هل يتبدل العالم بعد جانحة كوفيد 19؟ الأزمة الاقتصادية الدولية بين تيارين والدولار يقترب من حافة الهاوية

أربعاء, 2020-05-13 16:44

جاءت جائحة كوفيد 19 أو فيروس كرونا المستجد مع بداية سنة 2020 لتحدث صدمة عالمية، مولدة سلسلة أزمات ودرجات اضطراب متفاوتة الحجم بين جل الدول في المجالات الاقتصادية و السياسية والأمنية والاجتماعية. شككت الأزمة في الكثير من المسلمات والمفاهيم والمعتقدات والعادات التي ترسخت في النفوس. كانت درجة التعميم المعرفية بالنسبة لزهاء حوالي نصف سكان الأرض البالغ عددهم 7700 مليون انسان أوسع من أي وقت سابق بفضل شبكة المعلومات ووسائل التواصل التي جعلت تقريبا في المتناول معرفة ما يدور على النصف الآخر من الكرة الأرضية لأي شخص في النصف المقابل وفي الزمن الحقيقي. من جانب سيكون صحيحا القول أن الكرة الأرضية أصبحت بمثابة قرية صغيرة.

 حلت اسقاطات الجانحة ليعتبرها البعض بمثابة مؤشر لبداية مرحلة ميلاد لنظام عالمي جديد، آخرون قدر أنها ستكون مولدا لتحولات في سياسة وتوجهات الكثير من الدول داخليا على كل الاصعدة خاصة بعد أن عرت جوانب النقص والتقصير في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية. تصور مفكرون أن الجانحة ستنهي أو تبدل مفاهيم العولمة وستؤثر على التكتلات الاقتصادية والسياسية وتعطي دورا أكبر للحكومات ونظمها الاجتماعية والاقتصادية، بل وخشى آخرون انتاجها حربا عالمية ثالثة.

 البعض يتوقع أن يستخلص العالم أو على الاقل جزء منه دروسا ليكون ذلك اساسا لتعديل كل أشكال تعامله مع الأزمات في المستقبل، في حين يقدر آخرون أن حالة الوعي بالحقائق الجديدة ستكون قصيرة الأمد كما حدث مع كل الكوارث السابقة التي عرفها العالم ككل مثل الحمى الاسبانية التي حصدت بين 50 و 100 مليون نسمة سنة 1918 أو الازمات الاقتصادية لسنة 1929 و 2007 وغيرها وستعود الأوضاع إلى سابق عهدها في انتظار كارثة أو أزمة جديدة.

يقال أن الانسان أناني بطبيعته وهو لذلك لا يفكر إلا في مصالحه الذاتية ولو كانت على حساب الآخرين وهو كذلك يميل إلى النسيان خاصة الامور السيئة ولهذا ستكون أزمة كورونا مجرد ذكرى عابرة.

هل رسب المجتمع الدولي ؟

جاء في تقرير كتبه الخبير الاقتصادي تيم هارفورد ونقلته صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية نشر يوم 9 مايو 2020:

في سنة 2003، نشرت مجلة هارفارد للأعمال مقالا بعنوان: “مفاجآت يمكن التنبؤ بها: الكوارث التي كان يجب أن نتوقعها”. أتبعه المؤلفان ماكس بازرمان ومايكل واتكينز، وهما من أساتذة كلية إدارة الأعمال بكتاب يحمل العنوان نفسه.

جادل بازرمان وواتكينز أنه في حين أن العالم مكان لا يمكن التنبؤ به، فإن عدم القدرة على التنبؤ لا يمثل المشكلة في كثير من الأحيان، فالمشكلة هي أنه في مواجهة مخاطر واضحة، ما زلنا نفشل في اتخاذ الإجراءات المناسبة.

بالنسبة إلى واتكينز، فإن جائحة فيروس كورونا هي أكبر مثال على المفاجأة التي يمكن التنبؤ بها. يقول: “ليس الأمر كأن هذه قضية جديدة” قبل أن يرسل الملاحظات عن تمرين للاستجابة للوباء الذي كان يديره في جامعة هارفارد.

هذا أمر تم التنبؤ به على نحو يقبض الصدر: نقص الأقنعة، التدافع على التباعد الاجتماعي، رؤساء الجامعات يقعون فريسة للمرض. تاريخ الوثيقة هو 12 أكتوبر 2002. نحن نفكر في الأوبئة منذ زمن طويل.

كانت التحذيرات الأخرى أكثر بروزا. في 2015، ألقى بيل غيتس حديثا في “تيد” وهي سلسلة من المؤتمرات العالمية التي تهدف لتعريف ونشر الافكار الجديدة والمتميزة للعالم بعنوان: “الوباء التالي؟ نحن لسنا مستعدين”.

