يُحكى أنه قبل الحرب العالمية الأولى، انطلقت سفينة شحن عثمانية، من اسطنبول إلى “أم قصر” جنوب العراق، محملة بعدد كبير من البغال، التي تحتاجها قطعات الجيش العثماني، جنوب العراق وشمال شرق الجزيرة العراقية. فالبغل كان من أهم وسائل النقل العسكرية حينها، لقدرته على حمل الأوزان الثقيلة.
كانت السفينة كبيرة الحجم وعلى سطحها مساحة واسعة للتحميل. وكان يتم إخبار المسؤول عن إطعام البغال بواسطة “بوق” مثبت على السفينة. فعندما يسمع مسؤول إطعام البغال صوت البوق، يبدأ بفرش العلف للبغال. لم يكن مسؤول العلف هو الوحيد الذي يفهم متى الإطعام، وإنما فهمت البغال كذلك أنه بعد صوت البوق، سيحين وقت الطعام. وهكذا استمرت السفينة تبحر والبوق يصدح كل يوم مرتين، معلنا أن وقت إطعام البغال قد حان.
تأخرت السفينة بعبورها لقناة السويس، ولأن العلف قليل ومحسوب على مدة سفر تلك السفينة، أدى ذلك لشح في العلف. وعليه تم تخفيف علف البغال لمرة واحدة في اليوم. حينها بدأت البغال تجوع.. وبدأت تخبط بحوافرها أرض السفينة.. وازداد غضب البغال.. وازداد هياجها ونهيقها. فتداعى المسؤولون عن السفينة لعقد اجتماع طارئ، يبحثون فيه الأمر لتدارك الكارثة، كي لا تُحدث البغال كسرا في السفينة يؤدي لغرقها. هنا خطرت لأحد أفراد الطاقم فكرة ذكية، وهي أنه عندما تهيج البغال، يقوم مسؤول البوق بإطلاق صوت البوق، فتحسب البغال أن الطعام على وشك القدوم فتهدأ.
وهذا ما كان.. كلما هاجت البغال يُطلق صوت البوق فتهدأ البغال.. واستمرت الرحلة على هذا المنوال.. هياج للبغال.. صوت بوق.. هدوء للبغال.. ثم بعد سويعات هيجان للبغال.. صوت بوق.. هدوء للبغال.. فتات من علف الطعام.. حتى وصلت البغال للعراق، وانتهت الرحلة بسلام.. !
بعد النجاح الساحق، في سياسة ترويض البغال بهذه الخطة.. قامت دول العالم الثالث بتطبيق هذه السياسة على شعوبها المقهورة.. فعندما تجد الشعوب ضعفا في الخدمات.. وفسادا في الإدارات.. وسرقات من أموال الشعب.. وارتفاع في أسعار المشتقات البترولية.. وقلة في الدخل، وبطالة بين الشباب.. ووعود وهمية بالعلاج، ومساخر في كل شيء.. تبدأ عندها تلك الشعوب بالغضب والهجيان والصراخ، في المظاهرات ووسائل التواصل الاجتماعي.. حينها تأتي الأوامر: “أطلقوا الأبواق “.
فتبدأ الأبواق بالانطلاق معلنة من هنا وهناك: أن الأيام الجميلة قادمة.. انتظروا فإن الأزمة صبر ساعة.. المستقبل زاهر.. الأفق مشرق.. الأموال ستأتي.. الغاز المحلي سيستثمر.. خطط تطوير البلاد تعدها وزارات تطوير القطاع العام، تطوير القوى البشرية، الاستثمار الاقتصادي، لجنة تسعير المحروقات، وغيرها من الوزارات واللجان الأخرى.. فتفاءلوا بالخير تجدوه.. !
وتمضي الأيام والأشهر والسنوات.. وحكومة تعقب حكومة.. والوعود تتكرر.. والوضع الاقتصادي من سيء لأسوأ.. ولا يلمس المواطن غير الفتات.. والفتات يقل مع مرور الزمن.. وكلما شعر الناس بالظلم والقهر والفقر.. يأتيها الحل: اطلقوا الأبواق.. وسرعان ما يتبين أن تلك الوعود، أشبه بوعود أصحاب السفينة العثمانية.. وعود تجسّد ” سياسة الاستبغال في زمن الاستغفال”، فارغة من المضمون، ولا تحقق الهدف المنشود..!
موسى العدوان فريق ركن متقاعد