امتحان حاسم للنظام العالمي الذي يعاد بناؤه .... كازاخستان جزء من صراع أوسع بين موسكو وواشنطن

أربعاء, 2022-01-12 09:43

خلال عقود الحرب الباردة خاضت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي صراعات عديدة من أجل توسيع نفوذهما وضم أكبر عدد من الدول إلى معسكرهما سواء سياسيا أو عسكريا أو ايدولوجيا أو كلها مجتمعة، وفي ظل هذا التطاحن ولد تنظيم عدم الانحياز الذي اختارت دوله الابتعاد عن صراع العملاقين والبحث عن مصالحها تحت حماية نسبية للظلال التي وفرها امتحان القوة بين موسكو وواشنطن. في تلك الأثناء كانت الصين تعمل بصمت لتنفيذ قفزتها إلى الأمام. الصراع بين البيت الأبيض والكرملين وكذلك ما قد نسميه التنافس بين أمريكا من جانب والقوى الاستعمارية التقليدية مثل بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وبلجيكا والبرتغال، مكن العديد من الدول من الخروج من تحت عباءة ما نسميه الاستعمار الترابي. لكن الخروج من مرحلة الاستعمار الترابي لم يكن متوازيا في شكله للجميع فالبعض حقق نجاحا كبيرا سواء حربا أو سلما، والبعض الآخر لم يفلح خاصة بعد أن سقط تحت قبضة ما نسميه بالاستعمار الحديث.

حتى بداية العقد التاسع من القرن العشرين كان العالم يعيش حالة نسبية من التوازن وفرت حماية لسلامة واستقلال الكثير من الدول، ولكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي في 26 ديسمبر 1991 اختل التوازن وخلق نظام عالمي جديد أحادي القطب تحت سيطرة الولايات المتحدة. 

خلال العقدين التاليين أي حتى قرب نهاية العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين هيمنت واشنطن على الساحة الدولية وفرضت إراداتها بشكل شبه كامل، غير أن هذه السيطرة كانت تتعرض دائما لصدمات وتحديات على أكثر من صعيد وعلى أيد أطراف متعددة.

كان تركيز البيت الأبيض للحفاظ على موقعه العالمي المتفوق منذ بداية العقد موجها ضد استعادة موسكو لنفوذها ليس في أوروبا فحسب بل في مناطق العالم الأخرى خاصة الجمهوريات السوفيتية السابقة والشرق الأوسط، والعمل على إقامة طوق حصار على روسيا سواء من الجنوب أو الشرق والغرب. قفزة الصين الاقتصادية والسياسية والعسكرية ومخططات الكرملين لاستعاد أمجاد الماضي والعودة بالعالم إلى نظام تعدد الأقطاب أجبرت واشنطن على إدخال تعديلات على إستراتيجيتها والتخفيف من حدة معارضتها وتخريبها للتكتلات حتى الغربية التي تهدد نفوذها وتحويل ثقلها العسكري والسياسي والاقتصادي إلى منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ.

هكذا شهد العالم صدمات وتحولات وحروب غالبيتها بالوكالة خاصة بعد أن أدركت واشنطن عبر حروب أفغانستان 2001 والعراق 2003 وسوريا وليبيا 2011 وغيرها أنه يمكن تحقيق المبتغى دون التضحية بجندي أمريكي واحد.

 

محيط روسيا

 

من بوابة التعلل بدعم استقلال وازدهار بلدان آسيا الوسطى والبلدان المحيطة بروسيا، كثفت الولايات المتحدة جهودها لعزل روسيا عن محيطها السوفييتي السابق، وهو ما بدا حسب تقرير صدر في 5 فبراير 2020 في ختام جولة نادرة لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، بعث خلالها رسائل واضحة بدعم أوكرانيا في مواجهة روسيا من كييف، وطرح فيها على بيلاروسيا عروضا للمحافظة على "استقلالها وسيادتها". ومع تشديده على العلاقات المتينة مع كازاخستان ورغبة بلاده في تقويتها، اطّلع الوزير الأمريكي على الأوضاع في البلاد بعد نقل السلطة وفق مخطط "أبي الأمة" نور سلطان نزارباييف، فيما عرض بومبيو على أوزبكستان تسهيل الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية مقابل رفض العرض الروسي بالانضمام إلى الاتحاد الأوراسي الاقتصادي.

وفي حين بدا أن موسكو المستهدفة في شق الجولة الأوروبي لبومبيو، كان واضحا أن واشنطن تسعى إضافة إلى إبعاد بلدان آسيا الوسطى عن روسيا، لمواجهة التوسع الصيني ومحاولة دق إسفين بين الطرفين عبر التذكير بقضية الإيغور (يعيش قسم منهم أيضا في آسيا الوسطى) في جنوب غربي الصين.

وتعليقا على الزيارة لمينسك، قال خبير العلوم السياسية وأستاذ أكاديمية العلوم الروسية ألكسندر غوسيف، إن الوزير الأمريكي، في زيارته لمينسك، حاول إبعاد بيلاروسيا عن روسيا. وأضاف في تصريحات لوكالة "نوفوستي" الروسية: "يبدو لي أن لوكاشينكو يرى أن هذه الزيارة هي زيارة اقتصادية أكثر منها سياسية. لكن بالنسبة للولايات المتحدة، هي تحدٍ سياسي موجه إلى روسيا أولا. لأن الجميع يفهمون أن بيلاروسيا هي القلعة الأمامية لروسيا، والجميع معتادون على التفكير في ذلك. من المهم جدا لبومبيو جس النبض واستكشاف مزاج البيلاروسيين، والوضع العام في البلاد، في ما يتعلق بروسيا".

