متاهة الحرب في أوكرانيا وتخبط أقطاب النظام العالمي القديم... هل انتهت فعالية سياسة العقوبات والحصار الاقتصادي ؟

ثلاثاء, 2022-03-29 08:58

في أي اتجاه تسير العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ؟. سؤال يتجدد حول العالم بإلحاح مع استمرار المعارك التي دخلت شهرها الثاني وسط عاصفة من الأخبار والتحليلات المتضاربة التي تترك الغالبية في حيرة. البحث عن جزء من الحقيقة وليس كلها ممكن عن طريق عملية غربلة دقيقة ومعمقة لكل ما هو معروف عن هذا الصراع، الذي لا ينكر أحد أنه ومهما كانت نتيجته سيترك آثاره العميقة على التوازنات الدولية وسيقود إلى نظام عالمي جديد مختلف عن الذي نعيش في ظله منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينات القرن الماضي.

أحد المعطيات التي يجب إعطاؤها وزنا مهما هو أنه عندما بدأ التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا يوم 24 -25 فبراير أعلن الكرملين أن الهدف هو فرض "وضع محايد" في أوكرانيا ونزع سلاحها والقضاء على "النازيين" الذين قاموا بمذابح طوال ثمان سنوات ضد الروس في شرق أوكرانيا.

وأكد الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن "مدة العملية ستقرر بناء على نتائجها وجدواها وسيحددها القائد الأعلى" للقوات المسلحة فلاديمير بوتين. وأكد أن موسكو لا تحاول "احتلال" أوكرانيا وأن المستقبل لا يزال "مسألة خيار الشعب الأوكراني".

في الولايات المتحدة وخلال الأيام الأولى للحرب تفاوتت أراء الخبراء والمحللين بين نهاية سريعة للحرب خلال أيام وتنصيب موسكو حكومة موالية في كييف، وبين من قدر أن الرئيس بوتين لا يريد سوى الإطاحة بالحكومة الموالية للغرب في كييف وذلك من داخلها بعد أن يجد قادة الجيش أن لا مفر من الهزيمة، طرف ثالث ذكر أن الكرملين يريد تقسيم أوكرانيا والسيطرة على الجزء الذي توجد فيه أغلبية روسية وضمه إليه وترك الجزء الغربي.

المعطى الآخر هو أن العسكريين الغربيين وجدوا أنفسهم أمام وضع صعب تفسيره، وهو أن الجيش الروسي لم يستخدم سوى جزء ضئيل من قواته الجوية والصاروخية والمدرعة الضخمة التي كان يمكن أن تحسم الحرب بسرعة، كما وحسب المخابرات الأمريكية والبريطانية لم يزج بأحدث دباباته في المعركة واستخدم فقط دبابات تي 72 المعدلة وكذلك الأمر بالمعدات الأخرى، إضافة إلى ذلك ظل الجزء الأكبر من وحداته الضاربة في حالة حركة ومناورات خارج ساحة المواجهة، وهو الأمر الذي فسره المحللون الغربيون بتكرار تجربة الجيش الروسي في الحرب شبه الدولية الدائرة في بلاد الشام والقائم على نظرية القضم التدريجي.

مع قرب اشراف شهر مارس على خاتمته نجد ما بين السطور وفي معمعة الحروب الإعلامية الغربية الموازية للعمليات العسكرية للجيش الروسي في أوكرانيا، تكرارا خجولا لجملة حرب استنزاف روسية ضد خصومها ليس حكومة كييف وحدها ولكن ضد كل تركيبة حلف الناتو العسكرية والسياسية والاقتصادية. هذا التعبير المدفون بين فيضان مقالات التحليلات يزداد كثافة مع مرور الشهر الأول من العملية العسكرية الروسية ويقترب من التغطية على كل ما نشر غربيا حتى الآن بشأن تعثر العملية العسكرية التي يقودها ساسة الكرملين بفضل مقاومة الأوكرانيين المدعومين من طرف واشنطن ولندن وحلف الناتو.

 

البحث عن الحقيقة

 

يوم الأربعاء 23 مارس أعلنت رئاسة الوزراء البريطانية أنه سيتم استخدام "التمويل الطارئ" وأنها ستخصص أكثر من أربعة ملايين جنيه إسترليني لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" كجزء من الجهود الحكومية "لمكافحة المعلومات المضللة في روسيا وأوكرانيا".

وسيأتي التمويل من وزارة التكنولوجية الرقمية والثقافة والإعلام والرياضة، وكذلك من وزارة الخارجية. من جهتها، أعلنت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس، في وقت سابق، إنشاء مركز معلوماتي حكومي يهدف إلى "مكافحة المعلومات المضللة" من جانب روسيا.

وفي السياق نفسه، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية يوم الخميس 24 مارس، عن منحة تبلغ حوالي 3.5 مليون دولار لتقوية وسائل الإعلام الإقليمية في أوروبا وأوراسيا.

وأضافت: "من خلال الفهم الكامل للوضع الحالي في أوكرانيا" فإن الهدف من البرنامج هو "دعم القطاع الإعلامي القوي والمستقل في المنطقة، المقاوم لمصالح الأطراف القوية التي تسعى إلى التلاعب بالصحافة أو عزلها أو السيطرة عليها".

ويحق لمواطني بيلاروس وبلغاريا وهنغاريا ومولدوفا وبولندا ورومانيا وصربيا وسلوفينيا وأوكرانيا ومنطقة جنوب القوقاز المشاركة في المنحة، ويجب ألا تقل مدة تنفيذ برنامج المنحة عن 24 شهرا.

مصادر رصد في العاصمة اللبنانية بيروت والألمانية برلين أشارت إلى أن الأجهزة الأمريكية خصصت إضافة إلى ما سبق حوالي 11.2 مليون دولار لمساعدة مئات من وسائل الأعلام والصحفيين عبر العالم من أجل مساندة الأطروحات الغربية حول الصراع الدائر في وسط أوروبا، وتضيف تلك المصادر أن تلك الأجهزة وفي حالات كثيرة قدمت مسودات وملخصات للأطراف الإعلامية من أجل إعانتها على عكس وجهة نظرها، غير أنه كانت هناك سقطات حيث وقع تشابه وتكرار فاضح في مئات المقالات والطروحات التي قدمت من طرف المتعاطفين مع واشنطن ويعود ذلك إلى السرعة وعدم التنسيق الكافي مع واضعي مسودات المقالات والتحقيقات. قنوات إخبارية عديدة من تلك التي تمول من طرف الحكومات الموالية للغرب ساهمت في تلك العاصفة الإعلامية ولكنه سقطت كذلك في فخ التكرار.

