الأمّة العربية هي حالةٌ فريدة جداً بين أمم العالم، فهي صلة وصل بين “الشمال” و”الجنوب”، وبين “الشرق” و”الغرب”، وبين قارّات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهي أيضاً مهبط الرسالات السماوية وأرض الحضارات القديمة، ومن تلك الأرض: أرض العرب، خرجت حضارة إسلامية وعربية امتدّت لكل الجهات الأربع وساهمت في إطلاق شعلة النهضة الأوروبية قبل قرونٍ من الزمن. وعلى أرض العرب أيضاً ثروات طبيعية ومصادر للطاقة العالمية تجعلها هدفاً دائماً للسيطرة وللأطماع الأجنبية.
وستبقى هذه المنطقة العربية ساحة صراع لقوى النفوذ الإقليمية والعالمية، وسترتجّ أرضها لدى أي اختلال يحدث في الميزان الدولي الذي تتحكّم به القوى العالمية الكبرى. ولا يمكن لهذه المنطقة ككل أو لأجزاء منها أن تختار السلامة والأمن عن طريق العزلة، فهناك حتمية الصراع والتنافس على هذه المنطقة وموقعها وثرواتها، لكن ليس هناك حتمية لنتائج هذه الصراعات، فالأمر يتوقّف أصلاً على شعوب الأمّة العربية ومدى وعيها وتضامنها وقوّة المناعة في دولها، وهي عناصر تتّصف كلّها الآن بالاختلال وانعدام التوازن السليم!.
المشكلة في الأمّة العربية هي أنّ دولها لم تُحسن التعامل في ربع القرن الماضي مع عصر “العولمة والعلمانية” الذي طغى بعد سقوط “الحرب الباردة” في مطلع حقبة التسعينات، ولا هي أيضاً تنجح الآن في الاستفادة من تجدّد العودة إلى طروحات “القومية والدين” التي تغلب حالياً على الكثير من مجتمعات العالم. فهاهي عدّة بلدان عربية تشهد صراعاتٍ أهلية وانقساماتٍ دينية وإثنية تتناقض تماماً مع حقيقة ومضامين الرسالات السماوية، كما هي محصّلة للتخلّي عن الهُويّة العربية المشتركة.
عالم اليوم يتغيّر كثيراً، خاصّةً منذ سقوط “المعسكر الشيوعي” وتحوّل الولايات المتحدة إلى نقطة المركز والقيادة في دائرة الأحداث العالمية. فإدارة بيل كلينتون، التي حكمت 8 سنوات (1993-2001)، عزّزت مفهوم “العولمة” كبديل عن انقسام العالم بين “شرق شيوعي” و”غرب رأسمالي”، وهو ما كان عليه وصف حال العالم لنصف قرنٍ من الزمن. أيضاً، حرصت إدارة بوش الابن في سنواتها الثمانية (2001-2009) على الحفاظ على سياسة “العولمة”، لكن بمضمون عسكري استهدف فرض واقع الإمبراطورية الأميركية والانفراد بالقرار الأميركي في تقرير مصير الأزمات الدولية، بعدما طغى في حقبة كلينتون أسلوب الهيمنة الأميركية بمضمون تجاري واقتصادي.
ووجدنا لاحقاً في فترتيْ إدارة أوباما (2009-2017) محاولة لإعادة ما ساد في حقبة كلينتون من “عولمة” تجارية واقتصادية، ومن تجنّب لاستخدام القوة العسكرية الأميركية في مضامين هذه “العولمة”، ومن سعي لمشاركة أميركية فاعلة في عدّة تحالفات واتفاقيات دولية؛ كالشراكة بين دول المحيط الهادئ، وكاتفاقية “نافتا” مع المكسيك وكندا، ودعم العلاقات مع الاتّحاد الأوروبي، وكالاتفاقية الخاصّة بالمتغيّرات المناخية.
