هناك انقسامٌ في المجتمعات العربية والإسلامية بين تيّارين أو منهجين فكريين؛ أحدهما يدعو لمقولة “العلمانية”، والآخر إلى الأخذ بالمنهج “الديني”. وكلٌّ من أصحاب المدرستين يحاول الربط بين منهجه وبين سمات إيجابية أخرى حدثت أو تحدث في المجتمع لكن لا علاقة لها في الأصل بالمنهج الفكري نفسه. فالتيّار “العِلماني” يعتبر معارك التحرّر القومي ضدّ الاستعمار في القرن العشرين، وكذلك معارك العدالة الاجتماعية، وكأنّها منجزات للتيّار الفكري العِلماني، بينما نجد على الطرف الآخر من يعتبر مثلاً ظاهرة المقاومة بمثابة انتصار للمنهج الفكري الديني.
أعتقد أنّ في الحالتين ظلماً للحقيقة. فقضايا التحرّر والهُويّة القومية والعدالة الاجتماعية ومقاومة الاحتلال ومحاربة الظلم أينما كان وكيفما كان، هي كلّها قضايا إنسانية عامّة لا ترتبط بمنهج فكري محدّد. فلا الدين يتعارض مع هذه القضايا ولا الابتعاد عنه يعني تخلّياً عنها. وهناك أمثلة عديدة عن مجتمعات كافحت من أجل هذه القضايا لكن اختلفت دوافعها الفكرية ونظرتها لدور الدين في الحياة.
إذن، أساس الخلاف بين التيّارين “العِلماني” و”الديني” هو فكري محض ولا يجوز إلحاق القضايا السياسية بطبيعة هذا الخلاف. فالهُوية الوطنية أو القومية مثلاً أصبحت ضحية لهذا الخلاف بين التيّارين في المنطقة العربية بينما لا تتناقض إطلاقاً الهُوية الثقافية للشعوب مع معتقداتها الدينية. كذلك هو أسلوب المقاومة ضدّ المحتل أو المستعمر حيث هو وسيلة تحرّر استخدمتها قوى مختلفة الألوان والمناهج الفكرية في حقباتٍ زمنية وأمكنة مختلفة من العالم.
إنّ العكس هو المفروض أن يحدث بين التيّارين “الديني” و”العِلماني” في المجتمعات العربية، أي أن يبقى الاختلاف قائماً في المسألة الفكرية وأن يتمّ البحث عن المشترك من القضايا الوطنية والاجتماعية. أمّا الاختلاف على الجانب الفكري فهو ظاهرة صحيّة إذا حصلت في مجتمعات تصون التعدّدية الفكرية والسياسية وتحترم وجود ودور “الرأي الآخر”. وهي مواصفات وشروط لمجتمعات تعتمد الحياة السياسية السليمة، وتكون مرجعيتها هي القوانين والدساتير المجمَع على الالتزام بها بين كلّ الأطراف. فلا ينقلب طرفٌ على الآخرين وحقوقهم أو على الدستور ذاته لمجرّد الوصول إلى الحكم.
لكن من الأمور المهمّ التوقّف عندها هو حال الخلط الفكري والسياسي الذي يحدث في المجتمعات العربية بين أتباع كلٍّ من الفريقين “العِلماني” و”الديني”، كما هو أيضاً التخبّط أحياناً في استخدام المفاهيم والمصطلحات.
إنّ تعبير “العِلمانية” لا يعني مطلقاً الارتباط مع كلمة العلم، ففي “المنجد اللغوي العربي” نجد أن أساس التعبير هو “العامي غير الإكليركي” الذي قد يكون فلاحاً أو طبيباً، وقد يكون أمّياً أو متعلّماً. ولم تكن العِلمانية في نشأتها الأساسية بأوروبا فكرة مضادّة للدين، “بل يمكن اعتبار العِلمانية كمذهب ديني جديد دخل على المسيحية الأوروربية ونشأ معها ولم يدخل التجارب الإنسانية إلا بها”، على حدِّ وصف المفكّر الدكتور عصمت سيف الدولة.
