العالم في متاهة الفوضى الخلاقة التي صنعتها جائحة كوفيد 19... سيناريوهات النظام العالمي المستقبلي

ثلاثاء, 2021-02-09 14:36

يمر العالم منذ نهاية الثلث الأول من سنة 2020 بحالة اضطراب شديدة امتزجت فيها ومن خلالها تبعات وإسقاطات جائحة كوفيد 19 مع الأزمات والتوترات السياسية والعسكرية والاقتصادية الدولية والإقليمية التي تبلورت وتجسدت في مرحلة انتقالية خاصة بالصراع من أجل نظام عالمي جديد ونضوج عملية تبدل موازين القوى على الصعيدين الإقليمي والدولي.

قبل الجائحة كان من الممكن للخبراء الاقتصاديين والعسكريين والسياسيين رسم بيانات توقعات ترجيحية لمسار الأوضاع العالمية اعتمادا على معطيات مؤكدة وتحليل خوارزمي. الخوارزميات "مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما"، ويعبر مفهوم الخوارزمية عن طريق عمل، أو صيغة لحل المشكلات، حيث تعتمد على تنفيذ متسلسلة من الإجراءات المحددة.

عدم التمكن حتى بعد بداية سنة 2021 من فهم تطورات جائحة كوفيد 19 فرض شللا في رسم الاحتمالات المستقبلية. موازاة مع هذه الوضعية تضخمت الأخطار التي تواجه العالم نتيجة اتخاذ القرارات بناء على تقديرات غير دقيقة..

كتب سايمون كوبر من باريس لصحيفة فاينانشال تايمز يوم 8 فبراير 2021:

عندما أستمع إلى العلماء يتحدثون عن الوضع الذي قد نكون عليه بعد عام من الآن، يظهر سيناريوهان رئيسان. الأول جيد: كوفيد - 19 يستمر في الانتشار لكنه يفقد لسعته. يحصل معظم الناس في الدول الغنية، والأكثر ضعفا في الدول النامية، على التطعيم في 2021. اللقاحات تمنع المرض الذي تسببه جميع السلالات. يضعف كوفيد - 19 وبمجرد أن يعثر على ضحايا محتملين محميين إما عن طريق التطعيم وإما عدوى سابقة، يصبح في أسوأ الأحوال نزلة برد سيئة. يقول أنتوني كوستيلو، وهو مدير سابق في منظمة الصحة العالمية: "الشيء الأكثر احتمالا هو أنه سيتحول إلى شكل أكثر ودا. هذا قد يحل المشكلة".

لكن هناك سيناريو آخر، أقل احتمالا إلا أنه بالغ الأهمية لدرجة أننا بحاجة إلى التفكير فيه مليا: العالم يحصل على "كوفيد طويل". الطفرات المقاومة للقاحات تسبب أعواما من الموت الجماعي وعمليات الإغلاق المتكررة والكوارث الاقتصادية والخلل السياسي. ما الذي يحدد أي سيناريو سيتحقق؟.

 

لا أحد بأمان

 

كتبت جيني لافين من جامعة إيموري وآخرون في مجلة العلوم: "أربعة فيروسات كورونا بشرية (...) تنتشر بشكل متوطن في جميع أنحاء العالم وتسبب أعراضا خفيفة فقط". ربما كانت هذه الفيروسات قاتلة أيضا في الماضي، إلى أن اكتسب الإنسان مناعة وقائية من خلال العدوى في سن الرضاعة. عندما يصاب الناس بالعدوى مرة أخرى بعد سن الرشد، تعرف أجهزتهم المناعية كيف تقاوم. كوفيد - 19 قد يجعل تلك الرحلة نفسها أسرع بكثير، حيث تعجل اللقاحات بمناعة القطيع. حتى مع ظهور الطفرات، يفترض أن اللقاحات وحالات العدوى السابقة تمنح مناعة كافية لحمايتنا على الأقل من الإصابة الشديدة، يبدو أن بعض اللقاحات الموجودة تتعامل مع الطفرات في بريطانيا وجنوب إفريقيا. في هذا السيناريو الحميد، يمكن للدول الفقيرة انتظار اللقاحات، لأن سكانها الشباب ليسوا معرضين بشدة لكوفيد - 19. (أكثر من نصف الأفارقة الأحياء اليوم ولدوا في هذا القرن).

