لا تزال المسألة اللغوية تثير جدلا بين جزء من الطبقة السياسية و إن غدت " شبه محسومة" بالنسبة للنخب الفكرية- و التي هي مع الأسف- قليلة العدد خَفٍيضَةُ الصوت محدودة التأثير و التي تري أن مركز الاهتمام و "دائرة الاستعجال" في أيام موريتانيا هذه و الطريق المستقيم إلي وحدتها الوطنية و سلمها الأهلي و أمنها المجتمعي هو محاربة "إرث الفوارق الاجتماعية" و ما سوي ذلك طُرُقٌ فرعية و بُنَيًاتُ طريق وجهل بعلم الأولويات ...
و المسألة اللغوية في موريتانيا يمكن اختزالها تيسيرا لدراستها في شؤون تسيير العلاقة المتوترة غالبا بين اللغات الوطنية الأربعة : العربية، البولارية ، السوننكية و الولفية من جهة و تسيير العلاقة بين تلك اللغات الوطنية و اللغة الفرنسية التي ظلت فترة طويلة اللغة الرسمية دستوريا لهذا البلد لا في فترة الاستعمار فحسب بل خلال جزء معتبر من تاريخ الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال.
و سبيلا إلي إزالة الحساسية لدي بعض رموز الحركات الزنجية القومية من رجوع الدولة عن "خطيئة" دسترة ترسيم اللغة الفرنسة وإقرار اللغة العربية اللغةَ الرسمية الشرعية و الوحيدة فيما يمكن تسميته " بالاستقلال الثقافي" فينبغي التذكير بأن اللغة الرسمية لأي بلد يجب غالبا أن تكون إحدي لغاته الوطنية إلا إذا كانت اللغات الوطنية للبلد كلها غير مكتوبة و قد يحدث أن تكون اللغات الرسمية لغات وطنية متعددة في آن واحد وذلك في حال التقارب العددي للناطقين بتلك اللغات و عموما يكون الترجيح بين اللغات الوطنية إن تعددت علي أساس المعايير التالية:
أولا: عالمية اللغة: ومن المعلوم أن اللغة العربية هي الوحيدة من بين اللغات الوطنية التي تحوز صفة العالمية حيث يتحدث بها ما يزيد علي 200 مليون فرد و هي اللغة الرابعة حسب تصنيف اللغات الرسمية للأمم المتحدة دون أن يُقَلٍلَ ذلك من مقدار لغاتنا الوطنية الأخري؛
ثانيا: الانتماء اللغوي للأغلبية الكبيرة من السكان :اللغة العربية تتكلم بها الأغلبية الكبيرة من الشعب و في غياب إحصاءات في هذا المجال فإن الأخصائيين الاجتماعيين مجمعون علي أن المتحدثين بأي لغة وطنية أخري علي حدة لا يقارب عددُهم في شيئٍ مِعْشَارَ عدد المتحدثين باللغة العربية
ثالثا: خدمة اللغة للتواصل التاريخي و تنمية المشترك: من الثابت تاريخا أن اللغات الوطنية غير العربية كانت مكتوبة بالخط العربي و أن علماء و صُلَحَاءَ و أمراء و مشايخ و مجاهدين و أعلام فكرٍ و أدبٍ زُنُوجا- وكثيرا ما هم- كانوا يستخدمون اللغة العربية في مراسلاتهم و إبداعاتهم و ساهموا مساهمات جلي في إثراء الثقافة العربية الإسلامية منهم من قضي نحبه و منهم من ينتظر و كثير منهم لا زال الخَلَفُ منه يصل وٍدٌ السلف.
و الناظر للتركيبة اللغوية للعديد من دول العالم يدرك أن المحددات آنفة الذكر هي التي تحكم اختيار اللغة الرسمية من بين اللغات الوطنية ففي فرنسا تعتبر اللغة الفرنسية اللغة الرسمية الوحيدة إلي جانب العديد من اللغات الوطنية و الجهوية من قبيل Breton- basque- Catalan-... كما يوجد بمالي الشقيقة سبع عشرة لغة وطنية و بالسنغال سبع لغات وطنية و بساحل العاج سبعون لغة وطنية و بنيحيريا 522 لغة وطنية و بالصين الشعبية سبع لغات حية فيما تعتبر "الماندرين" اللغة الصينية الرسمية.....
