منذ اندلاع الشرارات الأولى للكفاح من اجل الاستقلال نزع اهل المغرب الأدنى والأوسط والاقصى كنخب سياسية ثم كحركات تحرير الى تقوية عرى التضامن بينهم في مواجهة الاحتلال الأجنبي لكن ما ان انتظمت هذه الأقطار في صيغها الحالية (ليبيا-تونس-الجزائر-المغرب-موريتانيا) ونالت استقلالها بطرق شتى حتى طفت على السطح حالات مزمنة ومستديمة من الخلاف والكراهية.
انها حالات عجيبة تجعل المشاهد الفطن أمام مشهد غرائبي ومفجع وهو مشهد الدول الموتورة دول الضغينة..وكيانات الحقد.
مشهد عسير على الفهم فالمفترض في الدولة –أي دولة- ان تكون أكبر من المشاعر الفردية والإنسانية العادية.
المحرك الطبيعي والشرعي لسياسات الدول هو مصالحها الموضوعية حتى ولو افرطت تلك المصالح في القطرية. لا عيب في ذلك ولا منقصة بل ولا يعتبر وصولية ولا انتهازية فقد أجمع علماء السياسة وذوي الدراية والدربة على ان تتبع المصالح وتجنب المفاسد دليل على رجاحة العقل الحاكم ونضجه فالدولة بطبعها كائن بارد غير مزاجي وغير انفعالي.
يؤيد ما ذهبت اليه من انفعالية ومزاجية العقل الحاكم في دولنا ما نرى من سعي بعض الدول الى عرقلة التنمية عند جيرانها معتبرة ذلك في حد ذاته سياسة قومية ثابتة وهذا مؤشر قوى على اختلال التفكير الاستراتيجي عند العقل الحاكم لدينا فأمراض الغير لا تعطي الصحة لاحد وعثراتهم ليست بالضرورة يسرا بل العكس هو الصحيح كما اثبتت ذلك التجارب والدراسات العلمية الموثوقة في علوم الاقتصاد والاجتماع.
إذا نظرنا الوضع الحالي نجد على سبيل المثال ان الحدود البرية مغلقة بين الجزائر والمغرب منذ عقدين والثقة منعدمة بينهما بشكل مستديم وسباق التسلح يستنزف مقدراتهما بشكل مفزع والحرب الإعلامية براكين ملتهبة ما ان تخمد لأيام حتى تستيقظ لشهور.
الخسائرالمادية تفوق 20 مليار دولار سنويا جلها من المبادلات المحظورة بسبب الخلافات الواهية وكل هذا افرز ظاهرة مرضية هي عمودية التبادل بين كل قطر مغاربي مع أوروبا الشريك الأكبر وأحيانا شبه الوحيد لكل قطر على حدة.
من نظر الى التجارة البينية بين بلدان المغرب وخصوصا بين الجزائر والمملكة المغربية سيفهم -لا محالة-أسباب ارتفاع البطالة في المنطقة..والبطالة المغاربية من اكبر مصادر الإرهاب والزلازل الاجتماعية في كل الدول العربية.
أضرار الخلاف لا جدال حولها لكن أسباب الخلاف الحقيقية غير ملموسة وغير جوهرية...فكلها تدور حول المسألة الصحراوية او هذا ما يعتقد الجميع.
شخصيا لا أصدق ان الامر يتعلق بالقضية الصحراوية ولا اصدق ان الجزائر تسلح البوليساريو بسبب تشبث جيشها بحقوق الانسان!
الخلافات بين المغرب والجزائر سبقت القضية الصحراوية ووصلت لنزاع مسلح سنة 1963 وهي مواجهات كسبتها الجزائروانتهت باعتراف المغرب بسيادة الجزائر على تندوف التي الحقت بالجزائر سنوات قليلة قبل الاستقلال وتم توثيق ذلك باتفاقية واضحة ترسم الحدود بين الطرفين.
جسامة الدولة الجزائرية وترسانتها القوية وسطوة شعبها كلها أمور تلغي فكرة الخوف من توسع أي أحد على حسابها وما يعنيه ذلك من ضرورة تجاوز الماضي والخلافات العابرة.
لا أحد في هذا العالم يطمع في النيل من ارض وسيادة الجزائر بل العكس هو الوارد بالمنطق وموازين القوة المتعددة.
