الحروب الصغيرة والثورات الملونة ومتاهات الصراع على نظام عالمي جديد... أدوات تخريب وتفتيت الدول بنشر الفوضى الخلاقة

خميس, 2021-03-11 03:18

شهد العالم صراعات مسلحة كثيرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945، صراعات تفاوتت في حدتها وحجمها ونوعية وطبيعة المشاركين فيها. عديدة كانت منها ثورات شعوب ضد القوى الاستعمارية التي حاولت الإبقاء على هيمنتها فوجدت من يقارعها بالسلاح ويجبرها على الرحيل أو البحث عن بدائل للحفاظ على جزء من مكاسبها. كما كانت هناك عمليات تبادل أدوار بين القوى الاستعمارية لخوض حروب على أمل الاستمرار في التمسك بظلال إمبراطورياتها مثلما حدث في جنوب شرق آسيا حيث رحلت فرنسا من الفيتنام لتحل مكانها الولايات المتحدة وتخوض بعدها حربا خسرتها سنة 1975. في منطقة الشرق الأوسط جرت أحداث مشابهة حيث خاضت شعوبها نضالات مسلحة مختلفة من حيث حجمها، تلتها حروب 1956، 1967، 1973 وغيرها.

القوى الكبرى المنتصرة على دول المحور في الحرب العالمية الثانية وبالأخص الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة خاضتا حروبا بالوكالة في العديد من قارات العالم، كان بعضها من خلال ثورات شعوب أو عبر استغلال تحولات سياسية وأزمات مجتمعية واقتصادية، ولكن واشنطن وموسكو تجنبتا رغم بلوغهما درجات قصوى من التوتر، الوصول إلى الخط الأحمر لمواجهة شاملة أي حرب عالمية ثالثة.

كانت الحروب بالوكالة حاضرة بقوة في فترة الحرب الباردة، بعد ذلك تراجع الاعتماد على الحروب بالوكالة لفرض الهيمنة ليترك مكانه لوضع استراتيجيات جديدة، مثل الحروب الصغيرة والثورات الملونة.

تتداخل القوى الإقليمية والدولية في إدارة الحروب بالوكالة عندما يحتدم التنافس فيما بينها على النفوذ في المناطق الحيوية في العالم، علما بأن هذه القوى الإقليمية والدولية لا تريد في الواقع الدخول في حروب وصدامات مباشرة.

في كثير من الأحيان تتحول الدول الصغرى إلى مسرح للصراعات، رغم صغر حجمها، لأنها تعتبر في نظر القوى الإقليمية والدولية ذات قيمة إستراتيجية أو جغرافية أو اقتصادية كبيرة. يمكن أن تدار هذه الصراعات بالوكالة من خلال تقديم الدعم اللازم للتنظيمات والجماعات والأحزاب السياسية.

الحرب الباردة كانت تفرض نزاعات ثنائية القطب بغض النظر عن الأسباب الحقيقية للنزاعات، نظراً إلى أن كل طرف كان يبحث عن مساندة إحدى الكتلتين. وقد تبدل ذلك الضغط الخارجي حاليا، مما أدى إلى ممارسة سياسات تعتمد على استثمار واستغلال تعدد الأحزاب والفصائل المتنافسة وإحياء أو خلق النزاعات الطائفية والدينية. أتقن المهندسون المكلفون بتنظيم الثورات تعميم شعارات مثل الفساد وسرقة ثروات البلاد ونشر الفقر والحكم الدكتاتوري إلخ.. 

وفي بعض الحالات أدت تلك الأساليب في التدخل خاصة عبر الوسطاء والمرتزقة إلى تفسخ بناء الدولة برمته، وأدى انهيار السلطة الحكومية وقوات حفظ الأمن إلى إفساح المجال لتكاثر العصابات والفصائل المتناحرة، وحل المجرمون محل رجال السياسة. وعندما تعم الفوضى والبلبلة تتمكن القوى الأجنبية المتخفية من فرض أجندتها وهيمنتها.

 

رقعة الشطرنج الكبرى

 

في العام 1983 وضع السياسي الأمريكي زيبينغو بريجينسكي كتابه الشهير "رقعة الشطرنج الكبرى"، الكتاب البالغ من الصفحات ما يتجاوز المئتين، يتناول مسألة رئيسة: كيف السبيل لتحقيق السيادة الأمريكية على العالم؟ بدت الحرب في تحليل بريجينسكي أقرب لمفهوم شتراوس التبادلي. الحرب احتفالية لغوية لا تحدث عبثا أو مصادفة، هي لا تحظى دوما بمسميات المقدس والمدنس، لكنها تحدث ويحدث معها اختبار جديد لصلاحية المقول.

ويرسم الكتاب خريطة الصراع العالمي، فيقوم بإعادة بلورة الفكر الاستراتيجي الأمريكي تجاه الأوراسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، ويرى أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تحرم روسيا من ثلاث دول ركائز جيوسياسية مهمة بحكم موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية وهي أوكرانيا، وأوزبكستان وأذربيجان. فإن أوكرانيا تطل على البحر الأسود المؤدي إلى المضائق التركية وعدد سكانها لا يتجاوز الخمسين مليون نسمة، وأي وجود أمريكي في أوكرانيا سيمنع روسيا من نشر أساطيلها مؤثرة بذلك على أوروبا وآسيا.

وتظهر الأهمية البالغة لأوزبكستان في آسيا الوسطى، حيث تشكل مركز الدائرة في آسيا الوسطى، وهي دولة غنية بإمكاناتها الهيدروليكية والزراعية، فيما تطل أذربيجان على بحر قزوين وهي مجاورة لروسيا.