مع ذلك، لا يزال السيناريو الخبيث واردا، كما يقول كوستيلو. ظهرت الفيروسات المتحورة الجديدة بسرعة. قال فيليب كراوس، رئيس مجموعة عمل منظمة الصحة العالمية المعنية بلقاحات كوفيد - 19، لمجلة العلوم: "إذا كان من الممكن للفيروس أن يتطور إلى نمط ظاهري مقاوم للقاحات، فقد يحدث هذا في وقت أقرب مما نحب". ربما يكون ذلك هو ما يحدث الآن في مدينة ماناوس البرازيلية. فبعد أن دمرتها الموجة الأولى من كوفيد - 19، تتعرض للدمار مرة أخرى، ربما لأن ضحايا الموجة الأولى ليسوا محصنين ضد السلالة الجديدة.

من المحتمل أن يقوم صانعو اللقاحات بتطويرها لمكافحة سلالات جديدة، لكن الأمر قد يستغرق شهورا. وقد تكافح الدول لاستدعاء الملايين من الأشخاص الذين تم تطعيمهم أخيرا مرة أخرى لمزيد من التطعيم. وقد تكون اللقاحات الجديدة فعالة بنسبة 50 في المائة فقط، مثل لقاح الإنفلونزا. كما أننا لا نعرف إلى متى ستوفر اللقاحات مناعة ضد كوفيد - 19. هل سيعود الناس للحصول على جرعات معززة؟

الأسوأ من ذلك، أن الطفرات شديدة العدوى ترفع المستوى الذي تكتسب فيه دولة ما مناعة القطيع. قد يتطلب الوصول إلى هناك الآن تطعيم 78 إلى 95 في المائة من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 12 عاما، كما تحذر شركة ماكينزي الاستشارية. بعضهم سيرفض التطعيم. وفي الوقت نفسه، يستمر فيروس كوفيد - 19 في الانتشار والتحور، خاصة في الدول الفقيرة.

يرى إيان جولدين، أستاذ العولمة والتنمية في جامعة أكسفورد، سيناريو أكثر احتمالا من كوفيد العالمي الطويل: جائحة جديدة. فهو يلاحظ تزايد تواتر الأوبئة هذا القرن، في الوقت الذي تصبح فيه موطن الحيوانات والبشر مضغوطة، والسفر العالمي يزيد من انتقال العدوى.

تخيل جائحة تستمر لأعوام وتقتل الملايين. قطاعات كاملة – السياحة والمطاعم والفنون والطيران والمؤتمرات – يمكن أن تنهار. قد يكون الأمر كذلك بالنسبة للديمقراطيات، لأن الأشخاص المنعزلين هم الذين يبرزون نظريات المؤامرة في غرف نومهم. الدول المفلسة لا مجال أمامها سوى أن تطبع النقود نتيجة قلة حيلتها. قد يكبر الشباب العاطل عن العمل غير مهيأ للتعامل مع الناس خارج الشاشة. سيتمرد الكثيرون ضد عمليات الإغلاق، ويقاتلون قوات النظام. ستنتشر جائحة الصحة العقلية وتصبح خارج نطاق السيطرة. ستصبح بعض الدول – نيوزيلندا وأستراليا وتايوان وفيتنام – واحات يحاصرها مهاجرون محتملون من أي مكان آخر. بين الموجات القاتلة، سيبحث الناس عن الراحة في أعنف التجارب.

لتفادي كوفيد العالمي الطويل، يجب على الدول أن تسرع. كلما أسرعت البشرية في تحقيق مناعة القطيع، قل وقت تحور الفيروس وخروجه عن نطاق السيطرة. نحن بحاجة إلى إنفاق كل ما يتطلبه الأمر على التعبئة بأسلوب زمن الحرب لصنع اللقاحات وتوزيعها وحقنها.

نحتاج أيضا إلى إيصال اللقاحات إلى الدول الفقيرة بسرعة. مبادرة كوفاكس – التي تهدف إلى ضمان التوزيع العالمي العادل للقاحات – تكافح بشدة للوصول إلى 27 في المائة من الناس في الدول ذات الدخل المنخفض هذا العام، في مواجهة نقص التمويل ونقص الإمدادات من قبل الدول الغنية. تستهدف كوفاكس الحصول في 2021 على تمويل يبلغ 6.8 مليار دولار. قارن ذلك بتكلفة إغلاق أسبوع في دولة غنية. إجمالا، كما يقول جولدين: "وجدت الدول الغنية 12 تريليون دولار لنفسها، لكن تم التعهد بمبلغ 100 مليار دولار فقط للدول النامية".

