يكفي أن تقول الحكومة الايرانية للبرلمان عندها أن يجمّد قرار الانسحاب من الاتفاق النووي ورفع مستوى التخصيب، لكي تعود الاتصالات فورا بين أميركا وطهران وتبدأ واشطن برفع جزء من العقوبات. هذا جوهر الوساطات المعلنة والبعيدة عن الأضواء بين إيران وادارة الرئيس جو بايدن في الوقت الراهن. نجحت طهران في تمرير العهد الترامبي الخطير. امتصت الكثير من الضربات الاسرائيلية والاميركية كي لا تنزلق الى الحرب. مارست دبلوماسية صانع السجاد بصبر كبير، وتريد الآن قطف الثمار. وهي قد تقطفها فعلا الا في حالة واحدة، سنعود اليها بعد قليل.
كذلك يكفي أن يبدا الرئيس السوري بشّار الأسد ببعض المبادرات السياسية قبل الانتخابات الرئاسية القريبة، لكي تبادله ادارة بايدن مؤشرات ايجابية وفق ما نفهم من كلام اثنين من اقرب الدبلوماسيين الأميركيين اهتماما بالحرب السورية سابقا أي جيفري فيلتمان وروبرت فورد ( يمكن العودة الى تصريحاتهما على موقع خمس نجوم). ما عادت مسالة رحيل الأسد مطروحة اصلا على طاولات النقاشات الأميركية، بل الذي صار مطروحا هو انسحاب اميركا وتسليم الملف الى روسيا مقابل اثمان يتفق عليها لاحقا.
لا شك أن مناخا جديدا بدأ يخيّم على الشرق الأوسط والخليج منذ الساعات الأولى لتولي بايدن شؤون الرئاسة. فسيد البيت الأبيض الذي عيّن الدبلوماسي العريق المصري الحلبي اليهودي الأصل روبرت مالي مسؤولا عن الملف الايراني، أراد تأكيد ما قاله مرارا في حملته الانتخابية من أنه سيعود الى الاتفاق النووي. ذلك ان روبرت مالي المعروف تحببا في بلاده ب "روب" كان أحد أبرز مهندسي الاتفاق، وهو موسوم بالاعتدال الذي دفع بعض خصومه من الجمهوريين الى حد القول انه قريب من ايران ومعاد لاسرائيل، وهذا ليس صحيحا، وانما هو ينتمي الى جيل من الدبلوماسيين الغربيين الذين يعتبرون ان الحوار افضل من الحروب، وان التفاوض مع طهران هو السبيل الوحيد لتخليها عن انتاج قنبلة نووية، وان قيام دولتين فلسطينية واسرائيلية هو السبيل للجم البركان ذي الحمم المستمرة منذ أككثر من 70 عاما.
في مقابل هذه الاشارات الايجابية حيال ايران وسورية، فان ادارة بايدن أرسلت اشارات مقلقة باتجاه بعض دول الخليج، كمثل التذكير بأن قتل الزميل جمال خاشقجي هو " عمل مشين" وان صفقات اسلحة ستتوقف الى السعودية والامارات،وان ثمة اعادة نظر بالسياسة الاميركية حيال الرياض، وأنه لا بد من انهاء حرب اليمن التي وصفتها الامم المتحدة سابقا بانها أسوا كارثة انسانية في قرننا الحالي. لكن الأكيد أن المغالاة في الحديث عن تنافر اميركي خليجي ليس في مكانه، فالطرفان بحاجة الى بعضهما البعض لأسباب كثيرة معروفة اقتصادية وأمنية وجيوستراتيجية.
وسطاء أوروبيون في الخليج:
زاد الأمر تفاؤلا في الملف الاميركي الايراني ، بمباشرة وفود أوروبية سلسلة اتصالات مع ايران ودول الخليج، اولا لاعادة تعبيد الطريق بين واشنطن وطهران ومساعدة بايدن، وثانيا لطمأنة الحلفاء الخليجيين على أن المطلوب حاليا هو العودة الى الاتفاق النووي كما كان، ثم في مرحلة متقدمة يمكن تحقيق مطالب الدول الخليجية بأن يصار الى ضم دول اخرى الى الاتفاق النووي وتوسيع المفاوضات الى ملفات اخرى كمثل الصواريخ الباليستية وتمدد ايران في المحيط العربي.
فوفق معلومات موثوقة حصلنا عليها، زار وفد أوروبي قبل أيام الامارات لهذه الغاية، وسيقوم وفد آخر بزيارة السعودية وقطر والامارات قريبا لمزيد من الشرح والطمأنة، خصوصا ان لا بايدن ولا ايران مستعدان في الوقت الراهن لنسف اسس الاتفاق النووي الذي قام بالاصل على فكرة التفاوض بين ايران والدول الأربع الدائمة العضوية في مجلس الأمن اي أميركا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا اضافة الى ألمانيا.
الأمر نفسه حصل مع اسرائيل، حيث تكثفت الاتصالات الأمنية الاميركية الاسرائيلية، لاقناع تل أبيب بعدم الاقدام على أي خطوة عسكرية أو تصعيدية في الوقت الراهن، لأن ذلك سيدفع ايران الى اغلاق الباب في وجه الجميع وتسريع خطوات تخصيب اليورانيوم ما يعني قدرتها على انتاج سلاح نووي في فترة قريبة جدا وفق ما قال المسؤولون الاميركيون وبينهم وزير الخارجية انتوني بلينكن.
