“الغاية تبرر الوسيلة ” من منا لم يسمع يوما بهذه العبارة، ومن منا لا يعرف أن قائلها هو المفكر السياسي الإيطالي ميكيافيلي ! الذي توفي سنة 1527، لكن في أية ظروف قال ميكيافيلي حكمته الأثيرة هذه ؟ من المهم أن نعرف أن ميكيافيلي عاش في زمنٍ كانت فيه بلده إيطاليا مجزأة ومقسمة إلى ممالك وإمارات متخاصمة متنابذة، لا تُقصِّر عادة في الاستعانة بالقوى الأجنبية ضد بعضها بعض، مما جعل إيطاليا فريسة سهلة وهدفا مباحا لاعتداءات الدول الأجنبية وغزواتها المتكررة وسط لا مبالاة صارخة وعجزٍ تراجيدي من الأمراء والحكام الذين كانوا يحكمون مختلف الممالك والمدن عبر إيطاليا المجزأة المقسَّمَةِ، كان ميكيافيلي الذي خَبِرَ دخائل السياسات الإيطالية عن قرب يتألمُ لهذه الوضعية التي تعيشها إيطاليا وتزداد آلامه مع استحضاره الدائم للإمبراطورية الرومانية وأمجادها الغابرة، وسط واقع مؤلم يجعل من أي حديث عن استرجاع الماضي المجيد مصدرا إضافيا للألم والكدر الروحي.
كان ميكيافلي قد أيقن من خلال تعاملاته وتجاربه ومعايشته للأحداث، أن هؤلاء الأمراء وحكام المدن لا يترددون في أن يفعلوا أي شئ للاحتفاظ بمراكزهم ونفوذهم ولو على حساب الحلم الإيطالي في تحقيق الوحدة والقوة واستعادة الأمجاد، الذي كان هو حلم ميكيافلي ، وحلم العديد من الإيطاليين الغيورين آنذاك.
ولذلك خلُص ميكيافلي إزاء أوضاع مستعصية كهذه، أنَّه إذا ما وُجِدَ أمير إيطالي يستطيع أن يقضي على هؤلاء الحكام والأمراء ويوحِّد إيطاليا تحت سلطته ، فإن أية وسيلة يستخدمها هذا الأمير في سبيل تجسيد الوحدة الإيطالية ستكون مشروعة ولا غبار عليها بغض النظر عن لا أخلاقيتها في ذاتها كوسيلة مجردة، كالرشوة والغدر والقتل والتآمر وإخلاف الوعد ، فهي تصرفات مدانة أخلاقيا،غير أن الأمير المأمول وجوده إذا وظفها في سبيل القضاء على أحد خصوم الوحدة فإن الوسيلة غير الأخلاقية في هذه الحالة تستمد أخلاقيتها أو تبريرها الوجودي من عظمة الهدف ونُبلِ المقصد وجسامة التحديات. وعليه فميكيافلي لم يتحدث أو بالأحرى لم يكن تركيزه منصبا على الغاية التي تبرر الوسيلة فيما يخص الأغراض الصغيرة أو الغايات التافهة، وإنما كان مشغولا بغاية عظيمة وكبيرة مما يجعل من الوسيلة أو الوسائل المستخدمة مبررة ومقبولة وفق رؤيته للأمور، فالوحدة الإيطالية هي الغاية،أمَّا الوسيلة المشروعة فهي كل ما يساعد على تحقيق هذه الغاية الكبيرة.والشخص المُخول بتوظيف الوسيلة أو الوسائل هنا ليس من هبَّ ودبَّ من الوصوليين والنفعيين وذوي المطامع والطموحات الصغيرة الرعناء،بل هو الفرد الذي يمتلك مقومات وصفات تُمكِّنه من الاضطلاع بمهمة بناء الدولة الإيطالية القوية المُوَحدة، ويزوِّدها بجيش وطني يكون بديلا عن جيوش المرتزقة التي تدين بالولاء للمال لا للدولة، وبقدر ما كان ميكيافلي ناقما على جيوش المرتزقة، كان ناقما على الكنيسة كمؤسسة، وعلى النبلاء الإقطاعيين كطبقة، لكونهما – في تحليله- من أكبر العقبات التي تقف