تركيا... تحولات السياسة الخارجية بين الحقيقة والمناورة... الأزمات المتشابكة وخيار العودة إلى سياسة صفر مشاكل مع الجيران

ثلاثاء, 2021-03-16 08:28

سجل شهر مارس 2021 تزايدا ملحوظا في التصريحات والبلاغات الرسمية والأنباء الصحفية المتعلقة بحدوث تحول جذري في السياسة التركية تجاه العديد من الدول العربية، وقد وصل الأمر ببعض الملاحظين إلى وصف هذا التحول بالثورة في السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة.

 حكومة تركيا أعلنت على لسان الكثير من مسؤوليها وفي مقدمتهم الرئيس أردوغان عن رغبتها في تحسين العلاقات مع مصر ودول الخليج العربي وذلك بعد حوالي عشر سنوات من التوتر والبرودة، وفيما يخص الحرب شبه الدولية الدائرة على أرض بلاد الشام تحركت أنقرة في اتجاه اعتبره بعض الملاحظين مؤشرا على التوجه نحو إنهاء تدخلها في سوريا ومحاولاتها إسقاط حكومة دمشق. في نفس الوقت ظهرت مؤشرات على نية حكومة تركيا الخروج من تكتيك تقلب المواقف تجاه روسيا والولايات المتحدة.

أسباب عديدة طرحت في محاولة لتفسير هذه التحولات السياسية التركية، منها الأزمة الاقتصادية وتبدل القيادة في واشنطن وسعي الرئيس أردوغان إلى العودة إلى مبدأ صفر مشاكل مع الجيران مع قرب موعد الاستشارات الانتخابية في تركيا وغير ذلك.

بعض المحللين قدروا أن ما تمارسه حكومة تركيا ليس سوى تبديلا في الأسلوب والمناورة مع الإبقاء على الأهداف الإستراتيجية القديمة.

 

لا مشاكل مع الجيران

 

جاء في تقرير نشرته صحيفة الفاينانشال تايمز يوم 17 يناير 2021:

في ساحة الحرية في باكو شهر ديسمبر 2020، احتفل آلاف من الجنود الأذربيجانيين بقبعات من الفرو ومعاطف من الصوف المجدول بانتصار بلادهم في القوقاز – والرجل الذي جعل ذلك ممكنا: الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

تمت دعوته ضيف شرف، وكان الزعيم التركي ينظر إلى العرض في الوقت الذي كانت فيه الطائرات من دون طيار، التي قدمها إلى باكو أثناء معاركها لاستعادة الأراضي التي فقدتها لأرمينيا في ناجورنو كاراباخ، تأخذ مكانا بارزا في العرض العسكري. قال أردوغان، محاطا بالعلمين التركي والأذربيجاني: "اليوم هو يوم انتصار وفخر لنا جميعا وللعالم التركي بأسره".

قرار أردوغان إلقاء كل ثقله خلف أذربيجان حتى في الوقت الذي دعت فيه القوى الغربية إلى وقف إطلاق النار بعد اندلاع القتال الجديد في خريف سنة 2020، كان أحدث مظهر لموقفه في السياسة الخارجية، الذي اتسم بخطاب لا هوادة فيه واستخدام جاهز للقوة.

على مدى الأعوام الخمسة الماضية، شن أردوغان حملات توغل عسكرية في سوريا وشمالي العراق، وأرسل قوات إلى ليبيا، ودخل في مواجهات بحرية مع اليونان، وهي تدخلات أثارت غضب حلفاء تركيا في الناتو وأعادت إشعال خصومات قديمة وولدت أعداء جددا.

في الأسابيع الأخيرة، بينما كان أردوغان يتقبل بالتدريج هزيمة دونالد ترمب في الانتخابات الأمريكية – والحاجة إلى جذب رأس المال الأجنبي مرة أخرى لمعالجة المشكلات الاقتصادية المتزايدة لتركيا – قال إنه يود أن "يفتح صفحة جديدة"مع الغرب.

لكن يظل من غير الواضح ما إذا كان أردوغان مستعدا أو قادرا على تقديم تنازلات بشأن القضايا التي ابتليت بها علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط، أو ما إذا كانت اللغة التصالحية المكتشفة حديثا ستفسح المجال قريبا لتجديد حدة التوتر.

قال دبلوماسي أوروبي: "هناك أشياء صغيرة يمكن اعتبارها غصن زيتون، لكن لا شيء جوهري. إذا نظرت إلى القضايا التي نختلف فيها بشكل أساسي، فإن كلا الجانبين لديه وجهة نظر مفادها أن الكرة في ملعب الآخر. لذلك من الصعب جدا تحقيق أي نجاح".

الرئيس التركي البالغ من العمر 66 عاما، الذي وصل حزبه إلى السلطة في 2002، لطالما كان يسعى إلى تصوير نفسه على أنه صاحب رؤية – على حد تعبير المؤرخ سونر كاجابتاي – "تجعل تركيا عظيمة مرة أخرى" في الداخل والخارج.

لكن يقول المحللون إن محاولة الانقلاب الدموية التي قامت بها فصائل عسكرية مارقة في 2016 شكلت قطيعة في تعاملات تركيا مع بقية العالم. فقد جعلت أردوغان أكثر تشككا في الغرب، ودفعته أكثر إلى التقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأجبرته على تشكيل تحالفات سياسية جديدة في الداخل، ومكنته من تولي سيطرة غير مسبوقة على الدولة التركية.

في خطاب ألقاه بعد ثلاثة أشهر من محاولة الانقلاب، قال أردوغان إن البلاد لن تنتظر بعد الآن المشكلات أو الخصوم "ليطرقوا بابنا". أضاف أن تركيا بدلا من ذلك "ستذهب وتجدهم أينما يكون موطنهم وتعاقبهم بشدة".

