تتَوالى حَلقاتُ الصَّدَمات التَّطبيعيّة فَوقَ رؤوسنا، فبَعدَ زِيارَة بنيامين نِتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيليّ، لمسقط، واستقبالِه بحَفاوةٍ بالِغةٍ، وتَجَوُّل وزيرَة الثَّقافة الإسرائيليّة ميري ريغيف في مسجد الراحل الشيخ زايد في أبو ظبي الذي تَزَعَّم حَظْر النِّفط تَضامُنًا مع أبطالِ حرب أكتوبر عام 1973، وأطلَقَ عِبارته التَّاريخيّة “النِّفط ليسَ أغلَى مِن الدَّم”، وعَزفْ النَّشيد الوَطنيّ الإسرائيليّ في الدَّوحة احتِفالًا بفَريق الجُمباز المُشارِك في دَورةٍ رياضيّةٍ فيها، بعد كُل هَذهِ الضَّرَبات التَّطبيعيّة المُوجِعَة، يَقِف إسرائيل كاتس، وزير المُواصَلات الإسرائيليّ، في منبر مؤتمر دولي للنَّقل بَدأ اعماله اليوم في مَسقط للكَشفِ عن مَشروعِ خَط سِكك حديديّة يَربُط ميناء حيفا الفِلسطينيّ بالأُردن والسعوديّة ومِنها إلى الدُّوَل الخليجيّةِ الأُخرَى، ويشرح الفَوائِد الجَمّة لقِطار التَّطبيع هذا التي ستُجنيها دُوَل الخليج مِن جرّاء إقامته، سِياسيًّا واقتِصادِيًّا.
***
لا نَكادُ نفيق مِن صدمة زِيارة نِتنياهو لمَسقط ووزرائِه وفِرَقِه الرياضيّة لأبو ظبي ودبي والدوحة، لنَفتح عُيونَنا على “قِطار السَّلام” الجَديد، في تَزامُنٍ مَحسوبٍ مع بِدء تطبيق الحُزمة الثانية مِن العُقوبات الأمريكيّة على إيران التي تقود مِحوَر المُقاومة والمُمانعة، واللافت أنّ الإسرائيليين الذين يُروِّجون لهذا المَشروع، ويَجِدون دَعمًا أمِريكيًّا، يقولون أنّه يَخدِم الخُطط الخليجيّة في مُواجَهة الخَطر الإيرانيّ الذي يُهَدِّد المِنطَقة وأمْنِها واستقرارِها.
الإسرائيليّون، وفي ظِل حال الهَوان العَربيّ الراهنة، يَجِدون أنّ التُّربَة باتَت مُهيّئةً لوصولهم إلى مَنابِع النِّفط العربيّة في الخليج، والسَّيطرةِ عليها وعلى اقتصاديّاتها، بحُجَّة حاجَة هَذهِ الدُّوَل للوصول إلى البحر المتوسط عبر ميناء حيفا، وهُم في الواقِع يُريدون العَودة إلى “خيبر”، والتَّمهيد لزعامَتهِم للمِنطَقة وقِيادَة حِلف الناتو العربيّ السنيّ، فهَل مِن الصُّدفة أنّ مشروع هذا القِطار يَربِط عَواصِم هذا التَّحالُف؟
لا نَفهَم لماذا هُناك حاجَة لهَذهِ الدُّوَل للوصول إلى المتوسط، وهِي التي تَطُل على بُحورٍ مِثل الخليج وبحر العرب والبحر الاحمر وخليج العقبة، وإذا كانَت هَذهِ الحاجَة مُلِحَّةً فِعلًا، فلماذا تكون عبر ميناء حيفا وليس مَوانِئ عَربيّة مِثل بيروت، واللاذقيّة، وبانياس مَثَلًا؟
مُبادَرة السَّلام العَربيّة المَشؤومة تَحوَّلت إلى مُلحَقٍ في ذَيْل “صفقة القرن”، وبَدأ تطبيقها عَكْسًا، أي البِدء في التَّطبيع أوّلًا وثانيًا وثالثًا، ودُونَ قِيامِ الشَّقِّ الأساسيّ والأوّل وهُوَ قِيامُ الدَّولة الفِلسطينيّة وعاصِمَتها القُدس.
الأُردن، ونَقولها بمَرارةٍ، سيَكون بمثابَة “حِصان طِروادة” في تَطبيقِ هذا المُخطَّط التَّطبيعيّ إذا انتقلَ إلى مرحلة التَّنفيذ، فهُو مُنخَرطٌ في مَشروعين آخَرين، الأوّل قناة البحرين التي تَربِط البحر الأحمر بالبَحرين الميّت والمتوسط (لاحِقًا)، واتِّفاق الغاز الإسرائيليّ الذي تَبْلُغ قيمته 15 مِليار دولار لمُدَّة 15 عامًا.
ما لا يُدرِكه الأشقّاء في الأُردن أنّ هَذهِ المَشاريع في حال تطبيقها ستَكون على حِسابِ بِلادِهم، وهُويّته في نِهايَة المطاف، والأُردن ما قَبلها لن يَكون الأُردن فيما بعدها، هذا إذا بَقِيَ بالأساس.
***
إنّه ليسَ “قِطار السَّلام”.. وإنّما قطار الاستسلام للمَشاريع الإسرائيليّة التي تُمَهِّد للهَيمنةِ على اقتصاديّات العَرب، وثَرواتِهم النِّفطيّة، وتَدمير هُويّتهم الوَطنيّة، وإلحاقِهِم بالمَشروعِ الصُّهيونيّ كعَبيدٍ وأتباع، ونَواطير، أو خيالات المَآتة (Scarecrow)، وهذا قِمَّة العار.
احتَفِلوا بالوزيرةِ العُنصريّة ميري ريغيف التي تَصِف آذانَكُم بنُباحِ الكِلاب، وافْرِشوا السَّجَّاد الأحمَر لنِتنياهو ووزيره أيوب قرا، واعزِفوا النَّشيد الوَطنيّ الإسرائيليّ، وأجيدوا الغِناء والعَزف، ورَدِّدوا كَلماتِه خَلفَ اللَّاعِبين الإسرائيليين بإبداعٍ وطَربٍ، وانصِتوا جَيِّدًا لشَرحِ إسرائيل كاتس لمَشروعِ قِطار التَّطبيع الجَديد، وهَيّئوا لنَفسِكُم لرُكوب عَرباتِه الفَخمَةِ المُعَطَّرةِ المُخَصَّصَةِ لَكُم، ولكن تَذكَّروا دائِمًا أنّ هَذهِ الأُمّة بجَناحَيها العَربيّ والإسلاميّ لم تَمُت ولن تَموت، وسيَأتِي يَومُ الحِساب حَتْمًا، ولا نَعتقِد أنّه سَيكونُ بَعيدًا.. والأيّام بَيْنَنَا.
عبد الباري عطوان