 

تفعيل صيغة "5 زائد 1"

 

ومن غرب روسيا إلى خاصرتها الجنوبية، تابع بومبيو رحلته، وحط في كازاخستان، الدولة الأقرب لروسيا في آسيا الوسطى، والعماد الرئيس للهياكل الاقتصادية والأمنية التي بنتها روسيا في الفضاء السوفييتي السابق في العقدين الأخيرين. الزيارة شكلت فرصة لمعرفة الأوضاع بعد الانتقال السياسي في البلاد، واستطلاع إمكانية استغلال الصداقات القديمة لتعزيز الوجود الأمريكي في مواجهة التوسع الروسي والصيني. والتقي بومبيو الرئيس قاسم زومارت توكاييف و"زعيم الأمة" نور سلطان نزارباييف وكال له المديح واصفا إياه بالصديق القديم للولايات المتحدة، وصانع التغييرات الإيجابية في كازاخستان المثيرة للإعجاب.

بدوره، أشار نزارباييف إلى أن التعاون الأمريكي الكازاخستاني بدأ منذ فجر الاستقلال، مع إبرام اتفاقية مع شركة شيفرون النفطية، مؤكدا أن العلاقات متينة مع وجود أكثر من 400 مشروع مشترك، واستثمارات أمريكية تصل إلى 45 مليار دولار. ومعلوم أن واشنطن كانت أول دولة اعترفت بإنفصال كازاخستان في ديسمبر 1991 عن الاتحاد السوفيتي. من جهته، تعهد بومبيو بزيادة الاستثمارات وتنويعها لتشمل المجالات غير النفطية، ومع تأكيده أن واشنطن تدعم حرية كازاخستان في اختيار الدولة التي تتعامل معها، استدرك بالقول: "لكنني متأكد من أنه يتم الحصول على أكبر أرباح للبلاد عند التعاون مع الشركات الأمريكية"، في تشجيع مباشر لاختيار الشركات الأمريكية على حساب الروسية والصينية.

مخزونات النفط والغاز ليست وحدها ثروة البلاد صحيفة فايناشيال تايمز تضيف إليها الثروات الطبيعية الضخمة الأخرى التي تمتلكها، وتقدر قيمتها بـ 22 تريليون دولار، وأهمها اليورانيوم والكروم والرصاص والزنك والمغنزيوم والنحاس والفحم والذهب والحديد والألماس والبترول والغاز.

وحتى عام 2015، كانت الدولة الآسيوية من بين أسرع 10 اقتصادات نموا في العالم، ويرجع ذلك أساسا إلى تطوير مواردها الغنية بالهيدركربونات وسياساتها الموجهة للتصدير، بحسب وكالة الطاقة الدولية.

وتملك كازاخستان ثاني أكبر مناجم مكتشفة لليورانيوم في العالم، بحسب تقرير "سيكلوب" السنوي حول المواد الأولية. وتزود كازاخستان المحطات النووية الفرنسية باليورانيوم وتؤمن 40 بالمئة من الإنتاج العالمي، بحسب بيانات شركة "سي ار يوم كونسالتينغ" الاستشارية.

ويشير المحلل توكتار تورباي لدى هذه الشركة إلى أن "أكثر من نصف صادرات اليورانيوم الكازاخستاني مخصصة للصين". ويقول مراقبون أن وقف الامدادات الموجهة للصين ستكون في مصلحة واشنطن التي تسعى لإضعاف بكين بكل الطرق.

العاصمة الأوزبكية طشقند، كانت خاتمة جولة بومبيو الماراثونية في محيط روسيا، وسعى فيها إلى البناء على التطور الإيجابي في علاقات البلدين بعد رحيل إسلام كريموف في 2016، وزيارة الرئيس الجديد شوكت ميرزيوييف واشنطن في مايو 2018.

"توج بومبيو زيارة طشقند باجتماع مع وزراء خارجية أوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزستان وتركمنستان وكازاخستان في إطار صيغة "5 +1" التي أطلقتها الإدارة الأمريكية في 2015. واعتبر اللقاء استكمالا لمناقشة مبادرة أمريكية جديدة لآسيا الوسطى، كانت في سبتمبر2019 في نيويورك على هامش جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة. وتخشى موسكو من أن الخطة الأمريكية تهدف إلى انتزاع دول آسيا الوسطى من الحلف مع روسيا والصين وإشراكها في مشاريع الأمن والطاقة الإقليمية التي ترعاها الولايات المتحدة، مع توجه إلى تفعيل منظومة جديدة تشمل أفغانستان. وشهر يناير 2020، انتقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، النشاط الأمريكي في آسيا الوسطى، وقال إن "هدف الأمريكيين الحقيقي هو نقل كل المشاريع بمشاركة من آسيا الوسطى في الجنوب، باتجاه أفغانستان، ولكن من دون روسيا الاتحادية".

