ان منديلا الذي اعني لا يقل شأنا في نضاله عن ذلك الجنوب افريقي، لتشابههما مبدئيا من حيث المهنة : فكلا منهما قد كان محاميا، ضحى من اجل كسب قضية و طنية، رغم اختلاف الوسائل لدى كل منهما، حسب ظروفه الخاصة.
فمنديلا الجنوب افريقي قد بدأ مشواره النضالي، كمحام يدافع بإخلاص عن حقوق الزنوج و الملونين ( colored people ) امام محاكم دولة جنوب افريقيا ابان حكم البيض العنصريين، الشيئ الذي قاده الى سجنه الانفرادي الذي قضى في غياهيبه قرابة ثلاثة عقود متتالية، لم يركن خلال تلك المدة للكسل او الخمول او البكاء حلى حظه العاثر!
بل قاد خلال تلك الحقبة الزمنية ثورته التي حررت بلاده من نيل الاستعمار البغيض حيث اصبحت دولة ديموقراطية تنتهج سياسة العدل و المساواة و انصاف الاقليات العرقية و الاثنية و حتى التسامح مع أولئك الذين أذوا منديلا نفسه جسديا و نفسيا!
اما منديلا الامريكي ( براك اوباما) ذلك الرجل الستيني الاسمر ذو الملامح الكينية الذي مزال حتى الان يتمتع برشاقة الشباب و حيويته بحيث يمارس هواية لعبة كرة السلة تلك الكرة التي يقذفها بيسراه من بعيد لتستقر في مرماها محدثة فيه ارتجاجا ملاحظا يدل على قوة تلك الرمية او القذيفة!
ان هذا الرجل كما وصفت بعض من ملامحه قد استخدم هو الاخر - من اجل الوصول الى اهدافه او ثورته - اسلوبه المتميز الناتج عن ثقافته العالية في القانون و العلوم السياسية مستخدما في تلك المعارف براعته البلاغية المشهود له بها وطنيا و كذا منطقه العذب الذي سحر به البيض في امريكا قبل السود، و حتى انه في احد مناظراته المتلفزة مع خصمه في الانتخابات الرئاسية ( جون مكين ) الذي شهد له بذلك التفوق البلاغي .
ان اسلوب الرجل في مخاطبته لجلسائه يمتاز بأنه يوزع بينهم نظراته و كذا التفاته و كانه يخاطب كلا منهم على حدة، رغم انهم متواجدين في مجلس واحد، مما يسهل عليه ذلك الاسلوب اقناعهم بما يدعوهم اليه من افكار،
يضاف الى ما سبق شمولية تفكير الرجل و إضاح رؤيته في كل ما يشغل هموم الأمريكيين أو يؤرقهم، و ذلك بمعرفته الدقيقة بمن أين تؤكل (كتف السياسة في امريكا) !
ان ثورة اوباما ان صح هذا التعبير قد قادها بتلك القوة الناعمة و هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن ان يحصل بها اي تغير، في هذه الدولة القارة المترامية الاطراف التي تحتضن خمسين دولة على مساحة تقدر بأكثر من تسعة ملايين كم2, لكل منها نظامها الخاص و قانونها الخاص و استقلالها الداخلي.
ان دولة امريكا في واقع الامر ما هي الا كخلاصة لكل العالم بحيث توجد بها كل القوميات و الديانات و النحل و كذا الحيوانات و الحشرات و المناخات كل ذلك منصهر في بوتقة حضارية مطبوعة بطابع (الانچيلوسكسوني ) مع هوامش تحتفظ لكل من العناصر المكونة للدولة بخصائصها التي تميزها عن غيرها من ذلك النسيج الاجتماعي الامريكي الموحد.
ففي هذه الدولة الموصوفة استطاع ابن المهاجر الكيني المسلم ان يكسر طابوهات آلامريكين البيض الذين كانوا الى حد قريب لا يسمحون فيه البيض للسود بان يتعايشوا معهم في حي واحد و لا يستقلون معهم حافلة واحدة، و قد استطاع اوباما ان يكون لهم رئيسا جميعًا ، و هو الاسمر ولد المهاجر و قد ساسهم بانسجام و اريحية في ظل اقتصاد مزدهر و وحدة وطنية .
بل حتى انه جعل هذا الشعب يصبح مستعدا و قابلا لانتخاب نائبة رئيس سمراء ابنة مهاجرين هي الاخرى قد و فدا على أمريكا قبل ولادتها، و التي ربما تصبح رئيسة لهذه الدولة العظمى يوماما!
