إذا كان الولد سر أبيه كما يقول العرب ، فحسين أحمد شوقي كان سرا لأبيه أمير شعرء العصر الحديث ، الذي ربما تصدق فيه الكلمة التي قيلت في أمير الشعراء أول مرة ، واسمه – و يا للمصادفة – أحمد أيضا ” أحمد بن الحسين ” أبو الطيب المتنبي ” :
ملأ الدنيا ، وشغل الناس .
ولد أحمد شوقي في السادس عشر من أكتوبر عام 1868
وتوفي في 14 أكتوبر عام 1932 ، وفي السطور التالية قراءة في كتاب ” أبي شوقي” تحية لذكراه .
في كتابه الصادر عن دار الفضيلة في القاهرة بعنوان ” أبي شوقي ” لم يكتف حسين شوقي بسرد ذكرياته مع أبيه شوقي ، بل تعرض له بالنقد تارة ، وبالسخرية اللاذعة تارة أخرى .
عيوب شوقي
يتكلم حسين شوقي عن عيوب أبيه ، ويرى أن أهم عيوبه أنانيته الشديدة، ويتساءل :
تُرى هل هي ” الأنانية ” من لوازم الشعراء ؟ إذ أن ” شيلر” عندما يتحدث عن طبع صديقه جوتة يقول :
” إنه في الواقع أناني إلى أقصى حدود الأنانية! ” .
ويحي حسين قصة عن أنانية أبيه فيقول :
” فمن أنانية أبي مثلا أننا لم نكن نستطيع أن نتغدى في ساعة معينة ، بل كان لزاما علينا أن ننتظر الى أن تأتي شهيته ، وكثيرا ما كان يطول هذا الانتظار ، لأنه كان يصحو من نومه متأخرا فيفطر بطبيعة الحال متأخرا أيضا ، وسبب هذا التأخير في النوم أنه يراجع بعد ما يعود من سهرته ما نظم من شعر طوال نهاره ” .
هل كان شوقي بوهيميا ؟
قسا حسين على أبيه مرة حينما قرر في كتابه أن أباه كان بوهيمي النزعة الى حد بعيد ، مشيرا الى أن كثيرا من تصرفاته يدل على ذلك .
وتساءل حسين :
” ألم يكن بوهيميا ، حين كان يعاونني على الهروب من المدرسة في المطرية ؟
كذلك الحادث التالي الذي وقع ونحن في برشلونة دليل ساطع على ذلك :
ركبنا ” الأوتوبيس ” ذات يوم ” هو وأنا ” فصعد رجل عملاق بادي الترف والثراء ، يعلق سلسلة ذهبية بصدره وفي فمه سيجار ضخم ، ثم ما لبث أن استسلم في ركن من العربة ، وراح يغط غطيطا يرهق الأعصاب ، وصعد نشال في مقتبل العمر جميل الصورة وهم بأن يخطف السلسلة ولكنه أدرك أن أبي يلمحه ، فأشار اليه اشارة برأسه مؤداها : هل أخذها ؟ فأجابه أبي برأسه ” خذها ” ، فنشلها الشاب ونزل ، بعد ما حيا أبي برفع قبعته له !
ولم يكد ينزل حتى التفت الى أبي وقلت : هل يصح أن تترك النشال يأخذ سلسلة الرجل وهو نائم ؟ فأجاب : شيء عجيب يا بني !
لو كنت مقسما الحظوظ فلمن كنت تعطي السلسلة الذهبية ؟ أكنت تعطيها عملاقا دميما أم شابا جميلا ؟ فقلت : كنت أعطيها الشاب الجميل ، فأجاب ببساطة : ها هو ذا أخذها ! ” .
دلال ابن ورحمة أب
تناول حسين شيئا من أخلاق أبيه ، فقال :
” كنت أرغمه على الجلوس في الحنطور في المقعد الصغير الأمامي ، على حين أجلس أنا أمامه في المقعد الكبير ، وقد رآه مرة سمو الخديوي على هذه الحال ، وكنا نسير إذ ذاك في ضاحية المطرية ، وكان سموه قادما من قصر القبة في طريقه الى مسطرد ، فاستدعى أبي ولامه على ذلك ، سائلا :
لمَ تفعل هذا ؟
فأجابه : سله هو يا أفندينا لم يفعل بي هذا ؟ ” ؟
وتابع حسين في كتابه الممتع :
” لذلك عندما قرروا أن أذهب الى المدرسة ، نزل علي الخبر كالصاعقة ، إذ كيف أترك كل هذا النعيم وأذهب فأقضى الساعات الطويلة بين جدران أربعة؟ وقد حاول أبي أن يبطل هذا القرار أو يرجئه ، ولكنه أخفق أمام تشبث مربيتنا التركية التي كانت تحكم البيت كله بيد من حديد ! ” .
حنو البنات
يقول حسين شوقي إن أباه كان يرى أن البنت أشد حنوا بأبويها من الولد ، مشيرا الى أنه ذكر ذلك في رثائه للوزير الكبير مصطفى فهمي باشا الذي مات ولم ينجب غير بنات :
إن البنات ذخائر من رحمة .. وكنوز حب صادق ووفاء
والساهرات لعلةٍ أو كبرة
والصابرات لشدة وبلاء
ليلة الوفاة
يقول حسين شوقي عن ليلة وفاة أبيه :
” في يوم الوفاة أي 13 أكتوبر سنة 1932 خرج يتروض في السيارة مع سكرتيره في ضاحية مصر الجديدة ، وقد تحدث معه في موضوعات دينية ، وقد سأله بوجه خاص ، وكأنه قد أحس بدنو أجله عن التوبة
والغفران ، وهل يتذكر نصا صريحا عنهما في القرآن الكريم؟
ثم زار في مساء اليوم نفسه الاستاذ محمد توفيق دياب بك في مكتبه بجريدة الجهاد ، فقد كان أبي يحب الاستاذ دياب ويرتاح الى مداعباته ، وقد نظم له بيتا جعله الاستاذ دياب بك شعارا لجريدته ” الجهاد ” وهو :
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا
إن الحياة عقيدة وجهاد
وقد توفي حوالي الساعة الثانية صباحا .. أيقظني الخادم قائلا :
إن أبي تعبان وإنه أرسله في طلبي ، كما أرسله في طلب أمي
، فأسرعت الى حجرته فوجدت أمي بجانب السرير قلقة تناديه :
ما بك؟
ولكنه لا يجيب ، إذ كانت روحه قد فاضت ، ذهبت الى ذلك العالم المجهول الذي طالما ساءل عنه ، وتمنى لو عرف أسراره ، ألم يقل مخاطبا شكسبير :
يا صاحب العصر الخالي ألا خبر
عن عالم الموت يرويه الألباء
أما الحياة فأمر قد وصفت لنا
فهل لما بعد تمثيل وإدناء ؟”.
وأنهى حسين شوقي كتابه قائلا :
” وقد كتبنا على قبره عملا برغبة أبداها يوما ، البيتين التاليين وهما من قصيدته ” نهج البردة ” في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم :
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي
وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل
في الله يجعلني في خير معتصمِ
رحم الله حسين شوقي وأباه !
” رأي اليوم” – محمود القيعي