حذر تيدروس أدهانوم جيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، من أن "لا أحد بأمان إلى أن يصبح الجميع بأمان". يغلب على الناس في الدول الغنية رفض مثل هذه التقوى. تعلمنا من التجربة أننا يمكن أن نكون آمنين حتى عندما تقضي الأوبئة على فقراء العالم. هذه المرة قد لا يعود هذا صحيحا.

 

سبع سنوات

 

لا يزال السؤال عن متى تعود الحياة إلى طبيعتها، هو الشغل الشاغل لدى كثيرين في مختلف أنحاء العالم، والذي لم تتضح له إجابة واضحة وشافية إلى الآن. 

تقرير لوكالة "بلومبيرغ" الأمريكية، حاول الرد على هذا السؤال، إلا أن الإجابة لم تكن مبشرة، إذ سيستغرق الأمر سبع سنوات حتى يعود العالم إلى وضع ما قبل ظهور فيروس كورونا.

وقد اعتمدت "بلومبيرغ" في الإجابة على هذا السؤال، على أكبر قاعدة بيانات للقاحات كورونا حول العالم -خاصة بها- للإجابة على هذا السؤال، بجانب توقعات العلماء حول العالم، مثل كبير أطباء الأمراض المعدية في الولايات المتحدة، أنتوني فاوتشي.

وقال فاوتشي إنه حتى تعود الحياة إلى طبيعتها، فإن يجب تطعيم من 70 بالمئة إلى 85 بالمئة من السكان.

ومع تسريع عمليات التلقيح في الدول الغربية الغنية عن باقي دول العالم، فإنه من المتوقع أن يستغرق العالم سبعة سنوات كاملة للوصول إلى النسبة المنشود، في حال ما استمرت وتيرة التلقيح الحالية.

ولا زال الجدل دائرا في أوساط المجتمع العلمي، بخصوص تعريف مناعة القطيع، ومتى يمكن تحقيقها، فهل تتحقق في حال ما تم تحجيم سرعة انتقال المرض، أم بتطعيم 75 بالمئة من السكان بشكل كامل.

فيما يعرفها آخرون على أنها النقطة التي لا يمكن فيها استمرار تفشي المرض، ومثال على ذلك، هو أنه رغم وجود حالات إصابة بالحصبة في مجتمع غير محصن، فإن مناعة القطيع تمنعها من الانتشار عبر البلد.

 

التغيرات الكبرى 

 

هناك شبه إجماع من خلال قراءة معظم التقارير الاقتصادية الصادرة عن مؤسسات مرموقة بأن تداعيات انتشار فيروس كوفيد 19 أو كورونا قد تمتد إلى أعوام، لكن من المهم الحذر عند قراءة هذه التقارير بسبب عمومية كلمة آثار هنا، فالقراءة المستعجلة لهذه التقارير ربما تقود إلى اليأس بشأن القرارات الاقتصادية للأعوام المقبلة. وكما ذكرت وكالة "بلومبيرغ" للأنباء في تقرير نشرته أنه بمقياس إجمالي الناتج المحلي، يمكن القول إن الاقتصاد العالمي يمضي بصورة جيدة في طريق التعافي من التباطؤ الذي تحمل تداعياته سكان العالم أجمع تقريبا، لكن هذه النبرة من التفاؤل تعود لتختبئ خلف التحذير من أن التغيرات الكبرى في الاقتصاد العالمي ما زالت في بدايتها.

من وجهة النظر هذه يأتي التفاؤل دائما من رؤية العودة إلى النمو الاقتصادي القريبة والمتوقعة بقوة، وذلك لأسباب عدة أهمها اندفاع الحكومات نحو دعم الأنشطة الاقتصادية من أجل الحفاظ على الوظائف وأيضا قوة الطلب، وتوسع سياسات التيسير الكمي، لتشمل شراء سندات الشركات إلى جانب السندات الحكومية بهدف تعزيز الأداء الاقتصادي، كما أن أسعار الفائدة لم تزل شديدة الانخفاض وقد تستمر كذلك لفترة. وهناك إجماع على أن الحكومات لديها مجال أكبر للإنفاق في عالم منخفض التضخم، كما يمكن لهذه الحكومات استخدام السياسة المالية بشكل أكثر استباقية لدفع اقتصادياتها إلى النمو، وهذا أطلق العنان لجنون المضاربات في الأسواق، وكل هذا يدعم النمو الاقتصادي العالمي خاصة مع انتشار اللقاحات والانتهاء ولو مرحليا من سياسات الإغلاق الكبير التي عمت كثيرا من دول أوروبا، وهي التي أثرت في الطلب الكلي بشكل عنيف.

