عندما كنت أمارس مهنة الطب بالأمس غير القريب كنت أعاني وأتألم وأنا أواجه توجّع جريح كنت أحاول تطهير جرحه الغائر لأطمئن إلى سرعة التئامه.
وأعاني اليوم ألما مشابها وأنا أسترجع أحداث “طوفان الأقصى” المجيد، الذي كان قمة في التخطيط والتنفيذ في توجيه الضربات للعدوّ، مع احترامه لكل الضوابط الإنسانية التي يتجاهلها الطرف الآخر.
أتألم اليوم وأنا أتساءل، بكل احترام لجراح فلسطين ولبنان وسوريا، وبكل تقدير لشهداء الأمة، وهنية وحسن نصر الله والسنوار على رأسهم، وخصوصا بعد فضيحة القمة التي تفوقت، كالعادة، في البلاغيات، والتي لن أتوقف اليوم عند اختيار زمانها ومكانها وبالتالي رئاستها، وعن ارتباط ذلك بعودة “الابن الضال” إلى البيت الأبيض، وعن رسالة التحريض الخبيث التي أرسلها له مدير مخابرات عربي سابق، اليوم أتساءل: هل أخطأ يحيى السنوار في حساباته؟.
المؤكد أن عملية 7 أكتوبر 2023 قد حققت أهدافا كانت تبدو مستحيلة حتى في أكثر الأحلام مراهقة وعاطفية.
وللتذكير، كان أول وأهم الأهداف التي تحققت هو إحياء القضية الفلسطينية التي أصبحت، قبل السابع من أكتوبر 2023، قضية ضبابية لا يتذكرها أحد إلا كمن يتذكر عجوزا راحلا منذ عشرات السنين، وبعد أن أصبحت الأرض الفلسطينية قطعة من الجبن تتناوب عليها قوارض المستوطنين، وذلك في غياب تام لكل المؤسسات الدولية التي تفاعلت إيجابيا مع ما تم في “أوسلو” في أكتوبر 2015، والذي اعترف “ياسر عرفات” في أواخر أيامه بأنه كان فخّا وقعت فيه المقاومة الفلسطينية، وإن كانت دوافع العرّاب “محمود عباس” لم تكن وقتها واضحة أو مؤكدة.
وكان ثاني الأهداف هو تعرية الكيان الصهيوني وسقوط هيبته الدولية والإقليمية، حيث ظهر جليا أن قوته هي قوة هشة مفبركة، لم تصمد أمام ثلة من رجال “القسام” لولا ما تهاطل عليها من أسلحة هائلة كانت مُعدّة لمواجهة الاتحاد السوفيتي، وهذا بالإضافة إلى فشل وسائل الدفاع التي كانت تتفاخر بها ومن بيتها الباتريوت والقبة الحديدة.
وثبت للعالم أجمع أن المستفيد الأول من كل تلك الإمكانيات الحربية هو المركب الصناعي الحربي في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوربية.
ونتيجة لكل ذلك كان ثالث الأهداف التي تحققت هو استيقاظ شعوب الشمال من غيبوبة المخدرات اليهودية التي كانت كالغازات السامة في الحرب العالمية الأولى، وكان جوهرها، من جهة، التعاطف مع اليهود الذين قيل أن النازية فعلت بهم الأفاعيل، ومن جهة أخرى التغطية على عقدة الذنب لدى شرائح كبيرة في المجتمع الأوربي، والفرنسي على وجه التحديد، تواطأت مع “الغستابو” الألماني.
وهنا نفهم لماذا اخترعت باريس قانونا يعاقب من يشكك، لا فيما تعرض له اليهود، ولكن في صحة رقم الستة ملايين ضحية من اليهود.
ومن هنا كان من أهم العناصر التي تحققت في إطار هذا الهدف هو تصاعد الشكوك حول ما إذا كان ما رُويَ عن فظائع النازي لم يكن مبالغات التي برع فها الممسكون بمقاليد الإعلام في الشمال النصرانو- عبري.
وكان من عناصر هذا الهدف الثالث تلك المظاهرات التي عمت العديد من مدن الشمال تعاطفا مع الشعب الفلسطيني، وهو ما ما يُذكر بالجنون الذي أصاب عناصر المخابرات الإسرائيلية المرافقة لرياضيي”ماكابي” ( وهو، إن صدقت الذاكرة، نادٍ رياضي أنشئ في مصر قبل 1948).
وهكذا راح الصعاليك يتسلقون الجدران لنزع أعلام فلسطينية من بعض الشرفات في أمستردام، ويطلقون الشتائم والصرخات الهستيرية إلى أن أوقفهم مهاجرونا عند حدّهم.