في بعض الأحيان، يتودد أردوغان إلى قاعدته الدينية المحافظة من خلال تصوير نفسه على أنه زعيم للعالم الإسلامي، لكنه يعتمد أيضا بشكل كبير على الصور واللغة القومية. وهو يحب أن يقول إن أمته تمر بنهضة أو ظهور على المسرح العالمي.

يحذر دبلوماسيون ومحللون من أن الاستراتيجية تنطوي على مخاطر كبيرة، سواء بالنسبة للاقتصاد أو العلاقات مع القوى الإقليمية والعالمية. وفي حين أنه قبل عشرة أعوام كان المبدأ التوجيهي للسياسة الخارجية التركية هو "لا مشكلات مع الجيران"، يتندر المحللون الأتراك الآن بأن الشعار الجديد هو "لا جيران من دون مشكلات".

يصف منتقدوه سياسة أردوغان الخارجية بأنها "عثمانية جديدة"، في إشارة إلى الإمبراطورية التي امتدت إلى جنوب أوروبا وغرب آسيا وشمال إفريقيا وسبقت الجمهورية الحديثة. يقول المسؤولون الأتراك إن بلادهم هي ببساطة تعمل على حماية مصالحها. قال أحدهم: "عندما تتدخل فرنسا، تكون فرنسا فقط – لا أحد يسميها سياسة نابليونية".

هذا النهج يأتي مقابل ثمن. قال سينم أدار، الباحث في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين: "لا أعتقد أن تركيا معزولة إلى هذا الحد عبر تاريخها". أضاف: "هناك جبهة آخذة في الاتساع من الدول التي تتخذ موقفا صداميا تجاه تركيا".

محاولة الانقلاب في 2016، والتطهير الذي أعقبها، سمحت لأردوغان بالسيطرة بشكل أكبر على القوات المسلحة. كما أقام تحالفا انتخابيا مع حزب الحركة القومية المتطرف، متبنيا نظرته اليمينية المتشددة بشأن الأمن القومي، خاصة الانفصالية الكردية.

إيفرين بالتا، وهو أستاذ للعلاقات الدولية في جامعة أوزيجين في إسطنبول يقول: "لديهم فكرة مماثلة وهي أن تركيا يجب أن تنهض. يجب أن تزيد قوتها. يتشارك كل من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية هذه الفكرة الأساسية بأن تركيا تتعرض للهجوم من الداخل والخارج".

اعتماد على الجنود والجواسيس

 

في الوقت نفسه، الانتقال في 2018 إلى نظام رئاسي أدى إلى إضعاف دور وزارة الخارجية في البلاد، التي كانت تقليديا موطنا لكبار المسؤولين البيروقراطيين الذين يعدون أن التوجه الطبيعي لتركيا هو نحو الغرب.

ينتقد كثيرون ما يرى سفير سابق أنه اعتماد على "الجنود والجواسيس" بدلا من الدبلوماسية. في الرحلات الخارجية، نادرا ما يرى أردوغان دون رئيس المخابرات هاكان فيدان ووزير الدفاع خلوصي أكار إلى جانبه.

كما أن المغامرة في الخارج لم تجد مقاومة تذكر من الخصوم السياسيين. وفي حين أن حزب الشعب الجمهوري – الذي أسسه الأب المؤسس لتركيا مصطفى كمال أتاتورك، الذي كان شعاره "السلام في الوطن، السلام في العالم" – ينتقد "اللغة غير الدبلوماسية"، إلا أن الحزب بدا مترددا في الاعتراض على السياسات التي أثبتت شعبيتها لدى الجمهور.

أردوغان الذي يعتقد معظم المحللين أنه يريد البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، يستخدم السياسة الخارجية لتحقيق مكاسب سياسية محلية – حتى إنه سمح لنفسه أن يقارن الحكومة الألمانية بالنازيين وأن ينصح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالحصول على "علاج نفسي". لكن هذا الموقف لم يلق قبولا في العواصم الأوروبية. واتهم دبلوماسي في الاتحاد الأوروبي زعيم تركيا بالتصرف مثل "المتنمر في فناء المدرسة".

سعي أردوغان لجعل تركيا قوة إقليمية – كما يظهر في التوسع العجيب لعلاقات تركيا الدبلوماسية مع الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية في منتصف العقد الأول من القرن الـ21 من خلال التجارة والمساعدات – سرعان ما أصبح محفوفا بالمخاطر.

تلاشت آمال البلاد في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وسط انعدام الثقة واتهامات بسوء النية من كلا الجانبين. جاءت خطة لبناء علاقات أقوى مع جيرانها العرب بنتائج عكسية في الوقت الذي اجتاحت فيه الأحداث الدامية المنطقة. امتدت الحرب السورية إلى تركيا على شكل هجمات إرهابية ووصول ملايين اللاجئين. عمليات تركيا العسكرية في سوريا وليبيا – ودعمها لجماعة الإخوان المسلمين – وضعت أنقرة في خندق ضد تحالف عربي قوي.

الآن أوروبا تشعر باليأس من تدهور حقوق الإنسان في دولة لا تزال من الناحية الفنية مرشحة للانضمام إلى الكتلة. واشنطن غاضبة من قرار أردوغان شراء نظام دفاع جوي من طراز S-400 من روسيا، أدى في ديسمبر 2020 إلى فرض عقوبات أمريكية.

علاقة تركيا مع الشركاء الجدد ليست واضحة أيضا. علاقاته مع بوتين معقدة وغالبا ما تكون مشحونة، كما اتضح عندما قتل 34 جنديا تركيا في سوريا عام 23020 في هجوم ألقت الولايات المتحدة باللوم فيه على موسكو.

أدت السياسة الخارجية المضطربة إلى ردع الاستثمار المباشر الأجنبي الذي تمس الحاجة إليه، إلى جانب أن المخاوف بشأن إدارة أردوغان للاقتصاد كانت مصدر ضغط على الليرة التركية. علقت شركة فولكسفاجن الألمانية للسيارات – وألغت لاحقا – خطة لبناء مصنع جديد بعد احتجاج دولي على هجوم تركي على القوات الكردية السورية في 2019.

