إردوغان يعيد التموضع استراتيجياً

ثلاثاء, 2020-12-15 10:35

أكَّد السّفير الأميركي السابق جيمس جيفري الذي كان موكلاً بملف سوريا على دور تركيا وموقعها، وأهميته بالنسبة إلى واشنطن، فقد صرّح في أحدث مقابلاته أنَّ تركيا دولة مهمة للغاية في"الناتو"، حيث موقع الرادار الذي يمثل جوهر نظام الصواريخ الباليستية ضد إيران، إضافة إلى وجود المعدات العسكرية الأميركية الهائلة هناك، ولا يمكن للولايات المتحدة مراقبة الشرق الأوسط أو القوقاز أو البحر الأسود من دونها. إنها خصم "طبيعي لروسيا وإيران".

وأكّد جيفري أنّ الخارجية الأميركية وضعت سياسة متكاملة في سوريا تندرج ضمن سياستها الشاملة حيال إيران، رغم أن نجاحها كان نسبياً، إلا أنها استفادت من المساعدة الكبيرة من الأتراك، ولم تتمكَّن من تنفيذ استراتيجيتها من دون مساعدتهم.

ماهية استراتيجية بايدن في تركيا

تصدَّرت تركيا إلى جانب دول أخرى موضوع نقاشات ساخنة داخل فريق السياسة الخارجية لبايدن الَّذي يستعد لتسلم السلطة في 20 كانون الثاني/يناير. ثمة نهجان متباينان يحكمان العلاقة مع تركيا، الأول يؤيد التوافق والمصالحة مع تركيا كحليف مهم ودولة رئيسية على الجانب الجنوبي لحلف شمال الأطلسي، ولا يمكن للولايات المتحدة تحمل خسارته أو السماح له بالابتعاد عن الكتلة الدفاعية الغربية تجاه روسيا. أما الثاني، فهو يشجّع على اتباع "استراتيجية العصا" ضد تركيا، التي من شأنها أن تنطلق بحزمة فورية وشاملة من العقوبات، وهي تعتمد على الدبلوماسية القسرية، بما في ذلك الوسائل الاقتصادية والأمنية والسياسية، مع دفع البلاد إلى إصلاح ديموقراطي ناعم، من خلال مشاركات ذكية تقوي المعارضة.

ويرى هؤلاء أنَّ عليهم أن يضغطوا أكثر عندما يذهب إردوغان بعيداً، ما يدفعه إلى أن يفهم ويتراجع، كما حصل عندما هدَّده ترامب في العام 2019 بسحق الاقتصاد التركي إذا تجاوز الحدود، بعد إعلانه القرار المفاجئ بسحب القوات الأميركية من شمال سوريا. 

يعتقد خبراء أتراك أن بإمكان أنقرة مساعدة إدارة بايدن في الجهود المبذولة لإصلاح العلاقات عبر الأطلسي واحتواء روسيا في ليبيا وسوريا وشرق البحر المتوسط ​​والبحر الأسود ومناطق القوقاز، وما تعهدات إردوغان الأخيرة بالإصلاحات الاقتصادية والقضائية والديموقراطية سوى لشعوره بقدوم حقبة جديدة في السياسة الدولية في أعقاب فوز جو بايدن.

الاتحاد الأوروبي عقوبات بماء الورد

الاتحاد الأوروبي من جهته، وبعد تهديده بفرض حظر على الأسلحة وعقوبات مالية على تركيا، ضمن تدابير عقابية أخرى لأنشطة التنقيب عن الطاقة في المياه المتنازع عليها، والمتاخمة لثلاثة بلدان هي اليونان وقبرص ومصر، فرض في اجتماعه الأخير في بروكسل العقوبات على الشركات والأفراد المرتبطين بأنشطة التنقيب عن الغاز بالقرب من اليونان وقبرص.

التباينات كانت واضحة ضمن الكتلة الأوروبية. ألمانيا ترغب في إبقاء تركيا على مقربة من الاتحاد الأوروبي قدر الإمكان، كذلك أعضاء الكتلة، مثل إيطاليا ومالطا وإسبانيا، التي سيتأثر قطاعها المصرفي بمثل هذه الإجراءات. كما سعى بعض أعضاء "الناتو" الأوروبيين، ولا سيما الدول التي ترتبط بعلاقات اقتصادية مع تركيا أيضاً، إلى تجنّب ابتعاد أنقرة عن التحالف، ودعوا إلى الوقوف ضد العقوبات.

في المقابل، شنَّ المسؤولون في فرنسا واليونان وجمهورية قبرص حملة أكثر قوة لفرض عقوبات على تركيا، إلا أن النتيجة أدت إلى إعطائها فرصة لغاية شهر آذار/مارس لتعيد النظر في سياستها، أي بعد التنسيق مع بايدن، وترك قنوات الحوار مع أنقرة مفتوحة، بما في ذلك قضية احتواء اللاجئين من الشرق الأوسط ومساعدة السوريين منهم، إذ تؤدي تركيا دوراً مهماً في حماية الاتحاد الأوروبي من موجة هجرة جديدة.