في طريق بناء الدولة الإيطالية القوية المُوَحَدَةِ، ولذلك فإن من أهم مهام وواجبات الأمير المنتظر والمأمول هو العمل على تحييد الكنيسة و النبلاء الإقطاعيين والحد من قدرتهما على عرقلة وتعطيل أي توجه جاد بقيادة ” الأمير” نحو بناء إيطاليا الجديدة على غرار كل من الدولة الفرنسية والإسبانية والإنجليزية، وهي دول نجحت في بناء نفسها في العهد الذي عاش فيه هذا المفكر الفلورنسي المولد، والإيطالي الهم والطموح، الذي كان يأمل في أن تلتحق إيطاليا بركب الدول القوية في زمنه، وفهم هذا الهاجس الرئيس الذي استحوذ على فكره هو المنطلق الصحيح لقراءة وتحليل نوع الغاية التي تُستمد منها ومن أجلها بالتحديد شرعية ومشروعية الوسائل التي تُستخدم في تجسيد الغاية الكبيرة المرجوة.
ونحن نتحدث عن ميكيافلي لا بد من توضيح أمر من الأهمية بمكانٍ، فقد ذكر الكاتب الراحل عباس محمود العقاد أن ميكيافيلي وفي رسالة إلى أحد أصدقائه قال: “إن كتاب الأمير هو نزعة هوى” يُشير بذلك إلى أن تأليفه لهذا الكتاب لم ينطلق من تركيز وقناعات فكرية موثوقة، لكن الآراء السياسية الحقيقية لمكيافيلي موجودة في كتاب آخر له يحمل عنوان “المطارحات”، فكتاب الأمير الذي تُلخِصه مقولة الغاية تبرر الوسيلة، هو الأكثر شهرة، لكن كتاب “المطارحات” هو الأكثر تعبيرا عن الهواجس والرؤى الفكرية التي لازمت هذا المفكر والسياسي الإيطالي عبر مساره الشخصي والسياسي.
فإذا نحن تركنا ميكيافيلي وعصرهُ وجئنا إلى واقعنا العربي الراهن،وبغض النظر عن فوارق الزمان والمكان، فلا شك أن ثمة أمور عديدة في الواقع العربي الحالي تماثل الواقع الإيطالي الذي كان سائدا زمن ميكيافيلي فالوطن العربي يعيش تجزئة سياسية كارثية جعلت من الرقعة الجغرافية الواحدة دولا عديدة متنافرة حتى أن العديد من هذه الدول نفسها التي كان الفكر القومي الوحدوي يأمل في توحيدها وضم بعضها إلى بعض وصولا إلى دولة عربية قوية، باتت هي الأخرى تحت رحمة النزعات الانفصالية المُدمرة، فالسودان وبدلا من أن يتوحد مع مصر أو تتوحد مصر معه فقد جنوبه، و الصومال لم تكفه المحن التي نزلت به لنرى كيانا انفصاليا في شماله يريد أن يصبح دولة مستقلة على حساب وحدة الصومال تحت اسم ” أرض الصومال ” ! والعراق تتهددهُ فدرالية مفروضة بقوة الخراب الذي جلبته الديمقراطية الأمريكية ، في حين تعمل قوى أجنبية وعربية متواطئة معها على محاولة تفتيت وحدة سوريا، ولا يكاد يخلو بلد عربي من مخططات تستهدف وحدته ومصادر قوته وتطوره، أما اليمن بلد الحضارات القديمة الذي يعيش تحت تهديد انفصال جنوبه عن شماله فهو يقاسى منذ سنوات من حرب قذرة يشنها عليه التحالف العربي،أما عن الاعتداءات الأجنبية التي تشنها القوى الكبرى ضد الوطن العربي فهي أشهر من أن نُعيد مضغ فصولها المأساوية، ويكفينا أن نتذكر فصولها القريبة جدا، وكيف هاجمت الولايات المتحدة العراق في حربين قاسيتين أظهرتا مدى وحشية القوة المادية العسكرية للحضارة الغربية ولا إنسانيتها