صواريخ إيران و دمار إسرائيل

أربعاء, 2025-06-25 14:04

في طول التاريخ، كانت الأنظمة الإقليمية والعالمية تتشكّل من خلال عوامل متعددة مثل الاقتصاد، والثقافة، والجغرافيا السياسية، وقضايا أخرى يمكن أن تكون مؤثّرة، لكن في النهاية، هذه الحروب هي التي تقول الكلمة الأخيرة وتحدّد مصير النظام القديم والجديد. وفي هذه اللحظة وهذه الظروف، تنهار وهم الهيمنة ويولد واقع جديد من رحم النار والرماد. إنّ الحرب الجارية اليوم في غرب آسيا ليست سوى عودة ظهور لقوة كانت تُعِدّ نفسها منذ أربعة عقود لتُعلِن من قلب الدمار بداية نهاية النظام العالمي الأحادي المرتبط بالإمبراطورية الأمريكية والاستعمار الغربي وجيشه الوكيل، أي إسرائيل.

لم تكن حرب طوفان الأقصى مجرّد عملية فلسطينية؛ بل كانت شرارة حرب وجودية دخلت فيها إيران ومحور المقاومة في مواجهة علنية مع الحلف العبري-الصليبي بقيادة أمريكا والاستعمار الغربي و”إسرائيل”، ومن ورائهم الفصائل العربية الخائنة. إنها حرب قد تغيّر المعادلات الجغرافية، وحدود الدول، ونفسيات الشعوب.

مازیار شکوری

في طول التاريخ، كانت الأنظمة الإقليمية والعالمية تتشكّل من خلال عوامل متعددة مثل الاقتصاد، والثقافة، والجغرافيا السياسية، وقضايا أخرى يمكن أن تكون مؤثّرة، لكن في النهاية، هذه الحروب هي التي تقول الكلمة الأخيرة وتحدّد مصير النظام القديم والجديد. وفي هذه اللحظة وهذه الظروف، تنهار وهم الهيمنة ويولد واقع جديد من رحم النار والرماد. إنّ الحرب الجارية اليوم في غرب آسيا ليست سوى عودة ظهور لقوة كانت تُعِدّ نفسها منذ أربعة عقود لتُعلِن من قلب الدمار بداية نهاية النظام العالمي الأحادي المرتبط بالإمبراطورية الأمريكية والاستعمار الغربي وجيشه الوكيل، أي إسرائيل.

لم تكن حرب طوفان الأقصى مجرّد عملية فلسطينية؛ بل كانت شرارة حرب وجودية دخلت فيها إيران ومحور المقاومة في مواجهة علنية مع الحلف العبري-الصليبي بقيادة أمريكا والاستعمار الغربي و”إسرائيل”، ومن ورائهم الفصائل العربية الخائنة. إنها حرب قد تغيّر المعادلات الجغرافية، وحدود الدول، ونفسيات الشعوب.

بعد انتصار الثورة الإيرانية وسقوط نظام الشاه، كانت إيران هي التي قادت محور المقاومة من الظلّ، وسعت إلى البناء، والتعليم، والتخطيط لتحقيق أهداف المقاومة وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر. وعندما تجاوز الكيان الصهيوني كلّ الخطوط الأمامية واغتال عناصر إيرانية ولبنانية وفلسطينية من دمشق حتى قلب طهران، ووسّع عملياته السيبرانية ضد المنشآت الحساسة في إيران، لم يكن أمام إيران من خيار سوى الردّ. لكنّ الرد لم يكن مجرد صاروخ؛ بل كان عقيدة شاملة تم تنفيذ جزء منها. وتقول هذه العقيدة: إذا اقترب العدو من قلبك، فاضرب قلبه دون تردّد.

أعلنت إيران من دون خجل دخولها المباشر في الحرب، لأنها لم تكن تخشى المواجهة، بل كانت قد أعدّت نفسها منذ زمن طويل لمثل هذه اللحظات المصيرية، وكانت تنتظرها. اللحظة التي تُثبت فيها أن محور المقاومة لا يقتصر على الدفاع، بل يمتلك القدرة على البدء، والهجوم، وتغيير شكل المنطقة.

لقد وُجّهت الضربة القاضية واللكمة القوية من إيران إلى قلب العدو في الحرب الأخيرة التي استمرت ١٢ يوماً. لذلك، من المهم جداً مراجعة جوانب هذه الحرب المختلفة وتأثيراتها على إيران ومحور المقاومة من جهة، وعلى المحور العبري-الصليبي الاستعماري من جهة أخرى، وكذلك على منطقة غرب آسيا والعالم.