فقد ارتبطت نشأة العلمانية بصراع بين مؤسّسة دينية كاثوليكية أوروبية احتكرت كل شؤون الدين والدنيا، وبين مؤسّسات غير دينية نامية رافقت نشوء الدول والقوميات في أوروبا. ولم تكن العلمانية الأوروبية دعوة إلى الكفر بالدين، بل كانت ركناً في نظام شامل متكامل للحياة الدنيا، وكانت محصّلة عوامل سادت في أوروبا نحو سبعة قرون امتزجت فيها الثورة على استبداد الكنيسة أيام الأمراء والإقطاع، ثم على تدخّل الكنيسة أيام الثورة الصناعية، وانتهت إلى الجمع بين العلمانية تجاه الدين، وبين الفكر الليبرالي الرأسمالي تجاه الدولة والاقتصاد.
وكانت العلمانية الأوروبية تعني عزل الدولة عن سلطة الكنيسة وليس عن الدين، وكانت تعني استمرارية لحركة التنوير والنهضة (التي بدأها مارتن لوثر في أوائل القرن السادس عشر)، كما كانت تعني استخدام العقل وعدم القبول بقدسية كل ما تقوم به الكنيسة.
لقد كان جوهر “حركة التنوير الأوروبي” هو الثقة في مقدرة العقل على إدراك الحقيقة.. وهو جوهر نثرت بذوره في أوروبا جماعة من الدارسين يسمّونها (المدرسة الرشدية) نسبةً إلى الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد (توفّي 1198).
ثمّ ظهرت في القرن العشرين الأنظمة العلمانية اللادينية وهي التي ارتبطت بالفلسفة الماركسية – اللينينية والتي اعتبرت أنّ “الدين هو أفيون الشعوب”.
وبينما ارتبطت التجربة العلمانية الغربية، الفاصلة للدين عن الدولة وغير الرافضة للدين المسيحي، بأنظمة حكم ذات نمط ديمقراطي في الداخل وتوجّه استعماري للشعوب الأخرى، وعلى أساس مصالح اقتصادية فرضتها الثورة الصناعية في أوروبا وحاجتها لأسواق ولمصادر خام.. فإنّ العِلمانية الشيوعية، ورغم مساندتها لحركات تحرّرية عالمية، فإنّها كانت ذات سمة ديكتاتورية وفاصلة للدين عن المجتمع (وليس عن الدولة فقط) وكانت رافضة لكلِّ الأديان، وارتبطت بحركات وأحزاب ذات توجّهات معادية للدين والقومية معاً.
إذن، ليس هناك نموذج تطبيقي واحد لمصطلح “العلمانية”، بل حتّى في الدائرة الغربية الديمقراطية نجد اختلافاً في المفهوم وفي التطبيق بين العلمانية في بعض الدول الأوروبية والعلمانية الأميركية.
إنَّ “العلمانية الأميركية” لا تفصل الدين عن الدولة كلّياً، كما هو الحال مثلاً في فرنسا وتجارب أوروبية أخرى، ولا يجد الرئيس الأميركي (أي رئيس) حرجاً في الذهاب أسبوعياً للكنيسة من أجل الصلاة، بينما لا يمكن قبول ذلك في بعض التجارب العلمانية الأوروبية.
العلمانية الأميركية تشجّع على الإيمان الديني ولا تحاربه، وتقوم المؤسّسات الحكومية بدعم المراكز والمؤسّسات الدينية (وبعضها إسلامي) وتتمّ الصلاة في مؤسّسات حكومية وتشريعية بشكلٍ مشابه تماماً لما يحصل في كثيرٍ من البلدان العربية والإسلامية. وحقوق الناس في ممارسة شعائرهم الدينية (بما في ذلك مسائل الشكل واللباس) هي مصونة بحكم القانون. وهذا أمرٌ لا توفّره مثلاً بعض أنظمة الحكم الأوروبية العِلمانية.