والوجود الأمريكي في أوكرانيا وأذربيجان هو وجود على البحر الأسود الذي يعتبر منفذا لروسيا على البحر الأبيض المتوسط، وهو أي الوجود الأمريكي وجود على بحر قزوين مستودع البترول في آسيا الوسطى. ويعتبر زبيغنيو بريجنسكي أن من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية التواجد في العمق البري لآسيا الوسطى خاصة في أوزبكستان. كما يعتبر أن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية توثيق علاقتها بألمانيا وفرنسا، من أجل بناء أوروبي متماسك مرتبط بها وبدون بناء أوروبي لا يمكن بناء منظومة تعاون أوراسي أطلنطي وهو الخيار الأفضل والأهم للإدارة الأمريكية في مواجهة أي استيقاظ للطموح الجيوسياسي الروسي تجاه أوروبا الوسطى.

إن من مصلحة الإستراتيجية الأمريكية حسب بريجنسكي هو أن التعدديات الجيوسياسية في المنطقة الأوراسية وبقاء خطوط التماس العقائدي بين الدول لمنع قيام تحالف كيانات معادية للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه على الأمريكيين البحث عن شركاء استراتيجيين لبناء نظام أمني أوراسي أطلنطي.

عبر التاريخ، كان ثمة اهتمام متقطع بالحروب الصغيرة، في الأوقات التي فاجأت فيها بعض الدول أو عمل بعضهم على التخطيط لها أو حاول آخرون التحذير منها.

ظهرت أيضا موجة من الاهتمام بها إثر نهاية الحرب الباردة عام 1991، عندما ظهرت التحليلات التي تقرر أن عصر الحروب الكبرى قد انتهى وأن العالم سوف ينتقل إلى الحروب الأصغر في الأقاليم.

وقد أصبح هذا التعبير متداولا في أوساط وزارات الدفاع الرئيسية في العالم بالحديث عن "أنصاف الحروب" أو القدرات العسكرية المطلوبة للتعامل مع الكوارث الطبيعية أحيانا، وحاولت بعض مراكز الدراسات الاقتراب منه بالحديث عن علاقات إرتباطية تقرر أن الحروب الصغيرة تخلف الحروب الكبيرة أو التحولات الرئيسية أو ضعف الحكومات أو الفراغ الإقليمي، وأنشأت بعض شبكات مراكز الأبحاث مراصد إنذار مبكر خاصة بها.

كان من المعروف في أوساط الأكاديميين في منطقة الشرق الأوسط أن هناك ما يسمى "الصراعات منخفضة الحدة"، لكن قبل عام 1990، كانت دول قليلة فقط هي التي واجهت مواقف مزمنة خطرة ترتبط بذلك المفهوم، أما بقية الدول، فإنها لم تشهد سوى حالات متباعدة لصراعات سلطة مسلحة أو تمردات عسكرية أو صدامات أهلية أو موجات إرهابية أو صدامات حدودية، وبعد ذلك العام، بدأت الحروب الصغيرة في الظهور، قبل أن تتخذ المشكلة أبعادها المتكاملة بعد عام 2001 عندما فشلت آخر محاولات اسقاط نظام حزب البعث في بغداد من الداخل.

بدأت المسألة بشكل شهير لتلك الحروب، هي المواجهات بين جيوش نظامية وعناصر مسلحة غير نظامية، وبينما كانت نظريات مثل "الحروب غير المتماثلة" تحاول أن تفسر ما يجري، بدأت الميليشيات المسلحة والأجنحة العسكرية والتشكيلات الشعبية والفيالق الثورية والعصابات المنظمة و"الطوابير الخامسة" والتنظيمات الإرهابية وشركات الأمن في الانتشار على ساحة الإقليم.

بعد عام 2003، بدا أن الإقليم قد أصبح في حالة حرب ترتبط في الأساس بفكرة المواجهات الصغيرة، فقد توقفت الحروب الأمريكية الكبيرة عند حدود العراق، بعد أن كان من المقرر أن تتحرك في اتجاه عدة أهداف تالية وتم استبدالها بصراعات موجهة أقل تكلفة.

 

تكنولوجيا تنظيم الانقلابات

 

يثير مصطلح "الثورات الملونة" جدلا سياسيا واسعا حسب تقرير لقناة الغد، وتختلف الرؤية والتقديرات بين خبراء الشئون السياسية والاستراتيجية، وهناك من يرى أنها تكنولوجيا تنظيم الانقلابات في مختلف الدول، تبدأ بزعزعة الاستقرار، ويجري خلال ذلك الضغط على سلطات هذه الدول على شكل الابتزاز السياسي، وأما وسيلة هذا الابتزاز فهي ممثلة بحركات الشباب الاحتجاجية التي تنظم وفق مخطط محدد.. والرؤية الثانية على هامش مبادى العلوم السياسية، تقول إن "الثورات والاحتجاجات الملونة" عبارة عن تقنية يجري تصويرها وبنجاح على أنها عملية عفوية، ولكنها في واقع الأمر تتميز بمستوى عال من الدراما المسرحية. ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة موسكو، أندريه مانويلو، أن الثورات الملونة تبقي المجتمع في حالة توتر مستمر، والهدف الوحيد لأية ثورة ملونة هو دائما تنظيم الانقلاب على السلطة مع تصوير ذلك كظاهرة احتجاج عفوية وكفعاليات جماهيرية عفوية للعصيان المدني، والشرط الضروري والحتمي لنجاح الثورة الملونة، زعزعة الاستقرار السياسي الذي يمكن أن يتحول إلى أزمة سياسية تامة.

الثورة الملونة تشبه الثورة الحقيقية فقط من الناحية الخارجية، بحسب ما يرى محللون، ولكن سبب الثورة الحقيقية، تطور فعلي موضوعي للعملية التاريخية، أما الثورة الملونة فهي تكنولوجيا يجري تقديمها في شكل عملية عفوية. وعلى الرغم من وجود اختلافات اجتماعية وجيوسياسية واقتصادية كبيرة بين الدول التي شهدت وتشهد ثورات واحتجاجات ملونة، إلا أن هذه الثورات تنفذ وفق مخطط واحد يتضمن تنظيم حركة احتجاج شبابية يجري تحويلها إلى مظاهرات جموع سياسية واستخدام هذه القوة ضد السلطة القائمة، بهدف دفع السلطة للتخلي عن الحكم.