يقول المنتقدون على الرغم من اللغة الطنانة، فإن العلاقات الخارجية العدائية لتركيا تضر بمصالحها. ذكر سنان أولجن، وهو دبلوماسي تركي سابق ورئيس مركز إيدام الفكري في إسطنبول: "الطريقة التي يمكن أن أحكم بها على نجاح السياسة الخارجية هي ما إذا كانت تساعد تركيا على حماية مصالحها الوطنية بشكل أفضل وما إذا كانت تساعد تركيا على ضمان نمو اقتصادي أكثر استدامة. وفقا لهذين المعيارين، لم يكن هناك نجاح كبير".

الحالة المحفوفة بالمخاطر لاقتصاد البلاد البالغ حجمه 750 مليار دولار – التي تفاقمت بسبب أزمة فيروس كورونا – تسببت في حدوث هزة في نوفمبر 2020 أدت إلى رحيل صهر أردوغان، براءة البيرق، من منصب وزير المالية.

منذ ذلك الحين، ومع انتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة، قدم أردوغان مبادرات إلى الغرب. في مكالمة فيديو مع أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، خلال يناير 2021، قال أردوغان إن "مستقبل تركيا في أوروبا" ودعا إلى تعاون أكبر في قضايا تشمل الهجرة والتجارة.

لطالما كان الرئيس التركي شخصا براغماتيا على استعداد لاتخاذ خيارات صعبة إذا لزم الأمر للحفاظ على قبضته على السلطة. لكن يغلب على ظن بعض المحللين أن أردوغان لن يكون على استعداد لتقديم التنازلات المطلوبة لتحسين العلاقات مع حلفاء الناتو، ولا سيما الولايات المتحدة.

قال ألان ماكوفسكي، وهو مسؤول سابق في وزارة الخارجية الأمريكية يعمل الآن في مركز التقدم الأمريكي، وهو مؤسسة فكرية: "أعتقد أن هدف وجود سياسة خارجية قوية ومستقلة – مع البقاء داخل الناتو – سيبقى. ربما سيخفف من حدة الخطاب لكنني لا أعتقد أنه سيخفف من الرؤية".

 

إمبراطورية أردوغان

 

في شهر سبتمبر 2019 صدر لمعهد واشنطن بحث بشأن تطور سياسة تركيا الخارجية كما يرسمها الرئيس اردوغان، وقد ساهم في وضع هذا التحقيق كل من سونر چاغاپتاي، أماندا سلوت، مولي مونتغمري، توماس هوسكينز.

سونر چاغاپتاي هو زميل أقدم ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن.

أماندا سلوت هي زميلة أقدم في زمالة "روبرت بوش" في "مركز شؤون الولايات المتحدة وأوروبا في معهد بروكينغز".

مولي مونتغمري هي نائبة رئيس في مجموعة "أولبرايت ستونبريدج" ومستشارة سابقة في وزارة الخارجية الأمريكية.

توماس هوسكينز هو ناشر ورئيس تحرير السياسة في "آي. بي. توريس"، وهي طبعة لـ "نشرة بلومزبري".

 

جاء في البحث: غالبا ما يرافق حس مضخم من أيام العز الأمم التي كانت يوما ما إمبراطوريات عظمى، فيجعل مواطنيها عرضةً للتأثّر بسهولة بأمجاد الماضي – إنما في الوقت نفسه ضحايا تلاعب يمارسه السياسيون الذين يستطيعون أن يشهدوا على هذه السردية. ولا تزال صورة رومانسية للإمبراطورية العثمانية المنهارة تحدد نظرة الأتراك إلى مكانتهم في العالم اليوم، لذا من الضروري فهم هذا الماضي لنفهم تركيا الحديثة.

عند مقارنة المقاربة التي يعتمدها الرئيس رجب طيب أردوغان إزاء الشؤون العالمية والإقليمية بالسياسات الخارجية التي انتهجها أسلافه العثمانيون والأتراك، يبدو أنها تمثّل الاستمرارية والتغيير في آنٍ. فمحاكاة الغرب تحت حكم السلاطين العثمانيين التي بدأت مطلع القرن التاسع عشر كانت مشروعا استراتيجيا مدفوعا بإدراك نقاط ضعف الدولة. ومن أجل إحياء عظمة الإمبراطورية، قرر السلاطين نسخ مؤسسات حكم الدولة عن قوى عالمية أوروبية. وانتهج مصطفى كمال أتاتورك الذي أسس تركيا الحديثة عام 1923 هذا النموذج كما فعل خلفاؤه. واستمر هذا التوجه بعد الحرب العالمية الثانية حين التفّت أنقرة نحو أوروبا والولايات المتحدة. وبينما هم ينتظرون استعادة مكانتهم كقوة عظمى، غالبا ما تحالف السلاطين الراحلون ورؤساء تركيا الأوائل مع قوى غربية – مع بريطانيا تحديدا خلال معظم القرن التاسع عشر ضد روسيا، ومع فرنسا خلال الجزء الأكبر من الفترة التي كانت بين الحربين العالميتين ضد إيطاليا الفاشية، ومع الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ضد الاتحاد السوفييتي.

غير أن أردوغان اختار نموذجا غير تقليدي بشكل أكبر. فهدفه جعل تركيا قوة عظيمة بمفردها وليس دولة تعتمد ببساطة على الغرب. وعليه، لم تكن سياسته الخارجية موحدة. وعندما استلم الحكم في 2003، شعر أنه في موقف حرج بسبب المؤسسات العلمانية التركية، بما فيها الجيش. وسعى بالتالي إلى أن يكون نسخة أفضل عن أسلافه الكماليين، فروج لسياسات دولية وموالية لأمريكا وللاتحاد الأوروبي بشكل أكبر. على سبيل المثال، شملت مبادراته الأولى محاولات لتوحيد قبرص وتطبيع العلاقات مع أرمينيا.

