يمكن بقدر كبير نسبيا من الدقة بناء تحليل للواقع السياسي والتطورات المرجحة في منطقة ما من العالم على اساس تركيب معادلة مكوناتها هي الاحداث والمعطيات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المتشابكة خلال فترات زمنية متقاربة.
منذ عقود شكلت منطقة الشرق الأوسط أحد أكثر مناطق العالم الموصوف بالثالث توترا وأكثفها من حيث المواجهات العسكرية والنزاعات السياسية والانقلابات والثورات وكذلك عمليات التمزيق والتفتيت المعاكسة لكل معطيات الجغرافية وثوابت التاريخ. المنطقة عاشت منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى بعد ذلك بقليل من منتصف القرن العشرين صراعات مسلحة وغيرها للتخلص من مجموعة متنوعة من القوى الاستعمارية، وفي نفس الوقت قاومت محاولات قوى اخرى للحلول مكان الاستعمار القديم بصورة وأساليب جديدة، ولكنها فشلت في استعادة ترابطها رغم وحدة القومية واللغة والتاريخ.
الشرق الأوسط تفوق على مناطق أخرى من العالم من حيث تنوع القوى الاستعمارية على ترابه، وكذلك أهدافها.
في جنوب شرق آسيا أو ما كان يدعى الهند الصينية كانت فرنسا القوة الاستعمارية المهيمنة، وعندما أجبرت على الرحيل لم تنجح جهودها لتمزيق المنطقة كثيرا حيث ظلت دولها تقريبا على شاكلة مشابهة لتلك التي كانت عليها عندما بدأ الاستعمار سطوته. اليابان وبريطانيا والولايات المتحدة أساسا تطاحنوا وتقاسموا الصين وكوريا ولكنهم رحلوا تاركين صين واحدة ودولتين كوريتين. إلى الجنوب من الصين بقيت الفلبين واندونيسيا وماليزيا تقريبا ورغم تناوب قوى استعمارية عديدة على حكمهم داخل الاطار التاريخي لحدودهم محافظين بدرجة جيدة على تجانسهم اللغوي والعرقي وحتى الديني.
التفتيت
الآن ومع بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين تشهد منطقة الشرق الأوسط صراعا متجددا تقوده قوى الاستعمار من أجل زيادة تمزيق المنطقة. مع نهاية القرن العشرين وبعد زرع وتثبيت إسرائيل في وسط المنطقة العربية انطلق فصل من المخطط الذي سماه واضعوه من المحافظين الجدد الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، والذي ينص على تقسيم دول المنطقة بصراعات مقامة على اسس مصنعة أو مختلقة، عرقية ودينية وطائفية وقبلية وذلك إلى ما بين 54 و 56 دويلة.
الصراعات والحروب والنزاعات التي تصنف ساخنة الدائرة من العراق شرقا مرورا ببلاد الشام والخليج العربي واليمن وغربا من السودان وليبيا وابعد أحد ثمرات هذا المشروع.
محور بلاد الشام ووسط الشمال الأفريقي هما مرحليا نقطة الارتكاز في تطوير مخطط الشرق الأوسط الكبير، وصاحب المشروع المؤسس أي التحالف الأمريكي الإسرائيلي، يوظف القوى الاقليمية المتنافسة في عملية الانجاز رغم الخلافات المتذبذبة بين الكثير من أطرافه فالأمر ليس أكثر من الخلاف على تقاسم الغنائم أو كما يقول البعض حجم النصيب من الكعكة.
في بلاد الشام يتواجه الجيش السوري المدعوم من طرف القوات الروسية ومسلحي حزب الله اللبناني ومستشاري الحرس الثوري الايراني، مع تكتل مكون من الولايات المتحدة وتركيا والتنظيمات الجهادية والانفصاليين من الأكراد شمالا، وإسرائيل جنوبا. وإلى الشرق من بلاد الشام تتخبط بلاد الرافدين في الخروج من المستنقع الذي اسقطها فيه الغزو والاحتلال الأمريكي منذ سنة 2003 والذي جعلها ساحة صراع للقوى الاقليمية المتنافسة تركيا وإيران ومختبرا تجريبيا للصراعات والتصفيات والمذابح الطائفية ومن بعدها التفتيت إلى ثلاث دويلات سنية وشيعية وكردية. توجد في بلاد الرافدين اربع قواعد عسكرية أمريكية رئيسية تضم زهاء 9000 جندي، يراقب ويوجه منها الأمريكان لعبة الشطرنج من خلف الستار في انتظار نضج عملية التقسيم ثلاثية الأبعاد.