تاريخ المجتمع هو سلسلة متواصلة الحلقات رغم ما قد تتعرض له من انكسارات، لكن الثورة ليست نزهة ولا حدثا آنيا يبرز فجأة فيحدث التغيير المطلوب كوجبة جاهزة معلبة. إنها مسار طويل يتطلب خوض معارك والتزام الصبر والجهد كي تثمر مع الوقت. بالنسبة لعلم السياسة، تعني الثورة تغيير النظام السياسي ورموزه. أما بالنسبة لعلم الاجتماع فتعني التغيير الجذري والعميق في المجتمع وفي البنى الاجتماعية.

كما لا يوجد تعريف واحد للثورة، فنتائجها غير واضحة أيضا، يمكن للثورة أن تنجح أو أن تفشل. وبحسب "كرين برينتن" في كتابه الشهير "تشريح الثورة" يتصف مفهوم الثورة بالغموض، والأفعال المرتبطة بها ليس لها حدود. فمن الثورة الصناعية وثورة الاتصالات إلى "الثورة الفرنسية"، و"الثورة الأمريكية"... باختصار أصبحت كلمة "ثورة” مرادفا لكلمة "تغيير". لكنه يتساءل: هل يمكن إطلاق تسمية الثورة على التغيير من دون اللجوء إلى العنف؟.

هناك اتجاه سوسيولوجي، بدأ بعد موجة الثورات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي وعرفت بالملونة، يعتبر أنه آن الأوان لنعيد النظر في تعريف مفهوم الثورة وفي ربطها بالعنف.

 

تخريب الدول

 

في نهاية العقدين الأخيرين من القرن الماضي بدأت الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية العالمية بالتفكير عن طريق مفكريها ومراكز أبحاثها بالبحث عن طريقة لتدمير الدول والشعوب المعادية لها فوصلت إلى فكرة تخريب هذه البلدان بتثوير شعوبها وصناعة ثورات مصطنعة يتم دعمها من قبلهم فإما أن تؤدي إلى إسقاط النظام والدولة المعادية لهم أو تكون هذه الثورة المصطنعة الأداة والمطية للتدخل العسكري وضرب وتفتيت البلد.

ومع بداية القرن الحادي والعشرون انتقلت صناعة الثورات إلى مرحلة جديدة متطورة وأصبح لها مراكز لصناعتها ومن أشهر هذه المراكز مركز "ألبرت أنيشتاين" الذي أسسه المفكر الصهيوني جين شارب وأصبح يطلق على هذه المؤامرات اسم الثورات الملونة.

تحت عنوان الولايات المتحدة لن تتخلى عن تكتيك الحروب الصغيرة، كتب المحلل السياسي أرتور بريماك يوم 5 مارس 2021، في "فزغلياد"، حول الخطاب المخادع، في إعلان الخارجية الأمريكية تخلي إدارة بايدن عن التدخل بالقوة لقلب الأنظمة.

وجاء في المقال: ألقى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الأربعاء 3 مارس، خطابا حول الأولويات الاستراتيجية الجديدة لواشنطن على المسرح الدولي. فقال: "لن نشجع الديمقراطية من خلال التدخلات العسكرية المكلفة أو محاولات الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية بالقوة. لقد استخدمنا هذا التكتيك في الماضي. وبصرف النظر عن مدى حسن النية، لم ينجح الأمر".

وفي الصدد، قال الأستاذ في جامعة تينيسي، والخبير في نادي فالداي، أندريه كوروبكوف: "بلينكين مخادع. إن آراء جو بايدن والأشخاص الذين شكلوا فريقه تشكلت في مدرسة التدخل الليبرالي".

وذكر كوروبكوف بأن جوهر التدخل الليبرالي يكمن في التصدير القسري للديمقراطية إلى تلك البلدان التي تعتبرها واشنطن الأكثر "سوءا". وأشار إلى أنهم في الولايات المتحدة يمارسون "الهندسة الاجتماعية" من خلال إنشاء أنظمة ديمقراطية. على الأقل هكذا يرون أنفسهم في هذه العملية".

وذكر كوروبكوف بالقصف الأخير لمعسكرات الميليشيات في سوريا بأمر من الرئيس جو بايدن؛ وأشار إلى أن "هذه العملية أكدت مرة أخرى نوايا واشنطن التدخلية في الشرق الأوسط".

وقال: "لدى حكومة الولايات المتحدة حسابات سياسية داخلية في هذا الشأن. هذا تكتيك كلاسيكي لحرب صغيرة ظافرة: نجاح السياسة الخارجية، يرفع من هيبة رئيس الولايات المتحدة ويصرف انتباه الرأي العام الأمريكي عن الصعوبات الداخلية".

ووفقا لكاتب الصحيفة، فإن "التدخلات الليبرالية" من قبل البنتاغون ممكنة في الشرق الأوسط وفي أمريكا اللاتينية، وفي فنزويلا، بشكل خاص، كما في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي. و "من الممكن أن يجري ذلك بشكل مبطن".

 

حرب ناعمة

 

جاء في بحث نشرته المؤسسة اللبنانية للدراسات والنشر بتاريخ 5 ديسمبر 2019:

خلال العقود الأخيرة، بدأ العالم يشهد ظاهرة سياسية أمريكية الصنع، تسمى الثورات الملونة وتقوم هذه الثورات على منهجية مركبة هدفها إحياء ديناميكية تغيير تتشارك فيها كوسائل عدة مركبات: الإعلام بدرجة أولى وضمنه وسائل التواصل الاجتماعي، والثقافة حيث يصار لإحداث انقلاب حاد على ثوابت التفكير النمطية في المجتمع، والاقتصاد والسياسة والاجتماع.