والهدف الرابع الذي حققته نتائج طوفان الأقصى هو سقوط النظام الحقوقي الدولي، وانفضاح التواطؤ اللا إنساني لكل القيادات الأوربية بدون استثناء، وهكذا أصبح حديث أي مسؤول غربي عن حقوق الإنسان يثير الضحك والسخرية، وهو ما جهر به أحرار المغرب بمظاهرات فضحت الرشوة السياسية التي حاول بها الرئيس الفرنسي تمرير إدانته للمقاومة الفلسطينية، كملعقة السكر فوق الدواء المرّ.
وأهم ذلك، سقطت أقنعة كثيرة، وتأكد أن العديد من دول الشمال لا يهمها إلا ضمان مصالحها الاقتصادية وصناعاتها العسكرية ومنتجاتها الغذائية مقابل دعمها حكومات عربية تفتقد الحد الأدنى من الكفاءة الوطنية، بجانب حرصهم على وجود إسرائيل كقاعدة متقدمة للنفوذ الغربي في المنطقة العربية.
بل راحت القروض تنهال على من يدعم الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، العقبة الكأداء أمام المخطط الصهيوني.
وكان من أهم الأقنعة التي سقطت ثبوت تخاذل مؤسسات الصحافة الدولية تجاه عمليات الاستئصال الممنهجة للمراسلين الصحفيين، وهي التي كانت تقلب الدنيا ولا تقعدها إذا ألقي القبض على صحفي تجاوز حدوده في احترام حقوق الآخرين.
ولا يمكن أن نتجاهل، عند الحديث عن الأهداف التي تحققت، شجاعة العديد من رجال السياسة، وفي فرنسا على وجه التحديد، حيث يُسيطر اللوبي الصهيوني على معظم المنابر الإعلامية، وهكذا برزت مواقف رئيس الحكومة الفرنسية الأسبق دو فيلبان والزعيم اليساري ميلانشون، وكذلك مواقف نواب في المؤسسات البرلمانية ومنها نائبة في البرلمان الفرنسية أسمعت رئيس الحكومة الحالي “وسخ أذنيه”، بالتعبير الجزائري.
ولا يمكن أن ننسى موقف النائب البريطاني “غالاوي” وكثيرين آخرين في مختلف أقطار الشمال، كما لا ننسى مواقف”هيومان رايتس” التي كانت أكثر شجاعة من “مولى الغيط”.
باختصار شديد فقد الكيان الصهيوني هالة العملاق المفتعلة التي حظي بها منذ ولادته القيصرية في نهاية الأربعينيات، وسقطت هيبته التي خلقها إعلام يسيطر عليه اللوبي الإسرائيلي، وثبت أنه كائن لا يعيش إلا بفضل نقل الدم المستمر، ويشبه الإنسان الذي يعيش بطقم أسنان وعدسة عين صناعية وسماعتين ملتصقتان بأذنيه ويتنقل على كرسي متحرك.
وأصبحت إسرائيل قدوة الديموقراطية في المنطقة !! وكأنها “مطليّ به القار أجربُ”، وأركانها متابعين من محكمة العدل الدولية، برغم المناورات الأمريكية.
ببساطة شديدة، أثبت طوفان الأقصى أن إسرائيل ليست دولة مستقلة.
وأعود هنا إلى السؤال الذي لا أملك إلا أن أطرحه: هل أخطأ يحيى السنوار في حساباته؟
المؤكد أن الشهيد العظيم كان يعرف، بحكم خبرته في التعامل مع الصهاينة ومدى شراسة الذئب الجريح، أن الانتقام سيكون رهيبا ، ولكن المؤكد أيضا أنه لم يكن ينتظر أن تهُبّ جيوش الطوق لمواجهة الجيش الإسرائيلي، ولا أظن أنه كان يريد ذلك، فهو يعرف أن دخول الجيوش العربية إلى الأرض الفلسطينية في 1948 كان خطأ تاريخيا لا يمكن نسيانه.
وأنا أتصور أن قائد كتاب القسام لم يُخطر حزب الله بانطلاقته حرصا منه على السرية المطلقة التي تحقق المفاجأة وتضمن النجاح، وثبت في ما بعد أنه كان على حق في ذلك، بعد أن أثبتت التطورات وجود اختراقات قادت إلى عملية “البيجر”، ثم إلى اغتيال الشهيد حسن نصر الله وبعض رفاقه.