"في السياسة ليس هناك عدو دائم ولا صديق دائم وإنما مصالح دائمة". "إن الحقيقة محسومة. الرعب قد يستاء منها، والجهل قد يسخر منها، والحقد قد يحرفها، ولكنها تبقى موجودة".
التصعيد الإقليمي
يوم الأحد 29 نوفمبر 2020 أعلن رئيس هيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي آفيف كوخافي، خلال زيارة تفقدية إلى الجولان المحتل، عن تصميم تل ابيب على مواصلة محاربة تموضع إيران في سوريا.
وتفقد كوخافي القوات التابعة لفرقة الجولان المنتشرة عند الحدود وأجرى تقييما عاما للوضع، كما تحدث مع القادة والجنود في المنطقة العسكرية الشمالية عن استعداد الجيش لكافة السيناريوهات.
وأوضح قائد الأركان في كلمته أن زيارته تأتي للاطلاع عن كثب على آخر مستجدات الوضع الميداني عند الحدود، لاسيما فيما يتعلق بـ”التموضع الإيراني”، مذكرا في هذا الصدد بإعلان الجيش الإسرائيلي قبل عشرة أيام عن اكتشاف حقل للعبوات الناسفة في الجولان وتنفيذه غارات على أهداف إيرانية مزعومة في سوريا ردا على ذلك.
وتابع: “رسالتنا واضحة: “إننا مستمرون في العمل بالقوة المطلوبة ضد التموضع الإيراني في سوريا كما أننا مستمرون في الجاهزية الكاملة ضد كل محاولة عدوانية تستهدفنا”.
وجاء ذلك وسط التصعيد الإقليمي القائم على خلفية اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده قرب طهران يوم الجمعة 27 نوفمبر واتهام السلطات الإيرانية إسرائيل والولايات المتحدة بالوقوف وراء الهجوم.
إسرائيل كثفت في الأعوام الأخيرة وتيرة قصفها في سوريا، مستهدفة بشكل أساسي مواقع للجيش العربي السوري وأهدافا إيرانية وأخرى لحزب الله اللبناني، وتركزت الهجمات الاسرائيلية على الجنوب السوري فيما واصلت تركيا عبر جيشها والتنظيمات الموصوفة بالجهادية هجماتها ضد الجيش السوري في الشمال.
ونادراً ما تؤكد إسرائيل تنفيذ هذه الضربات، إلا أنها تكرر أنها ستواصل تصديها لما تصفه بمحاولات إيران الرامية إلى ترسيخ وجودها العسكري في سوريا.
ولم تعترف حكومة الرئيس السوري بشار الأسد رسميا قط بوجود قوات إيرانية تعمل نيابة عنها في الحرب، قائلة إن لدى طهران مستشارون عسكريون على الأرض فقط.
وتقول مصادر مخابرات غربية حسب وكالة رويترز إن الضربات الإسرائيلية المتصاعدة على سوريا في الأشهر العشر الأخيرة من سنة 2020 هي جزء من حرب الظل التي وافقت عليها واشنطن دون أن تؤدي لتفجر الأعمال القتالية.
وذكر مسؤولو دفاع إسرائيليون في الأشهر الأخيرة إن إسرائيل ستكثف حملتها ضد إيران في سوريا، حيث وسعت طهران وجودها بمساعدة الفصائل التي تعمل بالوكالة عنها.
وأحصى المرصد السوري لحقوق الانسان تنفيذ اسرائيل 36 ضربة جوية على الأقل في سوريا خلال عام 2020.
صمود
تقول مصادر رصد في العاصمة الالمانية برلين أن هناك مستشارون وخبراء في تل أبيب وواشنطن يرون أنه رغم الضربات التي توجه لسوريا سيبقى النظام وأنه من الأفضل الوصول إلى تفاهمات معه مما يساعد البيت الأبيض على البحث عن قاعدة تفاهم مع ايران يحد من توسع نفوذها.
ويرى محللون أن الأسد الذي خلف والده الراحل حافظ الأسد عام 2000، ورث عنه الطباع الباردة والشخصية الغامضة، وتتلمذ على يده في الصبر، ولعب ذلك دورا أساسيا في “صموده”.
ويقول السياسي اللبناني كريم بقرادوني لوكالة فرانس برس “بعدما طالب العالم كله برحيله قبل سنوات وظن أنه سيسقط، يريد اليوم أن يجد الحل معه. لقد عرف الأسد كيف يستثمر عامل الوقت”.
منذ اندلاع النزاع، لم يتوان الأسد في أي تصريح عن إبداء ثقته الكبيرة بالقدرة على الانتصار حتى في أكثر لحظاته ضعفا.