لقد كان المحور العبري-الصليبي الاستعماري بقيادة واشنطن وتل أبيب يظن أنه قادر على تكرار نموذج ليبيا في إيران من خلال إنشاء شبكات داخلية من العملاء والخونة، كان بعضهم من الإيرانيين المنخرطين في مشاريع عدائية، وبعضهم الآخر من المهاجرين الأفغان الذين جندهم الموساد واستخدمهم كأدوات داخلية. لقد كانت هذه الخطة مصمّمة بعناية: تهريب طائرات مسيّرة صغيرة وقطع إلكترونية إلى داخل البلاد، استخدام شبكات لوجستية للاتصالات بهدف خلق الفوضى، اغتيال كبار القادة العسكريين الإيرانيين، ثم تحريك الاحتجاجات لزعزعة استقرار البلاد من الداخل وتهيئة الأرضية لتفكيكها على أساس قومي.

لم يكتفِ العدو بإنشاء شبكات واسعة من النفوذ والعملاء الذين هاجموا كل مكان باستخدام الطائرات الصغيرة والمسيّرات داخل البلاد، بل سعى كذلك لزعزعة استقرار المجتمع الإيراني وخلق الفوضى. بل وصل به الأمر إلى أن عملاءه كانوا يشعلون النيران في زوايا الخراب هنا وهناك لإثارة الدخان وإخافة الناس، وإيهامهم بأن “إسرائيل” قد ضربت نقطةً ما في طهران أو في مناطق أخرى من البلاد. لقد كان العدو يُفعّل حرباً نفسية وإعلامية.

لقد تمكّن العدو من اختراق الدفاعات الجوية الإيرانية، وأصبح سماء إيران بلا حماية، ومع ذلك لم يتفكك المجتمع الإيراني، بل أظهرت القيادة الإيرانية صبراً وحكمةً، وأعادت ترتيب صفوفها وأعلنت عن تموضعها الجديد أمام العالم خلال أقل من ١٢ ساعة. وفي مساء نفس اليوم، ظهر قائد إيران على شاشة التلفزيون، وخاطب الشعب الإيراني قائلاً:

“النظام الصهيوني الخبيث والدنيء ارتكب خطأً كبيراً سيكلفه غالياً، وستكون عواقبه وبالاً عليه. فليطمئنّ الشعب الإيراني العظيم بأنّ القوات المسلحة، وبدعم منه، ستعمل بقوة، وستوجّه ضربات قاسية لهذا الكيان، ولن ينجو من هذه الخباثة الكبرى دون عقاب… لا يظنّوا أنهم ضربوا وانتهى الأمر. إنهم هم من بدأوا العمل وأشعلوا الحرب، ولن نسمح لهم أن يفلتوا من هذه الجريمة الكبرى دون حساب”

وبعد هذا الخطاب من قائد إيران، آية الله خامنئي، بدأت أولى الضربات الصاروخية الإيرانية، وسُحِقَ العمق الإسرائيلي، بما في ذلك تل أبيب وحيفا، بقوة. لقد كانت مشاهد الدمار في تل أبيب وحيفا وغيرها من مناطق “إسرائيل” التي نُقلت إلى وسائل الإعلام العالمية، صادمة ومذهلة للجميع.

لقد دمّرت إيران تل أبيب وحيفا في الأيام الأولى من الحرب بشكل جعل وسائل الإعلام تُطلق عليهما اسم غزة، نظراً لحجم الخراب والدمار الذي حلّ بهما.

لأول مرة في التاريخ، تمكّنت دولة من توجيه ضربة عسكرية مباشرة ودمارية لـ”إسرائيل”، وهذه الهجمات لم تكن رمزية، بل كانت مدمّرة بكل معنى الكلمة. العدو كان يخطّط لتفكيك إيران من الداخل خلال بضعة أيام، لكنّ إيران، من تل أبيب إلى حيفا، ديمونا، أشدود، عسقلان، بئر السبع، نهاريا والنقب، دمّرت منازل ومراكز استراتيجية للعدو على رؤوسهم.

و في غضون ٤٨ ساعة فقط من الردّ الإيراني، تحوّلت المناطق الحيوية والرئيسية في “إسرائيل” إلى ساحات من النار والانفجارات. لقد استهدفت الصواريخ الإيرانية منشآت حساسة مثل مفاعل ديمونا النووي (حيث تمّ تدمير منشآت التبريد)، القواعد العسكرية مثل بالمخيم، مراكز القيادة والسيطرة في تل أبيب، مطار عسكري قرب اللد، ومنصات إطلاق صواريخ القبة الحديدية في النقب وحيفا، والتي شُلّت مؤقتاً. وقد أكدت التقارير الاستخبارية الغربية أنّ أكثر من ١١ مركزاً حيوياً في “إسرائيل” خرجت من الخدمة، واضطرّ الإسرائيليون لاستخدام أنظمة بديلة خُصّصت فقط لحالات الطوارئ القصوى.