وبعيدا عن هدف إبعاد بلدان آسيا الوسطى عن روسيا، يبدو أن واشنطن تسعى أيضا إلى إبعاد هذه البلدان عن الصين التي أعلنت استثمار عشرات المليارات في هذه البلدان من أجل تنفيذ مشروعها "الحزام والطريق"، كما باتت أهم مستورد للنفط والغاز من هذه المنطقة وأكبر مستثمر في الإنتاج ومد أنابيب وشبكات النقل. كما عزفت واشنطن على وتر العامل الديني.

 

المحور الجغرافي

 

جمهوريات اَسيا الوسطى لها وضع جغرافي خاص بها، فهي تشكل جزءاً مما سماه الجغرافي البريطاني، السياسي هالفورد ماكيندر، "المحور الجغرافي للتاريخ" و"قلبَ الجزيرة العالمية"، الذي يسيطر على العالم من يسيطر عليها لأجل محدد، بحسب رأيه.

بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في منتصف أغسطس من عام 2021، برزت من جديد القيمة الإستراتيجية لـ"اَسيا الوسطى"، فتحولت إلى منطقة تجاذب دولية، أطرافها قوى كبرى، مثل روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية، أو بعض القوى الإقليمية الصاعدة، كتركيا وإيران.

تطل أغلبية منطقة آسيا الوسطى على بحر قزوين الغني بالنفط والغاز، إذ تتعدى احتياطياته أكثر من 150 مليار برميل من النفط، وتقدَر احتياطياته من الغاز الطبيعي بأكثر من 75 ألف مليار متر مكعب.

كذلك فإن المساحة الكبيرة التي تتربع عليها منطقة آسيا الوسطى تعطيها ثقلا استراتيجيا، نحو 4 ملايين كلم مربع، هي أكبر من مساحة دول أوروبا، أو ما يعادل 8 مرات مساحة فرنسا، وتسكنها شعوب ولغات وأعراق متنوعة. فطاجيكستان تبلغ مساحتها 143,100 كم مربع، وتبلغ مساحة كازاخستان 2,7 مليون كيلومتر مربع، وتضم ثلثي أراضي اَسيا الوسطى. 

ولا يجب أن ننسى الضعف السكاني لجمهوريات اَسيا الوسطى، التي يقدر عدد سكانها بنحو 90 مليونا. وإذا قارنا عدد سكان اَسيا الوسطى بعدد سكان جيرانهم القريبين (إيران، روسيا، باكستان، الهند، الصين)، فإن اَسيا الوسطى ستبدو كفراغ حقيقي محاط ببقاع ممتلئة.

ويشكل الروس المنتشرون في منطقة اَسيا الوسطى 37.8 في المائة من عدد سكان كازاخستان، وفي قيرغيزستان 21 في المائة، وفي تركمانستان 9 في المئة، وأوزبكستان 8 في المأئة، وطاجيكستان 8 في المائة. 

تاريخيا شكلت منطقة اَسيا الوسطى منطلقا لإمبراطوريات أكثر مما كانت "مركز إمبراطوريات". فكانت إطارا لملتقى الطرق بين مناطق السيطرة الصينية والروسية والتركية والإيرانية.

 

"الربيع الجديد"

 

جاء في تحليل نشر في بيروت يوم 8 يناير 2022 تحت عنوان مؤامرة كازاخستان الكبرى.. لماذا تدخل بوتين فورا؟:

الحدود المشتركة بين كازاخستان وروسيا لا تقل عن سبعة آلاف كلم، وبعمق جغرافي يمتد على مساحة مليونين و725 ألف كلم2، ولا يمكن لأي دولة في العالم أن تضبط أمنها ومنع عمليات التسلل والإرهاب عبرها. ويجاور هذا البلد الصين، ويتقاسمان حدودا طولها 1500 كلم، ويجاور أيضا سائر الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، والمعروفة بحديقة روسيا الخلفية، على طول حدود تمتد نحو 3800 كلم.

بعبارة أخرى، فإن كازاخستان هي بوابة روسيا للوصول إلى هذه الجمهوريات، ومعها أذربيجان. وهي جميعا حلم الرئيس التركي إردوغان، وقبله الرئيس الراحل تورغوت أوزال، الذي رفع عام 1991 شعارَ "أُمة تركية واحدة من الأدرياتيكي أي البوسنة إلى سور الصين العظيم". وجمع أوزال، وبعده الرؤساء الأتراك الآخرون، زعماء هذه الدول أكثر من مرة، وكانت آخرها قمة منظمة الدول التركية في إسطنبول، في الـ 12 من نوفمبر 2021.

تحركات إردوغان سواء في البلقان أو أوكرانيا وآسيا الوسطى وليبيا وسوريا والقرن الأفريقي ورغم اللغط السياسي وبعض المشاكل تحظى بالرضا والدعم من واشنطن، التي تجد مكسبا في أي تحرك تركي، أيا يكن حجمه، أذا كان يزعج موسكو، ويخلق لها عددا من المشاكل الخارجية، والتي ستنعكس على الواقع الصعب أساسا في روسيا، اقتصاديا واجتماعيا. 

جاء القرار الروسي السريع، والقاضي بالتدخل فورا في كازاخستان، بعد أن تذكر الرئيس بوتين المؤامرات الكبرى التي سعى من أجلها أعداء روسيا خلال الثورات الملونة في جورجيا وأوكرانيا عام 2004، وفي قرغيزيا عام 2010، وفي جورجيا مرة أخرى عام 2008، ثم في أوكرانيا من جديد عام 2014، وأخيرافي روسيا البيضاء عام 2021، مع استمرار مساعي واشنطن وحلفائها لتضييق الحصار على روسيا في البحر الأسود. 