عندما يتعلق الأمر بالحرب ضد بلد عربي أراد أن يمتلك آليات إنتاج الحداثة ولم يرد أن يبقى فريسة لغريزة الاستهلاك البهيمي الأرعن،وإنه لذو مغزى أن تشن الولايات المتحدة حربا أولى على العراق-جمجمة العرب- مع نهاية القرن العشرين(1991) وحربا ثانية مع بداية القرن الواحد والعشرين(2003) فكأن القرون لا تبدأ ولا تنتهي إلا بالحروب الحضارية الضارية ضد الإنسان العربي لحرمانه من أية فرصة لالتقاط الأنفاس،وحسبنا أن نتذكر كيف هاجم الحلف الأطلسي ليبيا سنة 2011 وعمل على تدمير الدولة فيها ليتركها بعد ذلك فريسة للفوضى،وألعوبة في قبضة الجماعات المُسلحة، أما الحرب التي شنها الغرب على سوريا من خلال جحافل الجموع الإرهابية فهي أوضح دليل على المدى الذي تصل إليه الحضارة الغربية عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع من تعتبرهم خصومها التاريخيين، وتبقى المشكلة الكبرى هي الفاصل الاصطناعي الذي يفصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه والمتمثل في الكيان الصهيوني الذي تعمل الكثير من الأنظمة العربية على محاولة إقناع شعوبها بوجود إمكانية للتعايش معه باعتباره جزء من المنطقة ! في حين أن الكل يعلم أن الأمر يتعلق بمنطقة اسمها المشرق العربي الإسلامي ، حيث لا التاريخ ولا الجغرافيا ولا أبسط أبجديات الفكر السياسي غير الاستعماري،يمكنها أن تبرر هذا الوجود العدواني وغير المشروع للكيان الصهيوني، ولعل تسمية الشرق الأوسط جاءت خصيصا لتبرر وجود ” إسرائيل ” كجسم غريب وطارئ على المنطقة من وراء التاريخ، لأننا إذا قلنا المشرق العربي الإسلامي فالسؤال عندئذ سيكون واضحا وصارخا : ماذا تفعل إسرائيل في قلب هذا المشرق ؟ ولا يمكن أن يغيب عن وعينا أنَّه إذا كان الكيان الصهيوني الغاصب ” إسرائيل ” مشكلة كبرى، فإن التخلف العربي هو المشكلة الأكبر، ولانقول أن إسرائيل لاتمتلك أية قوة[1] ولكننا نقول أن القسم الأكبر من قوة إسرائيل يكمن في ويُستمد من الضعف والتخلف العربي، وبعد فهل الأمل في تجاوز هذه الأوضاع لايزال موجودا ؟ لاشك في ذلك أبدا ، فقد كان المفكر السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد(توفي سنة2004) مثلا من أبرز الذين كتبوا حول أبعاد ومآلات الصراع العربي الإسرائيلي وامتداداته العالمية،فهو قد قرأ وحلل الصراع العربي الإسرائيلي ضمن رؤية شاملة وجديدة شرحها خاصة في كتابه “حول العالمية الإسلامية الثانية “[2]، بحيث رأى أن المواجهة المنتظرة ضد التخلف العربي وبالنتيجة ضد إسرائيل لن تتبلور إلا بعد تحولات عميقة في الوعي العربي تسمح بتعزيز الثقة في الذات،والانتقال من يأس المرحلة إلى تفاؤل التاريخ، فيصبح الإنسان العربي قادرا على امتلاك التكنولوجيا والطاقة، والتأهيل العلمي والحضاري، فضلا عن الاستقرار الدستوري وهي الشروط التي من شأنها أن تُحقق للعرب كامل حيويتهم الحضارية وتجعلهم أكفاء لرسالتهم العالمية كما هو قدرهم وحَتْمُهُمْ،ولأن امتلاك العرب للتكنولوجيا