عن حال الإنحطاط العربي

خميس, 2016-01-07 17:42

تتعامل القوى الكبرى مع المنطقة العربية كوحدةٍ متكاملة بغضّ النّظر عن تعدّدية الأوطان القائمة على أرضها، وفي إطار خطّة إستراتيجية واحدة لكلّ المنطقة، بينما الأمَّة العربية موزّعة على أكثر من عشرين دولة وفق الترتيبات الدولية التي حدثت في مطلع القرن العشرين، والدول العربية (بأجزائها المتنافرة أحياناً) باتت الآن أمراً واقعاً يزداد ترسّخاً يوماً بعد يوم، بل بعضها مهدّدٌ بمزيدٍ من خطر الانقسام والانشطار!.
ولقد أدّى هذا الواقع الانقسامي العربي، وما يزال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادية والبشرية) وإلى صعوبة تأمين قوّة فاعلة واحدة لمواجهة التحدّيات الخارجية أو للقيام بدورٍ إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية، بل أدّى أيضاً لوجود عجزٍ أمني ذاتي لا يستطيع التعامل مع ما يطرأ من أزماتٍ وصراعات داخل المنطقة ويبرّر الاستعانة بقوًى أمنية خارجية قادرة على حلّ هذه الصراعات ..
إنّ التصحيح العربي المنشود لهذا الواقع لا يكون بالتخلّي عن هدف التعاون العربي المشترك، بل بالسعي للتكامل الاتحادي الذي يحافظ على الخصوصيات الوطنية لكلّ بلدٍ عربي (كما في التجربة الأوروبية)، وذلك يتطلّب طبعاً البدء بإصلاح الإعطاب في الجسم الدستوري السياسي العربي، وفي مؤسّسات الإدارة، وفي هيئات التخطيط والتشريع والرقابة، وبضرورة الإصرار على هدف التكامل العربي مهما كانت الصعاب والعوائق.
إنَّ الأمّة العربية الآن هي أمام  الخيار بين تكامل الوطنيات العربية القائمة أو الانحدار أكثر في تفتيت البلاد العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية وإثنية، متصارعة فيما بينها ومتفّق كلّ منها مع قوى أجنبية ومع مشاريع إسرائيلية وإقليمية لمستقبل المنطقة!!
(2)
اليوم، تعيش الأمّة العربية أنماطاً مشابهة لما كانت عليه منذ مائة عام، وهي تدخل مرحلة شبيهة بما حصل عقب الحرب العالمية الأولى من دخول عدّة بلدان عربية في مرحلة “الانتداب” الدولي، ومن تفتيت وتقسيم للأوطان والمجتمعات…
أيضاً، تتكرّر اليوم أخطاء القرن الماضي، من حيث الاشتراك العربي في وصف الواقع الحاضر لكن مع عدم الاتفاق على “مشروع عربيٍ مشترك للمستقبل”، والعمل المنظّم من أجل تحقيقه.
ولن يشهد هذا “المشروع المستقبلي العربي” النور ما لم يحصل إصلاح ونهضة في واقع حال جماعات الفكر ومؤسسات المجتمع المدني العربي، وفي المنظمات السياسية التي تطرح نفسها كأدوات للتغيير أو كبدائل لما هو قائم في الواقع العربي الراهن.
لكن كيف يمكن بناء مستقبل أفضل للشعوب وللأوطان وللأمّة ككل إذا كان العرب مستهلكين إعلامياً وفكرياً وسياسياً بأمورٍ تفرّق ولا تجمع!.
فللأسف، هناك أصواتٌ وأقلامٌ عربية ارتضت أن تكون هي أيضاً عنصراً مساهماً في إشاعة مناخ الانقسام الطائفي والمذهبي بين أبناء الأمّة العربية، فراحت تكرّر تصنيفاتٍ وتسميات كانت في الماضي من الأدبيات الإسرائيلية فقط، فإذا بها الآن تتقدّم التحليلات السياسية لبعض الأقلام العربية، وأصحابها يتنافسون على الفضائيات وعلى صفحات الجرائد فيما يؤدّي إلى مزيدٍ من عوامل الانقسام والانحطاط في أحوال الأوطان والشعوب.
(3)
هو الآن، في عموم العالم، عصر التضليل السياسي والإعلامي. فالتقدّم التقني، في وسائل الاتصالات والشبكات العنكبوتية وإعلام الفضائيات، اخترق كلّ الحواجز بين دول العالم وشعوبها. وأصبح ممكناً إطلاقُ صورةٍ كاذبة أو خبرٍ مختلَق، ونشره عبر هذه الوسائل، لكي يُصبح عند ملايين من الناس حقيقة. هو أيضاً، كما كان في القرن العشرين، عصر “المال والإعلام”، ومن يملكهما يملك قدرة التأثير على صنع القرارات السياسية. هكذا فعل “اللوبي الإسرائيلي” في الغرب عموماً، وفي أميركا خصوصاً، من حيث تركيزه على المؤسسات المالية والإعلامية في الغرب.
