لا يُخطئ المراقب الفطن ملاحظةَ شيء من تصاعد مستويات الحدة والراديكالية والتطرف في الخطاب الإعلامي لبعض منتسبي الأحزاب السياسية التقليدية و”المستجِدة” والحركات الحقوقية التليدة و”الطارفة” بالبلد إلى درجة جاز معها أن تصنف تلك الخطابات ضمن دائرة “الغلو السياسي”.
و يمكن تعريف الغلو السياسي اصطلاحا بأنه “مجاوزة السقف الأعلى المقبول قانونا وعرفا في حدة الاستقطاب السياسي المُعبر عنه قولا و عملا."؛ ومن المعلوم أن الانتشار الواسع للغلو السياسي هو أحد أمارات تآكل العقد الاجتماعي وانحطاط الأمم وأُفُولِ العمران.
و تقديرا لخطورة الغلو السياسي، فإنه من الأجدر بالنخب الوطنية الخالصة المتواجدة بالجامعات الوطنية والأجنبية أن تعكف على دراسة ظاهرة “الغلو السياسي” ببلادنا- وهي والحمد لله لا زالت في مراحل النشأة والتأسيس- قبل أن تتجذر وتستفحل وذلك سبيلا إلى محاصرة هذه الظاهرة من خلال اقتراح الوصفات الوقائية والعلاجية المناسبة.
وفي انتظار إنجاز دراسة علمية رصينة بهذا الخصوص قد يكون قسم العلوم السياسية بكلية العلوم القانونية أو قسم علم الاجتماع السياسي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة نواكشوط الجهة الأنسب لإنجازها فإنه بإمكاننا تقسيم الغلاة السياسيين ببلادنا إلي أربعة أنواع:
-
أولا-الغلاة السياسيون اعتقادا و طَبْعًا: ويقصد بهؤلاء أولئك الغلاة المتشبعون من العقائد الفكرية المتطرفة المؤسسة على عدم التسامح والعنف وإلغاء الآخر كدعاة العرقية والعنصرية و “الإرهابية” والشرائحية والمناطقية…
ويذهب بعض المحللين إلي أن الغالبية الغالبة من منتسبي هذه الفئة ببلادنا هم من المعروفين لدي جمهور الرأي العام بأن طبعهم و”منزعهم الأول” الجنوحُ إلى العنف والاقصائية وإلغاء الآخر؛
ثانيا- الغلاة السياسيون تكتيكا و تَطَبُعًا: من الملاحظ أن أغلب الوجوه السياسية أو الحقوقية الجديدة علي المشهد العمومي تتبع دائما تكتيكا سياسيا يؤسس علي البدء بانتهاج خط سياسي وحقوقي راديكالي يَجُبُ ويَبُزُ ما قبله من الخطابات الراديكالية وذلك سعيا إلى ترسيخ مكانتها وتوسيع قاعدتها.
لكن هذا التًطَبُعَ بالغلو والتطرف لا يلبث طويلا حتي يخبو و يَأْفَلُ كلما اطمأن أصحابه علي تأمين الحصول علي بطاقة دخول المشهد السياسي من خلال تحقيق مستوي مقبول من المعروفية والشهرة لدي وسائل الإعلام و الرأي العام؛
ثالثا- الغلاة السياسيون عجزا وكيدا: يعتقد على نطاق واسع أن أغلب الغلاة السياسيين بقطبي المعارضة والموالاة ببلادنا ممن ينتمون إلي الصف الثاني وما بعده من القيادات السياسية لأحزابهم يفزعون دائما إلى الغلو والتطرف و “التسخين والتأزيم الدائم بلا سبب” للمشهد السياسي بسبب ضعفِ المستوي العلمي و”أنيميا” الخبرة التراكمية والعجز عن المنافسة في مناخ سياسي طبيعي وهادئ لا يقدم المرءَ فيه إلا القدرة على إنتاج الأفكار وتسويقها وانتزاع ثقة أصحاب القرار والمواطنين والناخبين.
والثابت أن المتأمل لقائمة الغلاة السياسيين ببلادنا واجد لا محالة بأن أغلبهم ينتمي إلى الدرجة الثانية وما يليها من القيادات الحزبية والحقوقية وإلى فئة العاجزين عن إنتاج الأفكار المنتمين إلي طائفة ألطفُ ما يمكن أن تنعت به أنها “طائفة الموردين للأخبار”!؛
رابعا- الغلاة السياسيون “كَفًارَةً” و”تبييضا”: لعله من الغريب أن من أكثر الغلاة السياسيين والحقوقيين ببلادنا شراسة وهجومية و”لا تفاوضية” ثُلّةٌ قليلة من الأشخاص المنتسبين إلى “العمر الثالث” والذين قضوا ربيع “أعمارهم النشطة” في خدمة الأنظمة الاستثنائية والمعادية للنزعات الحقوقية.
وما من تفسير لسلوك هؤلاء الأشخاص إلا أنهم بغلوهم السياسي والحقوقي المفرط يدفعون كفارة إثم المشاركة النشطة وغير النشطة في “الإرث السياسي والحقوقي” "غير يَقَقِ البَيَاضِ-للأنظمة السابقة ويسعون إلى تببيض ماضيهم السياسي والحقوقي والإداري…