لكن مجرد العودة إلى النمو الاقتصادي لا يعني أن الآثار والتداعيات الاقتصادية للأحداث التي عمت الاقتصاد العالمي بسبب الفيروس قد ولت، بل الحقيقة أنها لم تزل غير معلومة بشكل تام، وأفرزت الأحداث حضورا واسعا للأنظمة الآلية والذكاء الاصطناعي التي استحوذت فعليا على وظائف عمال المصانع والخدمات، كما أفرزت الأحداث إمكانية عمل الإداريين من منازلهم ما يخفف الأعباء الاقتصادية المترتبة على حضورهم للعمل.

فمثلا شهدت الأشهر الماضية تغيرات هيكلية في قطاعات الملابس مثلا نظرا إلى انخفاض الطلب بشدة على ملابس العمل الرسمية، كما واجه القطاع العقاري تغيرات ناتجة عن انخفاض واسع النطاق في الطلب على المكاتب الإدارية، وهذه التغيرات سواء في دخول الآلة بقوة، أو انحسار دور الإنسان أدت إلى تغيرات ضخمة في شكل المصانع وبالتالي الأفكار التي كانت سائدة بشأن نقل المصانع إلى المناطق الأكثر كثافة بالعمال، وأفرزت تغيرا في شكل وتمركز سلاسل الإمداد، وهذا من شأنه أن يزيد التباين في الدخول بين الدول بعضها بعضا وداخل الدولة نفسها.

 

دور أكبر للحكومات

من هذا المنطلق ستلعب الحكومات دورا أكبر في حياة المواطنين، لمعالجة الظواهر المتراكمة الناتجة عن هذه الظروف فستضطر الحكومات إلى إنفاق مزيد من الأموال ما يجعلها تقترض أكثر ليرتفع مستوى العجز والدين العام. وهنا يحذر البنك الدولي من ظهور جيل جديد من الفقراء وفوضى في سوق الديون، ويقول صندوق النقد الدولي إن الدول النامية تواجه خطر العودة إلى الخلف لمدة عشرة أعوام على الأقل بسبب تداعيات الجائحة. 

ووفقا لتقرير صادر عن شركة ماكينزي، فهناك بالفعل نقاش حول المدة التي يمكن أن تستمر فيها الدول في الإنفاق الحكومي الكبير، ومتى يتعين على دافعي الضرائب بدء سداد هذه الفاتورة، وفي تقارير عالمية أخرى تذهب بعيدا جدا لتقول إن الحكومة الكبيرة قد تعود إلى الظهور حيث تعاد كتابة العقد الاجتماعي بين المجتمع والدولة بسرعة.

إذن لا مفر من مواجهة التداعيات وقبول التغيرات الهيكلية، فالقوة الاقتصادية الحرة ستأخذ مجراها كما كانت دوما، فهناك دراسات تشير إلى أنه يجب التوقف فورا عن دعم الشركات فالنتائج تظهر ارتفاع مستويات ديون الشركات في جميع أنحاء العالم المتقدم، حيث يقدر بنك التسويات الدولية أن الشركات غير المالية اقترضت 3.36 تريليون دولار في النصف الأول من عام 2020، ومع انخفاض الإيرادات في عديد من الصناعات فإن الظروف مهيأة لأزمة عجز كبير عن سداد الديون بالنسبة إلى الشركات وظهور ما يسمى "شركات زومبي" لا يمكنها البقاء في السوق الحرة ولا تستطيع مواصلة عملها إلا بمساعدة الدولة، ما يجعل الاقتصاد بأكمله أقل إنتاجية، وفي ظروف كهذه فإن القرارات الصعبة تواجه الاقتصاد العالمي ولم تزل أمام الجميع.

 

النظام العالمي المستقبلي

 

يوم 3 فبراير 2021 كتب البروفيسور في المدرسة العليا للاقتصاد دميتري ايفستافيف، في "أوراسيا إكسبرت"، حول السيناريوهات التي سينبني عليها النظام العالمي المرتقب.