وكما يبدو فإن هذا ليس أكثر من طرف جبل جليدي عائم لما هو أضخم، إذ أن أذرع التمويل لا تتوقف عن وسائل إعلام عالمية بل لأذرع دعاية مختلفة، وضمنها شبكات تواصل، ومراكز تحت مسميات جمعيات مدنية تتغلغل بين الشعوب.

بتاريخ 25 مارس 2022 سلط تحقيق صحفي أجراه موقع MintPress الأمريكي الضوء على وقوف جهات أجنبية وراء تمويل الحملة الدعائية المكثفة التي تجريها حكومة أوكرانيا على خلفية العملية العسكرية.

وأشار تقرير الموقع إلى أن الجيش الأوكراني منذ بدء العملية الروسية يحاول خلق صورة "جيش صغير شجاع يواجه العملاق الروسي" ويخوض لهذا الغرض حملة دعائية متطورة رامية إلى كسب دعم المسؤولين والرأي العام في الدول الغربية.

وذكر الموقع بأن صحيفة "واشنطن بوست" في تقريرها عن الإستراتيجية الدعائية للحكومة الأوكرانية أقرت بأن المسؤولين الغربيين لا يستطيعون التحقق من مدى مصداقية المعلومات التي تنشرها كييف.

ووفقا لـMintPress، يقود هذا الحراك الدولي أيضا المؤسس المشارك لشركة العلاقات العامة PR Network، نيكي ريغازوني، ومستشار بارز في مجال العلاقات العامة، فرانسيس إينغهام، الذي لديه علاقات وثيقة مع الحكومتين البريطانية والإسرائيلية.

 

الحرب هي السياسة

 

انطلق ابن خلدون بشأن الحرب، من حقيقة مطلقة يفرضها النظر في تاريخ الإنسانية "منذ برأها الله"، وهي أن الحرب "أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل".

يقول المفكر البروسي كارل فون كلاوزفيتز إن الحرب هي كالمبارزة بين شخصين، لكن على مستوى أكبر بكثير. ويرى أن هدف الحرب هو فرض إرادتنا على الآخر، وهي بالطبع لتحقيق الأهداف السياسية. من هنا مقولته الشهيرة: "إن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى".

يعود كلاوزفيتز للحديث عن نقطة الذروة في العمل العسكري، أو بالأحرى الامتداد الأقصى، أي بشكل عام، لكل بعد في الحرب حدوده القصوى. إذا تم تجاوز هذه الحدود فستزداد المخاطر، وتصبح الهزيمة أمراً لا مفر منه.

إذا، الحرب عمل عنفي غير مستمر في الزمان والمكان. ولأن الحرب تخدم الأهداف السياسية، فلا بد من توقفها عند كل مفصل أساسي، لتقييم الأداء وإجراء الحسابات والتعديل إذا لزم الأمر.

الفيلسوف السويسري جان جاك روسو يرى بأن طبيعة الكون تقتضي أن يوجد صراع دائما. وذلك راجع لعدم إمكانية استمرار الجميع في سعادة أبدية مطْلَقة. إضافة إلى أن سعادة الواحد دائما ما ترتبط بتعاسة وشقاء الآخر. ويؤدي هذا الأمر إلى كسر سيرورة السلم الذي يتمتع به الطرف الذي يتعرض للأذى، وهذا هو مكمن نشوء الصراعات والنزاعات. هاته الصراعات التي تبدأ في حالة أراد الطرف المعتدى عليه أن يدفع عن نفسه ذلك العدوان.

يرتبط مفهوم الحرب في العديد من الأحيان، بمفهوم آخر ملازم له، وهو مفهوم السلم. وقد يبدو من الوهلة الأولى أن المفهومين لا ينفصلان عن بعضهما البعض وذلك باعتبار أن الواحد منهما يعتمد في بنائه وتأسيسه على الآخر، أي أنه لا يمكننا الخروج من حالة السلم إلا بالدخول إلى حالة الحرب، ولا يمكن مغادرة الحرب إلا بالاتفاق على شروط السلم.

يوم الأحد 27 مارس اتهم رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية كيريلو بودانوف، روسيا، بمحاولة تقسيم أوكرانيا إلى قسمين، كما حدث عند تقسيم كوريا إلى شمالية وجنوبية في حرب سنة 1954. وتعهد بشن حرب عصابات "شاملة" لمنع تقسيم البلاد.

من جانبه، حث الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الغرب، على منح بلاده دبابات وطائرات وصواريخ لصد القوات الروسية، بينما قالت حكومته إن قوات موسكو تستهدف مستودعات الوقود.

وفي أحدث تقييم عسكري لها، قالت وزارة الدفاع البريطانية، إن القوات الروسية تركز جهودها فيما يبدو على محاولة تطويق القوات الأوكرانية التي تواجه المناطق الانفصالية مباشرة في شرق البلاد.

وذكرت الوزارة: "ما زالت ساحة المعركة في شمال أوكرانيا ثابتة إلى حد بعيد، مع الهجمات المضادة الأوكرانية التي تعرقل المحاولات الروسية لإعادة تنظيم قواتها".

في واشنطن صرح مسؤول في البنتاغون لوكالة رويترز بشرط عدم كشف هويته أنه منذ أيام طويلة لا تقوم أرتال القوات الروسية الكبيرة حول كييف بأي محاولة للتقدم أو زيادة إحكام طوقها حول العاصمة كييف، في حين تركز عملياتها وبشكل تدريجي على الشرق الأوكراني والجنوب بهدف إكمال عزل أوكرانيا بشكل كامل عن مياه البحر الأسود بعد أن سيطرت على كل ساحل بحر أزوف.

 

منافذ البحر

 

جاء في تقرير نشرته وكالة الانباء الفرنسية يوم 27 مارس:

الهجوم الروسي على الجبهة الجنوبية، الذي يمتد على أراضي شاسعة من إقليم "دونباس" التي استولى عليها الانفصاليون الموالون لروسيا في 2014 لغاية أبواب مدينة ميكولاييف مرورا بمدينتي ميليتوبول وبردياسنك ثم شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في 2014 يتوسع.

فيما يبدو أن روسيا تريد إتباع نفس الإستراتيجية إذ أعلنت الجمعة 25 مارس بأنها ستكثف هجماتها على المناطق الواقعة شرق أوكرانيا من أجل تحرير كل إقليم دونباس.

ووفق جان سيلفستر موغرونيه، الباحث في المعهد الفرنسي الجيوسياسي بجامعة باريس 7 وباحث مشارك في معهد توماس مور، ففي حال تمكنت روسيا من السيطرة على جنوب شرق أوكرانيا بدء من حدود إقليم دونباس، فهذا سيمنحها فوائد جيوسياسية كبيرة.