كما شنّت إيران هجوماً على مصفاة نفط حيفا، مما أدى إلى توقفها عن العمل، واستهدفت محطة كهرباء عسقلان وعدداً من البنى التحتية والمواقع الاستراتيجية الأخرى، مُوقعةً ضربات موجعة في جسد العدو.

و قد اعتمدت إيران في هذه المعركة على عمقها الجغرافي والبشري والاقتصادي، وعلى شبكة الدعم الإقليمي التي تبدأ من حزب الله في الشمال، مروراً بالمقاومة الفلسطينية في المركز، وصولاً إلى أنصار الله في الجنوب. وكانت إيران مستعدةً لحرب استنزاف طويلة الأمد.

أمّاإسرائيل، فكانت محرومة حتى من الحد الأدنى من العمق الاستراتيجي. فبهذه المساحة التي لا تتجاوز ٢٢ ألف كيلومتر مربع، لم يكن بوسعها تحريك قواتها دون انكشاف، ولم تكن قادرة على تحمّل أسبوعٍ واحد من الضربات الإيرانية العنيفة، وهو ما حصل فعلاً. انهيار منظومة الدفاع الصاروخي، وانهيار الجبهة الداخلية، وتشريد مئات الآلاف نحو الملاجئ، كانت عوامل دفعت القيادة السياسية والأمنية الإسرائيلية إلى التوسّل لوقف إطلاق النار عبر باريس و واشنطن.

كما أنّ إيران، ومنذ أشهر، وبسبب اتّساعها الجغرافي، قامت بإخلاء مواقعها الاستراتيجية ونقلها إلى أماكن سرّية، في حين لم يكن بإمكان إسرائيل، بسبب ضيق المساحة الجغرافية، تنفيذ هذا النوع من الإجراءات، حيث كانت جميع منشآتها مجمّعة في نطاق ضيّق، مما جعلها عرضة مباشرة للصواريخ الإيرانية المدمّرة، بينما تمكّنت إيران من تقليل خسائرها إلى الحدّ الأدنى. لقد وُضعت إسرائيل بالكامل تحت مرمى النيران، ولم يكن لديها طريق للهروب.

ومع تصاعد الهجمات الصاروخية الإيرانية، بدأت موجات الهجرة الجماعية. أظهرت إحصاءات المعابر الحدودية والموانئ أنّ عشرات الآلاف من الإسرائيليين غادروا نحو أوروبا، لا سيما إلى ألمانيا وفرنسا. كما تمّ تسجيل حالات عبور غير قانوني عبر البحر نحو قبرص، حيث شوهدت قوارب مليئة بالمستوطنين تائهة في البحر الأبيض المتوسط. كانت هذه المرّة الأولى منذ عام 1948 التي شعر فيها الإسرائيليون بأنهم بلا وطن.

وقد ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمئات المقاطع التي تُظهر أطفالاً إسرائيليين يبكون في الملاجئ، ونساء يصرخن قائلين: “أين الدولة؟ أين الجيش؟”. لقد أذاقت إيران المحتلين كأس “التهجير بالتهجير”، ولأوّل مرة، واجه المحتلون واقع البيوت المهدّمة والنزوح الجماعي.

لكنّ الأهم من الانتصار العسكري، كان الانتصار الأخلاقي والسياسي لإيران، إذ أثبتت أنّها الدولة الإسلامية الوحيدة القادرة على ضرب قلب المحتلين والاستعمار، والدولة الوحيدة التي لا تساوم على دماء الفلسطينيين. لقد توحّد المسلمون، من جاكرتا إلى طنجة، حول نموذج المقاومة الثورية هذا.

كما سقطت خطابات الحركات السلفية التي طالما روّجت لفكرة “خطر الرافضة” وتشويه صورة التشيّع، أمام الواقع. فلم يعد بوسعهم تبرير صمتهم، بينما كانت إيران تقصف تل أبيب باسم فلسطين بالصواريخ. وكذلك، فإنّ أشخاصاً من أمثال أحمد عويدات باتوا مُلزمين بالصمت، لأنّ أقلامهم المعادية لإيران لن تجد قرّاء، وأصواتهم المعادية لإيران لن تجد من يصغي إليهم.

كانت تل أبيب تنهار تحت وابل من الصواريخ الإيرانية الدقيقة، بينما كان “القبة الحديدية” يبكي في صمت، والملاجئ تمتلئ بالسكان الذين لم يمضِ سوى بضعة أسابيع على هتافهم بأنّ أمنهم “مقدّس” وأنّ الحرب لن تصل إليهم. وكلما كثّفت إيران ضرباتها، كلما أصبحت الحقيقة أكثر مرارة: إسرائيل، بصورتها العسكرية المبالغ فيها، لم تستطع تحمّل الحرب مع إيران حتّى لبضعة أيام.