ويعتمد مخططو الثورات الملونة على عدة عناصر يراهنون عليها لضمان نجاحها، وأبرزها:

اولا: إمتلاك زمام المبادرة. فأنظمة الحكم والأمن في الدول التي تضربها هذه الثورات هي بالعادة لا تملك منهجيات جاهزة لمقاربتها أو مقاومتها. فهذه الدول ببساطة لم تعتد على هذا النوع من التحديات التي يتفاعل فيها، بوقت واحد، الاعلام والثقافة والاجتماع والاقتصاد والسياسة.

ثانيا: التركيز بشكل مكثف وعلمي على الثغرات الموجودة في أنظمة الحكم والبلدان المستهدفة بالثورات الملونة : كالفساد وتردي الوضع الاقتصادي ونقص الحريات، مع المبالغة في تصوير حجمها.

ثالثا: توظيف الاعلام ووسائل التواصل الإجتماعي كمرشد لهذه الثورات الملونة .. وجعل الحدث المحلي الخاص بحصول ثورة ملونة في اي بلد بمثابة حدث عالمي.. ما يؤمن غطاء قانوني وسياسي ودولي لمحتجي هذه الثورات بغض النظر عن أعدادهم إن كانت صغيرة أو كبيرة.

ولعل أبرز إستنتاج يمكن إبرازه عن ما تريده هذه الثورات الملونة، بحسب التجربة المعاشة، هو نقل البلد الى حالة فوضى تمكن البيت الأبيض من السيطرة عليه، إما عبر جعله بحاجة لوصفات سريعة من البنك الدولي والمؤسسات المالية الغربية المرتبطة بواشنطن، وذلك لبقائه على قيد الحياة، وإما أخذه الى فوضى أهلية وتحويله لشركة مفلسة أمنيا وبنيويا ما يسمح لواشنطن بوضعه على طاولة التقاسم الدولي لإعادة إعماره، الخ..

هذا الأسلوب طبق بنجاح كبير في دول شرق أوروبا مما مكن واشنطن وحلف الناتو من الوصول عسكريا إلى حدود روسيا.

المنطقة الثانية التي استهدفتها الولايات المتحدة بالثورات الملونة، كانت منطقة امريكا اللاتينية، والهدف واضح وهو السيطرة على ثروات هذه المنطقة التي تمثل الحديقة الخلفية للولايات المتحدة. فالبرازيل التي أشعلت فيها امريكا ثورة ملونة، كانت تمتاز بتقدم وتطور كبير حققته في العقدين الاخيرين، خاصة على مستوى إنجاز قرار سيادي مستقل لها، وخاصة في عهد رئيسها السابق “لولا دا سيلفا”، وخليفته وتلميذته الرئيسة “ديلما روسيف” . فهذان العهدان تجاوزا الخطوط الحمر الامريكية، كون البرازيل أخذت، من جهة، تسير على طريق إستقلال قرارها السياسي السيادي عن واشنطن، ومن جهة ثانية اتخذت البرازيل توجهاً يدعم القضية الفلسطينية ضد إسرائيل. نفس الأسلوب تجري تجربته ضد فنزويلا ودول أخرى في المنطقة تحاول الافلات من قبضة واشنطن.

المنطقة الثالثة التي وجهت امريكا اليها حرب الثورات الملونة، هي المنطقة العربية.

والواقع أن الثورات الملونة الامريكية في المنطقة العربية لها خصوصية أخرى أو إضافية، وذلك كون أمن إسرائيل هو على صلة بأهدافها. والقصة هنا بدأت منذ سبعينات القرن الماضي، عندما وضع ”بيرنارد لويس” مخططاً كبيرا، أطلق عليه فيما بعد أسم “مخطط بيرنارد لويس”، ويتضمن تقسيم الدول العربية وتفتيت المفتت منها، وإقامة دويلات صغيرة ومتناحرة فيما بينها، وذلك على أساس ديني وطائفي، والهدف الاساس للويس هو إفساح المجال لدولة الكيان الصهيوني كي تكون الدولة الكبرى والأقوى في المنطقة. وكلام بيرنارد لويس يتطابق تماما مع ماقاله أمين عام المنظمة الصهيونية العالمية “أوديد ينون” الذي نشر في عام 1982 في مجلة “كيفونيم” وثيقة حملت عنوان “استراتيجية اسرائيل للعقود القادمة” التي نص مضمونها على تخريب الدول العربية عن طريق الصراعات الدينية والفكرية.

ويلاحظ المراقب ان هذه الأفكار تم تطبيقها في الأحداث التي حصلت في نطاق ما يسمى بالربيع العربي الذي نصب بيرنارد هنري ليفي نفسه راعيا فكريا وعرابا لها.

وكانت سوريا الحلقة الأهم بعد مصر لجهة إشعال ثورة ملونة فيها. وحينما فشلت امريكا بتحويل سوريا لجورجيا أو اوكرانيا ثانية، حشدت مجموعة من دول المنطقة والغربية لتشن عليها حرب عسكرية مباشرة ولكن بالوكالة، أي عبر إستخدام عشرات الأطر الميليشياوية. لكن عجلة حراك الثورات الملونة اصطدم في سوريا بموانع جيو – سياسية وبقرار روسي حاسم بمنع الأطلسي من ان يستغل عنوان الثورة الملونة في سوريا وينظم انقلابا لمصلحته فيها، كما فعل في ليبيا.

واليوم تتمدد محاولات إعادة ترميم الجيل الثاني من خطة الثورات الملونة في عدة أقطار عربية.

قبل سنوات وبتاريخ 20 نوفمبر 2014 دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأخذ العبر من الثورات الملونة في دول أخرى لضمان عدم حدوثها في روسيا. وقال: "في هذا العالم المعاصر يستخدم التطرف كأداة تغيير جيوسياسي وإعادة توزيع مناطق النفوذ".