فالعِلمانية، في التجربة الأميركية، هي لضمان حقوق كل الطوائف والأديان ولمنع هيمنة إحداها على الأخرى، بينما تمّ استخدام العِلمانية في تجارب عالمية أخرى للحدِّ من دور رجال الدين في المجتمع، كما في التجارب الأوروبية، أو للحدِّ من دور الدين عموماً في حياة الناس، كما كانت عليه في التجارب الشيوعية. بالمحصّلة، ليس هناك “علمانية عالمية واحدة” لقبولها أو رفضها. فالعلمانية أيضاً أصبحت مذاهب مختلفة!!.
وقد انتشرت في مطلع القرن الماضي طروحات العِلمانية ببعض البلاد العربية في ظلّ الظروف التالية: (1) الدخول الثقافي الأوروبي للمنطقة العربية بواسطة إرساليات تبشيرية أو حماية لأقلّيات دينية رغم وجود العلمانية في أوروبا!.(2) المواجهة الغربية “العلمانية” مع الدولة العثمانية والسعي للسيطرة على المنطقة بعدما فشلت الحملات الأوروبية باسم (الحملات الصليبية) حينما كان “رجل الدين” في أوروبا هو الحاكم.(3) محاولة الاحتواء الثقافي الغربي للعرب، من خلال التشجيع على التغريب الثقافي والدعوة للابتعاد عن الدين باسم العلمانية.(4) تأسيس الأحزاب الشيوعية العربية ذات الطبيعة اللادينية.
فقد ظهرت حركات عِلمانية عربية في النصف الأول من القرن العشرين كان معظمها إمَّا من خلفية ثقافية غربية تخدم طروحات الغرب في المنطقة العربية، وتسعى لإبعاد العرب عن حضارتهم الإسلامية وعن عروبتهم معاً (كمحاولة الفرنسة للجزائر على سبيل المثال).. أو من خلفية ثقافية شيوعية معادية للدين والقومية عموماً.
أيضاً، فقد جرى طرح العِلمانية في المنطقة العربية من خلال بعض الأقلّيات الدينية التي كانت تخاف على مصيرها في بلدان ذات أغلبية دينية مختلفة.
ومن الضروري التفريق بين دعاة العِلمانية وعدم وضعهم جميعاً في سلّة واحدة، فهناك عِلمانيون يؤكّدون على دور الدين في المجتمع ويدعون للمجتمع المدني ولحقوق المواطنة للجميع دون ابتعاد عن الدين أو قيم الأديان.
إنّ المنطقة العربية هي مهد كل الرسالات السماوية والأنبياء ومواقع الحجّ الديني، وبالتّالي فإنّ تغييب أو تهميش دور الدين فيها هو مسألة مستحيلة عملياً، وبالتالي سيبقى للقيم الدينية، الصالحة لكل زمان ومكان، دوراً هاماً في صياغة مسقبل المجتمعات العربية.
وبإمكان المجتمع العربي الاستفادة فعلاً من التجربة “العلمانية الأميركية”، لكن الأهم هو طرح “العقلانية الدينية” في المجال الفكري والثقافي، والانطلاق من العقل لفهم النصوص، واعتماد المرجعية الشعبية في وضع الدساتير وفي أعمال المؤسّسات التشريعية المنتخبة، وأيضاً بإلغاء الطائفية السياسية في بعض أنظمة الحكم (كالحالة اللبنانية مثلاً)، أي عدم اشتراط التبعية لدين أو مذهب أو أصول إثنية في أيّ موقع من مواقع الحكم ووظائف الدولة، مع اعتماد النهج السياسي السلمي في مؤسّسات الحكم وفي الوصول إليها، وبتحقيق المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، رجالاً ونساءً.
إنّ المجتمعات العربية بحاجة إلى إصلاحات فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية.. وهذه الإصلاحات لا تتناقض مع القيم الدينية ولا تتعارض مع المفاهيم الإنسانية المعاصرة، وفي ذلك مسؤولية مشتركة لقوى “عِلمانية” و”دينية” تختلف فكرياً لكنّها قد تشترك في برنامج نهضوي جديد تحتاجه الأمَّة العربية كلّها.
"صبحي غندور مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن
[email protected]