والطاقة والتأهيل العلمي، وقوة الاستقرار الدستوري،يعني من الناحية الجوهرية نهاية إسرائيل فإن هذه الأخيرة تحرص كل الحرص وبكل الوسائل غير المشروعة على أن يستمر التخلف العربي عبر تغذية أسبابه وإدامة وتعميق عوامله – ولا يقول أحد أننا لا نتحمل مسؤولية تخلفنا – وليس صعبا إذن أن نفهم أبعاد الوصية التي تركها دافيد بن غوريون[3] لقومه:” إياكم وأن يمتلك العرب صناعة الحديد”، وليس صعبا كذلك أن نفهم لماذا تقوم إسرائيل دائما بقتل واغتيال العلماء العرب، وهي الممارسة الإجرامية التي تعودت عليها إسرائيل بسبب عدم وجود رد مكافئ ومناسب على مثل هذا النوع من الجرائم الذي يرمي إلى حرمان الأمة العربية من عقولها المفكرة، فالغاية تبرر أبشع وأحط الوسائل والأساليب عندما يتعلق الأمر بالعدوان على حقنا كعرب في امتلاك المعرفة وأسباب النهوض والقوة، وليس عربيا بالمطلق من ينسى كيف حرصت الولايات المتحدة على تجريد العراق من علمائه ومهندسيه بالقتل والتهجير والتحطيم المعنوي والمادي وبأساليب موغلة في اللاأخلاقية وتنضحُ بالرغبة في إبادة أية فرصة مستقبلية لنهوض عراقي جديد.
من جهته يرفض المفكر العربي القومي الوحدوي الراحل الدكتور نديم البيطار(توفي سنة2014 ) بشكل قاطع فكرة الاستسلام لليأس من إمكانية بناء مستقبل عربي جديد، ويؤكد أن ضخامة التحديات التي يواجهها الإنسان العربي،وجسامة التحديات التي ينوء بها واقعه ، وتضغط على وجوده لايجب أن تكون مبررا لعدم الإيمان بقدرة العرب على النهوض والإطاحة بكل المشاريع الاستعمارية التي تريد أن تنهش الجسم العربي عن آخره وتبني مجدها على حساب وحدة ومصير وحضور الأمة العربية، ويؤكد هذا المفكر القومي الكبير أن العرب يملكون كل المقومات اللازمة لبناء حضور عربي وحدوي يضع حدا للاستضعاف الذي يعانيه الوجود العربي، ولكنه يدعو كشرط للنجاح، إلى ضرورة تخليص الفكر القومي من عيوبه البنوية التي جعلته عاجزا عن التعامل مع الظاهرة الوحدوية بشكل علمي موضوعي بعيدا عن ثقافة التبشير والتهييج التي لا تنتج إلا مزيدا من الإخفاقات والآلام ولذلك وضع عددا من المؤلفات غير المسبوقة في الوطن العربي لعل من أشهرها كتابه :” من التجزئة إلى الوحدة القوانين الأساسية لتجارب التاريخ الوحدوية “[4] الذي أوضح فيه أن العرب ليسوا هم أول مجتمع مجزأ في التاريخ يواجه تحدي البحث عن كيفية تجاوز محنة التجزئة، وانتقد بشدة المفكرين الذين طالما انشغلوا بالبحث عن طريق تقود العرب إلى الوحدة، ولم ينتبهوا أبدا إلى ضرورة العودة إلى الظاهرة الوحدوية في ذاتها ودراستها دراسة علمية، للوقوف على الأوضاع والحالات التي كانت فيها مجتمعات مجزأة تنجح في تجاوز واقع التجزئة والانتقال إلى واقع وحدوي يفتح أبوابا جديدة من الأمل وأسباب التقدم في وجه الشعوب والأمم، أو تلك الحالات والأوضاع التي كانت فيها محاولات الانتقال تفشل في تحقيق الطموح الوحدوي لتستمر المعاناة إلى أن تتعلم المجتمعات المعنية من دروس التاريخ.