اذا عدنا لبدايات مسألة الصحراء الغربية نجد ان الجزائر ظلت تدعم في المحافل الدولية المطالب الموريتانية والمغربية الساعية الى تحرير ما يعرف بالساقية الحمراء ووادي الذهب بل توسطت بينهما لتسوية خلافاتهما الحدودية المنتظرة أكثر من مرة لكن حين تمكنا وببراعة من فتح ثغرة في جدار الخصم الاسباني العنيد والوصول معه الى مفاوضات نهائية تحرر الأرض وسكانها من الاستعمار غيرت الجزائر بوصلتها.
الجزائر التي قالت في قمة الزعماء العرب سنة 1974 على لسان الرئيس بومدين: "ان لا ناقة لها ولا جمل في الصحراء الغربية" اخذت بغتة خطا معاكسا وقامت -مع ليبيا القذافي -بتسليح بعض شباب الصحراء المنزعج ساعتها من مآل القضية لأسباب شخصية وقبلية وعقائدية وهكذا ولدت الفتنة الصحراوية.
الفتنة كلمة مناسبة جدا لوصف التراجيديا الصحراوية فمن شروط الفتنة ديمومتها واستمرارها الناتج عن تشبث كل طرف بوجهة نظره الى حد التقديس معتبرا إياها الوحيدة الصالحة لكل زمان ومكان وان غيرها هراء... ولنا في الفتنة الكبرى خير مثال على ذلك وهي المحنة المحزنة التي قسمت المسلمين بين شيعة وسنة وحتى يوم الناس هذا.
تم تدويل هذه الفتنة منذ السبعينيات تحت رعاية جزائرية ونالت حركة البوليساريو اعترافات متتالية من دول كثيرة في العالم وحققت مكاسب إعلامية ودولية وحشرت المغرب في اكثر من زاوية ..وميدانيا مات آلاف الناس في حرب ضروس جمدتها هدنة هشة.
لم ينعم المغرب قط بهدوء البال حتى بعد بناء أطول جدار رملي في العالم دفن فيه اكبر كمية من الألغام المميتة للبشر ولا بقبوله الهدنة الأممية التي تستلزم تنازله -ولو نظريا- للمنتظم العالمي عن سيادته المزعومة أو المفترضة على الإقليم المتنازع عليه.
الأمم المتحدة وجدت نفسها مرتهنة في رمال الصحراء المتحركة في كل اتجاه وقد انفقت على بعثتها في الصحراء الغربية أكثر مما انفقت امريكا في مشروع مارشال الذي نهض بأوروبا من ركام الحرب العالمية وصالحها مع الازدهار.
رغم كل ذلك تبقى المماحكات حول الاستفتاء المؤجل الى اجل غير مسمى (منذ عشرين سنة) وغيرها من التصرفات الأممية دليلا بينا على ان القوى الغربية لا تريد لهذا النزاع أي حلحلة واغلب ظني انه لو لم يوجد لتم اختراعه بمهارة في باريس او في واشنطن أو في مكان آخر لشل ديناميكية المنطقة نحو الوحدة ولتكريس تبعيتها الدائمة لكبريات الدول الغربية.
المغرب تكبد في الصحراء من الجهد والمال ما كان يكفيه لتمويل عملية نهضوية جبارة مثل تجربة كوريا الجنوبية لكنه العناد الخارج من حاضنة الفخار وغلواء الوطنية ورغبة العرش المغربي في تحقيق نصر سهل ومتاح يوطد به دعائمه ويعبر به عقود السبعينيات والثمانينيات المؤدلجة والمحمومة هو ما جعل المغاربة يتخطون حدود المقبول جزائريا والمقبول جزائريا لم يكن أبدا متضح المعالم خصوصا ساعة التفاوض في مدريد كما سبق واسلفت.
اعتقد الكثيرون سنة 1979ان وفاة الرئيس بومدين ستفتح آفاقا جديدة لمصالحة منتظرة يمليها الواقع وتطلبها الشعوب وبذل المجاهد التونسي الكبير الحبيب بورقيبة كل ما في جعبته من دهاء وخبرة لتنقية الأجواء بين الجزائر والرباط وسار في الدرب نفسه ملوك السعودية خالد وفهد وكاد الشاذلي بن جديد ان يعيد صياغة السياسة الخارجية والدفاعية لبلاده ونقل كثيرون عنه انه لا يريد ان يكتب التاريخ انه وقف حجر عثرة في طريق وحدة شعوب المغرب الكبير!