وانتهت هذه المرحلة بحلول العام 2011، بعدما جرد الجيش من نقاط قوته ومرر سلسلة قوانين وضع بموجبها القضاء تحت سيطرته وبدأ بتقويض خصومه – بمساعدة "حركة غولن" التي كانت حليفته في ذاك الوقت. وإذ لم يعد العلمانيون يحاصرونه، أطلق مجموعة جديدة من المبادرات العالمية والشرق أوسطية التي هدفت إلى استعادة القوة التي عرفت بها تركيا في الحقبة العثمانية وقد ساهمت انتفاضات "الربيع العربي" التي اجتاحت المنطقة في تمهيد الطريق أمامه.

غير أن سياسته باءت بالفشل، أولًا لأن أنقرة تجاهلت دور "الأعداء التاريخيين" في الشرق الأوسط – فأردوغان لم يدرك أن نظرة العديد من العرب واليونانيين لا تزال سلبية نسبيا تجاه تركيا باعتبارها الحاكم المطلق الذي استعمر بلادهم في الماضي. كما اختتمت أنقرة أفعالها هذه بدعم طرف واحد خلال الربيع العربي: جماعة "الإخوان المسلمين". وعندما خسرت الجماعة نفوذها في مصر ودول أخرى، كذلك خسر أردوغان التأثير نفسه. فدعم تركيا للمعارضة السورية اعطى نتائج عكسية وجعلها على خلاف مع روسيا وإيران.

وقد حاول أردوغان تعويض بعض هذه الخسائر خلال السنوات القليلة الماضية، حيث أرغم رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو على الاستقالة في 2016، ورمم العلاقات مع العراق وإسرائيل. لكن تركيا لا تزال في عزلة عن معظم دول الشرق الأوسط باستثناء قطر. كما أن علاقاتها مع واشنطن شهدت تقلبات ولا يمكنها التعويل على أصدقائها التقليديين في الغرب بعد الآن، ما يترك البلاد عرضةً لتهديدات موسكو.

ومن أجل التخفيف من حدة هذه المخاطر، أبرم أردوغان اتفاقات خاصة مع روسيا تراوحت بين السياسة إزاء سوريا وشراء منظومة الدفاع الجوي "أس-400". وكان الرئيس فلاديمير بوتين متجاوبا بشكل خاص مع هذا الانفتاح منذ فشل الانقلاب في تركيا عام 2016، لكن هذا التودد الراهن من قبل روسيا يخدم الهدف الذي جسدته عداوتها في الماضي: إزعاج أنقرة. لكن أردوغان بنى علاقات مهمة في أوراسيا وأفريقيا، لذا فإن تعافى اقتصاد تركيا قريبا، قد يتمكن من المضي قدما في المقاربة التي اعتمدها مؤخرا مع الاستفادة من العداوة بين موسكو وواشنطن.

 

مظالم قديمة

 

تتسّم العلاقة الحالية بين الولايات المتحدة وتركيا بمظالم قديمة العهد ومتراكمة. فأنقرة مستاءة من واشنطن بسبب رفضها تسليم رجل الدين فتح الله غولن، الذي يزعم المسؤولون الأتراك أنه كان وراء محاولة الانقلاب في 2016. كما أن الأتراك قلقون إزاء تعاون الولايات المتحدة مع "وحدات حماية الشعب"، الجماعة الكردية التي تسيطر على مساحات شاسعة من شمالي سوريا. أما صناع السياسة الأمريكيون، فتتنامى شكوكهم إزاء ما إذا كانت تركيا شريكا موثوقا بسبب ارتداداها عن الديمقراطية وقرارها بشراء منظومة "أس-400" من روسيا وتأخرها في الانضمام إلى الحملة لدحر تنظيم "الدولة الإسلامية" من جملة أمور أخرى.

وبالنظر إلى الماضي، كانت واشنطن متفائلة إلى حد ما عندما استلم أردوغان السلطة واتخذ خطوات لتحديث اقتصاد تركيا وحكمها الديمقراطي ونظامها البيروقراطي. وكان شعور مماثل يسود في بروكسل مع بدء محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لكن علاقات تركيا بالغرب لم تنفك تتدهور خلال العقد الماضي، حيث حاول كل طرف "تدبر الأمور" للحفاظ على العلاقات من دون حل المشاكل العالقة. ومن المستبعد أن تحسن أنقرة روابطها بالغرب قريبا، لذا فإن إعادة العلاقات إلى ما كانت عليه في أولى سنوات حكم أردوغان ليست مطروحة الآن.

 

الموازنة بين الشرق والغرب

 

إن التصورات الخاطئة بشأن عملية صنع السياسة في أمريكا تصعب على تركيا فهم سلوك الحكومة الأمريكية إزاء مسائل مثل تسليم غولن. وبما أن السلطة موحدة في أنقرة، يصبح من السهل على المسؤولين الأتراك الاعتقاد بأن واشنطن تعمل بالطريقة نفسها ورؤية دليل واحد على تعمد الولايات المتحدة أفعالها المنفصلة.

وعلى نحو مماثل، غالبا ما تعجز واشنطن عن فهم محركات سياسة تركيا الخارجية، بما في ذلك كيف يمكن لهوية البلد وتاريخه تحديد قرارات أردوغان. فسياسته الخارجية هي رد فعل إزاء الكمالية وإعادة تأكيد واعية على موقع تركيا كقوة مسلمة وشرق أوسطية.

وناهيك عن التوترات بسبب قضية غولن و"وحدات حماية الشعب" وشراء منظومة "أس-400"، اختلفت واشنطن مع أنقرة في مسائل حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون منذ محاولة الانقلاب. ولم يتم تبديد هذه المخاوف بعد، حتى أنه من المستبعد القيام بذلك في عهد أردوغان. وإلى حين حل هذه المشاكل، لن نشهد أي استئناف حقيقي للعلاقات بين تركيا والغرب. مع ذلك، فإن حرص أنقرة على الموازنة بين الشرق والغرب يصبح مقلقا أكثر فأكثر، كما أن تداعيات الانهيار ستكون خطيرة وترغم تركيا ربما على الخضوع لروسيا.