ومن خلال دراسته العلمية للظاهرة الوحدوية في الكتاب المذكور، خلص الراحل نديم البيطار إلى أن كل مجتمع مجزأ تمكن من بناء وحدته السياسية بنجاح توفرت له ثلاثة قوانين أساسية، هي أولا: الإقليم القاعدة الذي تتمحور حوله العملية الوحدوية ويتولى زمام أهم مراحلها، ثانيا: القيادة المُشَخْصَنَةِ التي تكون قادرة على التفاعل والقيادة والإلهام ثالثا: المخاطر الخارجية التي تعزز من الوحدة الداخلية للمجتمعات المهددة وتعزز الإيمان بأهمية الالتفاف حول العملية الوحدوية، وفضلا عن هذه القوانين الأساسية هناك مجموعة من القوانين الثانوية التي لها دورها في نجاح أو فشل أي مسعى وحدوي، ولكن هذه القوانين أو العوامل الثانوية لايمكنها أن تعمل أو تكون مجدية في غياب القوانين الأساسية الثلاث سابقة الذكر، مع العلم أن القوانين الثانوية أو الإعدادية تتوفر كلها تقريبا في الواقع العربي، غير أنه لايتوفر للعرب من القوانين الأساسية سوى عامل المخاطر الخارجية الذي يتمثل في معركة تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني الأمريكي، ويعتبر نديم البيطار في قراءته للمشهد العربي أن ” الدول العربية المرشحة للإتحاد أولا هي الأقطار التي تحيط بالأرض المحتلة، لهذا إذا تحقق ذلك واتحدت مثلا مصر، وسوريا، ومن ثم انضمت إليهم الأردن والسودان، وهي أقطار فقيرة، فإن إقامة دولة عربية ثورية كبيرة قوية في هذا الموقع الإستراتيجي تستطيع مباشرة أو غير مباشرة،أن تسحق سحقا الأقطار النفطية وتضمها إلى الدولة الجديدة..” وبغض النظر عما يمكن أن يوجه من انتقادات لمقولات الراحل نديم البيطار، فلاشك أن هذا المفكر يكاد يكون فريدا من نوعه بين المفكرين العرب من حيث جمعه بين الإيمان الراسخ بالوحدة العربية والثقة في قدرة العرب على تحقيقها إذا صححوا فهمهم لمسيرة التاريخ وحقائق الاجتماع وبين إصراره على إنجاز مؤلفات تعتمد على قوة البحث العلمي منهجا وموضوعا وتبحث في كل ما يتعلق بالواقع العربي، وأفاقة المستقبلية، وكيفيات الإطاحة بالمشروع الصهيوني وداعمته الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية التي يؤكد نديم البيطار أنه لا يمكن لها إلا أن تكون إلى جانب الكيان الصهيوني بحكم الثقافة والدين والتاريخ، وأن الرهان على دورها كوسيط رهان خاسر خائب مبرهنا على ذلك بالفشل الذريع الذي انتهت إليه ” الساداتية ” التي قادت مصر والمنطقة كلها إلى طريق الإفلاس والانسداد، وأن توفير الأسباب التي قد تسمح بعودة مصر إلى دورها الوحدوي أمر لابد منه، لمصلحة مصر أولا، ولمصلحة العمل الوحدوي العربي ثانيا، لأن مصر لن تستطيع التغلب على مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية الهائلة إلا ضمن الحل الوحدوي العربي، وفي حصره وتفسيره لعدم قدرة العرب على الاستفادة من المرحلة الناصرية لتحقيق انتقال وحدوي ناجح،انتهى إلى الأسباب التالية التي يفصِّلها في كتابه المذكور بإسهاب عميق،ونكتفي بذكرها هنا، وهي: 1- تخلف الفكر الوحدوي العربي عن العقل الحضاري الحديث.2- هشاشة وتعطل الالتزام الوحدوي.3-الإطارات العقلية والنفسية الغيبية التي يعمل فيها العقل العربي.4- الانتماءات والولاءات التقليدية التي تسود السلوك العربي.5- تقليدية المجتمع العربي، فضلا عن العوامل المعروفة كالمصالح الطبقية والتدخلات الاستعمارية، وغيرها. وفيما يشبه رسالة توعوية تأنيبية للمثقفين السلبيين أو المتخاذلين يقول: “..الناس يعانون بصبرٍ وسكون وضعا سيئاً طالما أن الوضع يبدو دون أملٍ في أي تصحيح، ودون صورة وضع آخر من الممكن أن يحل محلهُ، ولكن عندما يظهر أمل من هذا النوع، عندما يعي الشعب أنه من الممكن التحرر من هذا الوضع، فإن ماكان يعانيه بصبرٍ يصبحُ واقعا لايطاق فيتحرك ضدهُ..”.