والرئيس بوتين، الذي اعترف بخطأ الكرملين في دعم القرار الأممي الخاص بليبيا في فبراير 2011، وهو ما أدى إلى ما أدى إليه في هذا البلد الاستراتيجي، يقول المحللون الروس إنه نادم على ما قدمه من تسهيلات واسعة لتركيا في سوريا، على الرغم من المكاسب التي حققتها روسيا هناك.

ويفسر ذلك الرد الروسي السريع على مؤامرة الغرب في أوكرانيا، بحيث استعادت روسيا شبه جزيرة القرم إليها، كما حققت توازنا استراتيجيا عبر تحالفها مع مقاطعات شرقي أوكرانيا، وسكانها من أصل روسي. كما لم تتهرب موسكو قبل ذلك في كسب أوسيتيا الجنوبية، ومعها أبخازيا، إلى جانبها عام 2008، عندما حاولت واشنطن، ومعها "تل أبيب"، خلق المشاكل لروسيا عبر جارتها الجنوبية جورجيا، ثم أرسلت جيشها عام 2021 إلى كاراباخ. 

ومن دون أن تتجاهل موسكو حجم المكاسب التي حصدها الرئيس إردوغان، عبر التسهيلات الروسية التي حصل عليها في سوريا، وحقق من خلالها تفوقا استراتيجيا في عدد من المناطق في الشرق الأوسط وأفريقيا والبلقان والبلطيق والقوقاز، والآن في آسيا الوسطى القريبة من أفغانستان، أو المجاورة لها، بكل سيناريوهاته المحتملة. كما يدرك الرئيس بوتين جيدا أن واشنطن، عبر بعض حلفائها من الدول، لن تتخلى عن ورقة الإسلام، السياسي منه والمسلح. كما هي تخطط، وستخطط، كي يكون هذا الإسلام سلاحها المستقبلي في الداخل الروسي، حيث يعيش هناك أكثر من عشرين مليون مسلم، وتقول أنقرة إن معظمهم من أصول تركية.

كما لن تتردد واشنطن في استغلال مقولات إردوغان القومية والدينية، وتشجيعه على مزيد منها، عبر إعلامها وأبواقها وخلاياها النائمة في آسيا الوسطى والقوقاز، وحتى في البلقان والشرق الأوسط، وصولا حتى إيران.

ويبقى الحديث عن "ربيع تركي" تريد له واشنطن ومن معها أن يشغل روسيا، ويحد تأثيرها في مناطق التنافس الأخرى، كأفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. وقد يفسر ذلك مساعي إردوغان، بتشجيع أمريكي، للمصالحة مع أعدائه اللدودين في الإمارات والسعودية ومصر، فواشنطن تريد للرئيس إردوغان أن يكون له الدور الأهم في سيناريوهات "الربيع التركي" الجديد، كما كان له في "الربيع العربي"، الذي كان يفتقر إلى شعارات قومية وعاطفية، ستتحول إلى واقع عملي في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز الإسلامية ولدى شعوبها من أصل تركي. وبات واضحا أن هذه الدول تحولت، وستتحول، إلى ساحة لصراعات خفية وعلنية بين عدد من الأطراف، وأهمها روسيا والصين (التي تعتمد على الغاز والنفط من كازاخستان وتركمنستان)، وتركيا التي ستحظى بمزيد من الدعم الغربي، ما دامت الأوراق التي تمتلكها باتت قوية، وقد تزداد قوة عبر إقامة وتعزيز أنقرة علاقاتها بعواصم الدول المذكورة والقوى الموجودة فيها، وتطوير هذه العلاقات.

 

أياد غربية خفية

 

مسارعة موسكو بإرسال قواتها لاعادة الهدوء في كازاخستان،جاء في إطار قلقها من تكرار تجربة أوكرانيا، بعد الانقلابالغربي التنظيم على حكم حليفها الرئيس السابق فيكتوريانوكوفيتش، ثم الاتيان بقيادات تسعى للارتماء في أحضانالغرب وطلب الانضمام لحلف "الناتو". 

ومن واشنطن، علق المتخصص في الشأن الأمريكي والعلاقاتالدولية، إيهاب عباس، بالقول إن روسيا "قلقت من وجود أيادغربية خفية تعبث بأمنها القومي والاستراتيجي، من داخلكازاخستان، من خلال الأحداث الأخيرة".

ويفسر ذلك بأن "موسكو تتخوف من إسقاط النظام الكازاخيالحاكم، وبالتالي سقوط نظام سياسي حليف للكرملين، لأن حدوثذلك يعني تحول ولاء النظام الجديد في هذا البلد تجاه الغربوأمريكا، مثل نموذج أوكرانيا ورئيسها الحالي فولوديميرزيلينسكي، الذي يريد ضم بلاده إلى حلف الناتو بقيادة أمريكا،ويعادي موسكو".

 عباس، بحسب تعبيره، فإن "كازاخستان هي الحديقة الخلفيةلروسيا، ورئيسها السابق نور سلطان نزارباييف، ورئيسهاالحالي، يمثلان الكرملين، وموالون لبوتن".