وأضاف "إذا سيطر الروس على الضفة الشمالية لبحر آزوف فهذا يعنى أن هذا البحر سيصبح ملكا لروسيا كونه سيقع داخل مياهها الإقليمية وحدودها البحرية".

لكن الجيش الروسي لم يصل بعد إلى هذه النقطة. وعلى الرغم من القصف المتواصل الذي يستهدف مدينة ماريوبول الساحلية، إلا أن هذه المدينة لم تسقط بعد خلافا لمدينة خيرسون الواقعة غرب البحر الأسود والتي سقطت كاملة في يد القوات الروسية التي تحاول أن "تحاصر" مدينة ميكولايف بهدف الوصول بعد ذلك إلى مدينة أوديسا الساحلية"، حسب وزارة الدفاع البريطانية.

وفي حال استولت روسيا على كل المناطق التي ذكرناها سالفا، فستكون العواقب على أوكرانيا وخيمة. لأن ماريوبول وبيرديانسك وأوديسا تتواجد فيها موانئ كبيرة تقوم أوكرانيا عبرها بتصدير القمح والحديد.

وأضاف جان سيلفستر موغورنييه، الباحث في المعهد الفرنسي الجيوسياسي بجامعة باريس 7 والباحث مشارك في معهد توماس مور أن أوكرانيا "تواجه مشكلتين في آن واحد. المشكلة الأولى هي الحرب المباشرة التي تخوضها مع روسيا، فيما تتمثل الثانية في الاختناق الاقتصادي الذي وقعت فيه بسبب الحصار البحري الروسي الذي قد يحرمها من أي ممر بحري".

وجغرافيا، بحر "آزوف" متفرع من البحر الأسود في جزئه الشمالي، ويتصل به عن طريق مضيق كيرتش، يطل على الشواطئ الأوكرانية من شماله، وعلى روسيا من شرقه، وشبه جزيرة القرم التي تسيطر عليها موسكو منذ عام 2014، من غربه. ومنذ 2014، تسيطر موسكو على ضفتي مضيق كيرتش. إذ تقع الضفة الشرقية للمضيق في شبه جزيرة ترمان الروسية، والضفة الغربية في شبه جزيرة القرم.

 

روسيا تخلط الأوراق من جديد

 

وعززت روسيا السيطرة على بحر "آزوف" في 2018 بعدما شيدت جسرا يربط شبهي الجزيرة حسب الباحث جان سيلفستر موغورنييه الذي أوضح: "منذ تلك الفترة "أي منذ 2018" بدأت روسيا تتصرف كأن البحر ملكها الخاص".

وأضاف من جهته لوي بيتنيو، وهو باحث في مركز الأبحاث "جيود" ومتخصص في شؤون أوكرانيا وروسيا: "جسر "كيرتش" كان يمنع مرور بعض السفن الأوكرانية. وهذا ساهم في تقليص بشكل كبير حركة الملاحة البحرية في ميناء ماريوبول وبيرديانسك اللذين يعتبران من أبرز الموانئ في أوكرانيا، فيما تم تغيير مسار الحركة التجارية نحو موانئ أوكرانية أخرى تملك مخرجا نحو البحر الأسود".

وبعدما تم بناء الجسر، قامت البحرية الروسية باستهداف سفن عسكرية تابعة لأوكرانيا واستولت على ثلاثة منها في 2018 لأنها دخلت المياه الإقليمية التابعة لشبه جزيرة القرم التي لم تعترف أوكرانيا بضمها من قبل انفصالين روس.

وكانت روسيا وأوكرانيا قد وقعتا على اتفاق في 2003 ينص على أن بحر "آزوف" يتواجد في المياه الداخلية التابعة لموسكو وكييف. كما يسمح الاتفاق أيضا على "التنقل الحر" لسفن البلدين، بما في ذلك السفن العسكرية. لكن ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا أعاد خلط الأوراق من جديد.

هذا، وأكد الباحث لوي بوتنيو أن "بحر "آزوف" لا يشكل أهمية كبرى بالنسبة لروسيا لكنه يعد مدخلا إلى البحر الأسود الذي يعتبر استراتيجيا بالنسبة للملاحة البحرية العالمية".

ولا تسعى موسكو لإيجاد مخرج على البحر الأسود فقط، بل تخطط أيضا للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط عبر مضيق البوسفور ومضيق داردانيل التركيين. ومن البحر الأبيض المتوسط تريد موسكو أيضا الوصول إلى البحر الأحمر ثم المحيط الهندي والأطلسي، حسب نفس الباحث.

وتجدر الإشارة إلى أن روسيا تحاول منذ سنوات عديدة توسيع تأثيرها وتواجدها فما يسمى بـ"المياه الدافئة". ففي 2015 مثلا، قامت بإطلاق صواريخ من بحر القزوين لتدمير أهداف في سوريا. كما قامت أيضا في الأسابيع الماضية بإعادة إحياء مشروع بناء قاعدة عسكرية مع السودان على امتداد مع البحر الأحمر، في مدينة بورت سودان.

وهذه الإستراتيجية تشبه إلى حد كبير تلك التي سطرتها الإمبراطورة كاترين في القرن الـ18 التي شيدت ميناء سيباستبول من أجل الوصول إلى المياه الدافئة. وقال جان سيلفستر موغرونييه في هذا الخصوص: "قامت الإمبراطورة بالاستيلاء على الجهة الشمالية للبحر الأسود وأعطت لها اسم روسيا الجديدة. اليوم فلاديمير بوتين يريد إعادة بناء "روسيا الجديدة" تبدأ حدودها من إقليم دونباس لغاية شبه جزيرة القرم وصولا إلى مولدافيا".

لكن روسيا لا تتواجد بمفردها في البحر الأسود. فهي تتقاسمه مع جورجيا وثلاث دول من الحلف الأطلسي، وهي تركيا وبلغاريا ورومانيا.

 

أهداف المرحلة الثانية

 

بتاريخ 28 مارس 2022 كتب سيرغي فالتشينكو، في"موسكوفسكي كومسوموليتس":

يواصل الخبراء العسكريون تحليل النتائج الرئيسية للمرحلة الأولىمن العملية العسكرية الخاصة. يتفق كثيرون على أن القواتالمسلحة الأوكرانية تعرضت لأضرار جسيمة يصعب أن تتعافىمنها.

تم تدمير ما يقرب من 70 في المئة من الأسلحة الثقيلة للقواتالمسلحة الأوكرانية: دبابات وعربات مشاة قتالية وناقلات جندمدرعة ومدفعية وأنظمة إطلاق صواريخ متعددة. من دون هذا كله،لا يمكن للجيش الأوكراني تنفيذ عمليات واسعة النطاق: هجماتمضادة أو مناورات في الأجنحة أو الخروج من "الحصار".