وجاء في المقال: من المرجح أن تفشل محاولات الإدارة الأمريكية الجديدة إعادة العالم إلى حقبة "ما قبل ترمب" العولمية.

يدخل العالم حقبة يمكن أن يطلق عليها "جيواقتصاد القوة". أصبحت المرحلة الحالية من التطور العالمي مرحلة انتقالية إلى "تعدد أقطاب ائتلافي"، وهو البديل الأكثر احتمالا لظهور تعدد أقطاب عملي. إننا نشهد التصفية النهائية لـ "قواعد اللعبة" وتحول المؤسسات العالمية، السياسية والاقتصادية، إلى مؤسسات وهمية. السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي مكانة أوراسيا في هذه العمليات وإلى أي مدى سوف يؤثر "جيواقتصاد القوة"  فيها؟.

يمكن اختزال الأشكال الجديدة للتحولات على مستوى البلدان والمناطق إلى ثلاثة خيارات رئيسية:

●  محاولة "دحرجة" الوضع إلى ما كان عليه في العامين 2015-2016:

يبدو أن تحقق هذا السيناريو هو الأقل احتمالا، على الأقل بسبب الحاجة إلى إنفاق موارد باهظة عليه. لكن مثل هذا البرنامج بالتحديد هو الذي أعلنته إدارة جو بايدن. وهذا البرنامج، هو الذي سيشكل أساس "الأطلسية الجديدة".

●استخدام الإمكانات المتبقية لأحادية القطب الأمريكية لإبطال محاولات مراكز القوة الجديدة تشكيل "مناطق نفوذ" خاصة بها. وهو يفترض نقل النفوذ الاقتصادي إلى أيدي الشركات العابرة للقوميات. ثم نزع السيادة السياسية، وفق إحدى السيناريوهات المجربة، في أواسط العقد الأول من هذا القرن (في اوكرانيا، وفنزويلا، والعراق).

● تشكيل "مناطق نفوذ" إقليمية حول مراكز قوة جديدة. على أساسها، يمكن تشكيل مناطق جيواقتصادية كاملة المعنى. وتصبح الأداة الرئيسية لتشكيل "مناطق النفوذ" الأدوات المستخدمة في مجال الأمن، والمفهومة على أوسع نطاق ممكن. وتعد تركيا رائدة في تنفيذ هذه الاستراتيجية.

وهناك، في أوراسيا، من حيث المبدأ، احتمالات لمحاولات تنفيذ نماذج التحول الثلاثة كلها. وهذا يهدد بمستوى عال من عدم القدرة على التنبؤ، بما في ذلك في المجال السياسي العسكري.

 

نقطة الانهيار

 

يوم الجمعة 5 فبراير 2021 أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه سيتحرك "سريعا" لتمرير حزمته الضخمة لإنقاذ الاقتصاد في الكونغرس، وإن تم ذلك بدون الحصول على دعم الجمهوريين، مشيرا إلى أن كثيرا من الأمريكيين يقتربون من "نقطة الانهيار".

وقال بايدن في خطاب في البيت الأبيض "أرى ألما هائلا في هذه الدولة، عديد من الناس من دون عمل، وعديد من الناس جياع".

وأضاف "أعتقد أن الشعب الأمريكي يتطلع الآن إلى حكومته من أجل المساعدة، لذا سأتحرك وسأتحرك سريعا".

وأشار بايدن إلى رغبته في الحصول على دعم الحزبين للحزمة التي تبلغ قيمتها 1.9 تريليون دولار التي ستمول عملية إطلاق اللقاحات المضادة لفيروس كورونا المتعثرة على الصعيد الوطني وستوفر الدعم الاقتصادي للأمريكيين، بما يشمل شيكات بقيمة 1400 دولار.

لكن الرئيس الديمقراطي شدد على أن أولويته تتثمل في إنقاذ الدولة، مضيفا "أرغب في القيام بالأمر بدعم من الجمهوريين.. لكنهم لا يرغبون في الذهاب بعيدا إلى الحد الذي أراه ضروريا"، وقال "يمكننا تخفيف معاناة هذه الدولة. أعتقد حقا أن المساعدة الحقيقية على السكة".

وتبنى مجلس الشيوخ الأمريكي قرارا بشأن الميزانية يوم الجمعة 5 فبراير يسمح للديمقراطيين بتمرير حزمة الإنقاذ الاقتصادي التي اقترحها الرئيس جو بايدن وقدرها 1.9 تريليون دولار من دون الحاجة إلى الحصول على دعم الجمهوريين.

