزوارق مدفعية "شميل" ومراكب إنزال من فئة "ديوغون" و"سيرنا" من أسطول بحر قزوين الانتقال من هناك إلى البحر الأسود في إطار تدريبات عسكرية.
هناك وضع متوتر للغاية آخذ في التطور: فبالإضافة إلى السفن الروسية والأمريكية، هناك سفن من دول ثالثة عضوة في الناتو، ولا سيما تركيا ورومانيا، في البحر الأسود. وعلى الرغم من أن من غير المرجح حدوث صدام مسلح متعمد، إلا أن حشد عدد كبير من السفن الحربية في منطقة النزاع بطريقة أو بأخرى يخلق مخاطر محتملة لجميع المشاركين. فأي حادث غير مقصود، أو عامل بشري، وحتى أي استفزاز يمكن أن يصبح مصدر تطور لأحداث لا يمكن التنبؤ بها، حيث أن العتبة الأمنية في المنطقة منخفضة للغاية اليوم.
من جانبها كتبت نتاليا ماكاروفا، في "فزغلياد"، حول أسباب اتصال الرئيس الأمريكي بالرئيس فلاديمير بوتين،
وجاء في المقال: جرت، يوم الثلاثاء 13 أبريل، بمبادرة من الولايات المتحدة، محادثة هاتفية بين الرئيسين فلاديمير بوتين وجو بايدن. وخلال المحادثة، أعرب الرئيس الأمريكي عن اهتمامه بتطبيع الأمور "على المسار الثنائي" واقترح عقد قمة في دولة ثالثة لبحث النطاق الكامل للقضايا التي تواجهها موسكو وواشنطن. وفي اليوم نفسه، اقترحت النمسا عاصمتها فيينا منصة للمباحثات بين زعيمي روسيا والولايات المتحدة.
وفي الصدد، قال الباحث السياسي الأوكراني ميخائيل بوغريبينسكي لـ"فزغلياد"، في معرض تعليقه على المحادثة الهاتفية: "لقد استعرضت روسيا قبضة عسكرية خطيرة لدرجة أنها جعلت بايدن يتصل بالكرملين". "واقعة أن هذا الاتصال جرى الآن تشير إلى أن موسكو نجحت في تحقيق أهدافها. فمن خلال نقل قواتها إلى الحدود الغربية، استعرضت روسيا قبضة عسكرية خطيرة لا يمكن تجاهلها. لو جرى استخدامها، لكانت قد أدت إلى سحق القوات المسلحة الأوكرانية، ولما كان لدى أحد الوقت لمساعدتها".
وبحسب ضيف الصحيفة، "هذه هي الحالة بالضبط عندما لا تفهم الولايات المتحدة التصريحات الدبلوماسية، إنما استعراض القوة .. واقعة الاتصال تزيل بلا شك التوتر الرمزي المرتبط بتصريحات بايدن الفظة. يمكن تأويل الاتصال كشكل من أشكال الاعتذار من الولايات المتحدة".
"لكن من المستبعد أن يحلو لكييف الرسمية مثل هذا الاتصال. ومع ذلك، في لعبة العمالقة الجيوسياسيين، لا مكان للقيادة الأوكرانية في أي قرار".
البعد التاريخي
جاء في تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي خلال شهر أبريل2021: لأوكرانيا أهمية كبيرة بالنسبة لروسيا بطبيعة الحال،فتاريخيا هي مهد حضارة مملكة "كييف روس"، والعرق السلافيالمنتشر بين أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا.
وسياسيا واقتصاديا، أوكرانيا جارة رئيسية بالنسبة لروسيا،وتتمتع بثروات وإمكانيات عسكرية وصناعية وزراعية واسعةوضخمة، وموقع جغرافي يفصل بينها وبين "معسكر القوىالغربية".
وأما ثقافيا واجتماعيا، فيرتبط البلدان بعلاقات كبيرة، وخاصة فيالمناطق الحدودية.
كل هذه الأمور جعلت من أوكرانيا "حديقة خلفية" بالنسبة لموسكوالتي ترفض التخلي عنها وتَحولها إلى "وصاية الغرب" بعد عقودالتبعية والموالاة، إن صح التعبير.
منذ انفصال أوكرانيا عام 1991، شهدت العلاقات الأوكرانيةالروسية كثيرا من أحداث وفترات التوتر، لكنها لم تبلغ حد العداءإلا في نهاية 2004، عندما اشتعلت في أوكرانيا "ثورة برتقالية" ميالة نحو الغرب.
عندها، دخل الغرب بقوة على خط العلاقات، داعما انحياز الثورةنحوه، لكن الحكم عاد بقوة إلى الموالين لروسيا في 2010.
وباندلاع احتجاجات "الميدان الأوروبي" في نهاية 2013، أخذالمشهد الأوكراني بعدا آخر تعاظم فيه التوجه الغربي والدورالقومي، على حساب انحسار أدوار وتأثير "الموالين لروسيا".