ويضيف بقرادوني الذي لعب لوقت طويل دور الوسيط بين الحكومة السورية وأطراف لبنانية خلال الأزمات التي شهدها البلدان، “لم يتراجع الأسد أي خطوة الى الوراء. تمسك بكل مواقفه من دون أي تعديل. وتمكن من أن يسترجع بالقوة العسكرية معظم الأراضي السورية”.
وأثبت الجيش السوري، وفق بقرادوني، “أنه جيش عقائدي ونظامي تمكن من الاستمرار وحماية سوريا في أسوأ الأوضاع ولم ينقلب عليه كما في دول أخرى، وهذا ما جعل الأسد نموذجا استثنائيا في ما يعرف بثورات الربيع العربي”.
وبقي الجيش الذي يشكل أبرز أسلحة الأنظمة الشرق أوسطية، متماسكا ومواليا للأسد، رغم انشقاق آلاف العسكريين عنه بعد اندلاع النزاع. بينما ساهم تخلي الجيش التونسي عن الرئيس زين العابدين بن علي في دفعه، تحت ضغط التظاهرات، الى مغادرة البلاد في 14 يناير 2011 إلى السعودية.
ويرى باحث سوري في دمشق تحفظ عن الكشف عن اسمه لفرانس برس، أنه “لا يمكن إنكار دور شخصية الأسد في بقائه، وما يعرف عنه من إصرار وصرامة. فقد تمكن من حصر القرارات كافة بيده وجعل الجيش معه بشكل كامل”.
تعاون أمريكي إسرائيلي
جاء في تقرير نشر في واشنطن يوم 24 نوفمبر 2020: "بعد استهداف غارات جوية إسرائيلية الأسبوع السابق مواقع تابعة للميليشيات الإيرانية في سوريا، جددت الولايات المتحدة موقفها في دعم حليفتها الإستراتيجية في حقها الكامل بالدفاع عن نفسها، وردع الأخطار الناجمة عن تواجد الميليشيات العسكرية في سوريا.
وأكد متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، أن الولايات المتحدة تواصل دعم حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، في ظل التهديدات التي تمثلها إيران في سوريا، وأن هناك تحركا ثنائيا لرصد الأخطار في المناطق الحدودية.
وشدد المتحدث على وجوب سحب النظام الإيراني لقوات الحرس الثوري وحزب الله، والقوات الأخرى المدعومة إيرانيا، من جميع أنحاء سوريا، من أجل استعادة السلام والاستقرار، وهو ما طالب به الوزير مايك بومبيو مرارا وتكرارا على حد قوله.
وكان مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي، قد أجرى زيارة غير مسبوقة لمستوطنات إسرائيلية في الضفة الغربية، وكذلك هضبة الجولان السورية التي اعتبرتها الإدارة الأمريكية أرضا إسرائيلية، وذلك أثناء جولته الأخيرة في الشرق الأوسط منتصف نوفمبر.
ووصل بومبيو إلى المنطقة الواقعة على خطوط الهدنة السورية الإسرائيلية برفقة نظيره الإسرائيلي غابي أشكنازي، وسط إجراءات أمنية مشددة. وقال: "لا يمكن الوقوف هنا والتحديق عبر الحدود وإنكار أمر أساسي يكمن في أن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب اعترف بأن هذا جزء من إسرائيل (...) وهو ما رفضه الرؤساء "الأمريكيون" السابقون".
واستنكر وزير الخارجية الأمريكي وباستهزاء ما وصفه بدعوات من "الصالونات في أوروبا ومؤسسات النخبة في أمريكا" لإسرائيل بإعادة الجولان إلى سوريا بعد حرب العام 1967. وأضاف بومبيو "تخيلوا مع سيطرة الأسد، على هذا المكان، الخطر الذي يلحق الضرر بالغرب وبإسرائيل".
يذكر أن الجنرال كينيث ماكينزي قائد القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، تحدث في وقت سابق عن خطة عسكرية لتدريب "قوات محلية" سورية في مناطق جنوبية، وذلك للدفاع عن أنفسهم ومواجهة الميليشيات المسلحة. وحذر ماكينزي من خطورة تدهور الأوضاع واحتمالية عودة داعش إلى الواجهة مجددا في المناطق الجنوبية والغربية من سوريا، خصوصا تلك المناطق التي تخضع لسيطرة قوات الأسد وروسيا، مشددا على ضرورة مواجهة تلك المخاطر، وأن القوات العسكرية الأمريكية لا يمكنها التحكم بها لأنها "ليست تحت تصرفها".