وقد أشار الخبير العسكري إيليا كرامنيك في قناته علىTelegram إلى ظرف واحد لا يخدم مصلحتنا. فقال: "إن العاملالخارجي الأكثر خطورة، والذي له تأثير كبير على مسار الأعمالالقتالية، هو بالطبع دعم الناتو لأوكرانيا".

من النتائج الإيجابية للمرحلة الأولى من العملية تمريغ سمعةالأسلحة الغربية، التي تم تسليمها على نطاق واسع إلى أوكرانياخلال هذه الأسابيع. جاء ذلك في مراجعة قناة "التحليلاتالعسكرية السياسية" على Telegram.

فقد اتضح، على سبيل المثال، أن الطائرات التركية المسيرة التييجري الترويج لها على نطاق واسع ليست جيدة كما كان يظن. فأنظمة الدفاع الجوي الروسية "Tor-M2" و "Pantsir-S" و"Buk-M3" "ترى" هذه الطائرات وتدمرها بأول صاروخ.

كما أظهرت صواريخ جافلين الأمريكية المضادة للدبابات كفاءةمنخفضة. لم تحدث هزيمة المركبات المدرعة الروسية التيانتظروها. وكغنائم، حصلنا على مئات من صواريخ Javelins فيصناديقها. كانت حماية دبابات T-72 و T-80 في أفضل حالاتها.

كما أن أنظمة الصواريخ المحمولة المضادة للطائرات من طرازStinger لم تظهر ما يمكن الاعتداد به. صواريخ "ستينغز" التييجري إطلاقها تنحرف عن الهدف. فمروحيات Ka-52، تشغلنظام الحماية L-370 Vitebsk، الذي يسميه الطيارون الملاكالحارس.

 

لا أحد يفهم

 

كتب المحلل الروسي ألكسندر نازاروف:

بالطبع، هناك هدفان معلنان رسميا للحرب: نزع السلاح واجتثاث النازية، بالإضافة إلى ما أعلن عنه الكرملين مرارا وتكرارا من أنه لن يحتل أوكرانيا، إلا أنه من الواضح أن تنفيذ هذه المهام قد يأخذ أشكالا متعددة، ولا وضوح في هذا الشأن.

لا توجد أسئلة حول الهدف الأول، فالجيش الروسي يدمر، على نحو منهجي وبانتظام، الجيش الأوكراني والصناعات العسكرية الأوكرانية، والتي ستختفي من الوجود خلال شهر أو يزيد، وهو هدف لا يتعارض مع حقيقة غياب نية الاحتلال.

بالنسبة للهدف الثاني، فالوضع أكثر تعقيدا. بالطبع سيقتل معظم النازيين الذين يخدمون في الجيش خلال هذه الحرب. مع ذلك، فقد عكفت أنظمة بوروشينكو وزيلينسكي، الموالية للولايات المتحدة الأمريكية، على بث الكراهية والدعاية النازية داخل المجتمع الأوكراني لمدة 8 سنوات بعد الانقلاب، لهذا سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، ضمان اجتثاث النازية من المجتمع الأوكراني، من دون احتلال لبعض الوقت.

في الوقت نفسه، فإن إنجاز هذه المهمة أمر حيوي لأمن روسيا على المدى الطويل.

لكن القوات الروسية التي دخلت الأراضي الأوكرانية هي أقل بثلاث مرات من تعداد الجيش الأوكراني، ومع الوضع في الاعتبار حالة التعبئة التي يقوم بها نظام زيلينسكي حاليا، فربما يصبح التفوق العددي للجيش الأوكراني بضعفين أو ثلاثة أخرى.

وأخذا بعين الاعتبار التفوق الكامل للجيش الروسي من حيث الأسلحة، فمن الممكن تحقيق نصر عسكري على أوكرانيا، لكنه من المستحيل بكل تأكيد السيطرة على كامل أراضي الدولة. علاوة على ذلك، فإن روسيا لم تغير السلطة في المناطق الخاضعة لسيطرتها بعد. وبصرف النظر عن الحالات التي اضطرت فيها إلى ذلك نظرا لحالات التخريب النادرة، فقد ظل جميع رؤساء البلديات السابقين وغيرهم من السلطات الأوكرانية في أماكنهم.

بشكل عام، يشهد كل ذلك لصالح حقيقة أن الكرملين لا يهدف فعليا إلى احتلال أوكرانيا. لكن الأهداف، بطبيعة الحال، يمكن أن تتغير تحت تأثير الظروف الجديدة ومسار الحرب.

يذكرني ذلك أكثر فأكثر بما قامت به الوحدات الروسية في سوريا، حيث تم تحقيق نقطة التحول في الحرب بواسطة تعداد قوات متواضع إلى حد ما.

أشارككم فهمي لسياسات الرئيس بوتين: إنه لا يسعى، في أي صراع، إلى فرض إرادته، وإنما يسعى فقط إلى منع العدو من الانتصار، خاصة إذا ما كان الخصم أقوى، وهو ما يدفعه إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات. يقلل ذلك من إهدار الموارد، وتتيح مثل تلك التسوية نتائج طويلة الأجل.

فإذا كان الخصم عاقلا، سيشرع عندئذ في الحوار إن عاجلا أم آجلا، ليتم التوصل إلى نقطة توازن مقبولة للطرفين، كما هو الحال مع تركيا في سوريا. في أوكرانيا، اتبع بوتين هذا التكتيك لمدة 8 سنوات، ومنع أوكرانيا من الانتصار في إقليم الدونباس، لكن الدعم والتشجيع الأمريكي، لسوء الحظ، أصاب القادة الأوكرانيين بالزهو بالقوة، ورفضوا المفاوضات والتسويات. يحدث الشيء نفسه في إطار الصراع مع الغرب ككل، الذي لا يزال واثقا من مناعته، ولا يتنازل حتى يبدأ فعليا في النزيف.

 

المهمة الأساسية

 

أعتقد أن تلك هي المهمة الأساسية للعملية الخاصة في أوكرانيا، والتي تأتي في إطار هذا النهج، للقضاء على النفوذ النازي والأمريكي في البلاد، وتحقيق شكل من أشكال التسوية مع السلطات الأوكرانية التي ستنشأ بعد إزالة نظام زيلينسكي.