وعلى هذا، تُصبح مهمة المثقف العربي أكثر تحديدا ووضوحا،وأكثر أهمية وحيوية، والحديث هنا يتعلق أساسا بالمثقفين الوحدويين الذين يؤمنون انطلاقا من التزامهم الوحدوي، بضرورة النضال والعمل من أجل بناء دولة عربية كبيرة سواء في المشرق العربي، أو في المغرب العربي، أو على مستوى الوطن العربي كله، ويمكن إيجاز تلك المهمة في النقاط التالية:
أولا: إدانة واقع التجزئة السياسية الراهنة التي يتخبطُ فيها الوطن العربي، إدانة فكرية صارمة بحيث يظهر ويتجلى الطابع اللاأخلاقي للتجزئة التي تحرم الإنسان العربي من إمكانية التمتع بمواطنة تمتد من المحيط إلى الخليج وتجبره على العيش بمواطنة قُطْرِيَة لاتُمثل كل أبعاده وطموحاته، ولا تتمثل كامل عمقه الحضاري، ودوره الرسالي باعتباره هو الإنسان الذي يملك الجغرافيا التي تقع في قلب العالم، ومن ثمة فتح المجال أمام الشباب العربي للاقتناع بوجود إمكانية حقيقية وواقعية لتجاوز المحن والبؤس والخراب الذي يعرفه الوطن العربي والشروع في بناء دولة عربية تضع حدا للهوان السياسي،والاعتداءات الأجنبية والهزال الحضاري للعروبة وشعوبها.
ثانيا:الوقوف في وجه الموجة الجديدة القديمة الرامية لشرعنة وتوسيع دائرة التطبيع مع الكيان الصهيوني، والكشف عن تهافت مبرراتها الأخلاقية والفكرية، وتفاهة منطلاقاتها السياسية، فضلا عن عدم جدواها الاقتصادية فإسرائيل كما يقول أحد الساسة الأمريكيين تأخذ فقط ولا تعطي شيئا،هذا في علاقتها مع الولايات المتحدة الدولة العظمى، فما بالك بتعاملها مع دول غير عظمى؟ وإلا فماذا حقق شاه إيران من وراء علاقاته مع إسرائيل، وماذا جلب السادات لمصر من وراء ارتمائه في الحضن الإسرائيلي، وزعمه أن السلام سيجلب الازدهار والأمان، بل وماذا حقق الملك المغربي الراحل الحسن الثاني الذي طالما دافع عن نظريته في أن المال العربي والعبقرية اليهودية سيجلبان الرخاء والتقدم للمنطقة ؟ لكن ما تحقق فعلا هو ضياع المال العربي، و ازدياد حجم المعاناة العربية، وعدم جدوى العبقرية اليهودية حتى في المملكة المغربية نفسها.