شاهد ذلك الحديث نحو 2.5 مليون شخص بحلول نهاية 2019. في 2018، كتب الصحافي العلمي إيد يونغ مقالة في “ذي اتلانتيك” بعنوان: “الطاعون التالي مقبل. هل أمريكا جاهزة؟”. الآن نعرف الإجابة، ولم يكن الأمريكيون وحدهم غير مستعدين.

إلى جانب أن هذه التحذيرات التي تصدر عن شخصيات، تعد بمنزلة الحجج في مجالاتها، كانت هناك أحداث تم تجنبها بالكاد وكانت موازية مباشرة لإعصار إيفان: سارز في 2003، وباء إنفلونزا الطيور في 2006 وإنفلونزا الخنازير في 2009، والإيبولا في 2013، وميرس في 2015.

كل وباء مميت أثار إنذارا وجيزا ومبررا، تبعته هزة استهانة جماعية من الكتفين. من المفهوم أن لدينا عددا أقل من اللازم من الأطباء والممرضات وأسرة المستشفيات للتعامل مع أي وباء: الأطباء الاحتياطيون مكلفون.

من غير الواضح لماذا لدينا عدد قليل جدا من الكمامات، وغير مستعدين لإجراء اختبارات واسعة النطاق، ولم نفعل مزيدا لتطوير لقاحات فيروس كورونا بعد وباء سارس 2003، الذي تضمن سلالة تتعلق بالوباء الحالي. كانت هناك موجة من النشاط، ولكن الاهتمام تضاءل بعد 2004.

تم تحذيرنا من قبل الخبراء بل ومن الواقع. ومع ذلك، وعلى معظم الجبهات، ما زالت الأوبئة تمسك بنا ونحن غير مستعدين. لماذا؟.

لا يقتصر التعامي على من هم في السلطة. يجب أن يعترف الباقون منا بأننا أيضا كافحنا من أجل فهم ما كان يحدث بالسرعة التي ينبغي أن نفعلها.

في منتصف فبراير 2020 قالت لي الدكتورة ناتالي ماكديرموت عالمة الأوبئة من كينجز كوليج في لندن، إنه من المحتمل أن يتبين أن من المستحيل احتواء فيروس كورونا الجديد، وفي هذه الحالة هناك احتمال كبير بأنه قد يصيب أكثر من نصف سكان العالم.

كان أفضل تخمين منها لمعدل الوفيات في ذلك الوقت أقل بقليل من 1 في المائة.

يقول كاتب التحليل تيم هارفورد أومأت برأسي وصدقتها وأجريت الحسابات في رأسي 50 مليون قتيل وذهبت إلى عملي. لم أبع أسهمي في البورصة ولم أشتر كمامات. لم أخزن حتى الاسباغيتي.

كانت الخطوة بين التعرف على المشكلة واتخاذ الإجراءات ببساطة كبيرة فوق الحد. ولا يبدو أن بث محادثتي الإذاعية مع ماكديرموت على “بي بي سي” قد أثار شرارة كبيرة من حيث التخطيط للكوارث.

يصف علماء النفس هذا التقاعس في وجه الخطر باسم “الذعر السلبي”. في مواجهة كارثة من تدمير مومبي في 1979 إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 على مركز التجارة العالمي، كان الناس في كثير من الأحيان بطيئين في إدراك الخطر ومرتبكين حول كيفية الرد. لذلك لم يفعلوا شيئا، إلى أن فات الأوان.

قد يكون جزء من المشكلة ببساطة هو أننا نحصل على إشاراتنا من الآخرين. في تجربة شهيرة أجريت في أواخر الستينيات، نفخ بيب لاتانيه، وجون دارلي، عالما النفس، الدخان في غرفة كان فيها المشاركون في التجربة يملأون استبيانا.

عندما كان الشخص يجلس بمفرده، كان يميل إلى ملاحظة الدخان ويغادر الغرفة بهدوء للإبلاغ عنه. عندما كان الأشخاص في مجموعة من ثلاثة، كانوا أقل عرضة للتفاعل. ظل كل شخص سلبيا مطمئنا إلى سلبية الآخرين.

مع انتشار فيروس كورونا الجديد أثرت الإشارات الاجتماعية في سلوكنا بطريقة مماثلة. التقارير المروعة من الصين لم يكن لها تأثير يذكر، حتى عندما أصبح من الواضح أن الفيروس أصبح عالميا.