كل هذه المهام، بما في ذلك المهمة الأخيرة، يمكن تحقيقها بقوة استكشافية ضئيلة الحجم نسبيا. في هذا الصدد، يحمل الاستيلاء على مناطق جديدة أهمية ثانوية بالمقارنة بمهمة تدمير الجيش الأوكراني. أعني أن هذا هو السبب لإحجام بوتين عن زيادة عدد القوات في أوكرانيا من أجل إحراز تقدم أسرع، بمعنى اتباع السيناريو السوري وتقليل إنفاق الموارد والاعتدال في التوقعات. وفي مواجهة المقاومة الجادة، سيركز الجيش الروسي على المزيد من تدمير الجيش الأوكراني والبنية التحتية العسكرية بمساعدة الطائرات والصواريخ، التي يتفوق فيها بميزات ساحقة، لتحقيق الهدف دون زيادة في إنفاق الموارد، ولكن في وقت أطول قليلا.

ولا أعتقد أنه سيقتحم المدن الكبيرة التي يسيطر عليها الجيش الأوكراني على الأرجح، وإنما سيتم تطويقها، وبمرور الوقت، سينقل الجنود الأوكرانيين من هناك إلى إدلب الأوكرانية: غرب أوكرانيا.

لكني لست متأكدا جدا من النقطة الأخيرة، وإليكم السبب:

ليس من قبيل الصدفة أن يظل بوتين غامضا بشأن خططه، فعندما تكون خطتك معروفة للعدو، يسهل عليه التخطيط للرد. إلا أن السؤال يظل مطروحا: إلى أي مدى يمكن أن يذهب بوتين؟.

لم يكن عبثا نقل الأمريكيين لسفارتهم أولا إلى مدينة لفوف. فأوكرانيا الغربية هي موطن النازية الأوكرانية، إنها دولة داخل الدولة، بعقلية وتاريخ مختلفين. يتحدث السكان هناك اللغة الأوكرانية في البيت، بينما يتحدث معظم سكان أوكرانيا اللغة الروسية أو مزيج من الأوكرانية والروسية على الأقل. باختصار، تعتبر هذه المنطقة بالنسبة لروسيا عملية استحواذ مشكوك فيها للغاية. ولدى الجميع سبب وجيه للشك في أن روسيا ستذهب إلى الحدود الغربية لأوكرانيا من أجل مثل هذه “الهدية”.

من ناحية أخرى، فإذا لم يتم تطهير كامل الأراضي الأوكرانية من النازيين، فإن التشابه مع سوريا سيكتمل، وستظهر جيوب إرهابية تحت سيطرة قوى خارجية، مثل إدلب، وستكون قرحة تنزف في الجسد الأوكراني، ومنها سيأتي تهديد مستدام على بقية أراضي البلاد.

في الآونة الأخيرة، شهدنا المزيد والمزيد من بوادر التطورات في هذا الاتجاه. فقد دفعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحلبة بولندا، وهي مستعدة لأن تحرق نفسها في نيران الحرب بكل إخلاص وسرور، بشرط أن تجر أوروبا إلى صراع عسكري مع روسيا لصالح الولايات المتحدة. وبالفعل بدأت بولندا بنشاط تشكيل تحالف لغزو أوكرانيا. وفي قمة “الناتو” الطارئة المنعقدة يوم الخميس 24 مارس، تمت مناقشة اقتراح بإنشاء ما يسمى بـ “قوات حفظ السلام”، والتي تتكون من 10 آلاف جندي، والتي تجنب الأمريكيون المشاركة فيها، لكنهم لا يتدخلون علنا في مبادرة بولندا الانتحارية.

وقد أدى غياب الوضوح في خطط بوتين إلى إعاقة الغرب حتى الآن. دعونا نتذكر أن بوتين، وبينما كان يعلن عن بداية العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، كان قد حذر الغرب من أي محاولة لعرقلة روسيا من استعادة النظام في أوكرانيا، وتوعد أيا من تسول له نفسه بذلك من عواقب وخيمة لا مثيل لها في تاريخه.

ومع ذلك، ففي رأيي المتواضع، لا أعتقد أن أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر احتمال استخدام روسيا للأسلحة النووية احتمالا حقيقيا. وحتى ولو لم يكن الأمر كذلك، فإن واشنطن، على أية حال، مستعدة للتضحية، ليس فقط ببولندا ودول البلطيق، بل بأوروبا الشرقية كلها، إذا كان من الممكن في سبيل ذلك جعل روسيا وأوروبا الغربية أعداء لعقود، وإجبارهم على الدخول في الحرب.

لذلك، يتصاعد احتمال غزو بولندا لأوكرانيا الغربية وتزداد واقعيته يوما بعد يوم.

فكيف سيكون رد بوتين على ذلك؟

سؤال عويص.

لقد انتزع ستالين أجزاء من أراضي رومانيا والمجر وبولندا ليضمها إلى أوكرانيا. ربما يكون تقسيم أراضي أوكرانيا وسيلة معقولة للخروج من هذا الوضع، وقد ظهرت خارطة كهذه على التلفزيون البولندي مؤخرا.

ولكن، من ناحية أخرى، يخلق الغزو البولندي خطر حدوث صدام مباشر بين القوات الروسية وقوات الدول الأعضاء في “الناتو”، وهناك توجد حرب نووية وشيكة للغاية.

 

الإصرار الأمريكي

 

كتب الدبلوماسي الأمريكي المتقاعد تشاس فريمان في مقال نشره على موقع The Gray Zone يوم 27 مارس:

"الولايات المتحدة تخوض مع روسيا حربا غير معلنة في أوكرانيا للحفاظ على هيمنتها في العالم، مؤكدا أن واشنطن ستحارب روسيا "حتى آخر أوكراني". وأضاف أن تصرفات واشنطن لم تترك لموسكو أي خيار سوى استخدام القوة، "يبدو لي أن كل ما تفعله الولايات المتحدة الآن يهدف إلى إطالة أمد الحرب".

وبرأي الدبلوماسي ففي الولايات المتحدة من يعتقدون أن الوضع الحالي يصب في مصلحة الدولة، إذ أن الأزمة تعزز الموقف السلبي تجاه روسيا، وذلك مفيد للمجمع الصناعي العسكري الوطني، وتعزيز الناتو.

يوم الاثنين 28 مارس أعلنت مصادر متطابقة في روسيا وأوكرانيا أن الطرفين اتفقا على إجراء جولة جديدة من المفاوضات المباشرة يومي الثلاثاء والاربعاء، بعد انقطاع استمر أسبوعين جرت خلاله مشاورات متقطعة عبر تقنية الفيديو كونفرانس. وينتظر أن تعقد الجولة هذه المرة في تركيا، لكن موسكو استبقت اللقاء، بالتمسك برؤيتها حول النتائج المرجوة، وقالت على لسان كبير المفاوضين الروس فلاديمير ميدينسكي إن أي اتفاق نهائي يجب أن يتضمن "حزمة متكاملة من التفاهمات" على كل النقاط المطروحة للبحث، وقال إن بلاده "تصر على التوصل معاهدة شاملة، تراعي كل النقاط الحيوية التي طرحتها روسيا".