و التواتر عريض علي أن حساسية بعض النخبة السياسية المنحدرين من الضفة من رسمية اللغة العربية تعود أساسا إلي أن الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد خلال العقود الماضية لم تحسن تسيير " المرحلة الانتقالية" من رسمية اللغة الفرنسية إلي " رسمية" اللغة العربية حيث لم تَخْلُ تلك الفترة من الشٌطَطٍ و العنف المعنوي و شيئ من الإقصاء وشعارات التعسير و التًنْفٍيرٍ...فيما يشبه الفرانكوفوبيا مما خلق ردات فعل سلبية من طرف بعض النخب السياسية الزنجية و العربية الفرانكفونية الذين يكرر أغلبهم بأنهم ليسوا ضد ترسيم اللغة العربية و إنما هم ضد الطريقة "الفُرْسَانٍيٌة" التي تم و يتم بها ذلك الترسيم.
و فيما يخص علاقة اللغة الرسمية باللغات الوطنية فإن الإجماع منعقد بين جميع الطبقة السياسية و أكثرهم حماسا المنتسبون إلي التيار القومي العربي علي ضرورة ترقية اللغات الوطنية و تعليمها كلغات حية في بعض مستويات التعليم أما المطالٍبون بترسيمها جنبا إلي جنب مع اللغة العربية فإنما يسعون في الإدارة فسادا و تعقيدا و خلطا للأوراق و تجريبا لنموذج لغوي، سياسي و إداري غير موجود البتة في المنطقة الإفريقية و العربية و غير موجود مطلقا عبر العالم إذا ما أخذنا في الاعتبار المعايير العلمية لانتقاء اللغات الرسمية من بين اللغات الوطنية.
و بعد عرض الإثارات السابقة حول إزالة الحساسية لدي بعض النخب السياسية الزنجية من ترسيم اللغة العربية سأمر – لٍمَاما- علي كشف الضبابية عن مكانة اللغة الفرنسية في المشهد التعليمي و الإداري تلك اللغة التي تعاني في بلادنا من "ظُلْمَيْنِ" أشدهما ظلمُ بعض الفرانكوفيليين الزنوج الذين يطالبون بترسيمها و إحلالها محل اللغة العربية و ظلم بعض الفرانكفوبيين العرب الذين يعتبرونها من محارم اللسان و لا يشيرون إليها إلا من باب تشجيع تعليم اللغات الأجنبية و قد يؤثرون التوصية بتعليم الإنجليزية كلغة تعليم ثانية قبل اللغة الفرنسية.
و إذا ما وضعنا في الحسبان أن اللغة الفرنسية كانت اللغة الرسمية دستوريا لهذا البلد لفترة طويلة و أنها اللغة الرسمية للعمق الإفريقي الذي نعتز بالانتماء إليه و أنها اللغة الأولي إتقانا للأغلبية الساحقة من الجيل المؤسس للدولة و الأغلبية الكبيرة من خيرة الأطر الموريتانيين الحاليين عربا و زنوجا و أنها لغة الشريك الاقتصادي و التنموي الأول و أنها لا زالت واقعيا رغم سياسة الاجتثاث اللغة الغالبة في المراسلات الإدارية أمكن الإجماع علي أن تكون اللغة الفرنسية – استحقاقا- اللغة الثانية في التعليم مع التنبيه إلي أهمية تقوية الضارب المنخفض الآن للغة الثالثة (الإنجليزية) التي هي اليوم " جواز السفر العالمي" ضف إلي ذلك اقتراح اعتبار اللغة الفرنسية " لغة إدارية انتقالية" في بعض القطاعات الفنية مع إلزامية إعداد خطة زمنية لا تزيد علي عشر سنوات لإحلال العربية محل الفرنسية في المعاملات الإدارية بتلك القطاعات.
————————————-
*مقال كتب منذ سنوات أعيد نشره بتصرف بسيط فى العنوان.