يمكننا أن نرى الدخان المجازي يتدفق من عمود التهوية، ومع ذلك يمكننا أيضا أن نرى مواطنينا يتصرفون كما لو أنه ليس هناك خلل: لا تخزين، لا تباعد عن الآخرين ولا تهيب للمصافحة باليد. ثم عندما جاءت الإشارات الاجتماعية أخيرا، غيرنا جميعا سلوكنا في الحال. في تلك اللحظة لم يكن من الممكن العثور على لفافة من ورق التواليت. التحييز نحو الوضع الطبيعي وغريزة القطيع ليست الاختصارات المعرفية الوحيدة التي قادتنا إلى الضلال.

التفاؤل الأناني

السبب الآخر هو التحيز نحو التفاؤل. عرف علماء النفس لنصف قرن أن الناس يغلب عليهم التفاؤل بشكل يخالف المنطق، بشأن فرصهم في أن يكونوا ضحية لجريمة أو حادث سيارة أو مرض، ولكن في 1980 عالج نيل واينشتاين عالم النفس السؤال.

هل كان الشعور بأن الأشياء السيئة نادرا ما تحدث لأي شخص، حالة من التفاؤل بشكل عام؟ ربما كان الأمر أقرب إلى كونه تفاؤلا أنانيا. هو شعور بأنه في حين أن الأشياء السيئة تحدث، فإنها لا تحدث لي.

طلب واينشتاين من أكثر من 250 طالبا مقارنة أنفسهم بالطلاب الآخرين. طلب منهم التفكير في آفاق سعيدة مثل وظيفة جيدة أو حياة طويلة، والمخاطر القوية مثل النوبة القلبية المبكرة أو الأمراض التناسلية. شعر الطلاب بأغلبية ساحقة أنه من المحتمل أن تحدث لهم أشياء جيدة، بينما تنتظر الأقدار غير السارة أقرانهم.

يظهر بحث روبرت ماير الوارد في كتابه “مفارقة النعامة” هذا التأثير في العمل في الوقت الذي كان فيه إعصار ساندي يلوح في الأفق في 2012.

وتوصل إلى أن سكان المناطق الساحلية في جنوب الولايات المتحدة كانوا على دراية جيدة بمخاطر العاصفة. كانوا يتوقعون ضررا أكبر مما فعله خبراء الأرصاد الجوية، لكنهم كانوا مرتاحين واثقين بأن الآخرين هم الذين سيعانون.

وفي حين أني أدرك أن بعض الناس يشعرون بالخوف المرضي بشأن إصابتهم بالجائحة، إلا أن ما أراه في نفسي هو التفاؤل الأناني.

رغم أني أعلم أن الملايين من الناس في بريطانيا سيصابون بهذا المرض، فإن حدسي الغريزي ضد كل المنطق هو أنني لن أكون واحدا منهم.

يشير ماير إلى أن مثل هذا التفاؤل الأناني يكون خبيثا في حالة المرض المعدي. العالم المليء بالأشخاص الذين لديهم الغرائز نفسها، لا بد أن يكون عالما مليئا بناقلي الأمراض.

أتخذ الاحتياطات جزئيا بسبب الضغط الاجتماعي، وجزئيا لأنني أعلم أنها ضرورية من الناحية الفكرية. غير أن غريزتي للبقاء على قيد الحياة تخفق في أداء مهمتها، لأنني ببساطة لا أشعر أن بقائي على المحك.

حقيقة أن الوباء بدأ في الصين ضمن شعوب من العرق الآسيوي، لا يمكن إلا أن يعمق الإحساس بالمنعة الشخصية في الغرب.

كما قال نيل فيرجسون، عالم الأوبئة لصحيفة “فاينانشيال تايمز”: “ما حدث في الصين كان بعيدا جدا، ويستغرق الأمر نوعا معينا من الأشخاص ليأخذ في الحسبان أن هذا قد يحدث بالفعل هنا”.

بدأ الفيروس يبدو بأنه حقيقي للأوروبيين عندما كان الأوروبيون يعانون. منطقيا كان من الواضح دائما أن المرض يمكن أن يصيب الناس من الطبقة المتوسطة، الذين يستمتعون بعطلات التزلج في إيطاليا. عاطفيا بدا أننا غير قادرين على فهم هذه الحقيقة إلى أن فات الأوان.

هناك مشكلة رابعة أبرزها هوارد كونريثر، المؤلف المشارك لماير، ويمكن أن نسميها قصر النظر الأسي. نجد أن النمو الأسي غير بديهي إلى حد كونه محيرا، فنحن يغلب علينا التفكير فيه على أنه اختصار لـ”سريع”.

الوباء الذي يتضاعف حجمه كل ثلاثة أيام سيحول حالة واحدة إلى ألف في غضون شهر، وإلى مليون في غضون شهرين إذا لم يتباطأ النمو.