أمام هذا الواقع، وجدت إسرائيل نفسها بين خيارين: إمّا التدخّل المباشر من قِبل الولايات المتحدة، أو القبول بوقف فوري لإطلاق النار حفاظًا على ماء الوجه. غير أنّ الخيار الثاني، رغم كونه أكثر واقعية، كان يعني خسارة “إسرائيل” لهيبتها العسكرية والأمنية أمام العالم، والأهم من ذلك أمام أعين المستوطنين أنفسهم.

أمّا الخيار الأول، أي تدخّل أمريكا، فكان أكثر بهرجةً من حيث المظهر. لكن العمق الاستراتيجي في واشنطن، لا سيّما في البيت الأبيض بقيادة ترامب، لم يرَ في الدخول في حرب علنية مع إيران سوى مستنقع جديد، مستنقع قد ينهي المشروع الأمريكي في المنطقة إلى الأبد.

لقد أثبتت إيران أنها لا تهاجم فقط، بل تُحسن إدارة الاشتباك. لم تكن إيران دولة يمكن إسقاطها بهجوم خاطف أو بحصار طويل الأمد. لم تكن العراق عام 2003، ولا ليبيا عام 2011، بل كانت دولةً تحمل نظامًا أيديولوجيًا، وتملك شبكة حلفاء تمتد من الخليج إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط.

لذلك كان العرض الذي يستحقه فخر أمة مهزومة يمكن أن يُقدَّم للعالم كعرض قوة، لكنه في الواقع كان يعمل كجسر لوقف إطلاق النار. بناءً على ذلك، قرر ترامب تنفيذ هجوم جوي ثلاثي على المنشآت النووية الإيرانية، ومن ثم تقديمه كرسالة تحذيرية جدية، مما يمهّد الطريق لوقف إطلاق النار وينقذ الوجه المتعب لإسرائيل.

من هنا، شنّت الطائرات الحربية الأمريكية هجمات على المنشآت النووية في نطنز وأصفهان وفردو. لكن نطنز وأصفهان تم إخلاؤهما قبل أشهر بعد أن شعرت طهران بالنوايا المتعمدة من واشنطن وتل أبيب. أما فردو فهي منشأة تقع في عمق ٨٠٠ متر داخل قلب الجبل، قلعة تحت الأرض لا يمكن للقنابل التقليدية أو حتى القنابل النفّاذة دون تفجير نووي أن تصل إليها.

النتيجة؟ سقطت الصواريخ على مبانٍ فارغة واخترقت الأرض من الأعلى، وصوّرت وسائل الإعلام الغبار على أنه إنجاز استراتيجي. ومع ذلك، فإن الحقيقة التي فرّت من كاميرات التصوير ظهرت لاحقًا في تصريحات الصحفيين والمراقبين الدوليين.

كتب مارتن إنديك، السفير الأمريكي السابق: “كان الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية عرضيًا أكثر من كونه عملاً عسكريًا. لم تتعرض أي من الأهداف الحيوية لأضرار حقيقية.”

قال الجنرال المتقاعد بول إيتون: “إذا كانت أمريكا تريد تدمير المنشآت النووية، عليها أن تبدأ حربًا برية. إيران ليست سوريا.”

قالت صحيفة لوموند الفرنسية نقلاً عن مصدر دبلوماسي رفيع: “ما فعله ترامب كان خدمة محسوبة لإنقاذ إسرائيل، لا أكثر.”

تحول هذا الهجوم إلى فقاعة إعلامية.

وهنا، ردّت إيران على انتهاك مجالها الجوي بهجوم على مركز قيادة القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم)، أي قاعدة العديد الأمريكية في قطر.

وكان للهجوم ثلاثة رسائل:

رسالة إلى أمريكا: قواعدكم ليست خارج ساحة المعركة، وطالما أنكم تحاربوننا، فلن تكونوا بأمان.

رسالة إلى أنظمة الخليج: الاتفاقات الدفاعية معكم وواشنطن لن تحميكم. من يلجأ إلى عدوّنا سيواجه العواقب.

رسالة إلى شعوب المنطقة: إيران قادرة على الوصول إلى أي هدف، حتى وإن كان مختبئًا تحت راية أمريكا.

اضطرت القيادة المركزية الأمريكية إلى نقل مركز التنسيق العملياتي مؤقتًا إلى قاعدة إنجرليك الجوية في تركيا، وهو واقع أكدته صحيفة واشنطن بوست في تقريرها عن “حيرة الجيش الأمريكي بعد الهجوم”.