محللون في باريس وبرلين اشاروا أن تصريحات الجنرال كينيث ماكينزي تبين أن البيت الأبيض يخطط لاستخدام داعش ضد الجيش السوري في حالة فشل مشروعه في الجنوب.
الجبهة الثانية
بينما تتواصل الحرب شبه الدولية على ارض الشام تدور مواجهات اخرى على ساحة بلاد فارس وذلك ضمن المعادلة المعقدة للتنافس الاقليمي والدولي.
يوم الجمعة 27 نوفمبر 2020 تم اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده قرب طهران الذي يوصف بأب البرنامج النووي الايراني وهو خامس عالم ايراني في هذا المجال يقتل خلال السنوات الخمس الماضية. عملية الاغتيال هذه المرة تمت بأسلوب معقد حسب بلاغات طهران، يجمع بين مسلحين وبين التحكم في مدفع رشاش مزود بجهاز استشعار وتوجيه عبر الاقمار الصناعية للتعرف وقتل العالم الايراني ثم تدمير ذاتي لرقيقة التوجيه والاستشعار.
الكثير قيل عن العملية وموجهيها وأهدافهم ولكن الأمر المسلم هو أنها تمت بمساعدة قمر صناعي عسكري لا تتوفر علي أمثاله سوى خمس دول كبرى أي روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وهو هنا لا يمكن إلا أن يكون أمريكيا.
ويعد فخري زاده من أبرز العلماء الإيرانيين في مجاله، وكان يشغل منصب رئيس إدارة منظمة الأبحاث والإبداع في وزارة الدفاع.
وقد أدرجت وزارة الخارجية الأمريكية اسمه على لائحة العقوبات عام 2008 على خلفية “نشاطات وعمليات ساهمت في تطوير برنامج إيران النووي”، وسبق لإسرائيل اتهامه بالوقوف خلف البرنامج النووي “العسكري” الذي تنفي إيران وجوده.
وحذر محللون ومسؤولون سابقون، من أن العملية التي تأتي قبل أسابيع من نقل السلطة في الولايات المتحدة، تهدد بزيادة التوتر في المنطقة، لا سيما بين طهران من جهة، وواشنطن وحليفتها تل أبيب.
يقول محللون أن طهران تبحث، طبيعة الرد على عملية الاغتيال ولكن هناك توجهات مختلفة داخل القيادات وذلك بين مطالب بالتصعيد وآخر يرغب في التريث ويقدر أنه لا يجب السقوط في الفخ الذي سيقطع الطريق على تسويات مع الادارة الأمريكية القادمة بعد تسلم الرئيس جو بايدن سلطات البيت الأبيض.
البرنامج النووي صامد
جاء في تقرير نشرته صحيفة الواشنطن بوست يوم 28 نوفمبر 2020: مر ما يقرب من عام منذ أن اغتالت غارة جوية أمريكية اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، في العاصمة العراقية بغداد. والآن يجب أن تجعلنا التداعيات التي وقعت إثر تلك الضربة –أو التي لم تقع- حذرين في تقييمنا لتأثير مقتل محسن فخري زادة.
كان أصحاب النهج المتشدد حيال إيران، مثل مستشار الأمن القومي السابق لترمب، جون بولتون، قد أعربوا في أعقاب اغتيال سليماني في يناير عن أملهم في أن يفضي مقتل سليماني إلى إجبار إيران على كبح جماح سلوكها العدواني في المنطقة، وذهب بعضهم إلى حد الطمع في أن يؤدي إلى "تغيير النظام في إيران". لكن على الناحية الأخرى، أبدى كثير من منتقدي إدارة ترمب مخاوفهم من أن اغتيال سليماني بهذه الطريقة قد يجر المنطقة برمتها إلى هاوية الحرب.
ومع ذلك، فإن أيا من التنبؤات لم يقع. فقد اقتصر رد إيران على مقتل سليماني على إطلاق عشرات من الصواريخ على قاعدتين أمريكيتين في العراق، دون قتل أي من الجنود الأمريكيين، سواء أكان ذلك عن قصد أم كان بمحض الصدفة (ينبغي أن نتذكر أنها تسببت في عديد من إصابات الدماغ لأفراد القوة الأمريكية هناك). وقد أرضى ذلك إيران، على الأقل في الوقت الحالي، كما أعطى كلا الجانبين مخرجا لتجنب التورط في مزيد من التصعيد.
لكن، في الوقت نفسه، لا يوجد دليل على أن مقتل سليماني قد صرف إيران عن مخططاتها الإقليمية، فقد حل محل سليماني نائبه العميد إسماعيل قاآني، واستمر فيلق القدس في عمله المعتاد في لبنان وسوريا والعراق واليمن، حيث يقع نفوذه.
