أنجز مؤتمر المعارضة السورية من أجل الحل السياسي في سوريا في القاهرة (8-9 حزيران/يونيو 2015) مهماته الأساسية. ورغم حملة التشويه الإقليمية والدولية التي تعرض لها غاب الثلج وظهر المرج. قدم مؤتمر القاهرة وثيقة أساسية باسم “الميثاق الوطني السوري” أعدتها لجنة عمل المؤتمر بالتعاون مع فريق من الحكماء السوريين. وثيقة متقدمة بالتأكيد عن العهد الوطني الصادر في تموز/يوليو 2012 التي تضمنت غموضا غير بناء في قصقصة تمت بشكل شعبوي وبدون تصويت للعديد من الفقرات. وفي حين لم تشكل وثائق القاهرة 2012 إجماعا عند مكونات الشعب السوري، أجمعت المكونات الحاضرة في القاهرة 2015 على النص الجديد الذي أصّل لمفهومي المواطنة الكاملة من جهة، والمساواة الكاملة بين مكونات الشعب السوري القومية. كذلك كان ثمة بصمة قوية لمواثيق حقوق الإنسان في كل ما يتعلق بالحقوق الستة الأساسية (السياسية، المدنية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية والبيئية). وأحدث قراءات عالمية لها سواء عبر إعلان فوبورغ للحقوق الثقافية والتراث الحضاري والمفهوم المركب الأفقي القائم على المساواة والشراكة الكاملة لمكونات الشعب السوري أو فيما يتعلق بالحقوق الأساسية للجماعات المستضعفة (نساء وأطفال). ولذوي الاحتياجات الخاصة الذين زادت الصراعات المسلحة في سورية من نسبتهم لتتجاوز 11% من السكان. أو في الوقاية من الإرهاب والمذهبية السياسية عبر تجريمهما والتأكيد على مفهوم العدالة الاجتماعية. كذلك في إقرار مفهوم اللا مركزية الديمقراطية كمنظم للعلاقة بين العاصمة والمحافظات بشكل يربط بين دمقرطة المؤسسات والتنمية المستدامة الضرورية لإعادة البناء. بهذا المعنى، شكل الميثاق قطيعة كاملة من منظومة الحكم التسلطية التي حكمت البلاد والعباد ومشروع تنوير سياسي اجتماعي في وجه الظلامية التكفيرية. أذكر هذه الملاحظات لمن كتب بأن لا جديد في مواثيق القاهرة، خاصة وأنه لم يكلف نفسه عناء القراءة المتأنية والنقدية الجدية لما صدر.
من المعروف أن الوثيقة السياسية لمؤتمر القاهرة في 2012 لم تنبث ببنت شفة حول “بيان جنيف” وقدمت مفهوما ضبابيا حول الأطراف المسلحة باعتماد مصطلح “المقاومة المسلحة” ولم تتلفظ بكلمة “المقاومة المدنية”. وليس بالإمكان القول أن الوثيقة التأسيسية للائتلاف السوري تنم عن نضج في الخطاب والتصور خاصة وهي ترفض فكرة التفاوض. من أوليات دروس التفاوض في المعاهد الحقوقية والأكاديمية أن التفاوض لا يشكل بحال من الأحوال حالة اعتراف بالآخر ولعل من أسباب حزننا على الشيخ معاذ الخطيب، تخليه في الدوحة عن محاضرة قيمة له بعنوان “التفاوض كواجب سياسي وشرعي” والقبول بلغة المزاودة الفارغة المعنى والمبنى. واتباع ذلك باطلاقه موضوعة “كل سلاح مقدس″ هذا الشعار الذي أعطى وثيقة حسن سلوك لكل التكفيريين والمذهبيين والإرهابيين في سورية والمنطقة مهما كانت مواقعهم وجبهات قتالهم.