وأضاف بوتين في اجتماع لمجلس الأمن الروسي: "نحن جميعاً نرى العواقب الكارثية لما يعرف بالثورات الملونة، إضافة إلى الهزات التي تعرض ولا يزال يتعرض لها سكان هذه البلدان حيث مروا بتجارب غير مسؤولة تحت تدخلات خارجية، بعضها فظ جدا، في حياتهم". وأوضح: "لنا في روسيا هذا درس… يجب علينا فعل كل ما يلزم لكيلا يحدث هذا في بلدنا".

إلى ذلك، حذر الرئيس الروسي من خلط محاربة التطرف بمحاربة الرأي الآخر. وقال بوتين بهذا الشأن: "نحن دولة حرة ديمقراطية ولدى مواطنينا كامل الحق بإبداء مواقفهم وآرائهم والتصريح بها ولهم الحق أن يكونوا في جانب المعارضة".

وقال بوتين إن مكافحة التطرف في روسيا يجب أن تتمحور حول المسارات الثلاثة وهي الحرص البالغ على انسجام العلاقات بين القوميات، وتوعية الشباب وتحسين السياسة في مجال الهجرة.

بعد ثلاث سنوات من تصريحات بوتين أكد وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو، أن العملية العسكرية الروسية في سوريا ساعدت على حل مهمة جيوسياسية تتمثل في قطع سلسلة "الثورات الملونة" في الشرق الأوسط وإفريقيا.

ونقلت وكالة أنباء "نوفوستي" الروسية عن شويغو قوله - خلال افتتاح المنتدى الشبابي الروسي الثاني الذي أقيم في موسكو يوم الثلاثاء 21 فبراير 2017، تحت عنوان التعاون الدولي العسكري السياسي والعسكري الاقتصادي "إن القوات الروسية في سوريا لا تقتل الإرهابيين وتحرر سوريا منهم فحسب، بل وتمنع الإرهابيين من التوغل في روسيا".

وأضاف أن محاولات إبطاء تشكيل نظام عالمي جديد سيقود إلى الفوضى، حيث أصبحت القوة العسكرية الأداة الرئيسية لحل المشاكل، مشيرا إلى أن "العلاقات بين الدول تصبح أكثر توترا، ومحاولات الغرب بزعامة أمريكا إبطاء عملية تشكيل نظام عالمي جديد أكثر عدالة يؤدي إلى الفوضى ويقابل برفض من قبل العديد من الدول".

وأشار الوزير الروسي إلى أن حلف شمال الأطلسي "الناتو" لا يزال ماضيا في نهجه السابق المتمثل في رفض كافة أشكال التعاون مع روسيا ويواصل تعزيز قدراته العسكرية قرب الحدود الروسية، مضيفا أن دول الناتو تواصل تخويف نفسها بما يسمى الخطر الروسي.

وتابع "بدلا عن توحيد الجهود لمحاربة الإرهاب، يعلن الحلف أن روسيا هي الخطر الرئيسي، ويعزز قدراته العسكرية قرب حدودنا".

 

ملهم الثورات الملونة

 

جاء في تقرير نشر في العاصمة اللبنانية عن أبحاث البروفيسور الأمريكي جين شارب الذي يوصف بأنه واضع دليل عمل الثورات الملونة: مثلت الحرب الأمريكية على فيتنام بكل نتائجها الكارثية وتكاليفها الباهظة ماديا وبشريا وسياسيا نقطة تحول كبرى في العقل الإمبراطوري الأمريكي. لقد أقنعت تلك الحرب نخبة واشنطن بالحاجة إلى طريقة أخرى لإسقاط الأنظمة التي تستهدفها الولايات المتحدة. عند تلك اللحظة، اكتشف روبرت هارفي الحاصل على تكريم الجيش الأمريكي لبطولاته المأثورة في الفيتنام وكان بعد تقاعده يعمل مستشاراً متعاقداً مع المخابرات الأمريكية توفده لتوجيه الثوريين حول العالم ــ أستاذا في "جامعة هارفارد" يدرس للمبعوثين من أوروبا الشرقية ودول العالم الثالث أساليب إسقاط الحكومات من خلال اللاعنف والمقاومة السلبية وأسلحة سايكولوجية واجتماعية واقتصادية. كان ذلك جين شارب. 

أرسل هارفي وراء شارب للالتحاق به في بورما عام 1992 حيث كان يقدم التوجيه للثوار الذين كانوا يقاتلون منذ عشرين عاما لإسقاط النظام هناك. جاء شارب بالقارب من تايلاند إلى الأدغال البورمية، وأعطى نصائحه للثوار ولخصها لهم في 198 تكتيكا طُبعت كمناشير بالإنكليزية والبورمية قبل أن تجمع لاحقا في كتيب عنون بـ "من الديكتاتورية إلى الديمقراطية" ما لبث أن تحول بفضل المخابرات الأمريكية إلى دليل عمل الثورات الملونة، فترجم إلى عشرات اللغات، وطبعت منه ملايين النسخ، ويتوافر للتحميل مجانا على الإنترنت. كانت ردة فعل قائد المتمردين البورميين الأولية على محاضرات شارب: "اللعنة، أين كان هذا الأمريكي قبل عشرين عاما؟".

قصة شارب مع اللاعنف قديمة. عندما كان شابا في مقتبل العمر وشن الأمريكيون حربهم على كوريا بداية الخمسينيات، رفض الالتحاق بالخدمة العسكرية. لذا سجن وقتها لعدة أشهر. وقد كتب من سجنه لألبرت آينشتاين – عالم الفيزياء المعروف – مستفتيا عن رأيه في موقفه ذاك، فأجابه بلطف متفهما ومؤيدا. وقد أطلق شارب لاحقا اسم آينشتاين على المعهد الواجهة الذي مارس أنشطته من خلاله، ونشر عنه أعماله الكثيرة.