النتيجة:

من هنا تُولد خرائط جديدة. ما يحدث اليوم في غرب آسيا ليس حربًا عابرة، بل لحظة تأسيس عالم جديد، عالم لا تكون فيه أمريكا وحدها صانعة القرار، ولا يضمن فيه الكيان الصهيوني مستقبله، ولا تبقى الجغرافيا العربية ملعبًا للاستعمار والهيمنة.

لقد أثبتت إيران بكل قوتها الدينية والعسكرية والاستراتيجية أنها ليست مجرد لاعب إقليمي، بل قطب عالمي جديد. وإذا تحقّق هذا النصر اليوم بالصواريخ، فغدًا سيكون النصر في السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة.

ببطء نرى نهاية النظام الاستعماري الغربي وبداية عصر جديد… عصر المقاومة المنتصرة.

طبعاً لا ننسى أن إسرائيل في وضعٍ حرج، ووجودها وكرامتها مهددان بسبب هذه الهزيمة، ولهذا من المحتمل أن تنتهك وقف إطلاق النار مرة أخرى وتبدأ الحرب من جديد، ولكن النتيجة لإسرائيل لن تكون إلا هزيمة جديدة، وبالتأكيد نصرًا آخر وأكثر حسمًا لإيران.

كاتب ايراني

بعد انتصار الثورة الإيرانية وسقوط نظام الشاه، كانت إيران هي التي قادت محور المقاومة من الظلّ، وسعت إلى البناء، والتعليم، والتخطيط لتحقيق أهداف المقاومة وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر. وعندما تجاوز الكيان الصهيوني كلّ الخطوط الأمامية واغتال عناصر إيرانية ولبنانية وفلسطينية من دمشق حتى قلب طهران، ووسّع عملياته السيبرانية ضد المنشآت الحساسة في إيران، لم يكن أمام إيران من خيار سوى الردّ. لكنّ الرد لم يكن مجرد صاروخ؛ بل كان عقيدة شاملة تم تنفيذ جزء منها. وتقول هذه العقيدة: إذا اقترب العدو من قلبك، فاضرب قلبه دون تردّد.

أعلنت إيران من دون خجل دخولها المباشر في الحرب، لأنها لم تكن تخشى المواجهة، بل كانت قد أعدّت نفسها منذ زمن طويل لمثل هذه اللحظات المصيرية، وكانت تنتظرها. اللحظة التي تُثبت فيها أن محور المقاومة لا يقتصر على الدفاع، بل يمتلك القدرة على البدء، والهجوم، وتغيير شكل المنطقة.

لقد وُجّهت الضربة القاضية واللكمة القوية من إيران إلى قلب العدو في الحرب الأخيرة التي استمرت ١٢ يوماً. لذلك، من المهم جداً مراجعة جوانب هذه الحرب المختلفة وتأثيراتها على إيران ومحور المقاومة من جهة، وعلى المحور العبري-الصليبي الاستعماري من جهة أخرى، وكذلك على منطقة غرب آسيا والعالم.

لقد كان المحور العبري-الصليبي الاستعماري بقيادة واشنطن وتل أبيب يظن أنه قادر على تكرار نموذج ليبيا في إيران من خلال إنشاء شبكات داخلية من العملاء والخونة، كان بعضهم من الإيرانيين المنخرطين في مشاريع عدائية، وبعضهم الآخر من المهاجرين الأفغان الذين جندهم الموساد واستخدمهم كأدوات داخلية. لقد كانت هذه الخطة مصمّمة بعناية: تهريب طائرات مسيّرة صغيرة وقطع إلكترونية إلى داخل البلاد، استخدام شبكات لوجستية للاتصالات بهدف خلق الفوضى، اغتيال كبار القادة العسكريين الإيرانيين، ثم تحريك الاحتجاجات لزعزعة استقرار البلاد من الداخل وتهيئة الأرضية لتفكيكها على أساس قومي.

لم يكتفِ العدو بإنشاء شبكات واسعة من النفوذ والعملاء الذين هاجموا كل مكان باستخدام الطائرات الصغيرة والمسيّرات داخل البلاد، بل سعى كذلك لزعزعة استقرار المجتمع الإيراني وخلق الفوضى. بل وصل به الأمر إلى أن عملاءه كانوا يشعلون النيران في زوايا الخراب هنا وهناك لإثارة الدخان وإخافة الناس، وإيهامهم بأن “إسرائيل” قد ضربت نقطةً ما في طهران أو في مناطق أخرى من البلاد. لقد كان العدو يُفعّل حرباً نفسية وإعلامية.