ولتوه كان قاآني في زيارة إلى العراق لإخبار القوات التي تعمل بالوكالة عن إيران بتجنب أي استفزازات ريثما يقوم ترامب بتقليص عدد القوات الأمريكية وهو في طريقه للخروج من منصبه. هذه النصيحة –أو "الأمر" بالأحرى- جرى الانصياع لها إلى حد كبير، رغم الهجوم الصاروخي الذي وقع على المنطقة الخضراء في بغداد منتصف نوفمبر والذي لم يسفر عن وقوع إصابات.
باختصار، تصدرت وفاة سليماني عناوين الأخبار وأطلقت التنبؤات لكنها لم تغير على الأرض سوى القليل. والآن، الشيء نفسه على الأرجح أن ينطبق على اغتيال فخري زادة، وذلك على الرغم من تعهدات طهران بالانتقام من "النظام الصهيوني المغتصب". وكالعادة، لا تدعي إسرائيل مسؤوليتها ولا تنكرها.
الرئيس الأمريكي ترمب، من جانبه، سارع إلى إعادة نشر تغريدة للصحفي الإسرائيلي، يوسي ميلمان، والتي قال فيها إن وفاة فخري زادة تمثل "ضربة نفسية ومهنية كبيرة لإيران"، لكن لو كان كلف نفسه قليلا للنقر على المقال الفعلي الذي أحال إليه في صحيفة هأريتز العبرية، لقرأَ في سطوره الرأي الذي ذهب إليه ميلمان حقا من أنه "على الرغم من الضربة المعنوية، فإن إيران لن تعدم إيجاد عالما نوويا موهوبا مثل فخري زادة المغتال".
وهذا صحيح بالتأكيد: وفاة فخري زادة لن تكون ضربة قاتلة لبرنامج إيران النووي أكثر مما كان سينتهي "مشروع مانهاتن" المشروع الأمريكي لإنتاج أول قنبلة ذرية أثناء الحرب العالمية الثانية، لو توفي مديره العلمي روبرت أوبنهايمر، الذي كثيراً ما كان يشبه به فخري زادة بالنسبة إلى إيران. واقع الأمر أن برنامج إيران النووي يقوم على منظومة بيروقراطية ضخمة، يمكنها أن تنجو بسهولة من زوال أي قائد لها والمضي قدما في طريقها.
من جهة أخرى، انتشرت تكهنات كثيرة بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أمر بعملية الاغتيال لتقويض أي محاولات لإدارة بايدن لإعادة إحياء الاتفاق النووي الذي وقع في عهد أوباما، والذي يمقته نتنياهو. وهو الرأي الذي أشار إليه مسؤول سابق في وزارة الخارجية الأمريكية في تغريدة على موقع تويتر، إذ كتب: "سبب اغتيال فخري زادة لم يكن اعتراض سبيل إيران لتطوير إمكاناتها العسكرية، بل كان قطع الطريق أمام الجهود الدبلوماسية".
ربما كان الأمر كذلك، لكن جولة سابقة من عمليات اغتيال لعلماء نوويين إيرانيين أسفرت عن مقتل أربعة وإصابة واحد بين عامي 2010 و2012- كانت قد ساعدت في جعل الحل الدبلوماسي أكثر، وليس أقل، احتمالية. فقد أفضت عمليات الاغتيال هذه، إلى جانب منظومة عقوبات دولية قوية وسلسلة هجمات إلكترونية أمريكية إسرائيلية على منشآت نووية إيرانية، أشهرها هجمات فيروس "ستوكسنت" التي استهدفت منظومات التحكم في أجهزة الطرد المركزي، إلى تكثيف الضغط الواقع على إيران، ومهدت الطريق أمام الإنجاز الدبلوماسي لإدارة أوباما في عام 2015.
في حديثٍ له مع الصحفي الإسرائيلي رونين برغمان، قال مايكل هايدن، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية من 2006 إلى 2009: "إن موت هؤلاء الأشخاص كان له تداعيات هائلة على البرنامج النووي الإيراني"، ويذهب برغمان إلى أن عمليات الاغتيال هذه ألحقت الضرر بإيران من ثلاثة طرق: "أولها، فقدان خبرات معرفة الكيفية التي كانت متوفرة في أذهان القتلى، والتأخيرات الكبيرة في البرنامج على إثر الحاجة إلى تعزيز الإجراءات لمنع اختراق الاستخبارات الغربية مرة أخرى، علاوة على التخلي عن البرنامج من قبل الخبراء الذين يمتلكون الخبرات والمعارف الضرورية خوفا من تعرضهم لمصير مماثل".