ويرى خبير الشؤون الأوكرانية في مركز "الأطلسي" للدراساتالكاتب بيتر ديكنسون، أن "حقيقة تراجع الرغبة الشعبية بالعودةإلى علاقات الماضي مع روسيا، وغياب الحنين إلى فترات الوحدةمعها في ظل الاتحاد السوفياتي أمر باعد الدولتين، وقد يشكلعدوى بين الدول الأعضاء في الاتحاد الروسي أيضا، لذلك يجبأن "يحارب" وفق العقلية السياسية الروسية"، على حد قوله.
استنادا إلى ما سبق، ترفض روسيا عضوية أوكرانيا في أي تكتلغربي، وخاصة حلف الناتو، وتعتبر ذلك تهديدا مباشرا لأمنها.
ولهذا بحسب خبراء كثر تسعى إلى عرقلة مساعي أوكرانيا فيذلك الاتجاه، والإبقاء عليها منطقةً رمادية فاصلة مع القوى الغربيةكأقصى ما يمكن، بعد أن بات خيار "عودة الولاء" مستبعدا.
ويرى الخبراء أيضا أن ذلك جعل أوكرانيا ساحة حرب غير معلنةبين روسيا والغرب لا تزال في مرحلة البرودة والجمود حتى يومناهذا.
لا تملك كييف الكثير من أدوات الضغط على موسكو، والعكس غيرصحيح، لأن الأخيرة تمسك بعدة أدوات وملفات وقضايا، نذكر منأبرزها:
-ضم القرم وعسكرتها، وهو ما تعتبره أوكرانيا احتلالا لأراضيها.
-دعم الانفصاليين في شرق البلاد، الذين لا يخفون أحلاماتوسعية تكاد تبلغ نصف مساحة أوكرانيا.
-ورقة الغاز المتمثلة بمشروع "نورد ستريم 2" (Nord Stream2) الذي يهدد شبكات النقل الأوكرانية.
-بطبيعة الحال، يتخوف معسكر الغرب من تنامي النفوذ العسكريوالاقتصادي في المنطقة، وهنا تبرز أكثر مخاوف دول البلطيقوبولندا التي كانت يوما جزءا من الكتلة السوفيتية أيضا، وتخشىمن "أطماع استعادة الأمجاد السابقة لدى بوتين".
وينظر المراقبون باهتمام إلى تطور موقف أنقرة من الأزمة، وهيالمعنية أيضا بالحد من تنامي النفوذ الروسي شمالا وجنوبا، فيالبحر الأسود وسوريا.
ويرى إيليا كوسا خبير العلاقات الدولية في "المعهد الأوكرانيللمستقبل" أن "روسيا لا تريد حربا واسعة، لكنها تستعد لها،واليوم في الوقت الذي تنشر فيه داخليا مخاوف من "تهديدالغرب" تقوم عمليا هي بتهديده (الغرب والناتو)".
ويقول الخبير "نتوقع زيادة الدعم الأمريكي لأوكرانيا، دونالمخاطرة بضمها إلى الناتو، الأمر الذي سيفتح أبواب جهنم،وبالمقابل، ستزحف روسيا شيئا فشيئا بقواتها، استعدادا لحربيبدو أنها حتمية في المستقبل القريب أو البعيد".
ويقول محللون غربيون أنه كما حدث في عام 2014، تبدو أوكرانياالهدف الأضعف الذي يمكن لروسيا مناوشة ومعاقبة الغرب منخلاله، وساحة تستطيع موسكو من خلالها استعراض قدراتهاالعسكرية الأمنية في مواجهة دولة أضعف كثيراً من روسيا وأقلسكاناً، ويزيد الطين بلة بالنسبة لأوكرانيا النفوذ الروسي الذي لايمكن إنكاره على قطاع كبير من الشعب الأوكراني.
أمة منقسمة
لدى أوكرانيا أهمية إستراتيجية على مدى التاريخ لم تحظ دوماًبالعناية الكافية. واليوم، يبدو أن البلاد في الخطوط الأماميةلتنافس متجدد بين القوى العظمى يقول العديد من المحللين إنهسيهيمن على العلاقات الدولية في العقود المقبلة.
ويمكن معرفة أهمية أوكرانيا من حقيقة أنها كانت الجمهوريةالأكثر أهمية في الاتحاد السوفيتي السابق بعد روسيا، فلقدكانت الثانية في السكان والثالثة في المساحة، وكانت سلة قمحالاتحاد السوفيتي وما زالت منتجا مهما للحبوب وموطنا مهماًللصناعات السوفيتية الثقيلة والعسكرية والتكنولوجية ورثت قدراتمهمة في هذا المجال رغم جمودها.
اللهفة على الغرب لا تعكس حقيقة هوية أوكرانيا في الانتخاباتالأخيرة، أشار الأوكرانيون بوضوح إلى أنهم يرون مستقبلهم فيأوروبا.