وتابع: "أحداث كازاخستان مؤرقة لروسيا بشكل كبير، وهيفرصة مواتية للغرب لتحريك قطع الشطرنج السياسية بين التكتلالشرقي وبقلبه روسيا والصين، والمعسكر الغربي بقيادة الولاياتالمتحدة".

وتساءل عباس قائلا: "هل بعض ارتفاع الأسعار والمحروقات يكونالدافع وراء حرق مؤسسات كازاخستان وهذا الدمار؟"، قبل أنيسنطرد مجيبا: "هناك أمور خفية وراء أعمال الشغب، ربماتتضح في المستقبل القريب، قد يكون وراءها هدف تطويق روسيابعد أزمتها مع أوكرانيا".

ومفسرا ذلك، أكد المتخصص في الشأن الأمريكي والعلاقاتالدولية، أن "احتجاجات كازاخستان فرصة لواشنطن لتطويقروسيا ونقل الفكر الأمريكي إلى حدودها ولحلفائها في الاتحادالسوفيتي"، متوقعا أن "يتصاعد هذا الملف خلال الفترة المقبلةويكون نواة جديدة تضاف لسجلات التوتر الروسي الأمريكي".

حديث الرئيس الروسي عن محاولة انقلاب أكدته كلمة نظيرهالكازاخي قاسم جومارت توكاييف، حين قال إن بلاده "نجت منمحاولة انقلاب" دبرها ما سماها "مجموعة منفردة"، بعد أعنفاضطرابات منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. 

توكاييف، أكد، استعادة النظام في البلاد، مشيرا إلى أن "عمليةمهمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي في بلاده ستنتهي قريبا،وأن قوات إرهابية منظمة تضم في صفوفها متشددين ومجرمينومخربين، استغلت الحركة الاحتجاجية لمحاولة لقلب نظام الحكم".

 

هلع أمريكي

 

قال المحلل السياسي أندريه سوزدالتسيف، إن "واشنطن تخشى أنه على خلفية المساعدة من منظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى كازاخستان، فإن أصول النفط والغاز في البلاد المملوكة في غالبيتها لشركتي شيفرون وإكسون موبيل الأمريكيتين والمشاريع الأخرى في المواد الإستراتيجية وتجارة وتصنيع التبغ ستخضع تدريجيا للسيطرة الروسية".

وكان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قد صرح، في وقت سابق، إن "الولايات المتحدة قلقة بشأن الأحداث في كازاخستان، لكنها تعتقد أن الجمهورية يمكنها التعامل بمفردها دون مساعدة من منظمة معاهدة الأمن الجماعي".

وتحدث بلينكن عن دور منظمة معاهدة الأمن الجماعي في حل الوضع على وجه الخصوص، حيث قال: "درس واحد من التاريخ، عندما يكون الروس في منزلك، قد يكون من الصعب إجبارهم على المغادرة".

وأضاف سوزدالتسيف: "في الواقع، الأمور أعمق قليلا، علينا أن نفهم أن 90 في المائة من صادرات كازاخستان هي موارد طاقة، كالنفط والغاز، وكلها تقريبا مقيدة ومملوكة لرأس المال الغربي، وأكبر شركات الطاقة الأمريكية والأوروبية.

وفي هذه الحالة، عندما ظهرت قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي، خشيت واشنطن من نقل كل هذه الأصول الغربية الضخمة التي مولت جزئيا الفصائل التي تتمرد على السلطة، تدريجيا تحت السيطرة الروسية، هذه هي النقطة، وهذا هو السبب الرئيسي للاستياء المتواضع الذي أظهره بلينكن".

المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، وصفت تصريح بلينكن بـ"الفظ". وقالت زاخاروفا، إن بلينكن "مازح اليوم بطريقته الفظة المعتادة بشأن الأحداث المأساوية في كازاخستان".

وأشارت زاخاروفا إلى تعليق بلينكن على "الاستجابة القانونية من قبل منظمة معاهدة الأمن الجماعي لنداء حكومة كازاخستان لمساعدتها في ضمان الأمن" في البلاد.

وتابعت زاخاروفا: "إذا كان أنتوني بلينكن مغرما جدا بدروس التاريخ، فعليه أن يعرف ما يلي: إذا دخل الأمريكيون إلى بيتك، سيصعب عليك البقاء على قيد الحياة وعدم التعرض للسرقة أو الاغتصاب".

وأردفت: "لكن هذا الأمر يعلمنا إياه ليس فقط التاريخ الماضي وإنما السنوات الـ300 الماضية، منذ قيام مؤسسات الدولة الأمريكية. ويمكن أن يروي الكثير لنا عن ذلك كل من هنود أمريكا الشمالية والكوريون والفيتناميون والعراقيون والبنميون واليوغوسلافيون والليبيون والسوريون والعديد من الشعوب البائسة التي لم يحالفها الحظ في رؤية رحيل هؤلاء الضيوف غير المدعوين في منازلهم".

 

قواعد في آسيا الوسطى

 

سعت واشنطن مرارا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي إلى التسلل إلى دول آسيا الوسطى عسكريا ولكنها ركزت أولا على دول شرق أوروبا. في 8 مايو 2021 وقبل أسابيع من الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان قالت صحيفة ”وول ستريت جورنال“ الأمريكية، إن المخططين العسكريين الأمريكيين يبحثون عن أماكن بديلة لنقل القوات والمعدات الأمريكية بعد مغادرة أفغانستان، وتتراوح هذه الخيارات بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط. ويريد القادة العسكريون الأمريكيون قواعد للقوات والطائرات دون طيار والقاذفات والمدفعية.