وقد ينطوي الأمر بالفعل على مفارقة إذا أفضى اغتيال فخري زادة إلى فرض مزيد من الضغط على إيران لإبرام صفقة مع إدارة بايدن التي يعمل بها عديد من المسؤولين الذين تفاوضوا مع الجانب الإيراني على الاتفاقية السابقة، إذ إن ذلك قد يكون آخر شيء يريده نتنياهو أو ترمب، ومع ذلك فإنه ثمة حاجة إلى "اختراق دبلوماسي" للتفاوض مرة أخرى على وقف البرنامج النووي الإيراني.
إذا كان التاريخ الحديث قد علمنا شيئا، فهو أن إيران يمكنها الاستمرار في تطوير الأسلحة النووية، مهما كان عدد العلماء الذين سقطوا منها، أو عدد أجهزة الطرد المركزي التي خربت بفعل الهجمات الإلكترونية، أو حتى بمقدار الضرر الذي يلحق باقتصادها بسبب العقوبات. فمنذ انسحاب ترمب بحماقة من الاتفاق النووي في عام 2018 على الرغم من امتثال طهران لبنوده، زادت إيران مخزونها من اليورانيوم بمقدار ثمانية أضعاف، وحتى اللجوء إلى الضربات الجوية لن يقضي على البرنامج النووي الإيراني، لا سيما إذا استحضرنا حجم المخاطرة باندلاع صراع إقليمي مفتوح.
في الختام، أقول إن الطريقة الوحيدة لوقف البرنامج النووي الإيراني هي عن طريق اتفاق نووي جديد. وربما يؤدي موت فخري زادة إلى تمهيد الطريق أمام اختراق دبلوماسي بين الطرفين وجعلِ التوصل إلى اتفاقية جديدة أكثر احتمالية لا أقل.
ثلاثة احتمالات
في قراءة الإعلام الأمريكي لحادثة اغتيال العالم النووي الإيراني، ثمة ثلاث ثوابت، تخلص الأولى، وفقا لمسؤولي الاستخبارات الأمريكية، إلى أن بصمات "الموساد"، بمباركة إدارة دونالد ترمب، واضحة في العملية، وإن فضلت إسرائيل الركون إلى التزام الصمت رسميا، وتوازيا عدم تبديد روايات ضلوعها في الاغتيال، والثانية أن حجم العمل وتوقيته يهددان بشل جهود إدارة جو بايدن لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، إلا إذا جاء بنتيجة عكسية وأسس، نتيجة الضغوط، لاتفاق جديد، والثالثة أن الاغتيال لن يؤدي، والحال هذه، إلى تعطيل أو إبطاء البرنامج النووي الإيراني.
أيا كان مزيج الدوافع وراء عملية الجمعة، فالسؤال، بحسب "نيويورك تايمز"، هو عما إذا كان قد تم تدمير الصفقة التي رسم معالمها الرئيس المنتخب باغتيال فخري زاده إسقاط العقوبات المتعلقة في المجال النووي التي فرضها ترمب على مدار العامين الماضيين إذا عادت إيران إلى الامتثال بشكل صارم بالاتفاق الدولي لعام 2015. تكمن الإجابة، إلى حد كبير، في كيفية رد إيران. ربما يراهن الإسرائيليون على الفوز في كلتا الحالتين. فإذا لم تنتقم إيران، تكون "الخطوة الجريئة" لإبعاد العالم النووي البارز قد آتت أكلها، حتى لو دفع الاغتيال البرنامج إلى مزيد من السرية. وإذا انتقم الإيرانيون، وأعطوا ترمب ذريعة لشن ضربة قبل أن يترك منصبه، سيرث بايدن مشاكل ستكون أكبر من مجرد حطام وثيقة دبلوماسية عمرها خمس سنوات. وهذا بالضبط ما يراهن عليه نتنياهو وترمب. فأي انتقام، وفق "نيويورك تايمز"، يمكن أن يؤدي إلى عمل عسكري أمريكي يبدو الرئيس ترمب في أتم الاستعداد للذهاب إليه، ولا سيما أنه ناقش هذا الخيار مع مستشاريه قبل أسبوعين، وأوفد وزير خارجيته، مايك بومبيو، إلى المنطقة.
نهاية الاحتكار النووي
سواء صنعت إيران قنبلة نووية أم لم تفعل فإن غالبية من المحللين الغربيين يرون أنه العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين سيشهد ظهور أكثر من ثلاثة دول تملك اسلحة نووية ولا ضرورة لأن يكون الأمر رسميا.