وكان إردوغان المتيقن من التناقضات داخل الاتحاد الأوروبي قد دعاه إلى تجنب "العمى الاستراتيجي"، وقال إن "تركيا لن تقبل الخطط والخرائط التي تهدف إلى حصر البلاد إلى سواحلها قبالة أنطاليا"، ولن ترضخ للتهديدات والابتزاز. 

العلاقة مع "إسرائيل" أو العودة إلى أصل التحالف الاستراتيجي 

أدى جو بايدن في العام 2014، عندما كان نائباً لأوباما، دوراً مهماً في إعادة العلاقات الإسرائيلية التركية بعد الجفاء الذي ساد إثر عملية سفينة "مرمرة مافي"، أي "سفينة الحرية" التي راح ضحيتها أتراك ناشطون كانوا على متنها بعد أن قتلهم جنود إسرائيليون. وقد تعهَّدت "إسرائيل" بدفع 21 مليون دولار لعائلات الضحايا، على أن يتم سحب الشكوى التي تقدمت بها العائلات التركية ضدها.

في العام نفسه، قام جو بايدن بزيارة قبرص بعد 42 سنة من الانقسام بين القبرصيتين، إذ تسلّم أنستنياديس السلطة، وهو المقرب من ألمانيا، من أجل اجتراح حل يضع في الحسبان مصالح كل الفرقاء، أي "إسرائيل" وتركيا وقبرص وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية، من أجل إضعاف الاقتصاد الروسي المعتمد في جزء كبير منه على تصدير الغاز. 

تبدو إدارة جو بايدن القادمة عاملاً رئيسياً يجبر تركيا على إعادة النظر في مواقفها الإقليمية. المراقبون الإسرائيليون يتفقون على أنَّ عامل نجاح بايدن في الانتخابات هو المحرك الرئيسي وراء تحول أنقرة باتجاه "إسرائيل"، كجزء من الجهود لإعادة ضبط سياستها الخارجية. أما سياستها الجديدة لحل الدولتين في قبرص، فستكون غير مقبولة في واشنطن.

الاتصالات بين تركيا و"إسرائيل" بدأت منذ شهرين مع رئيس المخابرات هاكان فيدان. وفي حين أنه من غير المرجح أن تكون العملية سلسة وسهلة، فقد أرسلت أنقرة مسؤولين آخرين إلى "إسرائيل" لإجراء محادثات استكشافية حول خارطة طريق للتطبيع، واختارت سفيراً جديداً شديد الولاء سياسياً للرئيس رجب طيب إردوغان من خارج السلك الدبلوماسي، لكنه لا يمتلك الخبرة، وذلك في إطار سعيها لإمكانية توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية وإنشاء خط أنابيب غاز إسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا، وهمها إبعاد مصر و"إسرائيل" عن اليونان، وهي تعتقد أنَّ بإمكانها العمل على جهود مشتركة من أجل الاستقرار في سوريا، وتنامي موطئ قدم تركي - إسرائيلي في العراق.

 وكانت مصالحهما المتقاربة في القوقاز قد أزعجت إيران وأثارت ريبتها، فالأسلحة الحديثة المستعملة 60% منها إسرائيلي. وقد أدت إلى هزيمة أرمينيا الضعيفة التسلح في الحرب الأخيرة على منطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها، لكن عدم ثقة الإسرائيليين بإردوغان عميق، ولا يخفي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفوره منه، ولا سيّما بعد بداية التطبيع الإسرائيلي مع الدول العربية والعلاقة مع الإمارات العربية المتحدة؛ الخصم العنيد لإردوغان. إن التطبيع الحقيقي بالنسبة إلى "إسرائيل" سيتطلب من تركيا قطع علاقاتها الوثيقة مع "حماس" وإنهاء الخطاب الذي ينزع "شرعية إسرائيل".

من الصّعب بمكان تقييم موقع تركيا بمعزل عن حاكمها وفصلها عن شخصه، كما يتمنّى الغربيون، فالأوضاع الداخلية تغيّرت منذ الانقلاب في العام 2016 في القضاء والجيش والبرلمان والأحزاب، والدستور أصبح رئاسياً، وطموحات إردوغان التوسعية تصاعدت، وعلاقاته الإقليمية تشعّبت، فهو يستطيع أن يقول للأميركيين، كما قال للأوروبيين، إنكم مصابون "بعمى استراتيجي"، وأن يؤكد لهم، كما يرى جيمس جيفري، "أنَّ ما فعله (إردوغان) للتو خلال 8 أشهر في إدلب وليبيا وناغورنو كاراباخ، كانت روسيا أو حلفاء الروس خاسرين من خلاله"، لكن هل يمكن للوبي التركي المتواجد في واشنطن أن ينجح باستعادة ثقة "الديموقراطيين" ودفع العقوبات عن تركيا أو عن عائلة إردوغان أو أننا أمام متغيّرات جديدة؟