لكن هذه اللهفة تخفي حقيقة وضع أوكرانيا المعقد، فأوكرانيا كانتدوماً إقليماً انتقاليا بين روسيا وبقية أوروبا، ولذا بقدر ما هناكمؤثرات أوروبية كبيرة في هذه البلاد، جاءت عن طريق بولندابشكل كبير فإنها في الواقع جزء من العالم السلافي الكبير الذيتمثل روسيا محوره وتعد روسيا البيضاء المكون الثالث فيه.
بينما يتطلع نسبة كبيرة من الأوكرانيين على الأرجح أغلبيتهمليكونوا جزءا من أوروبا أو بالتحديد الاتحاد الأوروبي، ورغمنظرتهم السلبية لتاريخ ارتباطهم مع روسيا، فإن الواقع أن البلدينتربطهما روابط ثقافية واقتصادية وسياسية عميقة.
تعتبر أوكرانيا من نواح كثيرة مركزية لهوية روسيا ورؤيتها لنفسهافي العالم، فنشأة الهوية والأمة الروسية الأولى كانت في أوكرانياوعاصمتها كييف واسم روسيا جاء في الأغلب من اسم دولة"روس كييف" التي تمثل أول دولة سلافية شمالية والتي يعتبرهاالروس السلف الأول لدولتهم التي نشأت حول موسكو بعد ذلك.
ومن المعروف أن الأوكرانيين والروس والبيلاروس يشتركون فيأنهم ينتمون للعرق السلافي، الذي يتضمن أغلب شعوب أوروباالشرقية البولنديين، والتشيك والسلوفاك، والصرب، والكروات،والسلوفينين، والبلغار.
ولكن الأوكرانيين والروس والبيلاروس تحديدا يشكلون فرعاً محدداًمن العرق السلافي يطلق عليه "السلافيون الشماليون"، وتحولهذا العرق إلى شكل الدولة لأول مرة في أوكرانيا وليس روسيا،قبل أن ينتقل المركز الحضاري للسلاف الشماليين لموسكو بسببالغزوات المغولية.
ويشار إلى كييف، عاصمة أوكرانيا، أحياناً على أنها "أم المدنالروسية"، على قدم المساواة من حيث التأثير الثقافي مع موسكووسانت بطرسبرغ.
وفي كييف في القرنين الثامن والتاسع تم جلب المسيحية منبيزنطة إلى الشعوب السلافية الشمالية.
وكانت المسيحية بمثابة المرساة لدولة روس كييف، الدولة السلافيةالمبكرة التي استمد منها الروس والأوكرانيون والبيلاروسيوننسبهم.
وبينها تعرضت أوكرانيا لتأثيرات تترية وبولندية كبيرة جراءخضوعها لحكم البولنديين والتتار لقرون، فإن روسيا القيصريةطردت الدولتين، ثم قضت عليهما.
النتيجة أن ما يقرب من ثمانية ملايين من أصل روسي يعيشونفي أوكرانيا، وفقا لتعداد عام 2001، معظمهم في الجنوبوالشرق، حيث تشير تقديرات إلى أن الروس يمثلون نحو 17 فيالمئة من السكان.
واللغة الروسية أكثر انتشاراً في أوكرانيا، إذ يعتقد أنه في عام2001 كان نحو 30 في المئة من السكان يتكلمون الروسية، كلغةأولى، كما كانت اللغة الروسية هي اللغة المهيمنة فعلياً خلال العهدالسوفيتي رغم أن الأوكرانية اللغة الرسمية.
وتصل نسبة المتكلمين باللغة الروسية 2001 إلى نحو 74.9 فيالمئة و68.8 في المئة في إقليمين من أقاليم شرق البلاد المتاخمةلروسيا، وبصفة عامة تنتشر الروسية في جنوبي وشرقي البلادوبصورة أقل الشمال، فيما تسود الأوكرانية في وسط وغربيالبلاد.
وبعد الانهيار السوفيتي، اعتبر العديد من السياسيين الروس أنالطلاق مع أوكرانيا خطأ في التاريخ وتهديد لمكانة روسيا كقوةعظمى. فقد اعتبر الكثيرون أن خسارة السيطرة الدائمة علىأوكرانيا، والسماح لها بالسقوط في الفلك الغربي، بمثابة ضربةكبيرة لمكانة روسيا الدولية.
ما قد يكون أخطر من التهديد الروسي على أوكرانيا هو الانقسامالداخلي العميق، فالبلاد مقسمة بين المتحدثين باللغة الأوكرانيةفي الغرب والوسط المتحدثين بالروسية في المناطق الشرقية، وكلمنطقة لها ذاكرة جماعية لعلاقاتها الثقافية مع إمبراطورياتهابسبورغ أو الإمبراطوريات الروسية.
وانعكس هذا الانقسام والتدخل الروسي والغربي على السواء،والفشل الاقتصادي للبلاد التي أصبحت من أفقر البلاد فيأوروبا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في تقلبات سياسية أدت إلىوصول قوى موالية للغرب تارة وموالية لروسيا تارة أخرى.
عمر نجيب