من الدروس المهمة لصناع السياسة هي أنهم لا يستطيعون التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في تركيا قبل أن يعرفوا مصدرها. فتاريخ البلاد الغني والعلاقة المتوترة في أغلب الأحيان بين الشرق والغرب هما عاملان مهمان لفهم سياستها الحالية – ولفهم الشرق الأوسط ككل. وثمة سطر رائع في كتاب الدكتور چاغاپتاي عن "وضع تركيا الحديثة ما بين بين": "من الشرق تبدو تركيا دولة غربية، ومن الغرب تبدو دولة شرقية". وتكمن هذه الديناميكية في صميم علاقة أنقرة بالدول المجاورة ونظرتها إلى مكانها في السياسة العالمية. فكتاب إمبراطورية أردوغان يوفّر درسا شاملًا عن القائد التركي كان يفتقر إليه في السابق عالما الثقافة وصناعة السياسة.

 

تعاون مستمر

 

يوم الجمعة 12 مارس 2021 أعلن الرئيس التركي، أردوغان في تصريحات صحافية أدلى بها بمدينة إسطنبول، إن تعاون تركيا مع مصر في مجالات الاقتصاد والدبلوماسية والاستخبارات مستمر، "ولا توجد أية مشكلة في ذلك". وذكر أردوعان إن الاتصالات “ليست على أعلى مستوى، لكنها عند المستوى التالي له مباشرة. مضيفا يحدونا الأمل في أن نتمكن من مواصلة هذه العملية مع مصر بقوة أكبر”.

وفي وقت لاحق الجمعة، علق وزير الدفاع التركي خلوص أكار بقوله "إن موقف مصر والمستجدات الأخيرة من مصلحة البلدين ودول المنطقة، وهذا ما يليق بروابطنا الثقافية والتاريخية".

وفي وقت سابق من اليوم نفسه، قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إن لدى أنقرة اتصالات مع مصر سواء عبر الاستخبارات أو الخارجية.

وأضاف: "بدأنا اتصالاتنا مع مصر على الصعيد الدبلوماسي"، وأكد عدم طرح تركيا ومصر أي شروط مسبقة من أجل إعادة العلاقات إلى طبيعتها بين البلدين، وذلك في معرض رده على سؤال بهذا الخصوص.

وأكد: "لا يوجد أي شرط مسبق سواء من قبل المصريين أو من قبلنا حاليا، لكن ليس من السهل التحرك وكأن شيئا لم يكن بين ليلة وضحاها، في ظل انقطاع العلاقات لأعوام طويلة".

وتابع: "تطبيع العلاقات يتم لكن ببطء من خلال المباحثات ورسم خارطة طريق والإقدام على خطوات في تلك المواضيع".

وأصاب الفتور العلاقات بين القاهرة وأنقرة منذ عزل الجيش المصري محمد مرسي، حليف أردوغان والمنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، من الرئاسة إثر احتجاجات شعبية عارمة على حكمه في 2013.

وتصاعد التوتر بين الطرفين لاحقا على خلفية قضايا عدة خاصة الأزمة الليبية التي كادت تصبح ساحة مواجهة عسكرية بين القوات المصرية والتركية بعد ارسال انقرة آلاف المرتزقة من سوريا إلى ساحة الحرب الليبية.

جاويش أوغلو أشار أنه بالإضافة إلى مصر تسعى تركيا لرأب الصدع في العلاقات مع بعض من القوى الإقليمية. وقال يوم الجمعة إن أنقرة سترد بالمثل إذا اتخذت السعودية والإمارات “خطوات إيجابية” لتجاوز الاضطرابات الأخيرة.

وتتطلع تركيا إلى إعادة العلاقات مع مصر بعد سنوات من العداء، في خطوة يقول محللون إنها جزء من تحول استراتيجي أوسع في مواجهة عزلتها المتزايدة.

وكالة أنباء رويترز ذكرت أنه قد يترتب على دفء العلاقات بين القوتين الإقليميتين تداعيات في أنحاء الشرق الأوسط، حيث يسعى البلدان للتأثير على مجريات الأحداث في بؤر التوتر المختلفة ويقفان على طرفي النقيض في نزاع بحري بالبحر المتوسط.

وحسب رويترز أفاد مصدران من المخابرات المصرية إن تركيا اقترحت عقد اجتماع لبحث التعاون، لكنهما ألمحا إلى أن الاتصالات ما زالت في مراحل تمهيدية.

وذكر المصدران في المخابرات المصرية إن مسؤولا أمنيا مصريا تلقى اتصالا هاتفيا من مسؤول في المخابرات التركية يوم الخميس 11 مارس 2021 يبدي الرغبة في عقد اجتماع بالقاهرة لبحث سبل التعاون على الأصعدة الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية. وأضافا أن المسؤول المصري رحب بالدعوة ووعد بالرد في أسرع وقت ممكن.

ويقول محللون أن إعادة بناء الثقة ستكون مهمة عسيرة، فعلاوة على التوترات التي نجمت عن الإطاحة بمرسي والنزاعات في البحر المتوسط، قال وزير الخارجية المصري سامح شكري إن جامعة الدول العربية تعرب عن رفضها القاطع للتدخلات العسكرية التركية في سوريا والعراق وليبيا.

وتوترت العلاقة بين أنقرة والرياض بسبب مقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول في 2018 وبسبب الخلاف بين قطر، حليفة تركيا، ودول خليجية أخرى. وانهارت التجارة في ظل مقاطعة غير رسمية من جانب الشركات السعودية.

وتختلف أيضا تركيا مع الإمارات بسبب الصراع في ليبيا، ويتبادل البلدان الاتهامات بزعزعة الاستقرار الإقليمي.