جاء في تحليل نشرته وكالة أنباء رويترز: يتعرض الاتفاق النووي المبرم بين إيران والقوى العالمية في 2015 للتآكل وتواجه الجهود الرامية لإحيائه تحديا جديدا بمقتل أبرز العلماء النوويين الإيرانيين.
كان للقيود التي فرضها الاتفاق على أعمال إيران في المجال النووي هدف واحد هو تمديد الفترة اللازمة لكي تنتج فيها إيران مواد انشطارية كافية لصنع قنبلة نووية إذا ما قررت ذلك إلى عام على الأقل بدلا من شهرين أو ثلاثة أشهر.
وتصر إيران أنها لم تسع قط للحصول على السلاح النووي وأنها لن تفعل ذلك. وتقول إن أعمالها في هذا المجال للأغراض المدنية فقط.
بدأت طهران في عام 2019 خرق القيود التي ينص عليها الاتفاق خطوة خطوة ردا على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق في مايو 2018 وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على طهران.
وأدى ذلك إلى تقليل الفترة اللازمة لإنتاج المواد الكافية لصنع سلاح نووي، غير أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تشرف على تنفيذ الاتفاق تشير إلى أن إيران تمضي قدما في عملها النووي بأسرع ما يمكن.
وقد سعت دول أوروبية لإنقاذ الاتفاق النووي ومارست ضغطا على طهران للالتزام بالاتفاق رغم تشديد واشنطن للعقوبات والتمسك بالأمل في تغير السياسة ما إن يتولى الرئيس المنتخب جو بايدن في 20 يناير 2021.
وكان بايدن نائبا للرئيس الأمريكي باراك أوباما في الإدارة التي تفاوضت على الاتفاق النووي المبرم في 2015.
* ما الذي أنجزته إيران حتى الآن؟
خالفت إيران الكثير من قيود الاتفاق غير أنها مازالت تتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتتيح المجال لعمل مفتشيها بموجب واحد من أشد برامج التحقق النووي المفروضة على أي دولة تدقيقا.
– اليورانيوم المخصب: يقصر الاتفاق النووي مخزون إيران من اليورانيوم المخصب على 202.8 كيلوغرام وهو ما يعد نسبة ضئيلة للغاية من أكثر من ثمانية أطنان قامت إيران بتخصيبها قبل الاتفاق. وتجاوزت إيران هذا الحد في عام 2019. وقدر تقرير الوكالة الدولية لشهر نوفمبر أن المخزون يبلغ 2442.9 كيلوغرام.
– مستوى التخصيب: يفرض الاتفاق حدا أعلى للمستوى الانشطاري الذي يمكن لإيران أن تخصب اليورانيوم به عند 3.67 في المئة وهو ما يقل كثيرا عن مستوى 20 في المئة الذي حققته قبل الاتفاق وأقل بكثير من المستوى اللازم لصنع السلاح النووي وهو 90 في المئة.
وخالفت إيران هذا القيد في يوليو 2019 وظل مستوى التخصيب ثابتا عند ما يصل إلى 4.5 في المئة منذ ذلك الحين.
– أجهزة الطرد المركزي: يسمح الاتفاق لإيران بإنتاج اليورانيوم المخصب باستخدام حوالي 5000 جهاز من الجيل الأول آي آر-1 من أجهزة الطرد المركزي في وحدة نطنز التي أنشأتها تحت الأرض لتسع أكثر من 50 ألفا من هذه الأجهزة.
ويمكن لهذه الوحدة تشغيل أعداد صغيرة من أجهزة أكثر تقدما فوق الأرض دون أن يتراكم فيها اليورانيوم المخصب. وكان لدى إيران حوالي 19 ألفا من أجهزة الطرد المركزي العاملة قبل الاتفاق.
وفي 2019 قالت الوكالة الدولية إن إيران بدأت التخصيب بأجهزة متقدمة للطرد المركزي في معمل تجريبي فوق الأرض في نطنز. ومنذ ذلك الحين بدأت إيران نقل ثلاث مجموعات من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة إلى مصنعها تحت الأرض.
وفي نوفمبر قالت الوكالة الدولية إن إيران قامت بتغذية أول تلك المجموعات التي أعدتها تحت سطح الأرض بسادس فلوريد اليورانيوم.
– فوردو: يحظر الاتفاق تخصيب اليورانيوم في موقع فوردو الذي بنته إيران سرا في بطن جبل وكشفته أجهزة المخابرات الغربية في العام 2009. ويسمح بأجهزة الطرد المركزي في هذا الموقع لأغراض أخرى مثل إنتاج النظائر المستقرة. ولإيران الآن 1044 جهازا من نوع آي آر-1 للتخصيب في فوردو.
