جولة كوشنر و"صفقة القرن": هل ثمة "صفقة" حقًا؟

اثنين, 2018-07-02 04:27

اختتم وفد أميركي برئاسة جاريد كوشنر، صهر الرئيس دونالد ترامب ومستشاره، وجيسون غرينبلات، المبعوث الأميركي للسلام لمنطقة الشرق الأوسط، جولة دبلوماسية شملت أربع دول عربية هي الأردن، والسعودية، ومصر، وقطر إضافة إلى إسرائيل. وكان الهدف الأساسي لهذه الجولة هو تسويق خطة الإدارة الأميركية "للسلام" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتي باتت تُعرف إعلاميًا باسم "صفقة القرن"، وهي تسمية مقصودة لتسويق قناعات وأفكار إسرائيلية قديمة بوصفها اقتراحًا جديدًا لصفقة تاريخية.

أركان "صفقة القرن"

مع أن الإدارة الأميركية لم تكشف رسميًا عن تفاصيل الخطة التي تروّج لها وتضع تفاصيلها منذ مدة لإنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، فإن التسريبات التي بلغت العديد من وسائل الإعلام العربية والأجنبية تعطي صورة تقريبية عن ماهية الطرح الأميركي والغايات التي يسعى لتحقيقها.

تقوم الخطة على تطبيع العلاقات العربية - الإسرائيلية شرطًا لتهميش القضية الفلسطينية، وليس حلها بوصفها قضية وطنية، ومن ثم قضية سياسية. وهي تدعو التهميش حلًا؛ لأنه حلٌ لمشكلات إسرائيل بالتخلي عن قضية فلسطين. ويأتي كل ذلك من خلال إنشاء مناخ سياسي إقليمي ملائم لعلاقات عربية - إسرائيلية، يستوعب الجانب الفلسطيني، ويمارس الضغط اللازم عليه لقبول الطرح الأميركي الذي يركز على التعاون والتكامل الاقتصادي عبر حزمة من المزايا الاقتصادية والاستثمارات الأميركية والخليجية، مع تجاهل أركان القضية الفلسطينية كأنها غير قائمة، وتناسي جوهر الصراع الأساسي وهو الاحتلال الإسرائيلي، وتهميش حقوق الشعب الفلسطيني في العودة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس.

بدأ تنفيذ الخطة التي تقوم على التخلي عن قضايا الوضع النهائي (وهي القدس، والمستوطنات، والحدود، واللاجئين، والمياه) مسبقًا ومن دون مفاوضات بإخراج القدس من دائرة التفاوض؛ وذلك عندما اعترفت إدارة ترامب، في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2017، بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، ونقل السفارة الأميركية إليها من تل أبيب في الذكرى السبعين لإعلان قيام إسرائيل.

وبدلًا من السعي لإحياء المفاوضات وفق المرجعيات الدولية المعروفة، وعلى رأسها قرارات الأمم المتحدة المتصلة بالأرض والموارد واللاجئين، تركز الخطة على "السلام الاقتصادي"، باعتباره مدخلًا لإنهاء الصراع. وقد أشار كوشنر إلى ذلك في مقابلة صحفية؛ إذ قال إن خطة الإدارة الأميركية تشمل تأسيس مشاريع استثمارية كبرى في البنية التحتية الحديثة، والتدريب المهني والتحفيز الاقتصادي للفلسطينيين، ولن يقتصر ذلك على الأراضي الفلسطينية فحسب، وإنما سيشمل الأردن ومصر أيضًا[1]. تعدّ هذه من أفكار شمعون بيريز وغيره من الزعماء الإسرائيليين الذين رأوا أن التطبيع العربي مع إسرائيل كفيل باختفاء القضية الفلسطينية، وتبقى القضايا المعيشية الحياتية. وقد تخلى القادة الإسرائيليون عن هذه الأفكار التي لم يعد يتبناها سوى اليمين الإسرائيلي المتطرف، ففي هذا تبسيطٌ للصراع الوجودي الذي يخوضه الشعب الفلسطيني منذ أكثر من سبعين عامًا، وإفراغٌ لنضالاته باعتبارها نضالات من أجل التحرر وتقرير المصير وحق العودة، واختزالٌ لها في نضال من أجل مشاريع اقتصادية وبنى تحتية لدولة ناقصة ومجزأة وعديمة السيادة، عاصمتها بلدة "أبو ديس" بدلًا من مدينة القدس، بينما تكتفي إسرائيل بالانسحاب من بضع بلدات عربية شمالي القدس وشرقيها تخضع حاليًا للسيطرة الإسرائيلية، إلى جانب المحافظة على المستوطنات الإسرائيلية كلها في الضفة الغربية وعلى رأسها مستوطنة أريئيل في نابلس، وغوش عتصيون في بيت لحم، ومعاليه أدوميم في القدس، وتكريس الاحتلال الإسرائيلي لمنطقة الأغوار، وضم مناطق "ج" إلى السيطرة الإسرائيلية. في المقابل، يحصل الفلسطينيون على مجموعة من المنح والمساعدات المالية التي تدفعها دول الخليج العربية وتصل قيمتها نحو مليار دولار لاستثمارها في قطاع غزة، وتوسيع الإشراف على المقدسات الإسلامية والمسيحية إلى دول خليجية بهدف تقليص الدور الأردني في القدس[2]. ولا شك في أن القادة الإسرائيليين يشعرون بالرضا؛ لأن الولايات المتحدة الأميركية نفسها تعود إلى المنطقة بأفكارهم هذه التي ثبت فشلها في السابق، وتحاول فرضها على العرب، وقد يضيفون إليها بعض الشروط.

