احتفل “حلف الناتو” في ديسمبر الماضي بذكرى مرور 70 عاماً على تأسيسه، لكن هذا الحلف الذي كانت أهم مبرّرات تأسيسه هي مسألة الحدّ من النفوذ الشيوعي في أوروبا وضمان الحماية الأميركية لدول أوروبا الغربية في حقبة “الحرب الباردة”، ولمواجهة “حلف وارسو” السوفييتي، يتعرّض الآن لتصدّع داخلي بسبب السياسة التي تقودها الإدارة الأميركية الحالية منذ وصول ترامب للرئاسة قبل ثلاث سنوات، هذه السياسة التي أوجدت شروخاً عميقة في علاقات واشنطن مع حلفائها الأوروبيين، ومع جارها الكندي في الشمال، ومع جارها المكسيكي في الجنوب. ولم يشهد “حلف الناتو” في السابق هذا الحجم من الخلافات بين أعضائه كما هو الحال في ظلّ إدارة ترامب. فالرئيس الأميركي كان واضحاً خلال حملته الانتخابية في العام 2016 بأنّه لا يدعم فكرة الاتّحاد الأوروبي وأشاد بخروج بريطانيا منه، وبأنّه ضدّ اتفاقية المناخ، وضدّ الاتفاق الدولي مع إيران بشأن ملفّها النووي، وضدّ اتفاقية “نافتا” مع كندا والمكسيك، وبأنّ لديه ملاحظاتٍ كثيرة على “حلف الناتو” وكيفية تمويله، وكذلك على مؤسّسات الأمم المتّحدة. وهذه نقاط خلاف كلّها مع حلفاء أميركا الغربيين.
ترامب حريصٌ جدّاً على الوفاء بما وعد به قاعدته الشعبية وقوى ضغط مؤثّرة في أميركا، من انقلابٍ على معظم السياسات التي جرت في فترتيْ باراك أوباما، بوجهيها الداخلي والخارجي، وهو فعلاً يقوم بذلك، حتّى أيضاً فيما يتّصل بالملفّ الفلسطيني، حيث عمل ترامب على إعداد “صفقة القرن” بالتنسيق مع نتنياهو و”شرعنة” الإستيطان الإسرائيلي وضمّ الجولان، وعلى نقل السفارة الأميركية للقدس المحتلّة والاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل، وعلى تقليص الدعم الأميركي للمؤسّسات الدولية الراعية لشؤون اللاجئين الفلسطينيين.
وقد أضيف “الملفّ الفلسطيني” وخروج أميركا من منظمّة “اليونسكو” و”مجلس حقوق الإنسان” إلى قائمة الخلافات الطويلة الجارية بين واشنطن وحلفائها الغربيين، ثمّ قام ترامب بإعلان سلسلة من الرسوم الجمركية على دول أوروبية، وإلى الخلاف مع بعضها في قمّة مجموعة الدول الصناعية السبع، ثمّ اضّطر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في مؤتمر ميونيخ الأخير للدفاع عن سياسة بلده بعد انتقاداتٍ حادّة من الرئيس الألماني ومسؤولين أوروبيين آخرين “بشأن سياسة الانطواء والأنانية المتّبعة من الرئيس ترامب”، وأكّد بومبيو بأنّ “فكرة أنّ التحالف بين ضفّتيْ الأطلسي قد مات، هي مبالغٌ فيها إلى حدٍّ كبيرٍ”. وكان الرئيس الفرنسي ماكرون قد قال في ديسمبر الماضي بأنّ “الناتو ميّتٌ دماغياً”!
يُضاف إلى هذا الحجم الكبير من القضايا، موضع الخلاف بين واشنطن ودول الاتّحاد الأوروبي، سعي فرنسا وألمانيا تحديداً لتعزيز الاستقلالية الأوروبية عن السياسة الأميركية التي يقودها ترامب الآن، فهي سياسة تستهدف تفكيك الاتّحاد الأوروبي والتعامل الأميركي مع دوله بشكلٍ ثنائي، لا ككتلة أوروبية واحدة، وبالتالي توقيع اتّفاقيات معها من موقعٍ ضعيف لا يفرض شروطاً على واشنطن. لذلك لم يكن مستغرباً ما قاله الأمين العام لحلف “الناتو” في العام الماضي بأنّ “لا ضمانة لاستمرار الحلف في ظلّ التوتّر الحاصل بين أميركا وأوروبا”.
وهناك خياران الآن أمام الاتّحاد الأوروبي: إمّا التمسّك بالمواقف الأوروبية لكن مع ضبطٍ لحجم الخلافات مع واشنطن إلى حين مجيء إدارة أميركية جديدة، كما حصل بعد حقبة جورج بوش الابن ومجيء إدارة أوباما التي انسجمت بشكلٍ كامل مع سياسات الاتّحاد الأوروبي، أو الخيار الآخر الذي قد يدفع إليه ترامب نفسه وهو مزيدٌ من التأزّم في العلاقات مع الأوروبيين، وممّا قد يؤدّي بأوروبا إلى تعميق علاقاتها مع الشرق الأقرب الروسي ومع الشرق الأقصى الصيني.