وصوتت كامالا هاريس نائبة الرئيس لمصلحة القرار، لتسمح بإقراره بـ51 صوتا مقابل 50 في وقت مبكر الجمعة، في ختام عملية تصويت تواصلت لساعات، وتطرق أعضاء المجلس خلالها إلى عشرات التعديلات على القرار.

وحظيت بعض التعديلات بتأييد الحزبين على غرار تعديل يسعى إلى منع الأمريكيين ذوي الدخل المرتفع من الحصول على شيكات كوفيد بقيمة 1400 دولار.

وكانت عملية التصويت إجرائية ولا تعد إقرارا لمقترح بايدن في ذاته، بل تمهد الطريق للديمقراطيين ليتمكنوا من إقراره بتصويت على أساس حزبي بدون عرقلة من قبل الجمهوريين الذين يعارض عديد منهم مشروع قانون بايدن، إذ يعدونه مكلفا للغاية.

وسبق أن أقر مجلس النواب قرار الميزانية مطلع الأسبوع، لكن سيجب حاليا مطابقته مع نسخة مجلس الشيوخ.

وبينما دعا بايدن الجمهوريين إلى مناقشة الحزمة، إلا أنه حذر من أنه مستعد للتحرك بدون انتظار موافقتهم، مشيرا إلى وجوب تحرك الحكومة بشكل عاجل في وقت يواصل فيه الوباء خنق الاقتصاد بينما أودى بحياة 450 ألف شخص في البلاد.

وبعد جلسة التصويت، قال تشاك شومر زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ "كانت خطوة أولى عملاقة، تمت بالتوافق".

لكن جون كورنين السناتور الجمهوري من تكساس أشار إلى أن الجزء الأكبر من الأموال التي أقرها الكونغرس ضمن حزمة الإنقاذ الأخيرة في ديسمبر 2020 لم يصرف بعد.

وقال كورنين "عملية التوافق هذه ليست مصممة للتشجيع على التعاون بين الحزبين أو التفاوض.. ماذا يريد زملاؤنا الديمقراطيون القيام به؟ يريدون جرف الأموال إلى الخارج".

 

المعارك الثلاث الرئيسة

 

بالمقارنة مع بقية دول العالم وبالضبط مع الولايات المتحدة كانت الصين الناجي الوحيد من عاصفة كورونا .. 

أظهرت بيانات من مكتب الإحصاءات الصيني يوم الاثنين 18 يناير 2021 تعافيا اقتصاديا فاق توقعات المحللين في الربع الأخير من عام 2020، إذ بلغ معدل النمو 6.5 في المائة على أساس سنوي.

كان اقتصاديون استطلعت "رويترز" آراءهم قد توقعوا نموا 6.1 في المائة، في حين كان معدل النمو في الربع الثالث 4.9 في المائة.

ونما الناتج المحلي الإجمالي 2.3 في المائة في 2020، وفقا للأرقام، لتصبح الصين الاقتصاد الرئيس الوحيد في العالم، الذي لم ينكمش عام 2020.

ومن المتوقع أن تعطي الخطة الاقتصادية الجديدة المنتظر إقرارها خلال اجتماعات مؤتمر الشعب الصيني السنوية في مارس 2021 دفعة جديدة للنمو الاقتصادي.

تحدد الخطة المجالات، التي عانت فيها الصين أكبر الانتكاسات في الأعوام الأخيرة، حيث سلطت الخلافات التجارية والتكنولوجيا مع دول مثل أستراليا والولايات المتحدة الضوء على اعتماد الصين على دول أخرى.

وتريد الصين تبني مسار اقتصادي جديد، يعزز الطلب المحلي والابتكار بشكل أكبر، وتظهر البيانات الأولية من النخبة الأساسية في الحزب الشيوعي الحاكم في الصين ملامح الخطة الجديدة. 

وعلى الرغم من النظرة المستقبلية الإيجابية للاقتصاد الصيني، هناك تحذيرات من استمرار التحديات.

ووفقا لماكس زينغلين من معهد ميريكس الصيني في برلين، فإن وضع فيروس كورونا في الصين يحتاج أيضا إلى مزيد من المراقبة، في الآونة الأخيرة، كانت هناك مئات الإصابات الجديدة في مقاطعة هيبي، التي تحيط بالعاصمة بكين.