للحقيقة والأمانة أقول، لم تكن “القاهرة قاهرة”، أي لم ينجح مؤتمر القاهرة فقط لوجود عدد هام من القوى والشخصيات الوطنية الساعية لكسر جمود المبادرات السياسية لحل تفاوضي والحريصة على إعادة السياسة طرفا مركزيا رغم عمليات التهميش التي شارك بها الشبيحة وتجار الحرب وأصحاب وهم الحلول العسكرية السحرية. لقد نجح مؤتمر القاهرة لعدم تمكن قوى تتمتع بتأييد إقليمي ودولي وإمكانيات مادية وإعلامية كبيرة من أن تكون قوة مبادرة وفعل نوعي وتأمل سياسي في مستوى المأساة السورية. لذا اعتمدت هذه الأطراف على أنها ممثلة للشعب والثورة شاء من شاء وأبى من أبى، ناسية جملة السيدة هيلاري كلنتون حول انتهاء صلاحية المجلس الوطني السوري ومتناسية أن صوت المقموعين والمظلومين والثوار وتضحياتهم لا يمكن أن يتم التعبير عنها من غرف العناية المشددة. فلا يمكن للتعطيل والرفض والاستقصاء أن يشكل قوة في وجه الدكتاتورية والظلامية. ولا يمكن للرؤى الضبابية أن تكون بوصلة للشعب.
أحد “الأساتذة” كتب عن الركاكة اللغوية والنحوية للنصوص. كنا نتمنى أن تخلو الأسطر العشرة التي انتقد بها مؤتمر القاهرة من سبعة أخطاء نحوية ولغوية سجلناها لكي يكون مستوى النقاش أكثر جدية. السيد فرانسوا بورغا الذي ينصب نفسه مرجعا في قضايانا يقول بأن موضوعة “مؤتمر سوري من السوريين للسوريين بالإمكانيات السورية” هي دعم للنظام الذي يستعين بالإيراني وحزب الله في حين يريد مناع حرمان المعارضة من الأطراف التي تدعمها، وأن المؤتمرين في القاهرة يريدون تشكيل جبهة مع النظام ضد الإرهاب؟. عندما تغيب الأمانة العلمية عن الجامعي يبقى تزوير الوقائع وتلفيق الاتهامات. ولا أظن أن انحدار البعض إلى ما دون مستوى النقد يستحق عناء الرد.
ركزت بعض الانتقادات على أن مؤتمر القاهرة دخول في لعبة المحاور. وحاولت اختزال اختيار القاهرة بانضمام المجتمعين لمحور مصري سعودي إماراتي في وجه محور قطري تركي. جاءت المستجدات الإقليمية بين اجتماعي يناير ويونيو لترد على هؤلاء فارتحنا من عناء الرد. ولكن يبقى من الضروري القول بأن مؤتمر القاهرة لم يتلوث بالمال السياسي. ولم يخضع لأي توجيهات أو توصيات من خارج من شارك به. وبهذا المعنى يعتز كل من شارك في هذا المؤتمر بإعطاء المثل على أن السيادة والديمقراطية صنوان. وأن العلاقة الندية مع الحكومات ما زالت ممكنة. وأن المواطن السوري لا يقبل معاملة القاصر من أي بلد أو جهة. المقاوم الفرنسي شارل ديغول قاد المقاومة من لندن، وكان بإمكانه بناء علاقة احترام متبادل مع البريطانيين. وبهذه السياسة السيادية نجح في قيادة المقاومة للنازية.
كون المجتمعين في القاهرة قد وضعوا الأساس لتصورهم السياسي، وكونهم نجحوا في رهان التقريب بين طيف شمل أكثر من خمسين منظمة مدنية وسياسية وشخصية سياسية واجتماعية وعسكرية. ومن أجل الإخلاص لسورية وطنا مشتركا وشعبا واحدا ومواطنة متساوية. من أجل وضع حد للعنف الأعمى الذي يحرق الأخضر واليابس، مهمتنا أن “ننظر إلى الأمام”، أن نتحاور كقوى رافضة للاستبداد والتطرف، أن نرتقي فوق الشخصنة والعصبيات الصغيرة والمصالح الضيقة. فرغم كل ما تعرضنا له، ما زال بإمكاننا كسوريين أن نحمل معا رسالة للعالم تقول: ليس قدر شعب الحضارات الاختيار بين الكوليرا والطاعون، وليس قدر من اخترع الأبجدية وكلمة الحرية (أمارجي) واحتضن النهضة العربية الحديثة أن يقبل بجمهورية موز أو دويلات مذاهب. سورية قادرة على الخروج من مأساتها بثقة أبنائها بها وقادرة على الوقوف من جديد
هيثم مناع عضو مؤتمر المعارضة السورية من أجل الحل السياسي