فالإنسان العربي يعاصر اليوم عالماً فيه هيمنة كاملة للمصادر “المعلوماتية” على عقول الناس ومشاعرهم ومواقفهم. والناس في زمننا الحالي، وبمختلف المجتمعات، نادراً ما يتعمّقون في معرفة الأمور ويكتفون بالمعلومات السريعة عنها، بل أصبحت عقول معظمهم تعتمد الآن على البرامج الإلكترونية، حتّى في العمليات الحسابية البسيطة، وأصبحت آليات هذه البرامج هي صلات التواصل بين البشر بدلاً من التفاعل الشخصي المباشر، وكذلك ربّما في المنزل نفسه أو بمكان العمل المشترك.
ما يصنع “رأي” الناس في هذا العصر هو “المعلومات” وليس “العلم” و”المعرفة”، وهذا ما أدركته القوى التي تريد الهيمنة على شعوبٍ أخرى أو التحكّم في مسار أحداثها. وهنا أهمّية “المعرفة” التي يضعف دروها يوماً بعد يوم، وهنا أيضاً أهمّية “الحكمة” المغيَّبة إلى حدٍّ كبير. فبوجود “المعرفة” و”الحكمة” تخضع “المعلومات” لمصفاة العقل المدرِك لغايات “المعلومات” ولأهداف أصحابها ولكيفيّة التعامل معها. ف”المعلومات” قد تجعل الظالم مظلوماً والعكس صحيح، وقد تُحوّل الصديق عدواً والعكس صحيح أيضاً. لكن “المعرفة” و”الحكمة” لا تسمحان بذلك.
(4)
إنّ بلدان المنطقة العربية تعاني الآن من حالٍ خطير من هبوط مستوى العلم والتعليم والمعرفة. والأمر لم يعد يرتبط فقط بمستوى الأمّية الذي يزداد ارتفاعاً في عدّة بلدان عربية، بل أيضاً بانحدار مستوى التعليم نفسه، وبهيمنة فتاوى ومفاهيم دينية تُعبّر عن “جاهلية” جديدة  تُخالف حقيقة الدين ومقاصده.
فمشكلة البلاد العربية، والعالم الإسلامي عموماً، ليست في مواجهة الجهل بمعناه العلمي فقط، بل أيضاً في حال “الجاهلية” التي عادت للعرب والمسلمين بأشكال مختلفة، وعلى مدى قرون من الزمن توقّف فيها الاجتهاد وسادت فيها قيود فكرية وتقاليد وعادات ومفاهيم هي من رواسب عصر “الجاهلية”.
هنا تصبح مسؤولية الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، لا في تحسين مستويات التعليم ومراكز البحث العلمي فقط، بل بالمساهمة أيضاً في وضع لبنات لنهضة عربية جديدة، ترفع الأمّة من حال الانحطاط والانقسام والتخلّف إلى عصر ينتهج المنهج العلمي في أموره الحياتية ويعتمد العقل والمعرفة السليمة في فهم الماضي والحاضر، وفي بناء المستقبل، وفي التعامل مع ما يُنشر من فتاوى ومسائل ترتبط بالعقائد الدينية.
(5)
عاملٌ آخر يزيد الآن من حال الانحطاط في المنطقة العربية، وهو “نزيف الأدمغة العربية”، حيث ترتفع سنوياً نسبة هجرة الشباب العربي إلى الخارج واستقرار عددٍ كبير من الكفاءات العلمية العربية في دول الغرب. لكن المشكلة  ليست في مكان “الأدمغة العربية” الآن، بل في دور هذه الكفاءات العربية وفي كيفيّة رؤيتها لنفسها ولهويّتها، وفيما تفعله أينما كانت لخدمة أوطانها. فقد كان لوجود عقول عربية وإسلامية في أوروبا وأميركا في مطلع القرن العشرين الأثر الإيجابي على البلاد العربية وعلى العالم الإسلامي، كما حصل في تجربة الشيخ محمد عبده في باريس، أو في تجربة “الرابطة القلمية” في نيويورك.
فالسفر والمهجر ليسا مانعاً من التواصل مع المنطقة العربية والأوطان الأصلية أو مع قضايا الأمّة عموماً، خاصّةً في عصر “العولمة” و”المعلوماتية” الذي نعيشه، بل على العكس، فإنّ الوجود العربي في الغرب قد يتيح فرصاً أكبر للتأثير والفعالية في الشرق والغرب معاً. فهناك “عقول عربية” مقيمة في المنطقة العربية ولكنّها تخدم غير العرب، وهناك “عقول عربية” مقيمة في الخارج لكنّها في ذروة عطائها للحقوق والقضايا العربية.
صبحي غندور*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن
[email protected]