تفاخر الرئيس دونالد ترمب في التاسع من مارس 2020، بأنه كانت هناك 22 حالة وفاة فقط في الولايات المتحدة، وكان ذلك في غير محله في ضوء ما نعرفه عن النمو الأسي، لكنه بالكاد هو الشخص الوحيد الذي فشل في فهم هذه النقطة.

في 1975، توصل وليم واجنار وساباتو ساجاري، عالما النفس إلى أنه عندما يطلب من الناس توقع عملية أسية، غالبا ما يقللون من شأنها بعامل عشرة. وكانت العملية في هذه الدراسة أبطأ بكثير من هذا الوباء، حيث تضاعفت خلال عشرة أشهر بدلا من بضعة أيام. لا عجب أن نجد أنفسنا وقد تجاوزتنا تلك الأحداث.الاحلام بين الواقع والخيال

حققت البشرية أحيانا تقدما اجتماعيا مهما على أنقاض كوارث كبرى، أوروبا مثلا شهدت زوال النظام الإقطاعي في أعقاب وباء الطاعون الأسود، وقيام نظام الرعاية الاجتماعية إثر الحرب العالمية الثانية.

وفي مواجهة تفشي فيروس كورونا اتخذت حكومات عديدة تدابير كانت ترفضها حتى الآن باعتبارها من باب “اليوتوبيا” أي المثالية، فوزعت “شيكات” على الأفراد وعززت الرعاية الصحية للأكثر هشاشة وأمنت ملاجئ للمشردين وقطعت وعودا بالاستثمار بكثافة في النظام الصحي، فهل تستمر هذه التدابير بعد الأزمة؟.

وفقا لـ”الفرنسية” سلط الفيروس الضوء على أهمية دور العمال الأكثر هشاشة من سائقين وعمال صناديق وموزعين ومعلمين وممرضين يتقاضون أجورا متدنية ولا يحظون بكثير من الاعتبار في أغلب الأحيان، وهم الذين مكنوا الدول من الاستمرار في ظل الحجر المنزلي.

ويبلغ عدد العمال المستقلين في المملكة المتحدة “بريطانيا” خمسة ملايين، ولا يحظى معظمهم بضمان اجتماعي، وخوفا من أن يواصلوا العمل حتى إذا أصيبوا بفيروس كورونا، قررت رئاسة الحكومة منحهم تغطية صحية منذ اليوم الأول، وليس في اليوم الخامس كما كان ساريا قبل ذلك، ومنحهم مساعدات البطالة الجزئية ذاتها الممنوحة للموظفين، وقدرها 80 في المائة من متوسط عائداتهم الشهرية حتى حدود 2500 جنيه استرليني في الشهر.

وإذا كان ريشي سوناك وزير المالية تحدث عن إبطاء هذه المساعدات، فإن أستاذ الأنثروبولوجيا الطبية في جامعة “يو سي إل” ديفيد نابيير رأى أنه سيكون من الصعب انتزاع هذه المكاسب منهم بالكامل بعدما “عول الأقوياء على الأكثر ضعفا لضمان استمراريتهم”.

وحققت فكرة تأمين دخل أساسي شامل تقدما في دول ومناطق شتى تمتد من هونك كونغ، وصولا إلى الولايات المتحدة، حيث تطغى المصلحة الذاتية. وسعيا منها لضمان استمرارية الاقتصاد، قامت إدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترمب بتوزيع مبالغ مالية مباشرة تصل إلى ثلاثة آلاف دولار للعائلة ضمن خطتها لإنعاش الاقتصاد بعد الصدمة، التي ألحقت 30 مليون شخص حتى الآن بصفوف العاطلين عن العمل.

وأظهرت دراسة أجرتها جامعة أوكسفورد أن 71 في المائة من الأوروبيين يؤيدون مبدأ تأمين دخل أساسي شامل، بعدما كان هذا المفهوم يعد “راديكاليا، بل من باب اليوتوبيا”، بحسب ما أوضح البروفيسور غارتون آش.

وكان العاملون في أقسام الطوارئ والممرضات يحتجون ويتظاهرون منذ أعوام في فرنسا للمطالبة بتخصيص مزيد من الوسائل للمستشفيات التي تواجه ضغوط عمل كبرى، حين اجتاح وباء “كوفيد – 19” العالم فخاضوا المعركة ضده في الخطوط الأمامية وسقط عديد منهم ضحايا الفيروس. وبعدما كان الرئيس إيمانويل ماكرون يؤكد أنه لا يملك “مالا سحريا”، وعد بوضع “خطة كثيفة” للمستشفيات.