إنّ العالم يشهد في السنوات الأخيرة الماضية هبوطاً متدرّجاً لدور الإمبراطورية العسكرية الأميركية مقابل تصاعدٍ ملحوظ لدور وقدرات روسيا والصين، وما حدث ويحدث من توتّر وخلافات، خاصّةً بين واشنطن وموسكو، ليس بغيمة عابرة تصفو بعدها العلاقات ما بينهما. لكن أيضاً، ما نشهده من أزماتٍ روسية/أميركية ليس هو بحربٍ باردة جديدة بين القطبين الدوليين. فأبرز سمات “الحرب الباردة” التي سادت بين موسكو وواشنطن خلال النصف الثاني من القرن العشرين كانت قائمةً على مفاهيم أيديولوجية فرزت العالم بين معسكرين: شيوعي/شرقي، ورأسمالي/غربي، وهذا الأمر غائبٌ الآن عن الخلافات الروسية/الأميركية. فأولوّيات روسيا هي مصالحها المباشرة وأمنها الداخلي وأمن حدودها مع الدول الأوروبية وإصرارها على مواجهة أيّة محاولة لعزلها أو لتطويقها سياسياً وأمنياً، كما فعلت واشنطن ذلك من خلال توسيع عضوية حلف الناتو ومشروع الدرع الصاروخي.
وتتصرّف موسكو حالياً مع إدارة ترامب بأمل أن تكون أكثر تفهّماً للموقف الروسي من الإدارات السابقة، وبأن يحترم الرئيس ترامب السياسات التي أعلنها حينما اجتمع مع الرئيس بوتين في هلسنكي.
لكن رغم التباين والخلافات القائمة حالياً بين موسكو وواشنطن، فإنّ الطرفين يحرصان على إبقاء الصراع بينهما مضبوطاً بسقفٍ محدد، خاصّةً في ظلّ الضغط الأوروبي العامل في هذا الاتجاه. فهناك عدّة دول أوروبية لا تجد لها مصلحةً في تصاعد التوتّر بين موسكو وواشنطن، ولا تريد أن تكون في حال يضطرّها للاختيار بين هذا الطرف أو ذاك. فروسيا الآن هي مصدرٌ هامّ للطاقة في أوروبا، وهناك مصالح تجارية واقتصادية كبيرة تنمو بين الاتّحاد الروسي والاتّحاد الأوروبي. وهذا الموقف الأوروبي هو عنصرٌ مهمٌّ الآن من أجل ضبط الخلافات الروسية/الأميركية.
ويبدو من نتائج الاجتماع الأخير في بروكسل لوزراء الدفاع في حلف الناتو أنّ إدارة ترامب تحتاج الآن لدورٍ أكبر من دول الحلف في مسألتيْ أفغانستان والعراق، حيث هناك مطالباتٌ في البلدين بانسحاب القوات الأميركية ممّا دفع الولايات المتحدة إلى تفاهماتٍ مع أعضاء بارزين في الناتو، كفرنسا وألمانيا، لزيادة حجم قوّاتهما في هذين البلدين وفق مهامٍ محدّدة غير قتالية وبالتنسيق مع الحكومات المحلّية. وسيكون هذا الأمر، إن تحقّق فعلاً، عاملاً مساعداً لسحب القوات الأميركية من أفغانستان وفق تسوية تريد واشنطن إبرامها مع “حركة طالبان”.
فتداعيات حرب أفغانستان المستمرّة على مدار 18 عاماً تُشبه إلى حدٍّ كبير الحرب الأميركية على فيتنام في حقبة الستّينات من القرن الماضي، والتي سبّبت خسائر كبيرة للولايات المتّحدة، وانتهت بمفاوضاتٍ في باريس أدّت إلى الانسحاب الأميركي وتسليم الحكم إلى من كانوا يحاربون أميركا من ثوّار فيتنام الشمالية “الفيتكونغ”، وإلى التخلّي عن حكومة فيتنام الجنوبية المدعومة من واشنطن!.
إنّ العالم يختلف الآن عمّا حاولت واشنطن تكريسه منذ مطلع حقبة التسعينات، بعد انهيار المعسكر الشيوعي، وبما اصطلح على تسميته بنظام القطبية الواحدة. الواقع الدولي الراهن يؤكّد هذه الخلاصة في سمات وأماكن مختلفة. فالاتّحاد الروسي يزداد قوةً وتأثيراً في كثيرٍ من الأزمات والقضايا الدولية. والصين، رغم ما يحدث فيها الآن من تحدّي فيروس كورونا، قد تضاعف تأثيرها الدولي من خلال قوّة اقتصادها وعلاقاتها التجارية والمالية الواسعة مع معظم دول العالم، والتي يرافقها تطوير للقدرات العسكرية الصينية كمّاً ونوعاً. وفرنسا وألمانيا حريصتان على تطوير تجربة الاتّحاد الأوروبي وعلى تفعيل قدراته الاقتصادية ودوره السياسي المستقل عن الولايات المتّحدة، بل وعلى بناء قوّة عسكرية موحّدة له. وهذه مؤشّرات هامّة عن وجود تعدّدية قطبية في عالم اليوم لكن من دون ترتيب لنوع العلاقات بين هذه الأقطاب الأربعة ولا لمدى إمكانية ضبط الخلافات بينها، وأيضاً، في مناخ سياسي داخلي تتصاعد فيه التيّارات العنصرية و”الشعوبية”، ممّا يهدّد وحدة بعض المجتمعات والسلام العالمي بأسره، كما حصل في القرن الماضي داخل أوروبا من تعاظم القوميات العنصرية، كالنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، والذي أدّى إلى اشتعال حربٍ عالمية. وربّما الوصف الصحيح لما هو قادمٌ في عالم اليوم، وتحت القيادة الترامبية لأميركا، أنّنا على عتبة “فوضى عالمية جديدة”!
د.صبحي غندور مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن
Twitter: @AlhewarCenter
Email: [email protected]