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين وعسكريين أمريكيين قولهم، إن الخيارات التي يجري تقييمها تتراوح بين دول مجاورة وبلدان خليجية بعيدة وسفن بحرية في البحر.

وذكرت الصحيفة إن بعض المسؤولين العسكريين وإدارة بايدن، يفضلون أوزبكستان وطاجيكستان، المتاخمتان لأفغانستان، لكن المسؤولين قالوا إن البصمة العسكرية الكبيرة لروسيا في المنطقة وتنامي قوة الصين والتوترات بينهم وبين واشنطن تعقد خطط إنشاء قواعد في آسيا الوسطى ولكن الأمر سيتغير إذا تبدلت الحكومات في تلك البلدان كما حدث في أوكرانيا.

بداية شهر مايو 2021 سافر الممثل الأمريكي الخاص لأفغانستان زلماي خليل زاد، إلى أوزبكستان وطاجيكستان. وذكرت الصحيفة أنه لم يتم تقديم أي طلبات رسمية لإنشاء قواعد في آسيا الوسطى حتى الآن، وفقا لمسؤولين أمريكيين.

وأشارت الصحيفة إلى أن إمكانية نقل القوات إلى قواعد في آسيا الوسطى سيعيد الولايات المتحدة إلى الموقف الذي كانت عليه في السنوات الأولى من الحرب الأفغانية، في تلك الفترة، كانت الولايات المتحدة تحتفظ بقاعدتين في آسيا الوسطى، في كل من أوزبكستان وقيرغيزستان، حيث تم استخدامها في عمليات أفغانستان، لكنها انسحبت من أوزبكستان في عام 2005 ومن قيرغيزستان بعد ما يقرب من عقد من الزمان، بعد أن ضغطت مجموعة إقليمية بقيادة روسيا والصين على الولايات المتحدة لسحب قواتها من المنطقة.

 

داعش والقاعدة

 

خلال الربع الأول من سنة 2020 ضغطت واشنطن على حكومة كازاخستان للسماح لمئات من مواطنيها الذين انضموا إلى تنظيمي داعش والقاعدة وغيرهما من الكيانات المسلحة التي شاركت في الحرب شبه الدولية على أرض بلاد الشام وفي التمرد بالعراق بالعودة.

في تقرير نشر على شبكة محسوبة على التحالف الغربي كتب:

"اكتسبوا مهارات عسكرية".."تعاملوا بوحشية لا يمكن تجاهلها خلال الحروب والعمليات التي اشتركوا بها".."اندمجوا مع شبكات جهادية عالمية، واحتمال تورطهم في أعمال إرهابية من جديد أيضا أمر لا يمكن تجاهله خاصة أنه من المستحيل عمليا مراقبة كل شخص طوال الوقت".. هذه جملة من تبريرات أغلب دول العالم وخاصة البلدان الأوروبية التي رفضت إعادة أعضاء وأبناء تنظيم داعش إلى أوطانهم الأم مرة أخرى بعد انهيار أحلامهم في سوريا والعراق وتضييق الخناق عليهم، ورغم هذه المخاوف الحقيقية، فإن دولة واحدة سبقت الجميع وأصبح لها تجربتها الخاصة في إعادة أبناء التنظيم واحتوائهم هي "كازاخستان".

يوم 7 يناير 2022 أعلنت السلطات الكازاخستانية على لسان مدير مركز البحوث التطبيقية "Talap"، رحيم أوشاكباييف عن وجود أجانب يتحدثون باللغة العربية بين المتظاهرين المصابين، الذين يتلقون العلاج في المستشفيات. في حين أكد الرئيس الكازاخستاني، قاسم جومارت توكاييف، أن ألما آتا تعرضت وحدها للهجوم من قبل 20 ألف مسلح، مشددا على أن العملية ضد الإرهاب في كازاخستان ستستمر حتى القضاء عليهم. وأضاف "من المهم أن نفهم سبب "غفلان" الدولة عن الاستعدادات السرية للهجمات الإرهابية من قبل الخلايا النائمة للمسلحين.

وأفادت قناة “خبر 24” الرسمية الكازاخستانية، يوم السبت 8 يناير 2022، نقلا عن وزارة الداخلية في كازاخستان، أنه تم اعتقال ما لا يقل عن 4404 أشخاص في كازاخستان، من بينهم أشخاص يحملون جوازات سفر أجنبية. ولاحقا أعلنت وزارة الداخلية الكازاخية عن اعتقال أكثر من 5100 شخص في جميع أنحاء البلاد.

يوم السبت 8 يناير ذكرت وزارة الخارجية الإسرائيلية، إن المواطن الإسرائيلي "ليفان كوجياشفيلي" 21 عاما قتل ليلة الجمعة السبت في مدينة ألماتي.

صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية ذكرت أن كوجياشفيلي الذي تعيش عائلته في أشدود جنوب إسرائيل انتقل إلى العيش في كازاخستان مع والديه عام 2018، حيث أسسوا هناك شركة عقارية.

ونقلت الصحيفة عن أحد أقاربه (لم تسمه)، إنه "قتل عندما أطلق مسلحون النار على سيارة كان يستقلها هو واثنان من أصدقائه المحليين اللذين أصيبا بجروح طفيفة".