في الأثناء، لاحت بوادر التطورات المتوقعة لمستقبل إقليمي دونيتسك ولوغانسك بعد انتهاء العمليات العسكرية فيهما. وأعلنت سلطات لوغانسك عن الاستعداد لتنظيم استفتاء على الانضمام إلى قوام روسيا الاتحادية وفق سيناريو شبه جزيرة القرم.

الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا وصفت المفاوضات مع أوكرانيا بأنها "ليست جيدة ولا سيئة"، متهمة كييف باستخدام المفاوضات لـ"تشتيت الانتباه وبناء قدراتها العسكرية، ومواصلة التدمير بكل الوسائل".

وكانت زاخاروفا قد اتهمت قبل يومين الوفد الأوكراني بأنه "لا يمثل مصالح بلاده ويتلقى تعليمات مكتوبة من واشنطن". وقالت يوم الأحد: "الآن ينصب اهتمام العالم كله على كيفية سير المفاوضات. لا جيدة ولا سيئة، يماطلون ويمددون".

وزادت الدبلوماسية الروسية أن الجانب الأوكراني "يعطي إشارات إلى أنهم يريدون المفاوضات. في الواقع، لم يرغبوا بها أبداً في كل هذه السنوات. كان الحديث عن المفاوضات دائما مجرد مناورة تهدف إلى تشتيت الانتباه، وبناء القدرات العسكرية، ومواصلة التدمير بكل الوسائل، ولكن في نفس الوقت يتظاهرون، بالطبع، بأنهم مع السلام وعملية التفاوض".

 

الصراع الاقتصادي

 

بعيدا عن ساحة قعقعة السلاح يظهر تصدع في توقعات الغرب بشأن فعالية حصاره الإقتصادي لروسيا خاصة بعد أن تبين أنه بإستثناء دول أوروبا واستراليا وكندا والولايات المتحدة واليابان تصر بقية دول العالم وفي مقدمتها الصين والهند على مواصلة التعامل اقتصاديا وسياسيا مع الكرملين.

كتبت صحيفة "الغارديان" البريطانية أن عقوبات واشنطن وحلفائها على روسيا ستوقع الغرب في فخ نصبه لغيره، وأن أهمية روسيا للعالم تتجاوز حجم اقتصادها حيث تصدر أهم المعادن والحبوب، وتتمتع بطاقات تقنية.

وجاء في مقالة الصحيفة البريطانية: "أهمية روسيا بالنسبة للعالم بأسره تتجاوز حجمها باعتبارها الاقتصاد الحادي عشر في العالم.. ستمثل إعادة توجيه روسيا صادراتها من النفط والغاز والفحم إلى المستوردين الآسيويين صدمة اقتصادية كبيرة".

وأشار كاتب المقال إلى أن "قرار روسيا تسعير الغاز بالروبل، سيعيد الاستثمارات في الصناعات الاستخراجية بسبب ارتفاع أسعارها، مما يهدد بعكس الاتجاه نحو تحول الكوكب نحو الطاقة النظيفة.. روسيا هي مصدر لأهم المعادن، بالإضافة إلى ذلك، تستورد أكثر من 25 دولة إفريقية أكثر من ثلث القمح من روسيا”.

وتابع: “لدى واشنطن نفوذ للضغط على النظام المالي العالمي، لكن في كثير من الأحيان لا تستطيع الولايات المتحدة تحديد أهدافها”.

وشددت الصحيفة على أن “روسيا ستكون قادرة على تطوير تقنيات جديدة، وبفضلها ستتمكن من الخروج من القفص الجيوسياسي”.

يذكر أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن كان قد صرح يوم 18 مارس إن العقوبات الغربية على روسيا لا تهدف إلى أن تستمر إلى الأبد، بل ستستمر "حتى تغير موسكو مسارها". وأضاف يجب الاستعداد لعدم تحقيق العقوبات على روسيا للنتيجة المرجوة على الفور.

ذكر تحليل لمجلة foreign affairs نشر يوم 22 مارس: في الوقت الحالي، سيتطلب مجرد الإبقاء على العقوبات الحالية سياسات تعويضية نشطة. بالنسبة لأوروبا على وجه الخصوص، لن تكون السياسات الاقتصادية القائمة على مبدأ عدم التدخل أو التجزئة المالية مستدامة إذا استمرت الحرب الاقتصادية. ولكن إذا قرر الغرب زيادة الضغط الاقتصادي على روسيا أكثر، فإن التدخلات الاقتصادية بعيدة المدى ستصبح ضرورة مطلقة.

ستلحق المزيد من العقوبات الغربية المكثفة مزيدا من الضرر، ليس فقط للمعاقبين أنفسهم ولكن للاقتصاد العالمي ككل. بغض النظر عن مدى قوة وتبرير عزم الغرب على وقف حرب بوتين، يجب على صانعي السياسة قبول الواقع المادي المتمثل في هجوم اقتصادي شامل ستدخل ضغوطا جديدة كبيرة على الاقتصاد العالمي.

سيؤدي تشديد العقوبات إلى سلسلة من الصدمات المادية التي ستتطلب جهوداً بعيدة المدى لتحقيق الاستقرار. وحتى مع إجراءات الإنقاذ هذه، قد تكون الأضرار الاقتصادية خطيرة، وستظل مخاطر التصعيد الاستراتيجي عالية. لكل هذه الأسباب، يظل من الضروري اتباع مسارات دبلوماسية واقتصادية يمكنها إنهاء الصراع. مهما كانت نتائج الحرب، فقد كشف الهجوم الاقتصادي ضد روسيا بالفعل عن حقيقة جديدة مهمة: لقد انتهت حقبة العقوبات التي يمكن التنبؤ بها وعديمة التكلفة والخالية من المخاطر.

روبرت بايب، المختص في شؤون العقوبات الأمريكية يقول، أنه من بين 115 مرة فرضت فيها واشنطن عقوبات اقتصادية خلال القرن الماضي، لم تفلح هذه الوسيلة في تحقيق أهدافها سوى في خمس حالات فقط.

ويضيف أن العقوبات على العكس تدفع بالمجتمع المستهدف إلى مزيد من التمسك بموقفه والتحدي للطرف المعادي. أن فشل العقوبات أصبح واضحا بما يكفي لتجنب أي جدل حول نجاعتها كوسيلة للتغيير السياسي.

