إن مفهوم التنوع والتعددية سواء كان عرقي أو ثقافي أو حتى مذهبي يوحي لأول وهلة إلى الاختلاف والتشتت والتنافر بين أعضاء أو مكونات لمجموعة أو مجموعات ما هذا على الأقل على المستوى أو من المنظور البنيوي.
غير أننا في هذا المقام وبإزاء
هذا الموضوع وقصد الإيضاح لابد من أن ننطلق من الملاحظة والمشاهدة والمعاينة الداخلية والذاتية والتي تسمى introspection , على غرار المنهج العلمي التجريبي وهذا ما سوف يفضي بنا إلى طرح تساؤلات منهجية وجوهرية في نفس الوقت من أبرزها :
1- ماذا نعني بالثقافة وبالتنوع الثقافي ؟
2- ماذا نعني بالوحدة والتوحد ؟
3- هل يفضي التنوع والتعدد الثقافي حتما إلى التناحر والحروب والتشتت والمشاقة ؟
4- كيف يمكن أن تتم الوحدة ويتم الإتلاف بين المتضادات مع الاحتفاظ بالخصوصية ؟
5- ألا يمكن اعتبار التنوع والاختلاف كمصدر الإتلاف والانسجام ؟
إن خطفة سريعة على تاريخ الفكر البشري تجعلنا نتوقف عند هيراقلدس كأول مفكر يوناني تحدث عن ضرورة الانسجام الكوني (L’harmonie universelle) , وكان قد انطلق من دراسة الموسيقى حيث تبين له أن التناغم والانسجام الذي يحدث بين النغمات المختلفة في الموسيقى مبني على اختلاف وتنوع الأوتار في الآلة الموسيقية , فانطلق من هنا ليعمم فكرته حول التناغم والانسجام الكوني بين مختلف المكونات العضوية والطبيعية في العالم, أما نحن فسوف ننطلق من ملاحظة تجريبية ذاتية بسيطة مؤداها أن الإنسان منظور إليه من الناحية الإبيولوجية المحضة يبدو وكأنه منقسم إلى أعضاء وأجزاء متنوعة, مختلفة الوظائف متعددة الطبائع والبنيات : فمادة وظيفة القلب مثلا تختلف تماما عن مادة ووظيفة الرئتين, كما تختلف مادة ووظيفة وطبيعة الرئتين عن الكلى, والكبد والطحال والدماغ والدم والعظام والأعصاب والأمعاء الخ...مع أن كل هذه الأعضاء المتنوعة تنتمي إلى جسم من أصل واحد وتخدمه كلها طوعا لا كراهية والكل خلق لرب واحد" فسبحان الله أحسن الخالقين".
إن مفهوم الثقافة من المفاهيم التي لم تقتصر على تعريف واحد وموحد بل أعطيت لها تعاريف متعددة كان أبرزها أن الثقافة هي جميع السمات الروحية والعقلية والقومية, التي تميز جماعة عن أخرى , وهي شاملة لطرائق الحياة والتفكير والتقاليد والمعتقدات والآداب والقيم والبعد التاريخي باعتباره عاملا جوهريا في مفهوم الثقافة , وليس هناك ثقافة واحدة وإنما تسود أنواع وأشكال ثقافية منها ما يميل إلى الانغلاق والانعزال ومنها ما يسعى إلى الانفتاح والانتشار .
معنى التنوع الثقافي
يقول محمد عابد الجابري "إننا نقصد بالثقافة "... ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحفظ لجماعة بشرية تشكل أمة أو ما في معناها في هويتها الحضارية في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء, وبعبارة أخرى إن الثقافة هي "المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم , عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده , وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يأمل " .
إن التنوع الذي يتم عنه الحديث ها هنا هو التنوع الثقافي الذي لا يعني أكثر ولا أقل من تواجد عدة ثقافات داخل بلد معين, فكون هذه الثقافات متنوعة أي يتميز بعضها عن بعض على مستوى العديد من الجزئيات لا يمنعها من أن تكون مشتركة في بعض العموميات مثل التاريخ والدين وبعض أوجه التراث المحلي , وفي هذا السياق يتنزل التنوع الثقافي في موريتانيا هذه المنزلة فالثقافة الحسانية والبولارية والسنوكية والولفية تختلف بعضها عن بعض في اللغة والكثير من الجزئيات لكنها تشترك في الدين والتاريخ وبعض العادات والتقاليد وحتى البنية الاجتماعية وفي الكثير من التصورات.