وأضاف أنه "لا أحد يعرف ما إن كان مطلقي النار من المتظاهرين أم القوات الحكومية"، لافتا أن الحادث وقع خلال سريان حظر التجوال في المدينة.

مصادر في العاصمة اللبنانية بيروت أفادت أن كوجياشفيلي كان يقيم قبل كازاخستان في تركيا وأنه تنقل في عدد من دول آسيا الوسطى.

 

مرتزقة

 

يوم الأثنين 10 يناير 2022 اتهم رئيس كازاخستان، "مقاتلين" أجانب قدموا من دول أخرى في آسيا الوسطى وأفغانستانوالشرق الأوسط، بالمشاركة في أعمال الشغب الأخيرة التيوصفها بأنها "هجوم إرهابي". 

وقال قاسم جومرت توكاييف في بيان صدر عن مكتبه ملخصامحادثته مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال: "ليس لديشك في أنه هجوم إرهابي، عمل منظم ومعد له بشكل جيد ضدكازاخستان بمشاركة مقاتلين أجانب من دول آسيا الوسطى بينهاأفغانستان. لقد شارك أيضا مقاتلون من الشرق الأوسط".

من جانبها، أعلنت وزارة الداخلية في كازاخستان أن قوات الأمناعتقلت في المجمل 7939 شخصا حتى العاشر من يناير خلالالاضطرابات والتي تعد أسوأ موجة عنف في تاريخ تلك الدولةالواقعة في آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

يوم الأثنين كذلك قال وزير الدولة الكازاخستاني، إيرلان كارين،إن بلاده واجهت هجوما إرهابيا هجينا قد يكون هدفه زعزعةالاستقرار في البلاد ثم تنفيذ انقلاب فيما بعد.

وأضاف كارين في مقابلة مع قناة "خبر 24"، أن الجواب النهائيعلى من يقف وراء الهجمات ستكشف عنه لاحقا الاستخباراتالكازاخستانية.

وذكر: "هناك خبراء يقيمون كل هذه الأحداث وفقا للقوالب القديمة. قارنوا ما حدث هنا بالثورات الملونة، بالثورات المخملية. ولكن فيكازاخستان هذا غير ممكن لأن الظروف فيها مختلفة".

وأكد كارين على أن مشاركة قوات حفظ السلام التابعة لمنظمةمعاهدة الأمن الجماعي كانت ضمانا لحماية سلامة كازاخستان.

وأضاف أن ما حدث يشير إلى أن هناك "مؤامرة من قوى داخليةوبعض القوى الخارجية، وإن مواطنين كازاخستانيين وأجانب،على حد سواء، شاركوا في الهجمات".

كما أشار كارين، إلى أن "الإجراءات التي اتخذها الرئيس قاسمجومارت توكايف، بما في ذلك فيما يتعلق بمنظمة معاهدة الأمنالجماعي، كانت حاسمة، وأحبطت خططا لزعزعة استقرار الوضعفي كازاخستان".

بدوره، قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إن "مهمة القوةالعسكرية بقيادة روسيا، والمنتشرة في كازاخستان، ستنتهيقريبا"، مضيفا أن "المعسكر الذي تقوده موسكو لن يسمحللآخرين بزعزعة استقراره، ولن يسمح بالثورات الملونة"، لافتا إلىأن "بعض القوى الخارجية والداخلية استغل الوضع الاقتصاديفي كازاخستان لتحقيق أغراضه".

بوتين ذكر إن الأحداث في كازاخستان "ليست الأولى ولا الأخيرة،في ظل محاولة التدخل الخارجي في المنطقة".

رسالة بوتن للغرب، أماطت اللثام عن أسباب التدخل الروسي ومدةبقاء تلك القوات وتخوفات موسكو من التظاهرات، وترافقت معغضب غربي، قال عنه مراقبون، إنه يستطيع تحريك ماوصفوهبـ"قطع الشطرنج  السياسية" بين التكتل الشرقي وبقلبه روسياوالصين، والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. 

ولم يكتف بوتن بالتمليح عن وجود مؤامرة وراء الاحتاجات، بل زادمن اتهاماته، قائلا:"الإرهاب العالمي استهدف كازاخستان".

ولروسيا في كازاخستان قاعدة بايكونور الفضائية، التي تبلغمساحتها نحو 111 كلم، وتعتبر منطقة فدرالية روسية حيثاستأجرتها موسكو مقابل 7 مليارات روبل روسي سنويا حتى عام2050، وتعد منطقة خاصة من الأراضي الروسية داخلكازاخستان. 

 

الربح والخسارة

 

كتب المحلل السياسي ألكسندر نازاروف يوم 7 يناير 2022 تحت عنوان تمرد كازاخستان..موسكو تكسب وواشنطن وأنقرة تخسران:

أول ما يلفت انتباه المرء في أعمال الشغب الأخيرة في كازاخستان، هو وقوعها عشية المحادثات الروسية الأمريكية، المقرر إجراؤها في 10 يناير الجاري، بشأن الإنذار الروسي، الذي أطلقته موسكو في ديسمبر من عام 2021.

كذلك، فمن الواضح أنه لا يوجد بلد أكثر اهتماما بزعزعة استقرار كازاخستان أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية، وتركيا هي المستفيد التالي المحتمل.