لكن مع مجئ إدارة دونالد ترامب إلى “البيت الأبيض” اتّجهت أميركا، ومعها قريباً ربّما عدّة دول، إلى سياسة التخلّي عن “العولمة” بجانبيها الاقتصادي والعسكري، واستبدالها بسياسات قائمة على “قوميات شعبوية” ومصالح “وطنية” خاصة، وليس على تكتّلات دولية تُقيّد حركة الولايات المتحدة أو تُلزمها بتحالفاتٍ لا جدوى أميركية منها. وقد لمسنا هذا التحوّل الأميركي في الأسبوع الأول من حكم ترامب؛ من خلال أمره التنفيذي بالخروج من “اتفاقية الشراكة” مع دول المحيط الهادئ، ومن أزمته مع المكسيك، ومن مواقفه السلبية من “اتفاقية نافتا” ومن اتفاقية باريس بشأن المناخ، ومن تصريحاته السلبية عن “حلف الناتو”، ومن تشجيعه لخروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي.
ومن يتابع تصريحات قادة الأحزاب اليمينية المتطرّفة في عدّة دول أوروبية يجد جامعاً مشتركاً مع مقولات ترامب وتوجّهاته ضدّ كل مضامين “العولمة”، وعلى قاعدة المفاهيم العنصرية.
المسألة الأخرى، التي ترادف موجة التراجع في الغرب عن “العولمة” لصالح “القوميات”، هي استغلال العامل الديني لتبرير العنصرية ضدّ الشعوب والثقافات المغايرة، كما لمسنا ذلك في التيّارات الدينية المحافظة التي دعمت دونالد ترامب، والتي تدعم المرشّحين الأوروبيين اليمينيين. وخطورة هذا العامل في الحياة السياسية بالدول الغربية هو أنّه يجنح بحكّامها نحو التطرّف والتناقض مع دساتيرها ومجتمعاتها العلمانية، ويجعل حربهم مع الجماعات الإرهابية في العالم وكأنّها حروب مع أديان وقوميات أخرى!.
ولعلّ أبرز المضامين التي أعطيت لمفهوميْ “الشرق” و”الغرب” هي قضايا تميّز بين كتل الشعوب (وليس الدول) على أسس سياسية وثقافية. ف”الغرب” هو مصطلح يعني الشعوب التي تعتمد الأنظمة السياسية الديمقراطية ونظام الاقتصاد الحر، وتأخذ بالمنهج العلماني في الحكم، رغم الطابع الديني المسيحي لهذه الشعوب. وبالتالي، فإنّ دولة مثل أستراليا الموجودة في أسفل الكرة الأرضية، والتي هي غير معنيّة جغرافياً بتوزيع العالم بين “الشرق” و”الغرب”، هي دولة منتمية لمعسكر “الحضارة الغربية”!.
وقد وجدت إسرائيل ومن يدعمها في دول “الغرب” الأوروبي والأميركي مصلحة كبيرة في هذه التسميات التي تجعل منها “دولة غربية” و”شرق أوسطية” معاً. إذ أنّ تسمية “الشرق الأوسط” تنزع الهويّة العربية عن المنطقة فتقضم منها دولاً عربية (دول شمال أفريقيا) وتضيف إليها إسرائيل، بكلّ ما تمثّله الأخيرة من ثقل عسكري وسياسي واقتصادي “غربي”.
وفي الحالتين: تقسيم العالم سابقاً إلى “شرق” و”غرب” أو لاحقاً إلى “شمال” و”جنوب”، هناك مسؤولية أولى عن الاختلاف الحاصل بين المجتمعات، وهي مسؤولية الإمبراطوريات التي صنعت استقرارها وتقدّمها السياسي والاجتماعي عن طريق قهر شعوب أخرى واحتلال أراضيها، ونهب ثرواتها الوطنية وإضعاف عناصر وحدتها الاجتماعية، فأفرز ذلك كلّه على مدار عقودٍ من الزمن تنميةً في بلدان أوروبا وشمال أميركا مقابل تخلّف وفوضى وحروب في معظم المجتمعات الأخرى.