 

تمهيد الطريق بالأفعال

 

في القاهرة ويوم الأحد 14 مارس 2021 قال وزير الخارجية المصري سامح شكري إن "أفعال" تركيا يجب أن تُظهر التوافق مع مبادئ مصر وأهدافها حتى تعود العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها. 

وأكد شكري وجود اتصالات بين القاهرة وأنقرة بعد سنوات من التوتر، لكنه أشار إلى أن الحوار محدود، وأنه "لا تواصل خارج الإطار الدبلوماسي الطبيعي، وإذا ما وجدنا أفعالا حقيقية من تركيا وأهدافا تتسق مع الأهداف والسياسات المصرية... ستكون الأرضية مؤهلة للعلاقة الطبيعية مع تركيا".

وأبلغ شكري أعضاء مجلس النواب المصري بأن هناك رسائل إيجابية من قطر تشير إلى رغبة في إصلاح العلاقات بدرجة أكبر بعد قمة في العلا بالسعودية في يناير.

وأضاف شكري إنه يتم متابعة تنفيذ قطر لبيان العلا، مضيفا أن "الوقت مبكر للحكم على التزام قطر بالبيان، ونستمر في لجنة المتابعة لتقييم أداء قطر، وأتطلع أن يكون هناك تنفيذ من قطر".

وتابع بالقول إن "هناك آلة إعلامية قوية من التنظيمات الإرهابية، وبالأخص جماعة الإخوان، تستهدف الاستقرار في مصر.

واتفقت مصر وحلفاؤها الخليجيون، السعودية والإمارات والبحرين، خلال تلك القمة على إعادة العلاقات الدبلوماسية والتجارية وروابط السفر مع الدوحة والتي قُطعت عام 2017 بسبب اتهامات عن دعم قطر للإرهاب.

 

تغيير تكتيكي مرحلي

 

جاء في تحليل عن تحركات أنقرة التصالحية كتبه عبد الباري عطوان يوم 10 مارس 2021 في صحيفة رأي اليوم:

الأسباب غير المعلَنة لهذا الغزل التركي تعود إلى رغبة الرئيس أردوغان بكسر حالة العزلة التي تعيشها بلاده في الشرق الأوسط وأوروبا بحيث باتت محاطَةً بالأعداء من الجهات الأربع، الأمر الذي انعكس سلبا على اقتصادها الذي يسجل حالات تراجع ملحوظ، وفشل الكثير من مغامراتها العسكرية في سوريا وليبيا.

باختصارٍ شديد يريد الرئيس أردوغان العودة إلى سياسة “صفر مشاكل” مع الجيران مجددا تلك التي كانت الأرضية الصلبة للقوة الاقتصادية التي نقلت أنقرة إلى عضوية منظومة الدول العشرين الأقوى عالميا وبصورةٍ “منقحة”، ولكن بدون مهندسي هذه السياسة، الأول أحمد داوود أوغلو منظرها، وعلي باباجان مترجمها اقتصاديا، اللّذين انشقا عن الحزب الحاكم وأسسا حزبيهما الخاصين “المستقبل” و”التقدم الديمقراطي”.

التوتر المكتوم في العلاقات التركية الإيرانية، الذي انعكس في الخلاف بين البلدين على أرضية التدخل العسكري التركي “الناجح” والمباشر في حرب “غرة باخ” في أذربيجان وإلقاء الرئيس التركي “قصيدة” أذرية تهدد وحدة التراب الإيراني، وظهر بشكل جلي عندما استدعت طهران السفير التركي، واحتجت رسميا على تدخل بلاده عسكريا في سنجار شمال العراق ضد وحدات لحزب العمال الكردستاني، فهل يريد الرئيس أردوغان التهدئة مع مصر توقعا لتصعيد مستقبلي مع إيران خاصةً أنه عزز علاقاته مع دولة الاحتلال الإسرائيلي على المستويات كافة؟. وهل سيكون الرد الإيراني بدعم الحركات الانفصالية الكردية في تركيا إذا تصاعد هذا الخلاف؟.

كان لافتا وفي الإطار نفسه أن الرئيس أردوغان يسعى حاليا لترميم علاقاته مع السعودية، وانعكس هذا المسعى في خطوتين رئيسيتين:

الأولى: صمت حكومته المطبق على تطورات قضية اغتيال جمال خاشقجي وعدم التعاطي كليا، سلبا أو إيجابا، مع تقرير المخابرات الأمريكية الذي حمل الأمير محمد بن سلمان ولي العهد المسؤولية عن إصدار الأوامر بتنفيذ هذه العملية وفرض الولايات المتحدة عقوبات على أكثر من 76 مسؤولا سعوديا شاركوا فيها.

الثانية: مسارعة الحكومة التركية في الإعراب عن تضامنها مع المملكة العربية السعودية إزاء الهجمات التي شنتها حركة أنصار الله الحوثية اليمنية بالصواريخ والطّائرات المسيرة على منشآت نفطية في الظّهران والدمام ورأس تنوره، وسط أنباء عن استعدادها لإرسال معدات عسكرية، ومقاتلين لدعم السعودية في حرب اليمن، وحزب الإصلاح الإخواني الذي يقاتل إلى جانب حلفائها في مأرب.

مصدر تركي يعرف الرئيس أردوغان جيدا، لعمله كأحد مستشاريه، قال لنا إن هذا التغيير في موقف الرئيس التركي تكتيكي مرحلي، وسيكون من الصعب عليه التخلي عن حركة “الإخوان المسلمين”، وجماعات الإسلام السياسي، وأضاف أما تدخل أردوغان في اليمن فقد يكون محدودا، وغير مباشر عبر مرتزقة لأنه إذا حدَث فإنه يكسر خطوطا حمر مع إيران، مضافا إلى ذلك أن تجربة الإمبراطورية العثمانية في اليمن كان عنوانها الأبرز الهزائم الدموية.