 

النفط والغاز بالروبل

 

يشكل فرض التعامل بالعملة الروسية الروبل مع الدول المصنفةعدوة والمشاركة بشكل أو بآخر في نظام الحصار أحد أدواتالكرملين القوية في معركته ضد العقوبات الاقتصادية.

الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أمهل الحكومة حتى 31 مارسلتحويل الدفع مقابل الغاز الروسي إلى الروبل الروسي بدل اليوروأو الدولار بالنسبة للدول غير الصديقة. 

بسبب العقوبات الغربية فإن مراكمة الاحتياطات الأجنبية منالدولار وغيره من العملات لم تعد ذا أهمية بالنسبة إلى روسيا كماكان في السابق، خاصة إذا كانت التحويلات بالعملة الأجنبيةمعرضة لعدم الوصول إلى جيب الخزانة الروسية.

لذلك فإن روسيا قررت أن على الدول "غير الصديقة" أن تشتريالغاز بالروبل، بدلًا عن شرائه بأية عملة أخرى، أو أن تبادل الغازبسلع ترسلها إلى روسيا، وبالتالي فإن موسكو لن تتخلى عنالعملات الأجنبية فحسب، بل تدعم الروبل بهذه الخطوة، وترفعقيمته في السوق، عن طريق رفع الطلب عليه في الداخل والخارج.

منذ بدء الحرب فقط، أي خلال شهر واحد، استورد الاتحادالأوروبي من روسيا ما قيمته 18 مليار دولار من الطاقة، وفي حالكانت بقيت مبيعات الطاقة الروسية إلى أوروبا على حالها طوالالعام، فإن ذلك يعني أن أوروبا وحدها ستضطر إلى دفع ماقيمته أكثر من 200 مليار دولار لروسيا ثمنا للطاقة، الآن عليهاإذا رضخت لطلب موسكو أن تدفع ذلك بالروبل وتقدم دعماللإقتصاد الروسي.

الخطوة تعتبر أسلوبا روسيا للمناورة في مواجهة العقوبات،خصوصا أن مستوردي الطاقة من روسيا سيضطرون إلىالتفاوض مع البنوك الروسية التي فرضت عليها العقوبات الغربية،وسيضطرون إلى قبول تحويلات منها وإرسال تحويلات إليها، فيخرقٍ اضطراري للعقوبات.  

المانيا ودول غربية أخرى رفضت يوم الاثنين 28 مارس الدفعبالروبل، ولكن ذلك لا يعني نهاية القصة. فالحكومات الغربيةليست المتعاقد من روسيا لشراء الغاز والنفط، الشراء والتعاقد يتمعبر الشركات الغربية الكبرى كشل وإيني وتوتال وغيرها ولحفظماء وجه الدول الأوروبية يمكن أن يترك للشركات التعامل معالمشكل ولو عبر قنوات مالية خارجية خاصة في دول الخليجالعربي. 

 

منافذ

 

حول الدفع بالروبل كتب المحلل السياسي ألكسندر نازاروف يوم28 مارس: 

تحدث بوتين عن الغاز "كبداية"، بمعنى أن بإمكاننا افتراض أنصادرات أخرى ستتبع الغاز في التعامل بالروبل، من السلعوالمواد الخام الروسية التي لا يمكن تعويضها، وحتى تشمل جميعالصادرات. 

لا داعي للتكرار هنا أن أوروبا لا تمتلك خيارا آخر سوى الموافقة،حيث لن تكون قادرة على استبدال الغاز الروسي لا في هذاالعام، ولا حتى في غضون سنوات قليلة. بالأحرى، سيكون عليهاكي تفعل ذلك أن تكرس نصف اقتصادها له، بعد ذلك سينهارالنصف الآخر. لذلك فإن كل تصريحات السياسيين الأوروبيين،بأن أوروبا لن ترضخ لشرط التعامل بالروبل، ليست سوى المرحلةالأولى من قبول المحتوم وهي "الإنكار"، بعدها سيأتي الغضب،ثم محاولة التفاوض فالاكتئاب ثم القبول في نهاية المطاف.

وفقا لهذا النهج، أتوقع أن يرفض الاتحاد الأوروبي الدفع مبدئيا،بعدها سوف تعلق روسيا الإمدادات، حتى يبدأ دفع ثمن الغازبالروبل. 

يلي ذلك فترة من ردود الفعل العنيفة داخل الاتحاد الأوروبي،حيث ستبدأ من الصناعيين، بعدها سوف يمارس الشعب ضغوطاعلى السياسيين، الذين سيلومون بطبيعة الحال بوتين. ومع ذلك،فإن الدبلوماسية الأوروبية ستتقدم لإيجاد "حلول وسط" معروسيا، أي وسيلة لاستئناف الإمدادات دون رفع أشد العقوبات.

بالمناسبة، سوف يكون على بلدان الخليج في هذه المرحلة أنتتحمل ضغطا وحشيا من واشنطن، في الوقت الذي سوفتتصاعد وتيرة التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، التيستعلن أنها لن تسمح لدول الخليج بالتخلي عن عقودها معها،وهو تصعيد من الصعب التكهن بدرجته، إلا أن العرب في الخليجسوف يتعرضون للتهديدات من الغرب ومن الصين على حد سواء.

بعد ذلك، في يونيو ويوليو، عندما يتم استهلاك احتياطيات الغاز،سوف تطال التداعيات الاقتصادية أوروبا. فتغلق المصانع، وتشحالسلع، وتندلع مظاهرات واحتجاجات جماهيرية، ويحدث انقسامداخل الاتحاد الأوروبي، وبين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية،وانهيار محتمل للائتلاف الحاكم في ألمانيا وغيرها. 

وفي موعد لا يتجاوز سبتمبر أو أكتوبر، ستضطر أوروبا إلىالبدء، بدرجة من الخزي والإذلال، أن تلغي العقوبات المعاديةلروسيا. ربما قبل ذلك، حيث سيكون من الواضح بالفعل في يوليوأن أوروبا ستواجه كارثة اقتصادية واجتماعية في الشتاء بدونالغاز الروسي.

كل ذلك واضح، ولن أخوض في تفاصيله. إلا أن اللغز يتعلق بأمرآخر، حيث لا تتوقف درجة الخزي والإذلال لأوروبا على آلية الدفعفحسب، بل ستمتد لتطال مصير الدولار كعملة عالمية لآليات الدفع.

