مزامير التنبيه لا تخطئ فمن يستمع؟

أربعاء, 2024-09-11 00:45

“على من تقرأ مزاميرك يا داود” هو عن استحالة جدوى النُصح لمن لا ينتصح.  و يبدو أن العرب الرسميون يسمعون جيداً مزمار التهديد الصهيوني والوعد الغربي ويختبئون عن مزمار النهوض والقتال لكرامةٍ وتحرير. “أذنٌ من طينٍ وأُذنٌ من عجين” هو عن عربٌ يختارون الصمم لتفادي المشاكل مع “إسرائيل” وحلفائها.

هل رأيتم مثل هذه المذلة من قبل؟ “إسرائيل” هي التي تُلقي الفلسطينيين في البحر ويمضي العرب في حياتهم وكأن الفلسطينيين قبيلةً من قبائل الغابات المزوية التي تندثرُ بصمتٍ وتصبح موضوعاً للبحث الأنثروپولوجي التاريخي.  أليس هذا دليلاً أن كل ما قيل ويقال عندنا عن الأخوة في الدم والدين يصبحُ هُراءً حين لا تتحرك الجيوش العربية هائلة العدد والتسليح؟

المذبحة اليهودية بحقنا تثبت أن كرة قدمٍ و مواسم أغانٍ و طلعةَ فنانةٍ أهم عند كثيرٍ جداً من العرب من فلسطين ومن فيها.  إن “إسرائيل” منذ خُلِقتْ هي مثل البلدوزر “الكاتربيلير” الأمريكي الضخم، الذي رأيناه يجرف غزة وجنين وطولكرم، في تجريفها العروبة نحو أكوامٍ من الخزي والعار، باختيارنا وهوان أنفسنا علينا. لا ندري ماذا سيجعلنا نتأثر ونتحرك إن لم تكن الأشلاء والدماء. غير أنه “تتمتع” جلودنا ومشاعرنا الرسمية بتمساحيةٍ أسطوريةٍ أو خِرتيتيةٍ لكن من دونِ اندفاعةِ غيرةٍ نراها لهذه الحيوانات عندما تشعر بالتهديد بل بلادةً غميقةً بأرواحنا. يكفينا الدعاء والابتهال عن القتال والجهاد، ونتناسى أن  اللهَ لا يستجيب لمن استقر قراره على القعود والنكوص. كان القادة المسلمون يقاتلون وهم يبتهلون للنصر وينتصرون، و لذلك لا يغيظ فعلاً اليوم مثل وقفاتِ الخيلاء أمام جنودٍ عربٍ، فلا المتخايلُ يجرؤ ولا الجندي يتخيل أن يقول حتى مجرد “لا” هامسةً لإسرائيل وإلا فالويل لهما من الرقيب. بل أن البعض من العرب يتسلل لواذاً لليهود يطلب الصفح والمغفرة والتطبيع والتجارة والعمل والنصيحة والدعم ويلعن الفلسطيني واللبناني الذين يكشفون العيب العربي وهو في فورة الغرام مع الصهيونية.

لننظر في مجريات الأحداث.  يقول أنتوني بلينكين أن ٩٠٪؜ من الاتفاق لوقف المذبحة قد أُنجِزَ، ويردف بالقول أن هذا مهم لإنجاز تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية! جوهرة التاج لهم هي السعودية وبالتحديد غزوةً ورجعةً لليهود للأرضِ التي هزمهم فيها وأخرجهم منها الرسول الكريم بعد نقضهم المعاهدة معه.  الباقي مهمٌ بالطبع، وهو المال من التعاملات. هذا الهدف السياسي لا يتفق معه النتن ياهو بالكامل فهو يريد الاستمرار في القتال للقضاء على المقاومة ويريد علاقات تطبيع مع السعودية مبنيةً على انتصاره في فلسطين وجنوب لبنان، بدايةً.

وهدف الإدارة الأمريكية هو نفسه هدف النتن، لكن بوسيلةٍ أقل دمويةً على مستوى المدنيين وبالنفس الأطول. هكذا: هدنة تليها قوات سلام وتسليمٍ لإدارة مستسلمة في غزة وبالتدريج اجتثاث المقاومة حقلاً حقلاً. وبالتوازي تهيئة غزة إعماراً لتصبح كانتوناً منتجاً أو مرفأً حرّاً يعمل فيه الغزِّيون بالانتفاع كل حسب مهارته بالمال الآتي من الشرق العربي قبل الغرب. المهم هو عزل غزة عن أحلام الحرية، أما آمال الفلسطينيين بباقي فلسطين فسيتم وأدها بمزيج القوة والمال كما هي العادة.

وفي الخلفية تطبيعٌ يتبعُ تطبيعاً. ولا يختلف المسؤول الأمريكي في نظرتهِ لمحور المقاومة عن نظرة النتن مع بعض التفاوت فهو كذلك يريدها ميتةً مع اختلاف الوسيلة والنتن يريدها ميتةً بالقتل السريع فهو إن نجح في ذلك سينفتح أمامه حقل البيدر والنفط.  لذلك يَعِدُ عاموس هوكينشتاين اللبنانيين، وهو بتفاهمٍ جوهري مع النتن وبالطبع مع بلينكين وهم بالمناسبة من نفس العرق، وتختلف الوسيلة التي يتبعونها فيما تسري تحت الأنظار خططٌ لعسكرةِ الحدود ومراقبتها خنقاً للمقاومة. فإن لم توقف المقاومةُ “إسرائيلَ” فلن توقفها أمريكا وهي معها في كل خطوةِ اعتداءٍ واستعمارٍ فلماذا لا يفهم العرب هذا المزمار؟