الرئيس أردوغان لا يمكن أن يعيش يوما دون فتح جبهات عسكرية وسياسية، ولكن الفوز في معظمها غير مضمون، خاصة في اليمن، والدرس التاريخي الأكبر الذي يجب أن يعيه الرئيس أردوغان أن جميع الإمبراطوريات انهارت لعدة أسباب أبرزها فتح جبهات عديدة في الوقت نفسه، وتفاقم الأزمات والخلافات في الداخل.

 

تغييرات "مفصلية ومستقبلية"

 

في انتظار اتضاح الرؤيا بشأن نوايا أنقرة الحقيقية فيما يخص التعديلات على سياستها الخارجية تتجه الأنظار إلى الداخل التركي لأن تلك الساحة ستكون كذلك حاسمة.

تترقب أوساط حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، إجراء تغييرات جذرية وشاملة في هيكله التنظيمي ودوائر صنع القرار فيه، خلال المؤتمر الكبير السابع الذي سيعقد في الأسبوع الأخير من شهر مارس 2021.

انعقاد المؤتمر يأتي في مرحلة "حساسة" وذات أهمية خاصة، نظرا لما شهدته الأسابيع والأشهر الماضية من تحركات أقدمت عليها جميع الأحزاب في البلاد، استعدادا للانتخابات الرئاسية المقرر تنظيمها في عام 2023. ويأتي أيضا بعد التراجع، الذي أظهرته استطلاعات الرأي، في شعبية الحزب الحاكم مقابل باقي الأحزاب.

ويحظى حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس التركي بدعم قوي وسط الأتراك المتدينين والمحافظين، كما أن قيادته لنمو الاقتصاد التركي على مدى 15 عاما، ساعدته على الفوز بأكثر من 12 انتخابات عامة ومحلية.

وفاز "العدالة والتنمية"، وهو حزب إسلامي الجذور، في انتخابات عام 2002 ببرنامج وعد بمكافحة الفساد وبناء الاقتصاد ومساعدة ملايين الفقراء والمتدينين الأتراك، لكن مؤخرا بدأت شعبية الحزب تتآكل، وبلغ هذا ذروته في عام 2019، حين بدأت الضربات والتصدعات تتوالى عليه، وصولا إلى خسارته البلديات الكبرى إسطنبول وأنقرة لصالح منافسه المعارض "حزب الشعب الجمهوري".

وبحسب رصد موقع "الحرة"، فإن وسائل الإعلام الرسمية والمقربة من الحزب الحاكم تنظر إلى هذا المؤتمر المرتقب بعين عالية من الأهمية، وتعتبره أساسا وركيزة للانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة، مشيرةً إلى أن التغييرات التي قد تطرأ من شأنها أن تعيد إلى الحزب جزءا كبيرا من الحاضنة الشعبية، التي فقدها في الفترة الأخيرة.

صحيفة "صباح" المقربة من الحزب الحاكم ذكرت أن المؤتمر المرتقب سيشهد استكمال التغيير في هيئات القرار المركزي والمجلس التنفيذي والمجلس التنفيذي المركزي، وهي أعلى هيئة لصنع القرار في "العدالة والتنمية".

وفي الوقت الذي تشير فيه الأوساط المقربة من الحزب الحاكم إلى أن التغييرات ستكون جذرية، لم توضح الغاية الأساسية التي تقف وراءها، في ظل الحديث عن تحركات يقودها إردوغان ويسعى إلى استكمالها في الفترة المقبلة، من أجل كسب أصوات جديدة من المحافظين، وخاصة المحسوبين على "حزب السعادة" التركي.

الباحث في الشأن التركي، مهند حافظ أوغلو، يرى أن "المؤتمر المرتقب للعدالة والتنمية هذا العام سيكون مفصليا ومستقبليا. جميع المؤتمرات السابقة كانت تكتيكية ومرحلية".

ويقول حافظ أوغلو في تصريحات لموقع "الحرة": "المؤتمر مفصلي لأن الحزب الحاكم يدرك أن شعبيته لدى المجتمع التركي بدأت تنخفض، والبلاد قادمة على انتخابات رئاسية وبرلمانية، لذلك لابد من ترتيب الأوراق وحشد الصفوف، وإعادة تقييم كل الخطة المتبعة لديه، حتى نهاية 2022 ومنتصف 2023".

ويبدو أن المؤتمر السابع لـ"العدالة والتنمية" سيرسم مستقبل الحزب لعشرات السنوات، ومن جهة أخرى سيكون مصيريا لإردوغان وللنواب في البرلمان التركي الممثلين لديه.

ويشير الباحث التركي: "الآن كيف سيكون التقييم الداخلي للحزب. هل سيضعون الأخطاء والمشكلات التي وقعوا فيها وجها لوجه أمام المرآة لمواجهتها؟ أعتقد أن إردوغان سوف يكون ذاهبا في هذا الاتجاه، لأن الأمور إن لم تستدرك سريعا فإن الخسارة سوف تكون قادمة".

وبوجهة نظر الباحث التركي، فمن شأن المؤتمر القريب أن يركز على فئة الشباب الذين ولدوا في عهد "العدالة والتنمية" من مواليد سنة 2000 وما بعد، ويوضح: "حوالي 15 مليون من الشباب التركي سيكون لهم الحق في الانتخاب والتصويت، وهؤلاء لديهم مشكلة بأنهم لم يعيشوا في الفترة التي كانت عليها البلاد قبل وصول العدالة والتنمية".

إلى جانب الملف المتعلق بفئة الشباب هناك تحديات أخرى يقف أمامها "العدالة والتنمية"، في مقدمتها الأزمات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وملفات أخرى تتعلق بحزمة "الإصلاحات" التي أعلن عنها إردوغان في وقت سابق، والتي يترقب الشارع تطبيقها، وخاصة الإصلاحات القضائية والقانونية.

ويضاف إلى ما سبق تلك التغييرات التي قد تطرأ على صعيد كتابة دستور جديد للبلاد، بعد إعلان إردوغان نيته تغييره في المرحلة المقبلة، لغايات لم تحدد بالتفصيل حتى الآن، لكنها تصب في إطار تثبيت دعاماته في الحكم.