لقد تمكّن العدو من اختراق الدفاعات الجوية الإيرانية، وأصبح سماء إيران بلا حماية، ومع ذلك لم يتفكك المجتمع الإيراني، بل أظهرت القيادة الإيرانية صبراً وحكمةً، وأعادت ترتيب صفوفها وأعلنت عن تموضعها الجديد أمام العالم خلال أقل من ١٢ ساعة. وفي مساء نفس اليوم، ظهر قائد إيران على شاشة التلفزيون، وخاطب الشعب الإيراني قائلاً:

“النظام الصهيوني الخبيث والدنيء ارتكب خطأً كبيراً سيكلفه غالياً، وستكون عواقبه وبالاً عليه. فليطمئنّ الشعب الإيراني العظيم بأنّ القوات المسلحة، وبدعم منه، ستعمل بقوة، وستوجّه ضربات قاسية لهذا الكيان، ولن ينجو من هذه الخباثة الكبرى دون عقاب… لا يظنّوا أنهم ضربوا وانتهى الأمر. إنهم هم من بدأوا العمل وأشعلوا الحرب، ولن نسمح لهم أن يفلتوا من هذه الجريمة الكبرى دون حساب”

وبعد هذا الخطاب من قائد إيران، آية الله خامنئي، بدأت أولى الضربات الصاروخية الإيرانية، وسُحِقَ العمق الإسرائيلي، بما في ذلك تل أبيب وحيفا، بقوة. لقد كانت مشاهد الدمار في تل أبيب وحيفا وغيرها من مناطق “إسرائيل” التي نُقلت إلى وسائل الإعلام العالمية، صادمة ومذهلة للجميع.

لقد دمّرت إيران تل أبيب وحيفا في الأيام الأولى من الحرب بشكل جعل وسائل الإعلام تُطلق عليهما اسم غزة، نظراً لحجم الخراب والدمار الذي حلّ بهما.

لأول مرة في التاريخ، تمكّنت دولة من توجيه ضربة عسكرية مباشرة ودمارية لـ”إسرائيل”، وهذه الهجمات لم تكن رمزية، بل كانت مدمّرة بكل معنى الكلمة. العدو كان يخطّط لتفكيك إيران من الداخل خلال بضعة أيام، لكنّ إيران، من تل أبيب إلى حيفا، ديمونا، أشدود، عسقلان، بئر السبع، نهاريا والنقب، دمّرت منازل ومراكز استراتيجية للعدو على رؤوسهم.

و في غضون ٤٨ ساعة فقط من الردّ الإيراني، تحوّلت المناطق الحيوية والرئيسية في “إسرائيل” إلى ساحات من النار والانفجارات. لقد استهدفت الصواريخ الإيرانية منشآت حساسة مثل مفاعل ديمونا النووي (حيث تمّ تدمير منشآت التبريد)، القواعد العسكرية مثل بالمخيم، مراكز القيادة والسيطرة في تل أبيب، مطار عسكري قرب اللد، ومنصات إطلاق صواريخ القبة الحديدية في النقب وحيفا، والتي شُلّت مؤقتاً. وقد أكدت التقارير الاستخبارية الغربية أنّ أكثر من ١١ مركزاً حيوياً في “إسرائيل” خرجت من الخدمة، واضطرّ الإسرائيليون لاستخدام أنظمة بديلة خُصّصت فقط لحالات الطوارئ القصوى.

كما شنّت إيران هجوماً على مصفاة نفط حيفا، مما أدى إلى توقفها عن العمل، واستهدفت محطة كهرباء عسقلان وعدداً من البنى التحتية والمواقع الاستراتيجية الأخرى، مُوقعةً ضربات موجعة في جسد العدو.

و قد اعتمدت إيران في هذه المعركة على عمقها الجغرافي والبشري والاقتصادي، وعلى شبكة الدعم الإقليمي التي تبدأ من حزب الله في الشمال، مروراً بالمقاومة الفلسطينية في المركز، وصولاً إلى أنصار الله في الجنوب. وكانت إيران مستعدةً لحرب استنزاف طويلة الأمد.

أمّاإسرائيل، فكانت محرومة حتى من الحد الأدنى من العمق الاستراتيجي. فبهذه المساحة التي لا تتجاوز ٢٢ ألف كيلومتر مربع، لم يكن بوسعها تحريك قواتها دون انكشاف، ولم تكن قادرة على تحمّل أسبوعٍ واحد من الضربات الإيرانية العنيفة، وهو ما حصل فعلاً. انهيار منظومة الدفاع الصاروخي، وانهيار الجبهة الداخلية، وتشريد مئات الآلاف نحو الملاجئ، كانت عوامل دفعت القيادة السياسية والأمنية الإسرائيلية إلى التوسّل لوقف إطلاق النار عبر باريس و واشنطن.