وفي المملكة المتحدة، التي تعتمد سياسة تقشف صارمة منذ عقد، بات رئيس الوزراء بوريس جونسون من كبار المدافعين عن نظام الرعاية الصحية المجانية “إن إتش إس”، ولا سيما بعد تلقيه العلاج في مستشفى عام إثر إصابته بفيروس كورونا المستجد.

وعلق أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة وارويك مارك هاريسون أن “قصة رئيس الوزراء الذي أنقذته هيئة الخدمات الصحية الوطنية لها وطأة شديدة”، مضيفا “سيكون من الصعب على المحافظين التراجع بعد ذلك عن وعود” الاستثمار في الصحة.

ويعد المشردون الذين يعانون عادة وضعا صحيا سيئا، من الأكثر عرضة للإصابة، ولا سيما حين يقيمون في ملاجئ مكتظة، الأمر الذي دفع الحكومة البريطانية لمباشرة برنامج “الجميع في الداخل”، الذي مكن السلطات المحلية من تعبئة فنادق ونزل، الأمر الذي سمح بإيواء 5400 شخص يمثلون جزءا من 170 الف من المشردين الذين ينامون عادة في العراء.

ويدعو كثيرون إلى اغتنام عودة “يد” الدولة لتوجيه السياسة الصناعية على غرار ما حصل مع خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية، وإعطاء منحى “أخضر” للاقتصاد.

ودعا فاتح بيرول مدير وكالة الطاقة الدولية قادة العالم إلى “ضمان وضع مسألة الانتقال في مجال الطاقة في مقدم استجابتهم لوباء كوفيد”.

وفي فرنسا طلبت جمعية أرباب العمل “تعليق” التدابير البيئية المطبقة، لكن الحكومة تؤكد أنه لن يتم وقف آلية إقرار القانون لمكافحة الهدر والقانون المضاد للمواد البلاستيكية، كما تؤكد أن ضخ سبعة مليارات يورو لدعم شركة “إير فرانس” يقترن بوجوب الحد من الرحلات القصيرة وخفض الانبعاثات الملوثة. وفي ألمانيا، قد تعمد الحكومة إلى ربط المساعدات بالتزامات من أجل المناخ.

ورأى مارك هاريسون أن الأزمة “بانعكاسها على الجميع، لها القدرة على تغيير مفهوم الناس لوقت طويل” وصولا إلى “إدخال أخلاقيات” إلى الحياة الاقتصادية.

غير أن الأستاذ في كلية “إمبيريال كوليدج بيزنيس سكول” سانكالب شاتورفيدي حذر بأن للنوايا الطيبة حدودا وبأن الحكومات ستواجه على المدى البعيد مديونية طائلة، متوقعا أن “يترافق هذا السخاء مع زيادة في الضرائب”.

كارثة المديونية

الولايات المتحدة بمفردها وحتى الثلث الأول من شهر مايو 2020 خصصت أكثر من 3000 مليار دولار “3 ترليون” لدعم الاقتصاد، هذه الأموال ستضاف إلى ديون الحكومة التي تتجاوز 27 ترليون دولار. الاتحاد الأوروبي يقترب من رقم 2 ترليون دولار.

 المشكلة أن واشنطن توفر الاموال بطباعة المزيد منها مرتكزة على أن عملتها أداة تعامل دولية، وبكلمات ابسط تنفق الحكومة على حساب الاقتصاد الدولي.

خلال الحملة الرئاسية عام 2016، وعد المرشح الجمهوري دونالد ترمب بإلغاء ديون البلاد في غضون ثمانية أعوام.

وكانت قضية الدين الأمريكي واحدة من أكثر القضايا التي انتقد فيها ترمب إدارة باراك أوباما بشدة، حيث تولى الرئيس أوباما الرئاسة والدين الأمريكي 10.6 تريليون دولار، وغادر المكتب البيضاوي والدين الأمريكي 19.9 تريليون دولار، ليضيف خلال أعوامه الثمانية أعباء ديون على الاقتصاد الأمريكي توازي تقريبا ديون الولايات المتحدة خلال تاريخها الذي يمتد إلى 232 عاما.

وتعد نسبة الدين الأمريكي إلى الناتج المحلي الإجمالي من بين أعلى المعدلات في الدول المتقدمة، وزاد ذلك الاموال الجديدة.

والرقم الذي ترغب واشنطن في اقتراضه، أكثر من خمسة أضعاف الرقم الذي اقترضته في ذروة الأزمة الاقتصادية عام 2008 – 2009، ويتجاوز إجمالي المبلغ الذي اقترضته عام 2019، المقدر بنحو 1.28 تريليون دولار. واسهم قرض التريليونات الثلاثة في قفزة إجمالي الديون الأمريكية من أكثر من 24 تريليون دولار في الأسبوع الأول من ابريل 2020 إلى أكثر من 27 تريليون دولار.