إيجاد بيئة إقليمية لتمرير "الصفقة"

يسعى الحراك الدبلوماسي الأميركي للحصول على دعم الدول العربية المتحمّسة لنسج علاقات قوية بإسرائيل، من زاوية التقاء المصالح على مواجهة التهديد الذي تمثله إيران؛ إذ شملت جولة الوفد الأميركي دولًا فاعلة في الإقليم، على رأسها السعودية ومصر، طالبًا مساعدتها للتأثير في موقف السلطة الفلسطينية الرافض لهذه "الصفقة". وترى السلطة أن الجولات المتعددة التي يقوم بها كوشنر إلى المنطقة واستمرار الجهود الدبلوماسية بحثًا عن أفكار أو الإعداد لصفقة أو خطة لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، بعيدًا عن الفلسطينيين، ومحاولة تجاوز القيادة الفلسطينية، لن تؤدي سوى إلى طريق مسدود؛ وهو ما عبّرت عنه السلطة الفلسطينية بدعوتها الوفد الأميركي إلى التخلص من الوهم القائم على إمكانية خلق حقائق مزيّفة "من خلال مناورات سياسية تسوّق لتلك الأوهام، ومحاولة تزييف التاريخ"[3]. ولم يخف كوشنر، في هذا الصدد، عدم ارتياحه لموقف السلطة الفلسطينية من الخطة الأميركية، محذرًا إياها من نشرها على الملأ، وذلك في إطار ابتزازها كأنها لامبالية بمعاناة الفلسطينيين، والضغط عليها وإظهارها في موقف الرافض للسلام، والمعرقل لجهود إنهاء الأوضاع الأمنية والإنسانية في قطاع غزة.

وقد أشار البيان المشترك الذي صدر عن لقاء كوشنر ورئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى الأوضاع الصعبة في قطاع غزة، بصفتها وسيلة للضغط على السلطة الفلسطينية وتحميلها مسؤولية استمراراها، إن ظلت على موقفها الرافض للخطة[4]. وقد رفضت إدارة ترامب تسديد التزاماتها السنوية البالغة 350 مليون دولار لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"؛ ما كان له بالغ الأثر في زيادة معاناة أكثر من مليون لاجئ فلسطيني في قطاع غزة، بسبب توقف خدمات المساعدات الشهرية التي تقدمها لهم الوكالة[5].