 

الأزمة الاقتصادية

 

الوضع الاقتصادي لتركيا سيكون له تأثير حاسم على مستقبل الحزب.

جاء في تقرير نشرته صحيفة الاقتصادية يوم السبت 13 مارس 2021:

تتردد جولاي أوصار بانتظام على هذه السوق في المدينة القديمة في أنقرة، المعروفة بأسعارها المقبولة أكثر من أماكن أخرى، لكن حتى هناك تواجه صعوبات متزايدة في التسوق على غرار عديد من الأتراك، الذين بات عليهم الآن التعامل مع ارتفاع الأسعار بوتيرة يومية أحيانا.

بحسب "الفرنسية"، تقول هذه المتقاعدة 65 عاما، "هذه المرة الثالثة التي آتي فيها لشراء بعض الأجبان وأعود خالية الوفاض بعد أن أرى الأسعار. كل شيء باهظ الثمن".

والاقتصاد التركي الذي كان هشا أساسا قبل أزمة الوباء، يعطي إشارات مقلقة مع استمرار التضخم وضعف قيمة الليرة التركية.

شهدت بعض المواد الغذائية مثل الزيت أو منتجات الحليب، ارتفاعا في الأسعار في الآونة الأخيرة بشكل أسبوعي.

يقول أحمد الذي جاء أيضا للتبضع في هذه السوق، "سعر زيت الزيتون الآن يعادل سعر الذهب. هذا ما يجب أن يقدمه رجل ما لمن يحب لإثارة إعجابه".

خلف السخرية، هناك مأساة يواجهها عديد من الأتراك من ذوي الدخل المحدود، الذين صاروا فجأة تحت عتبة الفقر وبات العثور على شيء يأكلونه دون تكلفة عالية صراعا يوميا.

بحسب تقرير للبنك الدولي نشر في أبريل 2020، فإن 13.9 في المائة من الأتراك يعيشون تحت عتبة الفقر الوطنية المحددة بـ4.3 دولار "3.59 يورو" في اليوم للشخص الواحد.

تقول هاجر فوجو مؤسسة منظمة "شبكة الفقر العميق" غير الحكومية، "أعمل منذ 20 عاما في أحياء فقيرة لمساعدة الناس الذين يعيشون الفقر. لم يكن تأمين الطعام أبدا مشكلة كما هي اليوم".

وأضافت "في الماضي، إذا لم يكن لديك طعام فيمكن أن تطلب من الجيران. لكن اليوم حتى الجيران ليس لديهم أي شيء أيضا".

في هذه الأحياء حيث يقيم عاملون عموما في البناء، يحاول أشخاص يجمعون القمامة لإعادة تدويرها ونساء وأطفال تأمين معيشتهم كباعة متجولين.

وتضيف فوجو، "لقد رأيت أمهات يطعمن أطفالهن الحساء الجاهز لأنهن لم يعدن قادرات على شراء حليب الأطفال. إنه مكلف للغاية لدرجة أن "السوبرماركت" باتت تضعه في أماكن مقفلة كأنه منتج فاخر".

الفقر لم يعد يطال فقط هؤلاء الذين كانوا دائما في أوضاع صعبة وإنما أيضا الفئات التي كانت تظن أنها بمنأى منه.

وتتابع فوجو "هناك أشخاص وجدوا أنفسهم فجأة عاطلين عن العمل أو لم يطلبوا من قبل مساعدة غذائية يأتون إلينا".

لم تكن أوصار المرأة المتقاعدة تتصور أبدا أنها لن تتمكن يوما ما من دفع فواتير الغاز. تقول والدموع في عينيها إنه لم يعد لديها وسائل تدفئة في المنزل، رغم درجات الحرارة التي تنخفض إلى ما دون الصفر ليلا في أنقرة.

وأضافت "الحكومة غير آبهة. إذا سألتهم، فإن كل هذه المخاوف غير موجودة".

في أكتوبر 2020 أثار شريط فيديو يظهر تاجرا يقول للرئيس التركي أردوغان، إنه "لم يعد بإمكانه إحضار الخبز إلى المنزل" ضجة كبيرة. ورد عليه الرئيس "يبدو الأمر مبالغا فيه".

وفيما تؤدي الصعوبات الاقتصادية إلى تراجع شعبيته الانتخابية، يفضل أردوغان أن يعطي في خطاباته صورة عن تركيا يحسدها الغرب وعلى وشك أن تصبح "أحد أكبر الاقتصادات في العالم".

يقول إرينج يلدان أستاذ الاقتصاد في جامعة قادر هاس في إسطنبول، إن السياسات النقدية السيئة التي شجعت النمو القائم على أساس المديونية وانعدام الثقة في الأسواق هي السبب وراء ارتفاع التضخم.

وأضاف "كان التضخم يبلغ رسميا 14.6 في المائة في 2020. لكن هذا الرقم ليس سوى متوسط. هو أعلى بكثير ويبلغ نحو 22 في المائة، للمنتجات الغذائية التي تشكل الجزء الأكبر من إنفاق السكان ذوي الدخل المتواضع".

ويقول الخبير الاقتصادي، إن الزيادة التراكمية في الأسعار منذ عام 2018 للمنتجات الغذائية بلغت 55 في المائة.

في مواجهة الانتقادات، اتهم أردوغان التجار أو "جماعات الضغط" بالسعي إلى جني أرباح غير عادلة.

وقال يلدان، "نحن نوجد أعداء وهميين لمنع تحول النقمة إلى رد فعل ضد الحكومة".

وأضاف يلدان، "تحاول تركيا أن تجد طريقها في الضباب لأن المؤسسات قد هدمت، لا نقوم إلا بإنقاذ الأثاث". وخلص إلى القول "هناك مشكلة حوكمة حقيقية".

 عمر نجيب

[email protected]