جاء محمد بوضياف لرئاسة الجزائر وبوضياف لم يكتم يوما حبه للمغرب والمغاربة فدفع ثمن ذلك الحب من حياته حيث لقي مصرعه إثر عودته من سفر شخصي للرباط -وهو سفر متعلق بزواج نجله المولود في سنوات المنفى المغربي الطويلة- تؤكد شهادات معتبرة انه عبر خلاله للحسن الثاني عن عزمه على تصفية المسألة الصحراوية وفتح صفحة جديدة بين دول المنطقة.
لكن هناك من فضل قتل الرئيس على تعافي الأوضاع في المنطقة!
دفعت الحرب الاهلية الدامية بالجيش الجزائري الى البحث عن شخص فهيم للتغيرات المجتمعية والدولية فأتوا برجل منتبذ في سويسرا القصية يدعى بوتفليقة ونصبوه رئيسا للجمهورية وحالفه الحظ كثيرا حيث تصادفت عودته "المظفرة" للسياسة مع تصاعد أسعار النفط عالميا كما ساعدته خبرته العميقة في الثقافة العربية والإسلامية على مد جسور التواصل صوب شباب الحركات الإسلامية الذين يختلفون مفاهيميا وحتى التناقض مع الجيل الحاكم من المدنيين والعسكريين ووضعت حرب الجزائر اوزارها واستبشر الكثيرون خيرا وقلنا: بعد تمريره لمصالحات وقوانين التراجيديا الجزائرية سيتكرم بوتفليقة على شعوب المنطقة بمبادرة تنهي هذه المأساة الطويلة وتعود المياه لمجاريها بين الجميع.
لكن بوتفليقة الذي كان بالأمس القريب يكرر على مسامع زواره القلائل:
" الفتنة الصحراوية كارثة قومية كبيرة وعلى الجزائر وقد آلت اليها من الصحراء الافريقية الكبرى أكبر واغنى قطعة ان لا تكون مصدرا للتوتر في المنطقة ".."بل لا ضير إذا قامت بتصفية الملف برمته احتراما لميثاق اتحاد المغرب العربي".. الذي يلزم الدول الأعضاء بالامتناع عن إيواء حركات انفصالية او معارضة لأي عضو في الاتحاد.
بوتفليقة هذا تحرك في كل اتجاه سوى المسائل العالقة غربا.
هذا الشخص الودود والطيب الذي كان يتنقل لربع قرن بين الامارات العربية وسويسرا في رحلة التيه الأعظم مكررا نواياه الحسنة في كل محفل وبحضور شهود عدول من كل الملل والنحل لم يغير مواقف بلاده قيد أنملة بعد جلوسه على كرسي الحكم بل عرف اتحاد المغرب العربي في زمانه موتا سريريا أكيدا وها هو يقترب من اكمال مسيرته السياسية وربما الإنسانية دون ان يقدم على أي إجراءات من شأنها خلق روح إيجابية جديدة بين عرب المغرب الكبير.
يقول الكثيرون ان المشكلة الحقيقية تعود الى التباين والاختلاف بين نوعية الأنظمة الحاكمة في البلدين الصنوين.. بين ملكية عتيقة تستخدم قاموسا استعلائيا وأحيانا قروسطيا وطغمة بترو-عسكرية تخرج من حاضنة ثورية سحيقة.
هذا التباين الواضح في القسمات النفسية بين الطبقتين الحاكمتين في الجزائر والمغرب هو الذي يغذي وضعية التنافر المستمر بين الدولتين وقد جر ذيوله على المنطقة بأجمعها وما فتنة الصحراء الغربية الا مظهر بسيط من مظاهر هذه الشحناء النفسية المزمنة.
تلك الشحناء أعيت الأطباء كثيرا.. وآخرهم الدكتور منصف المرزوقي طبيب الأعصاب رئيس تونس الذي جال في دول المغرب العربي حاملا مقترحات حاذقة عرضها بحماسة واخلاص على الجميع.
خابت مساعي الطبيب التونسي واصطدمت بصخور عصية على الفهم وتفاقمت الأوضاع بتمدد الفتنة الصحراوية نحو كثبان ليبيا المشتعلة كما تتمدد الأوبئة الكاسحة.
و سنكرر جميعا في كل حال حسبنا الله ونعم الوكيل.