عربيًا، أعلنت مصر والسعودية اللتان زارهما كوشنر، فضلًا عن دولة الإمارات، تأييدها للجهود التي يبذلها المسؤول الأميركي لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ودعمها للخطة، بغض النظر عن موقف السلطة الفلسطينية المصرة على رفض لقاء كوشنر وغرينبلات[6]. وقد جاء هذا التأييد مغلفًا بعبارات عامة من قبيل دعم "الجهود والمبادرات الدولية الرامية للتوصل إلى تسوية عادلة وشاملة، على أساس حل الدولتين [...] مع إعلان القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين"[7]. إن هذا الموقف لا يستقيم في ظل خطة كوشنر التي تؤدي عمليًا إلى احتفاظ إسرائيل بأكثر مساحة الضفة الغربية المحتلة، وإعلان القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل بعد نزع صفة الاحتلال عن شطرها الشرقي. ومن ثمّ، لا يتبقى للفلسطينيين سوى ما يضم التجمعات السكانية الفلسطينية الكبرى، وبذلك تتخلص إسرائيل من مراكز الكثافة السكانية الفلسطينية العالية في مقابل احتفاظها بأكبر جزء من الأرض. أمّا غزة، فيجري تحويل قضيتها إلى قضية خدمات، والتعامل معها على أنها قضية إنسانية وإغاثية تتولى دول الخليج العربية الغنية تزويدها بما تحتاج إليه من مشاريع ماء وكهرباء وبنية تحتية وغيرها مما يلزم لتخفيف معاناة السكان ومنع انهيار الوضع الإنساني، وذلك تحت رقابة إسرائيلية.

والأرجح أن الدول العربية التي أعلنت تأييدها لـ "صفقة القرن"، التي تشرعن الاحتلال الإسرائيلي وتأخذ من الفلسطينيين جميع حقوقهم المشروعة والمنصوص عليها في القرارات والقوانين الدولية مقابل منافع وامتيازات اقتصادية، ستتحول إلى أداة أميركية مهمة في الضغط على السلطة الفلسطينية، وعلى حركة حماس في قطاع غزة، لقبول شروط "الصفقة" والانخراط المباشر فيها، وإقناع الأردن المتردد، الذي يتعرض لضغوط اقتصادية وسياسية مرتبطة بموقفه من القدس وما يتصل بالوصاية التاريخية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في المدينة[8]. وقد عكس هذا الأمر الحراكُ الدبلوماسي الذي شهدته عمّان مؤخرًا عندما زار نتنياهو عمّان والتقى الملك عبد الله الثاني قبل يوم واحد من وصول كوشنر إلى المنطقة. وأشار البيان الأردني عقب تلك الزيارة إلى "حل الدولتين"، وإقرار إسرائيل بوصاية الأردن على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وركز على تعزيز العلاقات بين الأردن وإسرائيل، ومن ضمنها "مشروع ناقل البحرين (البحر الأحمر، والبحر الميت)، إضافةً إلى رفع القيود عن الصادرات التجارية بين السوقين الأردنية والفلسطينية[9]. كما توجه الملك عبد الله في 25 حزيران/ يونيو 2018، أي بعد مغادرة الوفد الأميركي للمنطقة مباشرة، إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي ومناقشة خطة السلام المزعومة[10].

خاتمة

عرفت القضية الفلسطينية منذ القرن الماضي مشاريع وخطط تسوية عديدة طرحتها الإدارات الأميركية المتعاقبة وغيرها، لكن خطة السلام الأميركية، أو ما يسمى "صفقة القرن"، التي يروّج لها ثلاثي كوشنر – غرينبلات - والسفير الأميركي في إسرائيل، الصهيوني ديفيد فريدمان، تُعتبر الأسوأ بينها على الإطلاق. وهي لا تعدّ خطة تسوية أصلًا، بل فرض لوجهة نظر مفادها أنه لا توجد قضية وطنية فلسطينية بل قضايا إنسانية معيشية. إنها أقرب إلى رؤية اليمين الإسرائيلي للتسوية السياسية بإملاء وجهة النظر الإسرائيلية القديمة على العرب، وجوهرها "السلام الاقتصادي" من خلال مجموعة من المحفزات الاقتصادية. والجديد في هذه الخطة هو إسهام دول خليجية في دفع تكلفة هذا السلام الذي يقود إلى دمج إسرائيل في المنطقة وتطبيع العلاقات معها، في ظل تجاهل كامل للحقوق السياسية للشعب الفلسطيني والالتفاف على جوهر الصراع الأساسي وهو الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية. لكن هذه الخطة لن يكتب لها النجاح، ما دام الموقف الفلسطيني ثابتًا في رفضه لها ومدعومًا بالرأي العام العربي والعالمي، ومقاومًا للضغوط الساعية للحصول على موافقته عليها، فمن غير موافقة فلسطينية لن يكتب لأي خطة النجاح؛ إذ لا بد من إقرار أصحاب الحق الأصليين وموافقتهم، وهذا فقط ما يعطي أي اتفاق شرعية التنفيذ.

عزمي إبشاره