بشكل عام، فإن سياسة واشنطن في جر روسيا إلى صراعات على حدودها قديمة ومعروفة. ودور الولايات المتحدة الأمريكية في انقلابي أوكرانيا وبيلاروس واضح، ودور تركيا، عضو "الناتو"، في حرب قرة باغ هو الآخر واضح.

إذا اندلعت الفوضى أو الحرب الأهلية في كازاخستان، فستضطر روسيا إلى إرسال قوات هناك، وإنفاق جزء كبير من مواردها، ما سيضعف قدرتها على مقاومة الولايات المتحدة الأمريكية في اتجاهات أخرى.

بالإضافة إلى ذلك، يمر أقصر طريق بري من الصين إلى أوروبا عبر كازاخستان، والتي تكتسب أهمية إستراتيجية في حالة الحصار البحري على الصين من قبل الولايات المتحدة. أي أنه بإمكان واشنطن أن تضرب عصفورين بحجر واحد: إغلاق هذا الطريق، إضافة إلى دق إسفين بين موسكو وبكين.

تركيا، كثفت مؤخرا محاولاتها لإنشاء إمبراطورية توركية، وأي زعزعة للاستقرار في كازاخستان تمنحها الفرصة الخاصة لبدء لعبتها الخاصة من خلال إحدى القوى السياسية المحلية. دعونا لا ننسى أن كازاخستان غنية بموارد الطاقة التي تحتاجها تركيا كثيرا.

حتى الآن، لا يمكننا الحديث عن محاولة ثورة، فلم تكن الأحداث سوى أعمال شغب على وجه التحديد، ولم يكن لدى مثيري الشغب برنامج سياسي، وليس لديهم قادة مشتركون.

ولكن، من ناحية أخرى، فمن الواضح تماما، على المستويين الشعبي والوسطي، وجود تنظيم وتنسيق لأعمال مجموعات فردية من المشاغبين. أعتقد أن هذا قد تم على وجه التحديد على مستوى القبائل والعشائر.

كانت هناك شروط اقتصاديةً مسبقة للأحداث الأخيرة. فكازاخستان بلد غني بالموارد، ومع ذلك، وخلال إصلاحات التسعينيات من القرن الماضي، بيعت معظم هذه الموارد لشركات أمريكية وغربية وأجنبية أخرى، والتي تحصل على معظم الأرباح من استغلالها. وقد أثرت الأزمة الاقتصادية العالمية المتفاقمة على المستويات المعيشية للمواطنين، وكان إلغاء الدعم على الغاز المسال للسيارات القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير.

يمكننا القول إن هذه الجولة من الأزمة قد انتهت. لم تنجح الولايات المتحدة الأمريكية في الحصول على هدية قبيل مفاوضاتها مع روسيا، وتجنبت روسيا ظهور بقعة ساخنة أخرى على حدودها، وأظهرت للغرب استعدادها للتعامل معها.

إن الأزمات التي نلاحظها فيما يسمى ببلدان ما بعد الاتحاد السوفيتي يتم تنظيمها من قبل واشنطن وبروكسل جزئيا فقط. بمعنى أنه من الممكن استنتاج أن دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، المصطنعة إلى حد كبير، والتي ظهرت بالصدفة على خريطة العالم، تعاني من أزمة الدولة.

ومع استنفاد الإرث الاقتصادي السوفيتي، وبسبب القومية المتطرفة والقبلية والمواجهة في الكثير من الأحيان مع روسيا، وصلت هذه البلدان إلى الإفلاس الاقتصادي والصراعات العرقية، تلاها انفجار اجتماعي واضطراب سياسي.

ربما، في سياق الأزمة الاقتصادية العالمية الوشيكة، ستشهد معظم الجمهوريات المنشقة عن الاتحاد السوفيتي أو كلها انهيارا اقتصاديا واجتماعيا، وستغرق في الفوضى، وستفقد نسق الدولة المستقلة، دون مؤثرات خارجية. 

إلا أنني أميل أكثر إلى اعتقاد أنه على أراضي الإمبراطورية الروسية السابقة، والاتحاد السوفيتي، خلال عقد أو عقدين من الزمان، لن تكون هناك سوى دولة كبيرة واحدة أو نوع من الاتحاد، سيكون جوهره، بطبيعة الحال، روسيا. للتاريخ طبيعة دورية. 

يوم الأحد 9 يناير 2022 وفي حديث لقناة "CNN" اعتبر وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يسعى إلى إعادة النظام الإقليمي الذي كان موجودا في زمن الاتحاد السوفييتي.

وتابع بلينكن: "هذا يعني إعادة دائرة النفوذ في الدول التي كانت سابقا جزءا من الاتحاد السوفييتي... وهذا الأمر غير مقبول".

وتدعي الولايات المتحدة بإصرار في السنوات الأخيرة أن الحكومة الروسية تريد إعادة بناء الاتحاد السوفييتي الذي تفكك عام 1991 وكان يضم إضافة إلى روسيا كلا من أوكرانيا وبيلاروس وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمنستان وأوزبكستان وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ومولدوفا.

لكن الرئيس الروسي ينفي ذلك وقد سبق أن قال في يونيو 2021: "إعادة بناء الاتحاد السوفييتي أمر لا معنى له ومستحيل نظرا لعدد من الأسباب وغير مجد علما بالعمليات الديموغرافية في مجموعة من الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي".

عمر نجيب

[email protected]