كتب المحلل أحمد الشهري| يوم السبت 26 ديسمبر 2020:

الحقيقة هي إن العالم يمر بحقبة عصيبة جمعت بين الأداء الاقتصادي الهش أصلا لما قبل جائحة كوفيد - 19، في حين أن متوسط نمو الناتج المحلي العالمي لعام 2019 لم يتجاوز 2.9 في المائة، أما بعد دخول جائحة كورونا عام 2020 تدهورت الاقتصاديات وسجل متوسط نمو الناتج المحلي العالمي نسبة سالبة تقدر بـ - 4.4 في المائة وسجلت الدول المتقدمة جميعها نموا سالبا وكذلك الأسواق الصاعدة والنامية الرئيسة باستثناء الصين، فما سر ذلك النجاح؟.

يعزى نجاح الصين الشمولي رغم تلك الظروف الاقتصادية والصحية المعقدة بحسب ما يقوله صناع السياسات الصينية إلى أنهم حققوا إنجازات في المعارك الثلاث الرئيسة: 1 - الابتكار العلمي والتكنولوجي. 2 - تحقيق اختراقات مهمة في الإصلاح والانفتاح. 3 - حماية معيشة الناس بشكل فعال، وتأتي كل تلك النجاحات ضمن الخطة الخمسية الـ 13.

إن الأمر الذي جعل الصين تنجح في التقنية، هو أن صناع السياسات الاقتصادية ألزموا أنفسهم بفسح المجال كاملا للدولة للقيام بدور منظم رئيس للابتكار العلمي والتكنولوجي ودعم الشركات الرائدة، لتشكيل مراكز اتحادات ابتكارية وتوجيه موظفي البحث العلمي للتركيز وتحسين قوة البحث العلمي وتعزيز التنمية المدعومة بالابتكار.

أما معركة الإصلاح والانفتاح فالبداية كانت من إصلاح جميع المؤسسات التي تملكها الدولة الصينية وتطوير نظام الشركات الحديثة وحوكمة الشركات القائمة وتحسين جودة الشركات المدرجة مع إصلاحات واسعة على مستوى الاقتصاد الكلي والانفتاح على الأسواق العالمية، وإعادة إصلاح وتنظيم الاستثمارات الرأسمالية المملوكة للدولة والشركات.

ويتطلب التصدي لكل قضايا الشعب الصيني المباشرة سياسات تحسن من المعيشة، ولاسيما أن تعداد الشعب بلغ 1.4 مليار نسمة، لذا كانت حماية معيشة الناس ضمن المعارك الأكثر صعوبة ولذلك تم تطبيق سياسة تنمية الريف بشكل شمولي ومشاركة رأس المال الاجتماعي وتعويض جوانب قصور المعيشة من خلال تطوير بنية تحتية تلامس المعيشة وتعزيز مكافحة الاحتكار ومنع التوسع غير المنضبط لرأس المال وحماية حقوق المستهلكين وتعزيز القدرات الإشرافية والاستمرار في زيادة حيوية كيانات السوق للشركات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر والأسر الصناعية والتجارية الفردية والاستفادة من إمكانات السوق المحلية وتوسيع الاستهلاك والاستثمار الفعال عن طريق رفع متوسط معيشة الناس العامة.

يمكننا القول: إن الصين بنت اقتصادها على أسس الاقتصاد الحقيقي أكثر من الأسس المالية المعمول بها في النموذج الاقتصادي الغربي، وذلك من خلال قيام الدولة بقيادة الاقتصاد عبر شركاتها الحكومية وشركات القطاع الخاص الصيني وشركات الاستثمار الأجنبي، لكن بدرجات أقل، وفي الوقت نفسه جددت القيادة الصينية الأمة الصينية من خلال التعليم ومحاربة الفساد وبناء فكر تنموي مرتكز على الناس ليساعدوا أنفسهم، وأخيرا منعت أي فوائض مالية قد تدمر الغايات التنموية لمعيشة الناس، فمثلا إذا تعارضت التنمية مع التجارة تقدمت التنمية على التجارة.

 

الحرب العالمية الثالثة

 

كتب المحلل السياسي ألكسندر نازاروف يوم 7 فبراير 2021:

لم يعد أمام الولايات المتحدة الأمريكية وقت طويل قبل أن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم، ويصبح اليوان هو العملة التجارية والاحتياطية في العالم، ما سيؤدي إلى انهيار الدولار الأمريكي، وهرم الديون العالمي، ثم الاقتصاد الأمريكي. وعلى خلفية الأزمة الداخلية الخطيرة، لم يعد هناك يقين من أن تستمر الولايات المتحدة الأمريكية على شكلها الحالي بعد 10 سنوات من الآن.