درس شارب علوم السياسة في "جامعة أكسفورد" في بريطانيا معقل الفكر الإمبراطوري الأنغلو ساكسوني، وهناك انتهى إلى نتيجة لونت حياته كلّها مفادها بأن الأنظمة الحاكمة تستند مع قوة السلاح واحتكار العنف المشروع إلى مصادر قوة محددة ترتبط أساساً بطاعة الجمهور، وأنه عبر أنشطة سلمية موصوفة يمكن إضعاف تلك الأنظمة لدرجة التهاوي من دون تدمير مقدرات الدولة بالكامل. إذ من الضروري للثوار المنتصرين أن يجدوا شيئا لحكمه.

راقب شارب تمرد تيانآن مين في الصين عام 1989 عن كثب. تحليله للحدث كان بأن اللاعنف التلقائي بدون استراتيجية متكاملة، وصفةٌ تامة للهزيمة أمام الأنظمة المدججة بالسلاح. ولذا أصبحت تعاليمه تتمحور حول التخطيط الاستراتيجي للإطاحة بالأنظمة وفق خطط متدرجة لتنفيذ الـ 198 تكتيكا العتيدة. كانت صربيا المتململة من حكم سلوبودان ميلوسيفيتش الساحة الأولى التي طبقت عليها هذه التعاليم بنجاح تام. هارفي الذي كانت المخابرات الأمريكية قد أوفدته إلى بودابست لتنسيق الثورات في أوروبا الشرقية، سافر إلى بلغراد سراً والتقى زعيم المتمردين. لم يكن ذلك الزّعيم سوى سرخا بوبوفيتش الذي وجد في الطبعة الصربية من دليل الثورات الملونة التي جلبها هارفي مع ملايين الدولارات من المخابرات الأمريكية ضالته المنشودة، فوضعت استراتيجية متكاملة وخطة متدرجة، نفذتها بحذافيرها وفق تكتيكات شارب حركة أطلقت على نفسها اسم "المقاومة" "أوتبور" باللغة الصربية. لقد سقط النظام بالفعل عام 2000 بعدما نجحت "أوتبور" في شق القوى الأمنية عبر الضغوط الاجتماعية واللاعنفية من استخدام السخرية كسلاح، وتوجيه الغضب مركزاً نحو شخصية "الطاغية"، وعزل التلاميذ الذين يعمل آباؤهم في الجيش والشرطة، وطرق الأواني في وقت إذاعة نشر الأخبار الرئيسية على التلفزيون الحكومي، ودفع الحسناوات والأطفال والعجائز والمتقاعدين العسكريين إلى مقدمة التظاهرات في الميادين العامة، وإغلاق الطرقات أو القيادة بسرعات بطيئة لخلق أزمات سير خانقة، وتوزيع الورد على الجنود، وعزف الموسيقى والرقص الماجن والأغاني البذيئة، إلى اقتحام مبان عالية الرمزية وإسقاط التماثيل مع توفير نقل مباشر لمحطات التلفزيون العالمية المعروفة بدعمها للثورات المتأمركة ("سي. ان. ان"، و"بي. بي. سي"، و"فرانس 24"، و"سكاي" و"الجزيرة" عربية وإنكليزية)، وما إلى ذلك مما ورد في وصفات شارب.

درس شارب تمرد تيانآن مين في الصين عام 1989 ليخلص إلى أن اللاعنف وصفةٌ للهزيمة أمام الأنظمة المدججة بالسلاح.

بوبوفيتش ورفاقه اختفوا لاحقاً من المشهد السياسي في صربيا بعد ميلوسيفيتش، إذ حصلوا على أقل من 2 في المئة من مجموع أصوات الناخبين. لكن المخابرات الأمريكية حولتهم إلى مدربين عالميين لثوار تعدهم لمهمات مستقبلية في دول تجد الاستراتيجية الأمريكية أنه من الضروري تغيير أنظمتها عبر معهد معروف باسم "كانفاس" يستلهم شارب للقرن الحادي والعشرين، لا سيما بعد شيوع الإنترنت. وليس سرا أن الثورات الملونة في أوكرانيا وجورجيا وإيران وزيمبابوي وفنزويلا وما عرف بموجة "الربيع العربي" في تونس ومصر وسوريا ولاحقاً في لبنان والعراق... جميعها عبرت عبر هذا المعهد، وتلقّى قادتها توجيهات مكثّفة ودعما ماليا ولوجستيا (منها حركة "6 إبريل" و"كفاية" في مصر، والثورة المزعومة في سوريا، وحراك "طلعت ريحتكم" في لبنان، والحراك الحالي في العراق).

"كيف تصنع ثورة" الذي أنجزه روريد أرو مراسل "بي. بي. سي" في القاهرة إبان حراك يناير 2011 كان ردة فعل شخصية منه على ما لمسه من تأثير شارب وتكتيكاته في الثورة المصرية المزعومة، التي أطاحت بحسني مبارك من منصب الرئاسة. ورغم محدودية ميزانية الفيلم، وضعفه التقني الظاهر، ونبرته المبجلة لشارب بوصفه حكيم الحريات، فإنه وثيقة تاريخية هامة تؤرخ لتحول هام في منطق الحرب عند الإمبراطورية الأمريكية. وقد اتفق كثيرون من النقاد على تقريض الفيلم من تلك الناحية رغم كثرة المآخذ الفنية عليه، وحاز لذلك جوائز عدة. ولعل ما قد يثير الاهتمام بالنسبة إلى المشاهدين العرب تحديداً الشهادات التي قدمها منذ 2011 قادة في "ربيع" العرب في مصر وسوريا عن علاقاتهم المتقادمة مع شارب قبل سنوات عدة من انطلاق الحراكات. يتحدث أحمد ماهر من "حركة 6 إبريل" مثلا عن تحضير مكثّف لثورة لاعنفية في مصر تضمنت زيارة لاطر "كفاية" إلى شارب في مقر عمله في بوسطن عام 2006، ومن ثم إفادة الثوار المصريين بكثافة من الخبرة الصربية، وتوجيهات "معهد كانفاس"، لا سيما في ما يتعلق بتوظيف مواقع التواصل الاجتماعي.