 

انهيار الاقتصاد العالمي

 

في الظروف العادية، لم تكن لتوجد صعوبة في سداد المدفوعاتبالروبل من خلال النظام البنكي، حيث ستقوم البنوك الغربية،نيابة عن المستوردين الأوروبيين أو اليابانيين وغيرهم منالمستوردين للغاز الروسي، بتبادل الدولار واليورو والين مقابلالروبل في البورصة، أو من خلال البنوك الروسية. وكان منالممكن، بدلا من ذلك، للبنوك الروسية إقراض شركائها الغربيينبالروبل.

لكن ذلك يتطلب أن يكون لدى البنوك الغربية حسابات بالروبل فيالبنوك الروسية والعكس صحيح، أن يكون لدى البنوك الروسيةحسابات بالدولار واليورو في البنوك الغربية. وبينهما، يجب أنتكون هناك آلية تسوية، مثل نظام "سويفت" SWIFT، الذيقطعوه عن البنوك الروسية. في ظل العقوبات، لم يعد الأمر كذلك،على الأقل بالنسبة للبنوك الكبيرة القادرة على خدمة المعاملاتالكبيرة.

يعني ذلك أن أوروبا ستضطر صاغرة وبإذلال، على أي حال، إلىإلغاء هذه الحزمة من العقوبات.

لكن ذلك سيظل إجراء فاترا لروسيا. فالغرب سيظل يدفع للبنوكالروسية باليورو أو بالدولار، وينقلها إلى روسيا ويحولها هناك إلىالروبل. دعنا نسمي هذه الطريقة "أسلوب التسوية رقم 1". فيوقت سابق كان ذلك التحويل إلى الروبل يحدث من قبل المصدرينالروس، بعد إتمامهم الصفقة، الآن سيقوم بذلك الشركاءالغربيون. 

هناك أمر آخر، فحتى 28 فبراير من العام الجاري، لم يكنالمصدرون الروس مطالبين ببيع العملة الصعبة المحصلة فيالسوق الروسية. أي أنه لم يكن هناك طلب إضافي على الروبل،وفقا لقانون العرض والطلب لم يرتفع الروبل مقابل الدولار. منذ 28 فبراير، ألزمت الحكومة المصدرين ببيع 80 في المئة من الدولار أواليورو الذي يحصلون عليه. ويعني تحويل التجارة الخارجية إلىالروبل بيع 100 في المئة من أرباح العملات الأجنبية، أي أنالطلب على الروبل يجب أن ينمو بقوة، ما يعني أن يرتفع بقوةمقابل الدولار. وأعني هنا "بقوة" أي أن ينخفض إلى 70 روبلللدولار الواحد، مقارنة بسعره الحالي حوالي 100 روبل للدولار. ربما يعزز الروبل مكانته أكثر، لكني لست متأكدا مما إذا كانبإمكاننا رؤية ذلك المستوى ما لم تتحول التجارة الخارجيةالروسية كلها إلى الروبل.

وهنا تبرز مشكلة أوروبا، حيث لا يمتلك النظام المالي الروسي فيالوقت الراهن ما يكفي من الروبلات الإضافية، التي يمكنللشركات الغربية شراؤها لدفع ثمن الغاز الروسي، حيث كان يتمتداول الغاز سابقا خارج النظام المالي الروسي. سيتعين إذنعلى روسيا طباعة مبالغ بالروبل تتناسب مع قيمة صادرات الغازالروسية.

يوجد الآن لاعب واحد فقط في روسيا يمكن للغرب، بطريقة أوبأخرى، أن يحصل منه على تلك المبالغ الضخمة اللازمة بالروبل،ألا وهو البنك المركزي الروسي، الخاضع للعقوبات الغربية. أي أنهلن يبق لأوروبا سوى الاقتراض من البنك المركزي الروسي، سواءبقرض مباشر أو من خلال البنوك المرخصة، والتي قد تكون هيالأخرى من بين البنوك التي فرض الغرب عقوبات عليها.

أي أنه سيتعين على الغرب صاغرا مرة أخرى إلغاء الحزمةالإضافية من العقوبات، ويمكن هنا للبنك المركزي الروسي، وآملأن يتحلى حينها بالصرامة، أن يجبر أوروبا على إلغاء تجميدالاحتياطات الروسية، قبل أن يقرض أوروبا لشراء الغاز الروسي.

إلا أن المتعة ها هنا تبدأ: فهناك مشكلة أخرى، حيث تبيع روسياللعالم أكثر مما تشتري. لهذا فإن لديها دائما دولارات ويوروإضافية، استثمرتها في احتياطياتها، واشترت ديونا أوروبيةوأمريكية. الآن تم تجميد تلك الاحتياطيات، بل أصبح على روسياألا تنشئ بل من الخطر عليها أن تنشئ احتياطيات جديدةبالدولار أو اليورو.

 

خطر التكديس

 

وفي ظل الظروف الراهنة، فإن المخطط المعتاد، الذي يفترض أنيكون لدى البنوك الروسية حسابات في البنوك الغربية أصبح أمراضارا وخطرا، وأصبح الأمر الأكثر خطورة بالنسبة لروسيا أن تبدأفي تكديس احتياطيات بالدولار أو باليورو مرة أخرى.

أي أن على روسيا الابتعاد عن استخدام هذه العملات بشكل عام،ليس فقط في الصادرات، ولكن أيضا في الواردات. أي أنه منالضروري اللجوء إلى "أسلوب التسوية رقم 2"، الذي يستثنياستخدام الدولار واليورو بشكل عام. ربما تفرض الحكومة حظراعلى تحويل الدولار واليورو إلى الخارج، ما يؤدي إلى إتماممعاملات الاستيراد بالروبل أو باليوان الصيني أو الروبية الهندية،وغيرها. لن يكون ذلك بكل تأكيد أمرا سهلا، ومن غير المرجح أنيحدث على الفور، لكني أعتقد أن روسيا ستتحرك في هذاالاتجاه، خاصة إذا لم يرفع الحظر عن الاحتياطيات الروسية منقبل الغرب خلال الأشهر المقبلة. 

لقد دفعت أوروبا نفسها، بطريقة أو بأخرى، إلى ذلك الركن المزعجللغاية. ولم يترك بوتين لأوروبا سوى خيارين: فإما الخزي والإذلالغير المسبوق، حيث سيتعين عليها عمليا الركوع وتقبيل حذاء بوتينأمام الجميع، وإما قبول تبعات تصرفاتها وفقدان الغاز الروسي.

يبدو القرار الذي سيتعين على أوروبا اتخاذه واضحا بالنسبة لي،ولكن، ونظرا لطبيعته المؤلمة، فلن تتخذ أوروبا قرارا بشأنه علىالفور.

على أية حال، ستعاني أوروبا كثيرا في الأشهر المقبلة، جراءغبائها.

 

عمر نجيب

[email protected]