وبينما كان الحزب الديمقراطي الأمريكي يحاول الإطاحة بترمب باستخدام حملته الشرسة ضد روسيا، قام بشيطنتها ودمر العلاقات معها لدرجة أن التحالف الروسي الصيني أصبح أمرا طبيعياً وحتميا.

لكن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع تحمل صراع مع روسيا والصين في نفس الوقت، لذلك فمن المنطقي أولاً تحييد الخصم الأضعف اقتصادياً وهو روسيا.

وحتى انتخابات الكونغرس القادمة، والتي من المحتمل أن ترتبط بتفاقم الصراع السياسي الداخلي، مع احتمال الانزلاق إلى حرب أهلية، يمنح الوضع الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية الرئيس بايدن مهلة تمتد حوالي عامين فقط.

خلال هذين العامين، يجب أن يكون لدى الولايات المتحدة الأمريكية الوقت الكافي لتحييد روسيا، لتتفرغ بعد ذلك لتحييد الصين خلال حوالي 4 سنوات أخرى.

على هذه الخلفية، يصبح من المفهوم لماذا قام الغرب بتبكير مشروع نافالني إلى أقرب وقت ممكن، الآن بدلا من أغسطس وسبتمبر، الذي يبدو أكثر جدوى عشية انتخابات البرلمان الروسي.

وإلى جانب محاولات الغرب زعزعة استقرار الوضع الداخلي لروسيا بمساعدة عملاء ممولين من الغرب، واختلاق احتجاجات من خلال "فيسبوك" و"يوتيوب" و"تويتر"، فإن التركيز الثاني لجهود واشنطن هو إثارة النزاعات على حدود روسيا.

كانت المحاولة الأولى هي محاولة تنظيم ثورة ملونة في دولة من حلفاء روسيا وهي بيلاروس، وهي المحاولة التي لم تتوج حتى الآن بالنجاح.

ثم كانت المحاولة الثانية في الحرب الأذربيجانية الأرمنية، والتي نجح بوتين في تحييدها باقتدار.

لا يزال لدى الولايات المتحدة الأمريكية ورقتان رابحتان محتملتان هما محاولة تصفية جمهورية ترانسنيستريا مع مولدوفا، والتي ستجر روسيا إلى صراع مع مولدوفا وأوكرانيا، أو محاولة أوكرانيا تصفية جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.

يبدو الخيار الثاني ليس فقط الأكثر ترجيحاً، ولكنه يتجه أيضاً نحو تنفيذه بسرعة.

باختصار، يبدو أن واشنطن ونظامها الحليف في كييف، في مواجهة خطر سقوط هذا النظام، يستعدان لنقل الصراع البارد في دونباس إلى مرحلة ساخنة.

وكانت روسيا قد صرحت مراراً وتكراراً بأنها لن تسمح بالإبادة الجماعية للمواطنين الناطقين باللغة الروسية في دونباس. وكذلك نظراً لأن جزء كبير من سكان دونيتسك ولوغانسك يحملون الجنسية الروسية، لهذا فإن مشاركة روسيا في الصراع حال العدوان الأوكراني تبدو حتمية.

من الصعب تحديد إلى أي مدى يمكن أن تذهب الخطط الأمريكية، وما إذا كانت ستفضي إلى مشاركة مباشرة للقوات الأمريكية والناتو، لكن في رأيي، لا ينبغي أن ننسى أن الهدف الاستراتيجي الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصراع هو التحييد الكامل لروسيا، وإخراجها من التحالف مع الصين. ولتحقيق هذا الهدف، يجب أن يكون الصراع وعواقبه واسعة النطاق قدر الإمكان.

ونظراً لوجود أسلحة نووية لدى الولايات المتحدة وروسيا، فإن أي صدام عسكري مباشر بين الطرفين قد يؤدي على الأقل إلى استخدام محلي للأسلحة النووية، كما أعلن عن ذلك مؤخراً قائد القيادة الاستراتيجية الأمريكية، تشارلز ريتشارد. وهو ما حذّر منه أيضاً الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خطابه الأخير بمنتدى دافوس.

باختصار، الوضع خطير، ويتصاعد بسرعة.

 

عمر نجيب

[email protected]