ثالثا: التأكيد بكل وسيلة ممكنة، وسبيل متاح، الأدب، السينما، النشاط السياسي، الصحافة…إلخ على مركزية القضية الفلسطينية، وعلى أهمية دعم الصمود الفلسطيني، وعدم التعلل بقضايا الخلاف الفلسطيني الفلسطيني لكي تتحلل بعض الأطراف العربية من مواقفها السابقة، وتفتح أبواب التطبيع مع الكيان الصهيوني على مصراعيه بحجة أن الفلسطينيين قد طبعوا، وكأن الفلسطينيين لايُقدِّمون يوميا ضريبة الدم والمعاناة والألم في الدفاع عن فلسطين الأرض والتاريخ والعروبة.
رابعا: على المثقف العربي، أن يعمل على إبراز حقيقة جوهرية تكاد تُطمس تحت ركام ما تكتبه مئآت الأقلام المأجورة، وما تبثه قنوات تزييف الوعي العربي، وهي حقيقة أن الصمود الفلسطيني الأسطوري ليس في صالح الفلسطينيين فقط بل هو في صالح العرب وفي صالح كل القضايا العادلة في العالم، وأن من شأن تمكن إسرائيل من التهام كامل فلسطين أو إخماد روح المقاومة في شعبها، أن يفتح المجال أمام إسرائيل لتعبث بكل حرية بمصير باقي الدول وأشباه الدول في الوطن العربي الكبير، أليس أحد أهداف التطبيع الأساسية هي تشديد الخناق على الصمود الفلسطيني، وقتل روح المقاومة والأمل في الأجيال الفلسطينية الشابة ؟
خامسا: التأكيد بالأدلة التاريخية( الحروب الصليبية مثلا ) وبالتنظير السياسي المستمد من حقائق الجغرافيا، والتفاعلات الجيواستراتيجية أن القضية الفلسطينية ليست عبئا على الضمير العربي، بل هي فرصته ليستعيد هذا الضمير وعيه الكامل بذاته العربية ، وبأهمية الإنسان العربي ودوره المنتظر في العالم ، هذا الدور الذي يمر حتما عبر الالتفاف حول فلسطين وقضيتها العادلة، فبدون هذا الالتفاف لن ينشغل العرب لا بالوحدة العربية، ولا بأي أمر آخر يمكن أن يعطي لهم وزنا في هذا العالم الذي لا يكتفي بتجاهل الضعفاء بل يعمل على سحقهم، والعبث بمصيرهم ( اليمن، الصومال، الروهينقا، إفريقيا الوسطى..).
وفي الأخير، لسنا مجبرين على أن نؤمن: أن الغاية تبرر الوسيلة، ولكن بوسعنا أن نؤكد أن هناك وسائل وإمكانيات كبيرة لتحقيق غاياتنا كعرب وأن أول خطوة للاستفادة من هذه الوسائل والإمكانيات هي قطع صلتنا وفك ارتباطنا بأمرين، الأول هو الفكر الإقليمي القُطري المشيخي المترهل،والثاني فكر التطبيع الذي هو في الواقع ليس إلا فكر الهزيمة والذيلية و الانحطاط. أما إذا أصر البعض على أن الغاية يجب أن تُبرر الوسيلة، فلابأس، فقط ليعملوا عندئذ على أن تكون غايتهم كبيرة وعظيمة كما كانت غاية ميكيافلي.
[1] – القوة هنا بمفهومها الكلاني، وليس بالمعنى العسكري أو الاقتصادي المباشر فقط .
[2] – العنوان الكامل للكتاب هو” العالمية الإسلامية الثانية،جدلية الغيب والإنسان والطبيعة “وقد صدر لأول مرة سنة 1979.
[3] – هو أول رئيس وزراء في الكيان الصهيوني،كان يؤمن بعمق أن إسرائيل هي أرض الميعاد، وقد عبر عن ذلك بخشوع تام في مذكراته.
[4] – كتاب مهم جدا، يجب أن يُقرأ من قبل أكبر عدد ممكن من المثقفين والمهتمين عموما بالمستقبل العربي الواحد.
فــوزي حساينية
إطار بقطاع الثقافة – الجزائر