كما أنّ إيران، ومنذ أشهر، وبسبب اتّساعها الجغرافي، قامت بإخلاء مواقعها الاستراتيجية ونقلها إلى أماكن سرّية، في حين لم يكن بإمكان إسرائيل، بسبب ضيق المساحة الجغرافية، تنفيذ هذا النوع من الإجراءات، حيث كانت جميع منشآتها مجمّعة في نطاق ضيّق، مما جعلها عرضة مباشرة للصواريخ الإيرانية المدمّرة، بينما تمكّنت إيران من تقليل خسائرها إلى الحدّ الأدنى. لقد وُضعت إسرائيل بالكامل تحت مرمى النيران، ولم يكن لديها طريق للهروب.

ومع تصاعد الهجمات الصاروخية الإيرانية، بدأت موجات الهجرة الجماعية. أظهرت إحصاءات المعابر الحدودية والموانئ أنّ عشرات الآلاف من الإسرائيليين غادروا نحو أوروبا، لا سيما إلى ألمانيا وفرنسا. كما تمّ تسجيل حالات عبور غير قانوني عبر البحر نحو قبرص، حيث شوهدت قوارب مليئة بالمستوطنين تائهة في البحر الأبيض المتوسط. كانت هذه المرّة الأولى منذ عام 1948 التي شعر فيها الإسرائيليون بأنهم بلا وطن.

وقد ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمئات المقاطع التي تُظهر أطفالاً إسرائيليين يبكون في الملاجئ، ونساء يصرخن قائلين: “أين الدولة؟ أين الجيش؟”. لقد أذاقت إيران المحتلين كأس “التهجير بالتهجير”، ولأوّل مرة، واجه المحتلون واقع البيوت المهدّمة والنزوح الجماعي.

لكنّ الأهم من الانتصار العسكري، كان الانتصار الأخلاقي والسياسي لإيران، إذ أثبتت أنّها الدولة الإسلامية الوحيدة القادرة على ضرب قلب المحتلين والاستعمار، والدولة الوحيدة التي لا تساوم على دماء الفلسطينيين. لقد توحّد المسلمون، من جاكرتا إلى طنجة، حول نموذج المقاومة الثورية هذا.

كما سقطت خطابات الحركات السلفية التي طالما روّجت لفكرة “خطر الرافضة” وتشويه صورة التشيّع، أمام الواقع. فلم يعد بوسعهم تبرير صمتهم، بينما كانت إيران تقصف تل أبيب باسم فلسطين بالصواريخ. وكذلك، فإنّ أشخاصاً من أمثال أحمد عويدات باتوا مُلزمين بالصمت، لأنّ أقلامهم المعادية لإيران لن تجد قرّاء، وأصواتهم المعادية لإيران لن تجد من يصغي إليهم.

كانت تل أبيب تنهار تحت وابل من الصواريخ الإيرانية الدقيقة، بينما كان “القبة الحديدية” يبكي في صمت، والملاجئ تمتلئ بالسكان الذين لم يمضِ سوى بضعة أسابيع على هتافهم بأنّ أمنهم “مقدّس” وأنّ الحرب لن تصل إليهم. وكلما كثّفت إيران ضرباتها، كلما أصبحت الحقيقة أكثر مرارة: إسرائيل، بصورتها العسكرية المبالغ فيها، لم تستطع تحمّل الحرب مع إيران حتّى لبضعة أيام.

أمام هذا الواقع، وجدت إسرائيل نفسها بين خيارين: إمّا التدخّل المباشر من قِبل الولايات المتحدة، أو القبول بوقف فوري لإطلاق النار حفاظًا على ماء الوجه. غير أنّ الخيار الثاني، رغم كونه أكثر واقعية، كان يعني خسارة “إسرائيل” لهيبتها العسكرية والأمنية أمام العالم، والأهم من ذلك أمام أعين المستوطنين أنفسهم.

أمّا الخيار الأول، أي تدخّل أمريكا، فكان أكثر بهرجةً من حيث المظهر. لكن العمق الاستراتيجي في واشنطن، لا سيّما في البيت الأبيض بقيادة ترامب، لم يرَ في الدخول في حرب علنية مع إيران سوى مستنقع جديد، مستنقع قد ينهي المشروع الأمريكي في المنطقة إلى الأبد.

لقد أثبتت إيران أنها لا تهاجم فقط، بل تُحسن إدارة الاشتباك. لم تكن إيران دولة يمكن إسقاطها بهجوم خاطف أو بحصار طويل الأمد. لم تكن العراق عام 2003، ولا ليبيا عام 2011، بل كانت دولةً تحمل نظامًا أيديولوجيًا، وتملك شبكة حلفاء تمتد من الخليج إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط.