* ما مدى اقتراب إيران من امتلاك القنبلة؟
تتباين التقديرات الخاصة بالفترة التي تحتاجها إيران لامتلاك المواد اللازمة لصنع السلاح النووي. ويقول كثيرون من الدبلوماسيين والخبراء النوويين إن نقطة البداية التي كانت عاما بموجب الاتفاق تقدير متحفظ وإن إيران تحتاج وقتا أطول.
وفي نوفمبر 2020 قدر ديفيد أولبرايت مفتش الأسلحة السابق في فرق الأمم المتحدة والذي يميل للتشدد فيما يتعلق بإيران إن الفترة اللازمة قد تكون قصيرة ربما تصل إلى خمسة أشهر رغم أن ذلك قائم على افتراض أن إيران ستستخدم ألفا من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة التي استبعدت بموجب الاتفاق.
* ما الذي تحتاج إيران لعمله؟
إذا جمعت إيران مواد انشطارية كافية فستحتاج لتجميع قنبلة وعلى الأرجح ستكون صغيرة بما يكفي لتركيبها على صواريخ باليستية. والفترة التي يستغرقها ذلك على وجه الدقة ليست واضحة غير أن تخزين كمية كافية من المواد الانشطارية يعتبر على نطاق واسع أكبر عقبة في إنتاج السلاح النووي.
وتعتقد وكالات المخابرات الأمريكية والوكالة الدولية أن إيران امتلكت في فترة من الفترات برنامجا للسلاح النووي وأنها أوقفته. وثمة أدلة تشير إلى أن إيران حصلت على تصميم لقنبلة نووية من كوريا الشمالية ونفذت أعمالا مختلفة تتصل بتصنيعها.
ولا تزال إيران تتيح للوكالة الدولية تفتيش منشآتها النووية المعلنة وتسمح للمفتشين بزيارات مفاجئة في أماكن أخرى.
وسنة 2020 سوت إيران والوكالة الدولية خلافا استمر عدة أشهر على السماح بدخول موقعين سابقين حامت حولهما الشبهات.
أمال معلقة
جاء في تعليق كتبه إيغور سوبوتين، يوم 28 نوفمبر في "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية بعنوان "الولايات المتحدة تعلق الصراع مع إيران":
بيان البنتاغون عن الزيارة المفاجئة للقائم بأعمال وزير الدفاع، كريستوفر ميلر، إلى الشرق الأوسط خلف أصداء مقلقة، في ضوء تقارير عن استعداد إدارة الرئيس دونالد ترمب لضرب المواقع الإيرانية في المنطقة. وسبق زيارة الوزير الأولى إلى الخارج ظهور معلومات في وسائل الإعلام الأمريكية عن إبلاغ الجيش الإسرائيلي بهجوم أمريكي وشيك على إيران.
وفي الصدد، قال خبير مجلس الشؤون الدولية الروسي المقيم في إيران، نيكيتا سماغين، لـ"نيزافيسيمايا غازيتا": "السلطات الإيرانية، تقول دائما إنه ما تجرأ أحد على تهديد أمن البلاد، فإن الجمهورية الإسلامية سترد بشكل حاسم. ولكن، من الواضح أن مثل هذا السيناريو بالنسبة لإيران سيكون مزعجا للغاية ومثيرا للقلق: فقد يهدد الاستقرار الداخلي، وليس من الواضح تماما كيف سترد طهران على ذلك. فإمكاناتها العسكرية أقل بكثير من قدرة إسرائيل والولايات المتحدة. إن توجيه ضربة لإسرائيل إجراء معقد إلى حد ما. الأمر أسهل قليلا، مع الولايات المتحدة: فيمكن لإيران أن تضرب القوات الأمريكية في المنطقة. إنها أكثر عرضة للخطر".
ومع ذلك، فمن الواضح تماما أن الأمريكيين سيردون على الهجوم على قواتهم. وهذا محفوف بعواقب وخيمة. وقال سماغين: "خير مثال على ذلك مبادرة ترمب السابقة للقضاء على قاسم سليماني".
وبحسبه، فإن احتمال ضربة أمريكية مفاجئة يضع إيران في موقف غير مريح للغاية، فمن الصعب عليها تطوير رد على مثل هذه العملية. وقد ينعكس ذلك على العلاقات مع الرئيس الأمريكي المقبل، الذي لا ترغب إيران في إفساد العلاقات معه. فـ "هناك آمال معينة معلقة عليه".
عمر نجيب