لكن الجزء الأكثر إثارة في الفيلم، هو شهادة الثائر السوري أسامة المنجد الذي كان ضمن الطاقم التحضيري للثورة المزعومة في سوريا وهو زار شارب شخصيا في بوسطن عام 2006 بسبب ما أسماه وجود استفسارات إستراتيجية حول الخطة التي كان يتم العمل عليها حينذاك لإطاحة النظام. وعندما شاهد العالم العربي سقوط مبارك على قناة "الجزيرة" مباشرة، وجد المخططون بأن تلك اللحظة المناسبة لإطلاق ثورة سورية. يقول المنجد بأن فريقه كان قد نشر مبكرا عددا هائلا من الكاميرات السرية المرتبطة بنظام بث عبر نظام الأقمار الصناعية في أحياء دمشق ومدن أخرى، وهذه كانت جاهزة لمد "الجزيرة" بنسختيها، وبقية جوقة الإعلام الثوري المعروفة بأشرطة مصورة عن المظاهرات المفتعلة، والصدامات مع القوى الأمنية، إضافة إلى توفير خدمات شهود العيان، والتقارير المصورة لمن يطلبها من المؤسسات الإعلامية. "لقد كانت الثورة في شوارع دمشق تطبيقاً عملياً على دروس شارب". بالطبع يظهر شارب في الفيلم (صور في 2011) منتشيا بانتصارات ربيعه العربي، لكن مآلات ذلك الربيع انتهت إلى فشل في تحقيق التغيير المستهدف، وتحول النزاع في سوريا إلى مواجهة عسكرية. بوبوفيتش فسر لاحقاً أسباب فشل ربيعي مصر وسوريا تحديدا في تحقيق أهدافهما. هو رأى أن المصريين ظنوا أنهم بإسقاط شخص مبارك، قد أنجزوا المهمة وعادوا إلى بيوتهم، ليتركوا الأمور بين العسكريين والإخوان لتصارعهم الدائم على السلطة، بينما سرق الإسلاميون حراك سوريا اللاعنفي نحو العسكرة بمراهنتهم على دعم الولايات المتحدة. وهما أمران يلقي الآن محاضرات ويكتب مقالات للتعلم منهما للراغبين. الثورة يجب ألا تنتهي باستقالة الطاغية يقول في مقابلة صحافية معه، بل يجب أن تكون الفرصة السانحة للقفز على الحكم والسيطرة على مؤسسات الدولة من قبل الثوريين. كما يصر على الامتناع عن العسكرة نهائياً بوصفها لعبة محسومة للأنظمة، واختيار نوع معركة بديل: "بشار الأسد مثل الملاكم الشهير تايسون، لا يمكنك أن تهزمه في حلبة المصارعة، لكنك قد تهزمه في لعبة شطرنج". ماذا عن استخدام البذاءة في الحراك الثوري؟ إنه التكنيك رقم 30 في كتيب جين شارب "من الديكتاتورية إلى الديمقراطية".

 

وجهات نظر

 

حدوث الثورات الملونة في مناطق نفوذ مباشرة لروسيا الحالية، وهي دول الاتحاد السوفيتي السابق أو مناطق أخرى كانت على علاقات وثيقة مع الكرملين كالشرق الأوسط، يثير الكثير من علامات الاستفهام، ويفتح الباب أمام جدل، يتصدره بعض أوساط اليسار، حول الهدف الحقيقي لهذه الثورات.

ترى بعض الأوساط اليسارية أن هذه الثورات مصنوعة غربيا، لأنها تحدث فقط في دول الاتحاد السوفيتي السابق، ومحيط وريثته، روسيا، بهدف واضح بالنسبة لهم هو: إزاحة الأنظمة الموالية أو الصديقة لموسكو، لتحل مكانها أنظمة أخرى غربية الطابع، ومن ثم، محاصرة روسيا.

وتستند هذه الآراء إلى دعم الغرب الكبير لهذه الثورات وقت حدوثها، ووجود العديد من منظمات ونشطاء المجتمع المادي الغربيين في قلب الاحتجاجات، وتقديم الولايات المتحدة دعما ماليا لمنظمات المجتمع المدني في الدول التي شهدت هذه التحركات، ويأمل الغرب، وفق هذه الآراء، في أن تحرك التغييرات السياسية في الجوار الروسي تغييرا مماثلًا في موسكو وفق نظرية الدومينو، وهو ما يعده الكرملين تهديدا مباشرا له.

في المقابل، فإن الثورات والانتفاضات بحسب أصحاب وجهة النظر المشجعة لها، تحتاج في حالات عدة لدعم خارجي، ربما يشمل تأييد من دول كبرى للتحرك الشعبي، أو تهديد للأنظمة القائمة لمنعها من استخدام العنف المفرط، ويكون العامل الخارجي حاسما في أغلب الحالات، لكنه ليس العامل الذي يصنع الثورات: الانتفاضات تحدث أولًا، ثم يأتي أي عامل آخر، بحسب تلك الرؤية.

وبناء على ذلك، يرى بعض الباحثين الرافضين لوصم تلك الثورات أن مصطلح "الثورات الملونة" ليس دقيقا من الناحية العلمية لوصف ما حدث من انتفاضات في دول الاتحاد السوفيتي السابقة، وبدلا من ذلك يستخدم بعض المتخصصين مصطلحات يرونها أكثر دقة من وجهة نظرهم مثل "التغيير الانتخابي" أو "الثورات الانتخابية".