وقيمة القرض الاخير تقدر بنحو 14 في المائة من الاقتصاد الأمريكي، ومن الطبيعي للغاية أن تثير مخاوف الخبراء والسياسيين حتى من أنصار الرئيس ترمب بشأن تأثير زيادة الإنفاق على الدين الوطني. وتقترض الولايات المتحدة من خلال بيع السندات الحكومية، التي تتمتع غالبا بأسعار فائدة منخفضة نسبيا، نظرا إلى أن الديون الأمريكية تعد منخفضة المخاطر من قبل المستثمرين في جميع أنحاء العالم.

وفي الواقع، فإن عبء الديون في الولايات المتحدة أخذ في الارتفاع إلى مستويات يعدها الخبراء محفوفة بالمخاطر على المدى الطويل، حيث تنفق البلاد أكثر مما تنتج، إلى الحد الذي تجاوز فيه الدين الوطني 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما بلغ عجز الميزانية 3.7 تريليون دولار.

الولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم، ولا يوجد لديها سجل بالتخلف عن سداد الديون، وقد ساعدها ارتفاع الطلب على الدولار منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية على تمويل ديونها، كما أن انخفاض أسعار الفائدة منذ الأزمة الاقتصادية عام 2008 أمر يشجع على الاستدانة ولا يثير القلق.

لكن الدكتور آرثر جون رئيس وحدة التحليل المالي السابق في بنك إنجلترا يعلق قائلا، “على المدى القصير يستفيد الاقتصاد الأمريكي من عجز الإنفاق، حيث إنه يدفع النمو الاقتصادي والاستقرار، فالقروض الحكومية تمثل عملية إنفاق على بنود مختلفة، بما يعنيه ذلك من زيادة التوظيف ومن ثم زيادة الإنفاق الاقتصادي من قبل قوى العمل الجديدة”.

وأضاف، “لكن على المدى الطويل، فإن الأمر قد يكون خطيرا للغاية، حيث إن جزءا متزايد من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي سيذهب إلى خدمة فوائد الدين، ويمكن أن يبعد ذلك الاستثمار عن المجالات الحيوية، مثل البنية التحتية والتعليم والبحث العلمي، وإذا زادت معدلات الفائدة ازداد الوضع سوءا فيما يتعلق بالديون الجديدة، ويؤدي هذا إلى بطء النمو الاقتصادي، كما أن تنامي الدين كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي يرفع من مخاطر الإقراض، ويؤدي إلى انخفاض الطلب على سندات الخزانة الأمريكية، وهذا يوجد ضغطا هبوطيا على قيمة الدولار”.

وأكد الدكتور آرثر، أن الكونغرس يعلم أن أزمة الديون الأمريكية ليست بعيدة، وأنه خلال أربعة عقود عليه مواجهة وضع عسير في هذا الشأن، وأن الولايات المتحدة ربما تكون عالقة في “فخ الديون”، حتى إن كانت تستطيع تحمل تبعاتها نتيجة قدرتها على طبع مزيد من الأموال.

 يرى اقتصاديون محافظون أنه من المستبعد انفجار أزمة الدين الأمريكي في القريب العاجل، لكنه عندما يحين موعد انفجارها، فإنها ستحدث هزة عنيفة في الاقتصاد الدولي وستطول الجميع، ولا يجب حصرها في الجانب الاقتصادي، فأزمة الدين تعني تقويض القيادة العالمية للولايات المتحدة من خلال ترك ميزانيات أقل للعمليات العسكرية والنشاط الدبلوماسي والمساعدات.

وجهات نظر

يرى البروفيسور إل. دي مارتن أستاذ الاقتصاد الدولي سابقا والاستشاري في عدد من المنظمات الدولية، أن جائحة كورونا مثل تغير المناخ جزء من مشكلات الهيكل الاقتصادي العام، وعلى الرغم من أن قضية المناخ ووباء كورونا يبدوان للوهلة الأولى أنهما من المشكلات البيئية أو الطبيعية إلا أنهما مدفوعان بعوامل اجتماعية.