لذلك كان العرض الذي يستحقه فخر أمة مهزومة يمكن أن يُقدَّم للعالم كعرض قوة، لكنه في الواقع كان يعمل كجسر لوقف إطلاق النار. بناءً على ذلك، قرر ترامب تنفيذ هجوم جوي ثلاثي على المنشآت النووية الإيرانية، ومن ثم تقديمه كرسالة تحذيرية جدية، مما يمهّد الطريق لوقف إطلاق النار وينقذ الوجه المتعب لإسرائيل.

من هنا، شنّت الطائرات الحربية الأمريكية هجمات على المنشآت النووية في نطنز وأصفهان وفردو. لكن نطنز وأصفهان تم إخلاؤهما قبل أشهر بعد أن شعرت طهران بالنوايا المتعمدة من واشنطن وتل أبيب. أما فردو فهي منشأة تقع في عمق ٨٠٠ متر داخل قلب الجبل، قلعة تحت الأرض لا يمكن للقنابل التقليدية أو حتى القنابل النفّاذة دون تفجير نووي أن تصل إليها.

النتيجة؟ سقطت الصواريخ على مبانٍ فارغة واخترقت الأرض من الأعلى، وصوّرت وسائل الإعلام الغبار على أنه إنجاز استراتيجي. ومع ذلك، فإن الحقيقة التي فرّت من كاميرات التصوير ظهرت لاحقًا في تصريحات الصحفيين والمراقبين الدوليين.

كتب مارتن إنديك، السفير الأمريكي السابق: “كان الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية عرضيًا أكثر من كونه عملاً عسكريًا. لم تتعرض أي من الأهداف الحيوية لأضرار حقيقية.”

قال الجنرال المتقاعد بول إيتون: “إذا كانت أمريكا تريد تدمير المنشآت النووية، عليها أن تبدأ حربًا برية. إيران ليست سوريا.”

قالت صحيفة لوموند الفرنسية نقلاً عن مصدر دبلوماسي رفيع: “ما فعله ترامب كان خدمة محسوبة لإنقاذ إسرائيل، لا أكثر.”

تحول هذا الهجوم إلى فقاعة إعلامية.

وهنا، ردّت إيران على انتهاك مجالها الجوي بهجوم على مركز قيادة القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم)، أي قاعدة العديد الأمريكية في قطر.

وكان للهجوم ثلاثة رسائل:

رسالة إلى أمريكا: قواعدكم ليست خارج ساحة المعركة، وطالما أنكم تحاربوننا، فلن تكونوا بأمان.

رسالة إلى أنظمة الخليج: الاتفاقات الدفاعية معكم وواشنطن لن تحميكم. من يلجأ إلى عدوّنا سيواجه العواقب.

رسالة إلى شعوب المنطقة: إيران قادرة على الوصول إلى أي هدف، حتى وإن كان مختبئًا تحت راية أمريكا.

اضطرت القيادة المركزية الأمريكية إلى نقل مركز التنسيق العملياتي مؤقتًا إلى قاعدة إنجرليك الجوية في تركيا، وهو واقع أكدته صحيفة واشنطن بوست في تقريرها عن “حيرة الجيش الأمريكي بعد الهجوم”.

النتيجة:

من هنا تُولد خرائط جديدة. ما يحدث اليوم في غرب آسيا ليس حربًا عابرة، بل لحظة تأسيس عالم جديد، عالم لا تكون فيه أمريكا وحدها صانعة القرار، ولا يضمن فيه الكيان الصهيوني مستقبله، ولا تبقى الجغرافيا العربية ملعبًا للاستعمار والهيمنة.

لقد أثبتت إيران بكل قوتها الدينية والعسكرية والاستراتيجية أنها ليست مجرد لاعب إقليمي، بل قطب عالمي جديد. وإذا تحقّق هذا النصر اليوم بالصواريخ، فغدًا سيكون النصر في السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة.

ببطء نرى نهاية النظام الاستعماري الغربي وبداية عصر جديد… عصر المقاومة المنتصرة.

طبعاً لا ننسى أن إسرائيل في وضعٍ حرج، ووجودها وكرامتها مهددان بسبب هذه الهزيمة، ولهذا من المحتمل أن تنتهك وقف إطلاق النار مرة أخرى وتبدأ الحرب من جديد، ولكن النتيجة لإسرائيل لن تكون إلا هزيمة جديدة، وبالتأكيد نصرًا آخر وأكثر حسمًا لإيران.

مازیار شکوری كاتب ايراني