عوائق أمام الاتفاق
كل هذا ممتاز، ولكن لنعد الى سؤال المقدمة، ما هو العائق الذي قد ينسف كل ذلك؟
الواقع ان العوائق متعددة أبرزها التالي:
·ستحاول اسرائيل اعاقة اي تقارب أميركي ايراني ما لم تحصل على مبتغاها وهو صعب التحقيق حيث يتعلق بالصواريخ الباليستية من طهران الى سوريا فلبنان. فهل تنتظر المرحلة المقبلة من التفاوض، وهل تتنازل ايران وحزب الله عن ذلك؟ الأمر صعب ان لم يكن مستحيلا. ثم ماذا لو أقدمت اسرائيل على عمل عدواني مؤلم في الأسابيع المقبلة، الا تُحرج بادين خصوصا ان ايران التي لم تنزلق الى الحرب في خلال عهد ترامب، لن تتردد في الرد على اسرائيل بقوة عبر الجبهات المفتوحة قبل الانتخابات.
·ايران مقبلة على انتخابات رئاسية في حزيران/ يونيو المقبل، يريد المحافظون ربحها بشكل واسع، وأي تنازل لأميركا قبلها، لن يكون في صالحهم، اما اذا قبل بادين العودة الى الاتفاق بلا شروط، فسيكون مفيدا جدا لمعركتهم الانتخابية، لذلك قال الرئيس حسن روحاني اليوم :
"لن تتغيّر أي مادة في الاتفاق النووي، ولن يضاف أي عضو اليه،و سنعود إلى التزامتنا فورا إذا عاد الأميركيون إلى الاتفاق ،وسنرد على النيّات الحسنة بمثلها". لكن ايران تُدرك أيضا ان وضعها الاقتصادي والمالي ما عاد يحتمل طويلا دون انفراجات دولية.
·ستمارس دول الخليج كل مخزونها من اللوبيات والمال والصفقات،في محاولة لمنع الصفقة الايرانية الاميركية ما لم تشمل اشراكها في التفاوض وتقليص دور ايران في المنطقة. ايران ليس لديها مانع من التفاوض المباشر مع دول الخليج، لكنها تريد فصل ذلك عن الاتفاق النووي.
·الجمهوريون غير المتحمّسين لاعادة ايران الى التفاوض الدولي، يحاولون وضع العصي في دواليب بادين، عبر اضافة شروط جديدة، وهم ليسوا بالاصل متحمسين لرفع العقوبات لا عن ايران ولا عن سورية، على اعتبار ان هذه العقوبات ادت الى ضغوط قاسية على الدولتين خصوصا في المجالات الاقتصادية والمالية والاجتماعية. لذلك لن يكون من السهل اقناعهم بأهمية التفاوض الا اذا كان ثمن ذلك تجميد التخصيب واستعداد ايران للبحث في الملفات الاخرى وتقديم الاسد تنازلات في المجالات الدستورية والانتخابات والبرلمان. وهذا ليس بالأمر السهل خصوصا لجهة الملفات الاخرى.
·العلاقة بين أميركا وروسيا والصين غير واضحة المعالم بعد، وقد بدأت اولى مؤشراتها سلبية مع موسكو خصوصا بعد تكثيف التصريحات الاميركية ضد ما وصفته بسياسة " القمع" للمعارضين على خلفية اعتقال المعارض الروسي الكسي نافالني فور عودته الى موسكو. ومعروف ان الاستراتيجية الروسية تعتمد على الجبهة السورية والعلاقة مع ايران والصين بين الجبهات الاخرى لمواجهة السياسة الاميركية، فاذا استمر التصعيد الأميركي الروسي، فهذا يعني ان الجبهة السورية المدعومة ايرانية مرشحة لتطورات عسكرية او للتشدد السياسي.
ادارة بادين مُدركة لكل هذه المخاطر، فهي مؤلفة من دبلوماسيين خبروا طويلا الملفات الملتهبة في الشرق الأوسط والخليج، واذا كان بنيامين نتنياهو ذو العلاقة الفاترة مع الرئيس الاميركي الجديد قد انتظر طويلا نسبيا قبل تهنئة بايدن، ( 12 ساعة بعد معظم الاتصالات الدولية) وضمّن تهنئته كلاما جميلا عن ترامب، فان تصريحاته بشأن منع ايران من الوصول الى السلاح النووي، وتحذيرات وتهديدات المسؤولين العسكريين الاسرائيليين وما تبعها من ردود ايرانية، جعلت بايدن يكثف الاتصالات الامنية مع اسرائيل، فأرسل قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي كينيث ماكينزي الى تل أبيب، وسوف تستقبل واشطن رئيس الموساد، وحصل تواصل مباشر بين وزيري أمن البلدين أكثر من مرة في الأيام الماضية، وذلك من أجل منع اسرائيل من القيام بأي مغامرة عسكرية وطمأنتها الى مستقبل التفاوض الايراني الاميركي.
كل ما تقدم يشير الى ثلاثة أمور: أولا ان ايران وسوريا وروسيا أفشلت السياسة الاميركية ذات العقوبات القصوى التي انتهجها ترامب وفق اعترافات فيلتمان وفورد ومالي، ثانيا أنه لا ضرورة للمغالاة في التفاؤل حيال العودة الى الاتفاق النووي ولا المغالاة بالتشاؤم ذلك أن الطرفين راغبان به لكن كلا منهما يريد تحسين الشروط، وثالثا ان اسرائيل ستستمر في محاولة ضرب الاتفاق والسعي لتعزيز تحالف اميركي اسرائيلي خليجي ضد ايران وسوف تخترع لذلك ذرائع كثيرة.
لا شك أن المنطقة على أبواب تحولات كبرى، يغلب عليها منطق التفاوض والحوار على منطق الحروب والدمار، لكن العوائق ما تزال كبيرة، واحتمالات الاختراقات الاسرائيلية قائمة وأكثر من اي وقت مضى.
سامي كليب