ومع الوقت، طور الباحثون ما بات يعرف بـ"الاقتراب الانتخابي" أو "النموذج الانتخابي" للدمقرطة في الدول السلطوية، الذي يستند إلى أساسين واضحين: الأول، يتمثل في أن الانتخابات تعتبر فرصة مثالية للتغيير الديمقراطي. والثاني، يتمثل في أن النجاح الانتخابي في الدول السلطوية يعتمد على التخطيط الجيد والتعليم المستمر وتكوين شبكة قوية من المعارضين والنشطاء ومنظمات المجتمع المدني وداعمي الدمقرطة دوليا، خاصة في ظل تمتع المسؤولين في مثل هذه الأنظمة بميزة السيطرة على الإعلام وغيره من المؤسسات، ومن ثم القدرة على التحكم في وعي الشعب.

 

عودة الشبح

 

جاء في تقرير نشر في القاهرة يوم الاربعاء 3 فبراير 2021:

بعد فاصل قصير، عاد شبح الثورات الملونة للظهور من جديد، في مشهد يبدو وكأنه المستوى الأخير لهذه اللعبة السياسية، والتي أصبحت تتكرر في أهدافها و أدواتها و تكتيكاتها لدرجة الملل، لا يتغير شئ في كل المشاهد سوى الأبطال والوقت فقط، بل وعادة ما تتشابه النهايات أيضا.

الثورات الملونة التي وضع استراتيجيتها وأدوات وأساليب تنفيذها الملياردير الأمريكي ذو الأصول المجرية جورج سوروس في سبعينات القرن الماضي، والتي تعتمد على تدمير الدول ذاتيا عبر استخدام النشطاء الممولين في إثارة الشعوب ضد أنظمتها الحاكمة، لا تتكلف فيها أمريكا والغرب عموماً أية تكاليف أكثر من بضعة ملايين من الدولارات، مع بعض الضغوط السياسية على الدول المستهدفة، إضافة إلى دور مشبوه لبعض وسائل الإعلام المحلية والدولية، تلك التركيبة التي تضمن لك نتائج لم تكن لتحققها عبر حروب طاحنة تتكلف تريليونات الدولارات.

قد يظن البعض أن هذه الثورات تهدف إلى إعلاء مفاهيم حقوق الإنسان، عبر تحرير البشر من الاطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الحاكمة في مجتمعاتها، أو أنها تهدف إلى رفع المستوى المعيشي للشعوب، غير أن تاريخ هذه الثورات الممتد منذ اسقاط الاتحاد السوفيتي، تكشف زيف هذه الأهداف برمتها، وما تحقق في دول جورجيا وأوكرانيا و يوغوسلافيا إضافة إلى دول الشرق الأوسط، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن المستفيد الوحيد من كل هذه الثورات كان سوروس وأصدقائه من رجال الأعمال المالكين للشركات العالمية العابرة للحدود فقط.

أبرز ما يميز الثورات الملونة أنها تستهدف الدول والشعوب ذات التاريخ الاشتراكي أو النظم الاقتصادية والاجتماعية المعادية للغرب أو أمريكا، من النادر أن تجد مثل هذا النموذج من الثورات في الغرب، حتى الثورات الأوروبية التي عصفت بدول أوروبا صيف سنة 2020 لم تكن سوى خلافات عميقة بين هذه الدول من جهة، و بين بريطانيا و أمريكا من جهة أخرى، ويبدو أن توافقا ما قد تم بين الطرفين داخل الغرف المغلقة، اختفت معه هذه الثورات في لمح البصر.

ثاني ما يميز هذه الثورات هو النشطاء و التمويلات الأجنبية و الدعم الاعلامي الضخم لهم، اليوم مثلا تواجه روسيا مظاهرات يحيها بضعة آلاف في عدة مدن روسية، غير أن الغطاء الاعلامي لهذه المظاهرات يعطيك الانطباع بأن الشعب الروسي كله في الشوارع، و أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وشك الهروب من موسكو.

ثالث مميزات هذه الثورات هو استهداف المؤسسات المالية و الاقتصادية بالدرجة الأولى، سواء كان هذا الاستهداف مباشراً كما في الحالة الروسية، أو غير مباشر كما حدث في حالات أخرى، و ذلك عبر اسقاط قوات الأمن و المؤسسات الخدمية، مما يضع اقتصاد هذه الدول بالكامل موجهاً نحو برامج إعادة الإعمار لسنوات عديدة.

قد يظن البعض أن تحرر الشعوب أو التخلص من فساد سلطة أو تطبيق النماذج الحقوقية الغربية كما هي في بلاد تتمتع بموروثات تاريخية و خصوصية ثقافية و اجتماعية يستحيل التخلي عنها، هدف يستحق من أجله كل هذا الخراب والتدمير، غير أن الشعوب في جميع الحالات هي التي تدرك عبث هذه الاطروحات، وتستعيد أوطانها وتتعاون مع بعضها البعض لتجاوز آثار ونتائج هذا الفخ السياسي، وهو ما ترجمته كافة الاستحقاقات الانتخابية التي أقيمت بعد هذه الثورات.

إن أخطر ما تحمله الأوضاع الدولية اليوم هو التأكيد على أن اليسار الليبرالي الأمريكي الجديد في ولايته الجديدة لن يتخلى عن أدواته القديمة في اثارة الفتن، وأن أمريكا لن تستقر قبل أن تشتعل العالم أجمع، و تنعش تصلب شرايين اقتصادها المتجمدة بتجارات مثل إعادة الإعمار والسلاح ونهب موارد الدول الغير مستقرة سياسيا.

وأن داعمي اليسار الليبرالي الأمريكي من رجال الأعمال لن يتوقفوا إلا بالسيطرة على كافة موارد و مقدرات هذا الكوكب، ويستخدمون في سبيل ذلك أدوات تتغير، هم في بلاد معينة يدافعون عن الاسلام كما يدافعون في بلاد أخرى عن المسيحية، كما ستجدهم في بلاد ثالثة يدافعون عن الملحدين.
عمر نجيب

[email protected]