ثم نرى من تركيا رئيسها يطالب بحلفٍ تركيٍّ مع مصر وسوريا. لأي غرض؟ إنه كما يقول الإعلام حلفٌ إسلاميٌ لوقف الزحف اليهودي الذي يراه الرئيس متدحرجاً نحو حدود تركيا.  مقترحٌ ممتازٌ لولا بعض المسائل المتعلقة بعلمانية تركيا وعضويتها في الناتو، و وجودها العسكري في سوريا وحربها ضد الأكراد حلفاء واشنطن وأصدقاء إسرائيل. وأن لمصر علاقة تعاهد مع إسرائيل تصمدُ أمام خرق المعاهدة وتصفية الجنود والمحرقة الغزاوية، وأن سوريا لا تثق بتركيا بعد ما حصل فيها و يحصل منذ  ٢٠١١.  مقترحٌ لا يذكر السعودية أو العراق أو الأردن كذلك. فهل هو نتيجة وفاقٍ مع مصر ولم يعلن عنه بعد الزيارة المصرية الرئاسية لأنقرة؟ أشك في ذلك. و هو لا يذكر إيران أيضاً لهذا قد تحسبه حلفاً بنكهةٍ سنيةٍ غير أنه لا يكتمل دون الرياض والأخيرة تود التطبيع وتحسب أنها بعيدةً عن المكر اليهودي الإسرائيلي وأمكرَ منه. لا نعلم والأفضل أن نترك المقترح للأيام الكفيلة بنسيانه أو محاولات تطويره.

الإسرائيليون بلسان وزير دفاعهم يقولون سنهاجم لبنان. هم يهاجمونها حتماً لأنهم يهاجمونها يومياً! لكن إعلان هجومهم هذا له هدف هَدَّ المعبد على رؤوس اللبنانيين وإعادتهم للوراء عقاباً على سكوتهم ولو على مضض على حزب الله.  وحزب الله ينتظر فلا هو قادرٌ على المبادرة ولا هو في معركة إسناده القوية لغزة قادرٌ على إسكات النار اليهودية بالكامل.  والكل ينتظر الرد الإيراني لاغتيال الشهيد إسماعيل هنية ورفيقه وإيران تقول أنه حتمي ومفاجئ.  وها نحن ننتظر رداً يريده الكثير كاسراً ونظن أنه سيكون أدنى من هذه الطموحات.

تحسبُ أن الأيادي مقيدة وأيادي “إسرائيل” حرة.  يعني أن حرباً تشنها “إسرائيل” قد تجعل وزراء دفاع العرب يجتمعون ولو تمليحاً لكنهم لا يفعلون.  في المقابل يجول عليهم من القادة الأمريكيين الكبار العديد وبتردادٍ لا يتعب فماذا يقولون لبعضهم البعض؟! من الواضح أن العرب ينصتون جيداً للمزمار الأمريكي ويصمُّونَ السمع عن الاستغاثات الفلسطينية.  وإلا لانفككنا من المعاهدات ودافعنا عن الأبرياء. لكن الرسميُّون العرب لا يفعلون، وربما يودون، لكنهم لا يمتلكون الشجاعة للمعارضة.  يصابون بشللٍ عندما تخطر “إسرائيل” ببالهم تماماً مثلما يُشاعَ عن الشللِ الهَلَعي الذي يصيب الإنسان حين تنظر الأفعى بعينيه فيتسمرَ ويستعدَ لكي يُفترَس.

أنا لا أعتقد أن مئات ملايين العرب مشلولون فهم كما نراهم يتحركون، وقليلهم يقاوم بما يستطيع، لكنهُ شللٌ رسميٌّ اختياري يضربنا في حالة المواجهة مع “إسرائيل” ونشفى منه في كل الحالات الباقية.  و أعتقد أن الرسميين يريدون التخلص من أحدٍ ما، أيهما يأتي أولاً، الفلسطيني والمقاوم أو الإسرائيلي، لكن بما أنهم مسلوبي القرار ومرتعدين خوفاً من “إسرائيل” القوية فآمالهم هي في انتهاء المقاوم سريعاً.  ولو أنهم ساندوه لانتصروا معه لكن تمكينهم للعدو من هزيمته لن تُنجينا لأن شهية “إسرائيل” للغزو كبيرة لا تتوقف توراتياً ولا بالمعايير الحديثة للتوسع الاستعماري. فإن كان السيد رجب طيب أردوغان البعيد جغرافياً يجاهر بمخاوفه من الإنتشار الغازي “لإسرائيل”، فهل لم ينقل مخاوفه هذه للرئيس المصري العسكري عبدالفتاح السيسي، وهل لا يشعر العرب بنفس المخاوف فيتحركون؟ وكل التصريحات وخريطةً عرضها وزير المال الصهيوني ألا تستثير في الأردن خطةً للمقاومة بدلاً عن المهادنة؟ أم أن الأمر متروكٌ للعشوائية الفردية الشجاعة في الثأر وزرع الخوف في الصهاينة مثلما فعل الشهيد ماهر الجازي؟

لذلك، “على من  تقرأ مزاميرك يا داود”  فعديدنا اليوم داود  لكن أكثرنا صُمٌّ عُمْيٌّ بُكُمٌ بالاختيار المُعيب وكأن “إسرائيل” لهم كابوسَ منام سيتبخر وهي ليست كذلك بل مشروع استعمارٍ مترامي الحدود، ليس له حدود.

علي الزعتري دبلوماسي أُممي سابق

الأردن