- معنى الوحدة والتوحيد
الوحدة عبارة عن تواجد جسم أو صورة مكونة من عدة جزئيات لكنها منسجمة وموحدة أي لها أهداف مشتركة لها مرجعية تاريخية أو دينية موحدة لها عادات أو تقاليد مشتركة وتتعايش في دولة تحت راية واحدة, إن التوحد أو التوحيد يختلف عن الوحدة لأنه ليس تلقائي مثلها بل هو عملية أو نشاط يقام به من أجل توطيد اللحمة وربط الأواصر بين مختلف مكونات الدولة من ثقافات أو أعراق أو مذاهب إلخ...
3- هل يفضي التنوع الثقافي حتما إلى التشتت والتنافر والحروب ؟ وما هو مآله ؟
في الحقيقة هذا سؤال لا يمكن الجواب عليه إلا من خلال العلوم الطبيعية التي لا تعتريها الحرية وهي مجبولة عن الانسجام والتناغم حسب القوانين الكونية فالتنوع والاختلاف في الكون ظاهرة طبيعية وهي المؤسسة للانسجام والتناغم ولا تشكل سببا في التنافر والتدابر.
أما في العلوم الإنسانية التي تطبعها الحرية البشرية وتحيط بها الظروف البيئية والعالمية فإن البعض من غير المتمعنين في المجال يعتقدون أن التنوع الثقافي مصدر من مصادر الاختلاف والتشتت والتباغض بل تذهب بهم الظنون إلى الاعتقاد أن لا وجود ولا صمود لوحدة في ظل التعددية والتنوع.
والحقيقة هي أن التنوع الثقافي سلاح ذو حدين فيمكن أن يكون مصدر للثراء والانسجام وأن يوظف أحسن توظيف لخدمة اللحمة الوطنية والتفوق الحضاري المتميز تجاوبا مع قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوب وقبائل لتعارفوا أن أكرم عند الله أتقاكم إلى آخر الآية. صدق الله العظيم.
غير أنه في نفس الوقت يمكن أن يكون خطرا كما يقول أريك دوبان صاحب كتاب "هستيريا الهوية" إن الانتماء في بعض البلدان أدى إلى حروب ونزاعات أزهقت عشرات الآلاف من الأرواح بل أخذت أبعادا جديدة دفعت في بعض الأحيان إلى اللجوء إلى العنف الدامي كما حدث في يوغسلافيا كوسوفو منطقة الكوكاز منطقة البحيرات في إفريقيا مثل الروندا والسودان وغيرهما في مناطق أخرى.. وأن هذه النزاعات قد نشأت حول مفهوم الهوية وتأكيدها والاستماتة من أجل إبقائها أو إبرازها ماثلة ومؤثرة.. وتجد قوتها القاتلة على أساس افتراض أن هوية ثقافية مزعومة تتناظر بالضرورة مع هوية سياسية مزعومة هي الأخرى في الواقع المعاش.
4- هل من سبيل إلى الوحدة والانسجام مع الحفاظ على الهوية والخصوصية؟
إن ما يؤكده الواقع المعاش في أكثر من وطن وأكثر من بلد بما في ذلك عالمنا العربي الإسلامي وحتى في موريتانيا, هو موجود نوع من هستيريا الهوية يتمثل في عدم انسيابية اندماج الفرد أو الجماعة وبسهولة وبشكل طبيعي في دائرة جديدة عليه ولم يألفها من قبل , ونحن أمام هذه الحقيقة وكما يقول بشير خلفك يجب أن نطرح هذه التساؤلات
من أنا ؟ أو من نحن؟
ما علة وجودي وما غايته ؟
ومن هو هذا الآخر ؟
مالذي يميزني عنه ؟
ما يربطني به ما وجوه الاختلاف بيننا ؟
ويضيف بشير لكم نخطئ عندما نحصر سؤال الهوية في صيغة من نحن؟ ومن هو الآخر ؟ ولا نعبأ بمعرفة: كيف نحن ؟ وكيف هو الآخر؟
وهل من سبيل إلى الوحدة؟
إن محاولة الجواب على هذه الأسئلة لمن شأنه أن يهيئنا في الدخول إلى شبه حوار مع أنفسنا أولا ثم مع الآخر ثانيا حتى نلمس صلتنا به ومن ثم ما يميزه عنا وما يميزنا عنه, وما يربطه بنا وما يربطنا به , إذا استطعنا فتح ذلك الحوار فإننا قد نكون أمام ضرورة من ضرورات الحياة لا تتم إلى من خلال الاختلاف والتنوع حيث سنتخذها هنا كمبدأ لتنبني عليه هذه الفرضية :
ألا يمكن اعتبار التنوع والاختلاف كمصدر من مصادر الانسجام والتناغم والوحدة بين جميع الكائنات ؟
5- إن التنوع والاختلاف يشكلان مصدرا من مصادر الائتلاف و الانسجام والوحدة تماما كما يتبين من خلال ما يلي:
لقد جاء في الحديث الشريف أن " مثل المؤمنين في تعاضدهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى"
وهذا الحديث الشريف هو الذي حاولنا في البداية أن ننطلق لنبين أن الجسد العضوي لا تقوم له قائمة أي لا يمكنه أن يحي و ينمو ويتطور إلا بفضل تنوع أعضائه واختلافها في شكلها وطبيعتها ووظائفها وحجمها وأدوارها وألوانها إلخ..
6- المقومات الثقافية للوحدة
إن النظرة انبرولوجية متمعنة في مكونات الثقافة الوطنية يسمح لنا بالتركيز على المشتركات الحقيقية المبنية على الدين والعقيدة والعادات ومنظومة القيم الأخلاقية والعرفية ..إلخ فالنظر مثلا إلى:
1- مراسيم وطقوس الولادة واختيار الإسم للمولود فإن جميع المكونات الوطنية من ولوف وبولار وسونينكى وعرب يعطون الإسم للمولود في يومه السابع وتوضع قطعة من الحديد عند رأس المولود وتنحر العقيقة ( شاة لسم ) وتقام وليمة على شرف الضيوف والمدعوين والجيران بأشكال تكاد تتشابه عند كل الفئات والأعراق.
2- مراسيم وطقوس حفل الزفاف : هنا أيضا تقام تقريبا نفس العمليات بشكل متشابه في جميع المكونات : تقديم الخطبة موافقة ذوي الخطيبين (الرجل هو الذي يخطب وليست المرأة) إقامة عقد على سنة النبي صلى الله عليه وسلم (في المسجد أو في البيوت ) تقديم مهر تختلف في قيمته العائلات (لكن الرجل هو الذي يقدم المهر) ثم يلي ذلك حفل الزفاف مع ما يصاحبه من طقوس : اظفير – الحنة – الحوصة – إلخ..
3- مراسيم وطقوس عملية الختام: يختم الأولاد المتقاربين في السن في فترة واحدة ويلبسون ثيابا تميزهم عن غيرهم ويعطى لكل واحد منهم هدية وهذا تشترك فيه كل الفئات .
4- مراسيم الدفن والتعزية عند انقضاء الآجال: فالميت في كل الفئات يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن بنفس الطريقة المشتركة والتعزية تتم بنفس الأسلوب وكذلك السلكة والتركة ...إلخ.
5- تجمعنا الأطعمة والعادات الغذائية : الأرز – مار – وكسكس – وباسي –وازريك – وأتاي – والمشوي - وانشه –والحوت – وتقي – واللبن ...إلخ
6- كما يجمعنا الملبس: الدراعة – السروال – لكشاط – الملحفة – والرمباية..إلخ
7- كما يجمعنا المسكن الخيمة والتيكيت والمحمل ولمبار والدار.
8- كما يجمعنا التعايش مع الحيوانات في نفس الحيط الخيل والحمير والإبل والبقر والدجاج.
9- كما تجمعنا الصلاة والصيام والحج والصدقة ولحجاب والسلالة (المصاصة) والعين وأهل لخلة (الجن)
10- كما توحدنا الأسماء والألقاب فهذا ممادو أي محمدو وأبلاي أي عبد الله وموسى وإبرالهيم وجبريل مكائيل وأبو بكر وآمنتا وفاتيمتا وهند وحليمة أي هلي وربيعة وجميلة ...
11- كما توحدنا الألقاب مثل جارا وصوكوفارا وسي وبابي وافال وجينك وكامارا وسومارى وجوب وحيدرا وجاد ودردش وسيبى وأييه وديكوه وجاكيتى ونصرا.... إلخ.
12- كما توحدنا اللغة التي ندعوا بها ربنا ونتعبد من خلالها ونتل بها القرآن الكريم
13- كما تجمعنا الأمثال الشعبية والحكم والعبر
14- وتوحدنا الموسيقى- سنيمة وسين كر ولكنيدية - وبعض أشكال الرقص والطرب
15- وتوحدنا الألعاب الرياضية والترفيهية
أما باقي لغاتنا التي نتواصل بها فلم يبقى لنا إلا أن نتعلمها و نعلمها لتتم صورة الوحدة الوطنية تحت راية واحد وفي وطن واحد متقاسمين تاريخا واحدا وثقافة واحدة حيث نكون كأعضاء الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى تماما كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت موريتانيا هي هذا الوطن و هذه الأرض و هذا الجسد المربي والمغذي والضامن للأمن والصحة والمساواة والعدالة والنمو الاقتصادي...إلخ فكيف إذا اشتكى منه عضو لا تتداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ؟