ويضيف مارتن “ستتعالى الأصوات بنهاية الرأسمالية، وسيتزايد الانتقاد للنظام الرأسمالي العالمي وقدرته على التعامل مع تلك النوازل، لكن لن يكون هناك بديل شامل له لفترة طويلة، سيسعى بعض إلى تهذيب المشهد، وإضفاء بعض الجوانب الإنسانية عليه من خلال مزيد من المساعدات، وتعظيم الجانب الاجتماعي له وليس أكثر من ذلك، ثانيا كشفت الأزمة أن الدولة ستظل حجر الأساس في بنية الاقتصاد العالمي، وتلك هي الكلمة المفصلية في طبيعة النظام الاقتصادي في المرحلة المقبلة، فنظام ما بعد الجائحة سيشهد مزيدا من الانكفاء الذاتي، وعودة الحواجز التجارية والضوابط المالية، بما قد يعنيه ذلك من استعادة الدول المتقدمة عديدا من الصناعات التي قامت بتحويلها إلى الاقتصادات البازغة، وسنشهد مزيدا من حدة المنافسة والاستقطاب الاقتصادي وسيترافق ذلك مع تراجع معدلات النمو في الأسواق الناشئة، وستزداد حدة الشراسة التنافسية لدى الاقتصادات المتقدمة، وسنشهد تصاعدا في العداء الاقتصادي بين قطبي الاقتصاد الدولي الولايات المتحدة والصين”.

لا يبدو مارتن من مؤيدي الأفكار التي يروج لها بعض الخبراء بأن الركود الاقتصادي الذي سيشهده العالم نتيجة انتشار وباء كورونا سيكون مؤقتا، بل يتوقع أن معدل النمو الاقتصادي سيظل منخفضا في الأعوام المقبلة لفترة ملموسة.

ويواصل قائلا “من المتوقع أن تتسم مرحلة ما بعد الجائحة بتزايد في أعداد الدول العاجزة عن سداد ديونها، وزيادة معدلات الاقتراض الدولي في الوقت ذاته للتعامل مع الخسائر الاقتصادية للأزمة، وهذا سيفجر أزمة ديون ذات طبيعة عالمية غير مسبوقة، لأن عديدا من الدول المتقدمة سيواجه أيضا ضغوطا حادة ناجمة عن أن سداد ما عليها من ديون قد يعني عمليا انخفاضا واضحا في مستويات معيشة السكان”.

الدكتورة إيلين تشودري أستاذة التجارة الدولية في جامعة ليفربول والاستشارية في منظمة التجارة العالمية تعتقد أن الاقتصاد العالمي سيكون بعد الجائحة أكثر تكاملا مما كان عليه من قبل، وما الأصوات التي تنادي بمزيد من الحمائية إلا أصوات تغرد خارج سرب الحركة التاريخية للاقتصاد الدولي.

وتضيف أن “الانطباع الذي ساد نتيجة الأزمة أن شبكات العولمة هشة للغاية بسبب تعقيداتها المذهلة، وأنها تتعطل بسهولة، وتجعل الدولة وسكانها رهينة الاعتماد على الخارج، لكن بعد أن تهدأ العاصفة ويستعيد العالم الجزء الأكبر من توازنه المفقود، سيكتشف أن تلك الانطباعات السلبية التي روج لها بعض القادة ضد العولمة وحرية التجارة مضلة ومضللة للغاية، فشبكات الإنتاج العالمي التي تتسم بالتعقيد هو ما يمنحها القوة، وهذا الترابط الاقتصادي العالمي حال دون أن يكون العالم خلال الجائحة رهينة لدولة واحدة أو مجموعة محدودة من الدول لإمداده باحتياجاته، بل إن العولمة هي التي أتاحت الفرصة لتعزيز الابتكارات على المستوى العالمي، وتلك القدرة الابتكارية ليست فقط ذات بعد اقتصادي مهم يؤدي إلى زيادة معدلات التجارة الدولية، بل الأكثر أهمية أنها تؤدي إلى النهوض الشامل بمستوى المعيشة من خلال نقل المستهلك إلى مستوى استهلاكي أعلى، وحتى في الأزمة الراهنة، فإن الذين ينتقدون العولمة وحرية التجارة، لأنه عندما تفشى الفيروس في الصين، فإن العالم وجد مصاعب في تلبية احتياجاته من بعض السلع، يتناسون أنه بفضل العولمة وحرية التجارة أمكن توجيه الطلب العالمي إلى دول أخرى”.

وتستدرك إيلين قائلة “إن العولمة تعزز المرونة الاقتصادية، وهذا سيكون جوهر الاقتصاد الدولي في مرحلة ما بعد الجائحة، باعتبار ذلك الوسيلة الوحيدة لضمان إنهاء حالة الركود الاقتصادي التي باتت واقعا حقيقيا الآن، وهذا لا يعني بالطبع أن ملايين من الأشخاص لن يفقدوا وظائفهم، ومئات الآلاف من الشركات ستنهار، لكن الخسائر ستكون أكبر بكثير إذا كان رد الفعل العالمي مزيدا من الحمائية الاقتصادية”.