إن الرئيس اوباما الذي ذكرنا بعضا من اساليبه في الحياة قد تجلت عبقريته آلان ايضا عندما لجأ اليه ( جو بايدن ) مضطرا لا مختارا و هو الذي قد كان نائبا له و يعرف ما مدى امكانيات الرجل و جاذبيته لليساعده في حملته الانتخابية لنيل رئاسة امريكا.
و كان نعم العون و المساعد الذي لم يتكاسل او يضيع وقتا بل ظل طيلة الحملة الرئاسية يذرع امريكا طولا و عرضا بتنقلاته المكوكية مخاطبا الشعب الامريكي و مبينا لهم ما اصاب بلادهم من خلل من فعل الجائحة الناتجة عن ( COVID-19) وما تلا ذلك من تدمير لإقتصادهم جراء ذلك ، و كذا العزلة الدولية التي و ضعهم فيها رئيسهم ( ترامب) مما سهل عليه كل ذلك اقناعهم و كسب ودهم.
كما بين لهم ان شعار امريكا اولا ما كان في الحقيقة الا خدعة كبيرة او طعما اسطادهم به و هو الذي تخلف عن حرب فيتنام و لم يكن يسدد الضرائب كما يجب، علما انه في سنة انتخابه كانت ضرائبه 600 دولار اي اقل من ضرائب فراش في فندق، و هو الملياردير، كما كان يظهر لهم على الشاشة وهو يتبختر كملاكم فوق حلبة مصعرا خده لمعارضيه نافخا عضلات وجهه فاغرا فاه و كأنه بذلك يخيفهم ، كما اظهر لهم ما مدى استخفاف ترمب بالقانون الدولي الذي يستخدمه لصالحه و يتجاهله كل ما كان لا يتماشى مع اهدافه، و كذا كونه لا يحترم الاتفاقيات الدولية، و الطامة الكبرى انه صار اخيرا يمنح اراضي بعض الدول لدول اخرى دون مراعاة القانون ولا الاخلاق ، ثم انه اصبح يوزع العقوبات الدولية على تلك الأنظمة التي لا تسير في ركابه الى حد المجاعة احيانا . كما ان الدول الحليفة لامريكا هي الاخرى لم تسلم من الاستهزاء بها من طرفه.
فهذا الرجل الذي لا يحترم الا الدول العظمى استطاع بايدن بواسطة حكمة اوباما ان ينتق ارومته من محيطها الصخري المسنن و يسنده خارج الجاذبية السياسية في المحيط الامريكي و لو الى حين!!
و من عبقرية اوباما ايضا اختياره لكميلا هاريس كنائبة لبايدن تلك القاضية المتميزة ذات الاعراق المتداخلة و التي جلبت معها الحظ لبايدن باشراقة وجهها و ابتسامتها البريئة التي ازاحت عن محياه قتام السنين و تعاقب المناخات، و كادت ان تخفي الغضون من اطراف عينيه و ذلك بخلق الامل لديه ذلك الامل الذي يقضي على الحزن البادي اثره على وجه بايدن كلما أراد انتزاع البسمة منه خصوصا عندما يعود الى مضجعه ليلا و هو يعاود ذكرى اختطاف زوجته و بعض اطفاله جراء ذلك الحادث الاليم للاسف !
و رغم كل ذلك فان أوباما لم يكن مثاليًا بالمطلق لكونه في ظل حكمه قد تعرضت بعض الدول العربية الى ثورات ليست دافعها الوحيد الدمقراطية بل ان الدول التي غذت تلك الثورات و نفذتها بواسطة مليشيات القاعدة و داعش قد كانت هي ابعد ما تكون من الدمقراطية و حقوق. الانسان ، الا ان القاسم المشترك بينهما هو تصفية حسابات قديمة قد نشأت إبان الحرب الباردة بين حلف شمال الاطلسي و حلف وارسو و الدول التي تدور في فلكهما !
و اخيرا اتمنى على الرئيس بايدن ان يحتفظ باوباما الى جانبه كمستشار يساعده في اعادة اللحمة للأمريكين و كذا اعادة امريكا عظيمة مرة اخرى كما تركها الاباء المؤ سسون وغيرهم من الرؤساء العظام الكبار و الذين يعد اوباما واحدا منهم .
ذ/ اسلم محمد المختار مانا