لكن المنطقة العربية تحديداً، كانت وستبقى، مستهدفة من القوى الدولية والإقليمية الكبرى بسبب ما تتميّز به عن غيرها من بقاع العالم بميزاتٍ ثلاث: فأولاً، تتميّز أرض العرب بأنّها أرض الرسالات السماوية؛ فيها ظهر الرسل والأنبياء، وإليها يتطلّع كلّ المؤمنين بالله على مرّ التاريخ، وإلى مدنها المقدّسة يحجّ سنوياً جميع أتباع الرسالات السماوية من يهود ومسيحيين ومسلمين. وثانياً، تحتلّ أرض العرب موقعاً جغرافياً هامّاً جعلها في العصور كلّها صلة الوصل ما بين الشرق والغرب، ما بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وبين حوض المتوسّط وأبواب المحيطات. ومن هذا الموقع الجغرافي الهام خرجت أو مرَّت كلّ حضارات العالم سواء القديم منه أو الحديث. وثالثاً، تمتلك أرض العرب خيرات طبيعية اختلفت باختلاف مراحل التاريخ، لكنّها كانت دائماً مصدراً للحياة والطاقة في العالم.
وهذه الميزات الإيجابية جعلت المنطقة العربية دائماً محطّ أنظار كلّ القوى الكبرى الطامعة في السيطرة والتسلّط.. فتحْتَ شعار “تحرير أرض مهد السيد المسيح” برّر الأفرنجة (الصليبيّون) غزواتهم للمنطقة العربية، بينما الهدف الحقيقيّ منها كان السيطرة على المنطقة العربية وخيراتها الاقتصادية، في ظلّ الصراعات والأزمات التي كانت تعصف بأوروبا. وتحت شعار استمراريّة “الخلافة الإسلامية” برَّر العثمانيون سيطرتهم على معظم البلاد العربية. وتبريراً لإقامة حاجز بشري يفصل المشرق العربي عن مغربه، كانت فكرة إقامة دولة إسرائيل في فلسطين بذريعة أنّها أرض هيكل سليمان!! كذلك الأمر بالنسبة للموقع الجغرافي الرابط بين القارّات؛ منذ الإسكندر الكبير الذي احتلّ مصر وبنى الإسكندرية ليصل إلى شرق آسيا، وحتّى مرحلة حملة نابليون، ثمّ الاحتلال البريطاني وبناء قناة السويس لتسهيل السيطرة على المحيط الهندي.
إنّ الدول الكبرى، الإقليمية والدولية، تتعامل مع هذه المنطقة كوحدةٍ متكاملة مستهدَفة وفي إطار خطّة إستراتيجية واحدة لكلّ أجزاء المنطقة، بينما تعيش شعوب المنطقة في أكثر من عشرين دولة وفق ترتيباتٍ دولية وضعتها القوى الأوروبية الكبرى في مطلع القرن العشرين. ولقد أدّى هذا الواقع الانقسامي، وما يزال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادية والبشرية) وإلى صعوبة تأمين قوّة فاعلة واحدة لمواجهة التحدّيات الخارجية أو للقيام بدورٍ إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية،
إنّ سلبيّات الواقع العربي الراهن لا تتوقّف فقط على المخاطر الناجمة عن عدم إدراك دروس التاريخ والجغرافيا، بل أيضاً على كيفيّة رؤية وإعداد أصحاب الأرض العربية لأنفسهم ولهويّتهم ولأوضاعهم السياسية والاجتماعية.
إنّ شعوب الأوطان العربية عانت وتعاني الكثير من جرّاء خلافات على ما حدث في التاريخين العربي والإسلامي من صراعات داخلية ومن أدوار أجنبية مختلفة، وهي مسائل جرت في الماضي ولا يمكن الآن تغييرها أو إعادة تصحيح أخطائها، بينما تقدر هذه الشعوب والطلائع المثقّفة فيها على تصحيح واقعها الراهن وحاضرها الممزّق فكرياً وعملياً، سياسياً وجغرافياً. فشرط نهضة العرب الآن هو تجاوز ما حدث في التاريخ، وتصحيح ما هو واقعٌ من انقسام وتمزّق بين العرب.. وفي الجغرافيا العربية!.
صبحي غندور"مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن
[email protected]