وفي هذا السياق، لا تنفي إيلين أن الدولة أثبتت أنها حجر الزاوية في الاقتصاد الدولي خلال الأزمة، لكن هذا تحديدا ما أدى إلى الإخفاقات التي شهدها العالم في التعامل مع الجائحة من وجهة نظرها.

وتشير إيلين إلى أن “المنظمات ذات الطبيعة العالمية ستقوم بدور أكبر في توجيه مسار الاقتصاد الدولي خلال الفترة المقبلة، ومؤسسات كصندوق النقد والبنك الدولي وحتى منظمة التجارة العالمية ستلعب دورا محوريا في المرحلة المقبلة، ذلك لتزايد الحاجة الدولية إلى قدراتها المالية والخبرات التنظيمية المتاحة لديها”.

من جهته، يعتقد الدكتور جوردن سميث أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة ليدز أن المشهد الاقتصادي في مرحلة ما بعد الجائحة، ولنحو عقد من الزمان على الأقل سيكون ملتبسا غير واضح الملامح يتسم بالاستقطاب والتفتت في آن واحد.

ويضيف سميث أن “جائحة كورونا حدث غير مسبوق في العصر الحديث، وقد أوجدت مشهدا دوليا مشوشا، واتسم المظهر العام لمواجهة الفيروس باكتفاء كل دولة على ذاتها للتعامل مع تحديات الأزمة، وعندما يستعيد الاقتصاد العالمي توازنه، فإننا سنشهد ولأعوام تبادل الاتهامات بين الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جانب، والصين وعدد من الاقتصادات التابعة لها من جانب آخر، بشأن على من تقع مسؤولية الخسائر الناجمة عن الفيروس، هذا التجاذب سيحمل عددا من الملامح سيعيد صياغة المشهد الاقتصادي الكوني، إذ ستصاب أغلب المؤسسات الاقتصادية والمجموعات الدولية بمزيد من الشلل في الأداء، وبينما ستزداد حدة المنافسة التجارية بين قطبي الاقتصاد العالمي الولايات المتحدة والصين، فإننا سنشهد مزيدا من الحمائية الاقتصادية في العلاقة الثنائية بينهما، وستتراجع القدرة الاقتصادية للولايات المتحدة لمصلحة مزيد من صعود نجم الصين”.

جيف راسل الخبير الاقتصادي ورئيس قسم الأبحاث في مجموعة لويدز المصرفية يرى أن المشهد الاقتصادي بعد الجائحة سيكون مختلفا في جوهره عن النظام الاقتصادي العالمي السابق.

ويضيف قائلا “الاقتصاد الدولي تعرض لهزة عنيفة غير مسبوقة أدت إلى خلخلة في الأساسات التي يرتكن إليها النظام ذاته، وفي الواقع بعض تلك الاهتزازات سبق ظهور الفيروس، مثل التحولات الجارية في مجال تجارة التجزئة، حيث تتعزز التجارة الإلكترونية على حساب الأنماط التقليدية، هذا الاتجاه سيزداد بما قد يحمله في طياته من ارتفاع في معدلات البطالة على المستوى العالمي مستقبلا، كما أن الأزمة عززت الشعور العام لدى الأفراد خاصة وبدرجة ملحوظة أيضا لدى الشركات بأهمية الاحتفاظ بمبالغ نقدية احتياطية تحسبا للطوارئ، وإذا كان ذلك سلوكا عاما لدى عديد من الفئات الاجتماعية فإن عمقه ومدى نطاقه سيتسعان، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى مصاعب في توافر السيولة، والأهم أن يدفع إلى انخفاض الطلب الاستهلاكي”.

ويشير راسل إلى أن الأزمة ستنعكس سلبا على الاستثمار، ما سيعمق الركود، والعصب الرئيس لإدارة الاقتصاد المحلي سيقع على عاهل محافظي البنوك المركزية، إذ ستتمتع تلك البنوك بسيطرة شبه مطلقة على الاقتصاد الوطني وستكون الموجه الرئيس لدفة النشاط الاقتصادي، وهذا سيعزز من الاعتماد على السياسات المالية للتعامل مع الأزمات الاقتصادية المقبلة، بما يتضمنه ذلك من تراجع الأفكار التي تنظر إلى الأزمات الاقتصادية على أنها أزمات اجتماعية في الأساس، وأن إصلاح الخلل الاقتصادي يتطلب تدابير اجتماعية تعزز العدالة في توزيع الدخول”.

عمر نجيب

[email protected]