وبالتالي لم يكن السنوار، في تصوري، ينتظر أن يسارع حزب الله في الأيام الأولى لكي يقنبل الكيان الصهيوني بما يُخفف الضغط على غزة، لأن ذلك كان سيؤلب العالم كله ضد المقاومة الفلسطينية حيث سيؤكد مزاعم إسرائيل التي ظلت تقدم نفسها كحمل وديع يحيط به الذئاب، وسوف يحرم المقاومة من تضامن شعوب الشمال.
لكنني أتصور أيضا أنه كان ينتظر أن تضع فصائل حزب الله ثقلها في المعركة بعد فترة ترقب حذر لكل التطورات، وبحيث لا تتكرر مأساة سيناء، عندما وقفت القوات المصرية الظافرة “وقفة تعبوية”، وكانت تلك وقفة زمنية محدودة جدا ستواصل قوات العبور بعدها تحركها نحو مضايق سيناء، منتهزة أن العدوّ ما زال تحت تأثير الصدمة، وهو ما سمعته شخصيا من الفريق سعد الدين الشاذلي.
وما لم يكن معروفا آنذاك هو أن السادات طمأن كيسنجر في 7 أكتوبر، وبالتالي إسرائيل، عن عدم تطوير الهجوم نحو الشرق، وهنا ركزت إسرائيل كل قواها لسحق التحرك السوري في الجولان، وكان ذلك من أسباب إجهاض نتائج أكتوبر العظيم.
وكان هذا، في تصور السنوار، درسا لا بد أن “السيد” قد وعاه جيدا، وبالتالي فإنه سيتحرك بعد فترة زمنية تمت دراسة تطوراتها لكي يضع ثقله بجانب كتائب الأقصى.
ويمكن أن يسبق هذا التحرك من الشمال اللبناني، ومع تزايد الإجرام الصهيوني وارتفاع عدد الشهداء وزيادة حجم التدمير، تحرك سياسي من دول الطوق يتمثل في استدعاء سفيريها لدي الكيان الصهيوني للتشاور، طبقا للصيغة المألوفة في التعبير الأوّلي عن الغضب، وقد يلي هذا “التلويح”، مجرد التلويح بتجميد اتفاقيات كامب دافيد ووادي عربة إذا لم يتوقف استهداف البنية التحتية والمستشفيات بوجه خاص في قطاع غزة.
وهذا تصور منطقي لأن السنوار لم يكن يعرف لقاء “بلينكن” المخزي مع القيادات العربية.
وربما تصور أن قيادات منحت نفسها مسؤولية تاريخية في حماية أولى القبلتين لن تتأخر عن القيام ببعض ما كانت تشحن به شعاراتها السياسية من عنتريات بلاغية، وأن جامعة الندامى والندامة العربية قد تسارع إلى طلب قوات دولية لحماية المدنيين.
لكن الأهم من هذا هو أن القائد العظيم لم يكن يتصور أن تصل الدياثة السياسية بقيادات عربية إلى حدّ تشجيع “بايدن” على دعم الإجرام الإسرائيلي، وهو ما أثبته “وودوارد” في كتاب “الحرب”، ولم يكن يتوقع أن تصل النذالة بأطراف عربية إلى حدّ التخلي عن سيادتها الوطنية في تمرير المساعدات الطبية والغذائية الموجهة إلى أبناء غزة، بل وفرض إتاوات بالدولار الأمريكي على جرحى يحاولون الفرار من الجحيم إلى حيث العلاج.
والمؤكد أن السنوار لم يكن يتوقع أن تكون دول عربية من دول الطوق وطوق الطوق هي من تزود العدوّ بما يُمكنه من الصمود في وجه أول عملية تاريخية تضعه عند حدّه.
أخطر من ذلك، لم يكن السنوار يتوقع ألا تكتفي بعض العواصم العربية بإقامة المهرجانات الراقصة بل تبث ذلك في تلفزتها وكأنها تتشفى في الدماء والأشلاء.
هكذ، لا بدّ من الاعتراف بأن السنوار، مع كل خبرته، لم يكن يتوقع ذلك الحجم من النذالة والسقوط والدياثة عند قيادات عربية، أعترف أننا تواطأنا جميعا على التستر على ما كنا نعرفه من ارتباطاتها مع حلفاء العدو، بل ومع العدو نفسه، وهو ما كنت أشرت له باحتشام في حديث سابق عن التنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية العربية والموساد الإسرائيلي.
ولعل حرصُنا الساذج والغبيّ على ضمان الحدّ الأدنى من التضامن العربي هو نفس ما شوه المعطيات التي وضعها السنوار أمامه وهو يخطط للطوفان، وجعلت بعض توقعاته تجانب الصواب.
ولم يبق عندي اليوم ما يُقال.
دكتور محيي الدين عميمور كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق