تركيا والخروج من لعبة المناورة بين موسكو وواشنطن... حدود الموازنة بين القدرات العسكرية والاقتصادية

أربعاء, 2020-12-30 15:29

سؤال يتردد كثيرا حتى قبل تأكد فوز جون بايدن برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو حول المسار الذي ستأخذه العلاقات المستقبلية بين أنقرة وواشنطن وتأثير ذلك على تطورات الصراع المحتد في منطقة الشرق الأوسط الكبير.

عدد من الملاحظين قدروا أن علاقات أنقرة ستعرف مزيدا من التوتر مع واشنطن رغم أن الطرفين عضوان في حلف الناتو وأن موسكو ستنجح في جذب تركيا نحوها، آخرون رأوا أن أنقرة شريك أساسي للولايات المتحدة وبقية من تعتبرهم من المخلصين لها 100 في المئة، وأن لا تعديل لهذا الواقع، وإذا كانت خلافات عديدة قد برزت بين الطرفين فإن الأمر ليس أكثر من خلاف بين شركاء في مؤسسة واحدة وذلك حول مدى الصلاحيات والحصة من الأرباح ومدى القدرة على التأثير على القرارات.

ويشير انصار فكرة ثبات التحالف أن مبادرات أنقرة الهجومية وتدخلاتها العسكرية من سوريا والعراق ومنطقة القوقاز مرورا بليبيا والصومال تصب في مصلحة الحليف الأمريكي.

تركيا عمود أساسي في التحالفات التي تقودها واشنطن، حيث تعد القواعد العسكرية الأمريكية في الأراضي التركية من أهم العناصر والمكونات الفاعلة في طبيعة العلاقات التركية الأمريكية، وتعود بداياتها إلى عقد الستينيات من القرن العشرين، عندما عقدت الولايات المتحدة الأمريكية مع تركيا اتفاقية في عام 1969، سمح بموجبها للولايات المتحدة بإقامة ست وعشرين قاعدة عسكرية، بالإضافة إلى مراكز الرصد والإنذار المبكر، ومراكز الاتصالات اللاسلكية، وقواعد التجسس وجمع المعلومات، وكذلك التسهيلات البحرية في أهم الموانئ التركية. ولقد عززت الولايات المتحدة القوات المسلحة التركية، بحيث أصبحت تمتلك اكبر قوة برية تقليدية غير نووية بعد ألمانيا الغربية في حلف الناتو. كما أن موقع تركيا القريب من منابع النفط يعطيها ميزة كقاعدة جيدة للسيطرة على منابع النفط في الخليج العربي، ويسمح للولايات المتحدة بالسيطرة على معظم الطرق الجوية والبرية المباشرة بين الأقطار العربية والدول المجاورة وأفريقيا، كما يمنحها العديد من القواعد الجوية والبحرية اللازمة لتسهيل مهمات حلف شمال الأطلسي، ويجعلها قادرة على تركيز وسائط الرصد والإنذار المبكر ومحطات التجسس لمراقبة التحركات العسكرية لدول الجوار، إضافة إلى ذلك تتحكم تركيا في ممر البوسفور البحري الذي يربط البحر الأسود بالبحر المتوسط أي الطريق الوحيد لولوج الأسطول الروسي إلى المياه الدافئة.

 

حلف الناتو

 

عودة مختصرة إلى خلفية التحالف الغربي يمكن أن تساعد على فهم أفضل.

منظمة حلف شمال الأطلسي التي تعرف اختصارا بالناتو، هي منظمة عسكرية غربية تأسست عام 1949 بعد حوالي أربع سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك بمبادرة أساسا من الولايات المتحدة الأمريكية وقد تم التوقيع على المعاهدة المؤسسة للتحالف في واشنطن في 4 ابريل سنة 1949. وكانت الدول الموقعة هي الولايات المتحدة الأمريكية وبلجيكا وكندا والدنمارك وفرنسا وأيسلندا وإيطاليا واللوكسمبورغ وهولندا والنرويج والبرتغال والمملكة المتحدة.

كان الهدف الرئيسي للناتو حسب مؤسسيه حماية دول أوروبا الغربية من تمدد الإتحاد السوفيتي الذي سيطر على جزء كبير من دول وسط القارة بعد انتصاره على الرايخ الألماني. وقد ذكر الأمين العام الأول للناتو، اللورد إسماي في عام 1949 أن هدف المنظمة هو "إبقاء الروس خارجا، والأمريكيين داخلا، وإسقاط الألمان. في 18 فبراير سنة 1952 انضمت اليونان وتركيا إلى التحالف. وفي 9 مايو 1955 تم ضم المانيا الغربية إلى التحالف وقد وصف هالفارد لانغ، وزير خارجية النرويج في ذلك الوقت، دمج ألمانيا الغربية في المنظمة بأنه "نقطة تحول حاسمة في تاريخ قارتنا". ومن الأسباب الرئيسية لضم ألمانيا إلى التحالف ذكر أنه لولا حجم وقدرة القوى المسلحة الألمانية رغم خروجها منهزمة من الحرب العالمية الثانية لكان من المستحيل أن تكون هناك قوات كافية لمقاومة أي غزو سوفيتي.

في سنة 1955 تشكل حلف وارسو، أو معاهدة وارسو واسمها الرسمي معاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المشتركين. أسست هذه المنظمة رسميا لتواجه التهديدات الناشئة من حلف شمال الأطلسي وكان من أبرز المحفزات لإنشائها انضمام ألمانيا الغربية لحلف الناتو بعد إقرار اتفاقات باريس. استمرت المنظمة في عملها خلال فترة الحرب الباردة حتى سقوط الأنظمة الشيوعية الأوروبية وتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، وقتها بدأت الدول تنسحب منها واحدة تلو أخرى. وقد تم حل الحلف رسميا في يوليو 1991.

بعد انهيار حلف وارسو تم ضم العديد من أعضائه إلى حلف الناتو حتى أصبح في عضويته 30 دولة حتى نهاية سنة 2020.

اهتزت وحدة الناتو في وقت مبكر من تاريخها بسبب أزمة وقعت خلال فترة رئاسة شارل ديغول لفرنسا. واحتج ديغول على الدور القوي الذي تقوم به الولايات المتحدة في المنظمة وما اعتبره علاقة خاصة بينها وبين المملكة المتحدة. وفي مذكرة أُرسلت إلى الرئيس دوايت أيزنهاور ورئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان في 17 سبتمبر 1958، دعا إلى إنشاء مديرية ثلاثية الأبعاد تضع فرنسا على قدم المساواة مع الولايات المتحدة وبريطانيا. وبالنظر إلى الرد غير المرض الذي تلقاه، بدأ ديغول في بناء قوة دفاع مستقلة لبلده. وأراد أن يعطي فرنسا، في حالة توغل ألمانيا الشرقية في ألمانيا الغربية، خيار التوصل إلى سلام منفصل مع الكتلة الشرقية بدلا من الدخول في حرب أكبر. وفي فبراير 1959، سحبت فرنسا أسطولها من قيادة منظمة حلف شمال الأطلسي،وحظرت في وقت لاحق وضع أسلحة نووية أجنبية على الأراضي الفرنسية. وقد أدى ذلك بالولايات المتحدة إلى إجلاء 200 طائرة عسكرية أمريكية من فرنسا وكل الأسلحة النووية وقد تمت إعادة التموضع أساسا في ما أصبح لاحقا 27 قاعدة عسكرية للناتو في تركيا. كذلك سلمت واشنطن السيطرة على قواعد قواتها الجوية التي كانت تعمل في فرنسا منذ 1950 إلى القوات الفرنسية في عام 1967. وعلى الرغم من أن فرنسا أظهرت تضامنها مع بقية أعضاء حلف شمال الأطلسي خلال أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، واصل ديغول سعيه للحصول على دفاع مستقل.  في سنة 1974، ونتيجة للتدخل العسكري التركي في قبرص، سحبت اليونان قواتها من هيكل القيادة العسكرية لمنظمة حلف شمال الأطلسي معتبرة أن الحلف لم يف بالتزاماته نحوها وأنه ساند عمليا سياسة أنقرة، في سنة 1980 أعيد قبول اليونان.

وعرف عام 1982 انضمام إسبانيا، ثم التشيك والمجر وبولندا سنة 1999. وفي عام 2004 انضمت بلغاريا وإستونيا ولاتفيا ولتوانيا ورومانيا ثم سلوفاكيا وسلوفينيا، وكانت تلك من أكبر عمليات الانضمام في تاريخ الحلف.

 

تحالف ثابت

 

جاء في بحث كتبه المحلل شارل أبي نادر بعنوان من يغطّي تركيا ويدعمها نشر في 23 يونيو 2020: 

هناك الكثير من المعطيات التي تمنح تركيا نقاطا إيجابية تبدو قادرة دائما على أن تجيرها لمصلحتها. 

لا يمكن لأي متابع إلا أن يلاحظ الهيمنة التركية والتسلّط في أغلب الملفات التي تتدخل أنقرة فيها خارج أراضيها، وخصوصاً العراق أو سوريا وليبيا. والأهم في الموضوع أنها تخالف القوانين الدولية في أغلب هذه الملفات... فعلى ماذا تستند أنقرة في هذا ؟ ومن يغطي تحركها التوسعي دائما؟. 

في الواقع، هناك الكثير من المعطيات التي تمنح تركيا نقاطاإيجابية تبدو قادرة دائما على أن تجيرها لمصلحتها. هذه النقاط يمكن تحديدها بالتالي:

موقعها الجغرافي والاستراتيجي

لا شك في أن تركيا تمتلك موقعاً جغرافيا مميزا، يمنحها عمقااستراتيجيا استطاعت استغلاله بنجاح، فهي تنتشر في بقعة حيوية تشكل الرابط الأساسي بين أوروبا وآسيا، وتقع بين دول آسيا الوسطى والمتوسط، وامتدادا نحو أوروبا والأطلسي عبر مضيق جبل طارق، وتشكل واجهة غربية أساسية، تربط روسيا بأوروبا، وتربط إيران شمالا بالمتوسط، وتعتبر الدولة الأقرب جغرافياً من بين دول شمال المتوسط إلى الساحل الأفريقي الشمالي. 

لديها شبه اكتفاء ذاتي في المنتجات الزراعية والصناعات الخفيفة والمتوسطة، كما أنها من الدول الغنية بالمياه، وتحتضن مصادر المياه الأساسية لكل من العراق وسوريا: أنهر دجلة والفرات، وخابور الفرات، وخابور دجلة والزاب الكبير. وتاريخ تعامل تركيا وتحكمها بسعة تدفق المياه في أغلب هذه الأنهر معروف.

وبمعزل عن هذه النقاط التي استفادت منها، فهي تتبع استراتيجية التسلط بشكل دائم على جيرانها، وخصوصا جنوبامع سوريا والعراق. والحوادث أو الصدامات الأخيرة مع الدولتين خير دليل على ذلك:

 

تدخلها في سوريا

 

لم تتوانَ عن تدخلها غير المتوازن وغير القانوني في سوريا، عبر دعم المسلّحين الإرهابيين بداية، وفتح المعابر لهم ولعتادهموأسلحتهم وتمويلهم، ولاحقا عبر العدوان والاحتلال المباشر، عبر عملية "درع الفرات" في غرابلس ومحيطها، وعملية "غصن الزيتون" في عفرين ومحيطها، وعملية "نبع السلام" شرق الفرات بين رأس العين وتل أبيض، إضافة إلى عرقلتها الدائمة لأي تسوية تحاول الدولة السورية أو تسعى للوصول إليها مع مسلّحي الشمال أو الشرق السوري. 

تدخلها في العراق 

تاريخ تدخل تركيا في العراق معروف، ومنه هجماتها المتكررة في كردستان العراق وجبال قنديل وشمال زاخو وبعشيقة وغيرها. ومؤخرا، تدخلها البري في شمال أربيل وشرق دهوك. صحيح أنها تستهدف بتدخلها في العراق واستهدافها الدائم بقاذفاتها تلك المناطق مواقع لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق، المصنف في لوائح الإرهاب الغربية، ولكنها بذلك تتجاوز السيادة العراقية، ودائما ما تدير ظهرها للاعتراضات الرسمية العراقية على اعتداءاتها التي تخالف القوانين الدولية.

كما تعارض دائما التوجهات الروسية والإيرانية في سوريا، وخصوصا تلك المتعلقة بوقوفها ضد الدولة السورية والنظام، وغالباما تتجاوز اتفاقياتها معهم، مثل اتفاقيات أستانة وسوتشي وموسكو مؤخرا، وتتدخل وتحتل وتمارس ضغوطاً سياسية واسعة، وبلغ بها الأمر أكثر من مرة إلى تقديم دعم مباشر للإرهابيين في اعتداءاتهم الصاروخية أو عبر الطائرات المسيرة على القاعدة الجوية الروسية في مطار حميميم. 

وتمارس تركيا دائما مع الاتحاد الأوروبي، وخصوصا اليونان، سياسة الابتزاز في موضوع اللاجئين السوريين إلى أوروبا، وغالبا ما تتجاوز اتفاقها مع الاتحاد حول اللاجئين الموقع في العام 2015.

اليوم، وفي الملف الليبي، تضرب تركيا بعرض الحائط رزمة واسعة من القوانين الدولية، فهي تنقل مسلحين من سوريا إلى ليبيا، وتزج بهم في الميدان والصراعات الليبية، بعد أن تدعمهم بالعتاد والسلاح والطائرات المسيرة وأسلحة الدفاع الجوي، وتدعم فريقا ضد آخر، مرجحة كفة حكومة الوفاق برئاسة السراج ضد الجيش الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر. 

وتواجه في ليبيا سياسة روسيا وفرنسا ومصر وتوجهاتها لحل الأزمة الليبية، بعد أن عقدت اتفاقاً أمنياً - اقتصاديا مع حكومة السراج، تجاوزت عبره القانون الدولي لناحية ترسيم حدود المياه الخالصة مع الحكومة الأخيرة، غير آبهة بحقوق قبرص واليونان في المياه الاقتصادية الخالصة، استناداً إلى قوانين الترسيم الدولية المعروفة. 

من الناحية العملية، ومن ناحية القانون الدولي، لا يمكن لأي دولة أن تمارس هذا التسلط الذي تمارسه تركيا يمينا ويسارا، من دون مقومات أساسية من دعم وتغطية، تجعلها قادرة على الوقوف في وجه كل الدول المعنية مباشرة أو غير مباشرة بالملفات التي تتدخل بها، والأهم في وجه القانون الدولي ومؤسسات المجتمع الدولي.

من ناحية أخرى، وحيث يشكل الموضوع النقطة الخفية في موقف تركيا القوي والمتسلط إقليميا ودوليا، نلاحظ أن واشنطن عمليابعيدة في الظاهر عن الشمال السوري، حيث تنخرط روسيا بالملف بشكل كامل، كما أننا نلاحظ أن واشنطن بعيدة عمليا من ملف اللاجئين السوريين إلى أوروبا، حيث يمكن الضغط من خلاله على الاتحاد الأوروبي. وهذا الضغط عمليا على الاتحاد المذكور لم يكن يوما بعيدا من الاستراتيجية الأمريكية.

في الملف الليبي أيضا، لا يبدو في الظاهر أن لواشنطن تواجدا أو دورا في هذا الملف الذي يعتبر الأهم في المنطقة مؤخرا، والذي يؤثر عملياً بشكل سلبي على أغلب حلفائها، مثل مصر واليونان، أو الذي يؤثر في ملف غاز شرق المتوسط المهم جدا بين قبرص واليونان ولبنان.

من هنا، وحيث لا يمكن أن يقتنع أي متابع بأن واشنطن مترفعة عن التدخل في تلك الملفات الحساسة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على عكس سابقاتها المعروفة في التدخل بأغلب الملفات التي لها مصلحة فيها، وخصوصا أن الروس منخرطون في أغلب هذه الملفات بقوة، وبعض الأوروبيين منخرطون فيها أيضا، ولو بنسبة أقل من الروس... وحيث إننا نلاحظ غرابة في قدرة تركيا على فرض نفسها في أغلب هذه الملفات بقوة، وبشكل يعارض مصالح الدول المتدخلة بها، وفي الوقت نفسه تتجاوز فيها القانون الدولي... وعلى الرغم من الاشتباك الظاهر بين أنقرة وواشنطن دبلوماسيا وسياسيا، وحتى اقتصاديا، حول بعض هذه الملفات أو غيرها، فلا شك أبدا في أن أنقرة تمارس دور المنفذ الأول بامتياز لسياسة واشنطن واستراتيجيتها ومناورتها في أغلب تلك الملفات، والتي تبدو فيها تركيا ظاهريا المهيمنة وصاحبة النفوذ والسلطة، في الوقت الذي تمارس دور الوكيل عن الأصيل، وهو الولايات المتحدة الأمريكية.

 

استعداء روسيا وإيران

 

يوم 17 ديسمبر 2020 جاء في تقرير نشره موقع "المونيتور" الأمريكي: 

تناول أندرو باراسيليتي في تقدير موقف الخلاف التركي الجديد مع روسيا وإيران وتساءل إن كان الأمر مجرد شجار أم صدعاً في العلاقات؟ وقال إن تركيا وروسيا وإيران ظلت موحدة إلى حد ما في السنوات الأخيرة، مقيدة بدبلوماسية الرئيس الروسي بوتين، وتشاطرت معارضة للسياسة الأمريكية في سوريا وإن كان كل منها لأسباب مختلفة، وعداء أنقرة وطهران المتبادل تجاه "إسرائيل" والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مجددا لأسباب مختلفة. ويبدو أن الجاذبية المغناطيسية لتلك المصالح المشتركة تتضاءل، وقد يكون أحد الأسباب هو أن الرئيس التركي أردوغان يدرك أن حاميه الوحيد في واشنطن، الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، سيغادر شهر يناير 2021. هناك علامة على أيام أكثر تحدياً قادمة هي أن إدارة ترمب في طريقها للخروج، وتنفيذ عقوبات الكونغرس بسبب شراء أنقرة لنظام الدفاع الصاروخي الروسي S-400.

وعدد الكاتب ست مؤشرات على بعض التغييرات المحتملة في السياسة التركية فيما يتعلق بإيران وروسيا والولايات المتحدة، وما قد يعنيه ذلك بالنسبة لإدارة بايدن:

1- قصيدة في أذربيجان: زار أردوغان أذربيجان خلال شهر ديسمبر في جولة مظفرة. ما كان يمكن للجيش الأذربيجاني أن يستعيد الأراضي التي فقدها لأرمينيا في ناغورنو كاراباخ من دون الدعم العسكري التركي. كانت الحرب تحظى بشعبية في تركيا وعلامة على موقف أردوغان الحازم في المنطقة. في باكو في العاشر من ديسمبر، انغمس أردوغان في قصيدة أثارت لفترة وجيزة مصدرا جديدا للخلاف مع طهران بمقاطع تتحدث عن فصل الأذريين الإيرانيين "بالقوة" عن أذربيجان. وأدى ذلك إلى اندلاع مواجهة دبلوماسية بين وزيري خارجية البلدين لتوضيح "سوء التفاهم"، وانتهى باعتقاد الرئيس الإيراني حسن روحاني أن "الأمر قد انتهى".

2- اعتقالات في تركيا: ألقت المخابرات التركية القبض على 11 شخصاً يشتبه في تورطهم في اختطاف المعارض الإيراني حبيب شعب. قد يكون المشتبه بهم على صلة بكل من الحكومة الإيرانية ومهرب المخدرات ناجي شريفي زنداستي، الذي يعيش في تركيا منذ أن حكمت عليه إيران بالإعدام في عام 2007. وهناك تكهنات بأن زنداستي ربما يكون قد وعد بعفو مقابل اختطافه شعب وإرساله إلى إيران.

3- صدع في سوريا: ربما تفكر تركيا في شن هجوم على بلدة عين العيسى التي يسيطر عليها الأكراد في شمال غرب سوريا. تحاول روسيا منع تحرك تركي من خلال التوسط في اتفاق مع "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية للسماح بدور أكبر للحكومة السورية والجيش السوري. لقد تماسك تجمع إيران وتركيا وروسيا في سوريا على الرغم من المصالح المتباينة، لكنه قد يكون في حالة تآكل. فقد أخبر المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا جيمس جيفري، مراسل المونيتور جاريد زوبا، أن دور تركيا في سوريا كان عبارة عن حقيبة مختلطة، حيث أن عداء أنقرة لقوات سوريا الديمقراطية كان مجرد ركن واحد مزعج من هيكل سياسي معقد سعت فيه واشنطن إلى تسخير مصالح الطرفين، تركيا وإسرائيل لدحر إيران والتعامل مع حكومة الرئيس بشار الأسد وروسيا في الحرب في سوريا.

4- طائرات بدون طيار لأوكرانيا: وسائل الإعلام الإخبارية الأوكرانية تعج بالتكهنات بأن الجيش الأوكراني ربما يخطط لاستعادة منطقة دونباس الشرقية في البلاد التي يسيطر عليها الانفصاليون المدعومون من روسيا، باستخدام طائرات "بيرقدار – تي بي2" التركية الإسرائيلية التي يعتقد أنها ساهمت في تغير قواعد اللعبة في الحرب الأذرية الأرمنية. لقد أثار تعميق العلاقات الدفاعية بين تركيا وأوكرانيا قلق موسكو، وقد يكون ذلك ردا على الجهود الروسية لتقويض أجندة تركيا في الحربين في ليبيا وسوريا، حيث تدعم أنقرة وموسكو الجماعتين المتنافستين.

5- إعادة ضبط الوضع مع "إسرائيل" وواشنطن: سمت تركيا سفيرا جديدا لها لدى "إسرائيل" تماشيا مع الجهود المبذولة لتطبيع العلاقات معها وتسجيل نقاط مع الإدارة المقبلة للرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن. كما أن النشر العلني لقصة المعارض الإيراني الشعب التي سربها لأول مرة مسؤول تركي إلى صحيفة "واشنطن بوست"، يشير إلى أن تركيا حريصة على إظهار أنها تتخذ إجراءات صارمة ضد إيران في الوقت الذي تسعى فيه إلى بناء جسور مع إدارة بايدن المقبلة. والأكثر غرابة، أن الاستخبارات التركية، الذي اتهمت "إسرائيل" رئيسها هاكان فيدان، باقتلاع أصولها المحلية في إيران لمصلحة النظام الديني، هي من أخذت زمام المبادرة. وهذا بدوره يتناسب مع جهود تركيا الأخيرة للتواصل مع "إسرائيل".

وقد أشار مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون في كتابه الأخير إلى علاقة ترمب وأردوغان على أنها "علاقة صداقة" ومن غير المرجح أن يتشارك أردوغان وبايدن في نفس العلاقة. في يناير2021 ، وصف بايدن أردوغان بأنه "مستبد" وقال إنه يجب أن "يدفع الثمن". وقال أردوغان إنه "ليس غريبا عن بايدن"، مضيفا "لقد عرفنا بعضنا البعض عن كثب منذ عهد أوباما. حتى أنه وصل إلى منزلي وزارني في منزلي عندما كنت مريضا"، مشيرا إلى أنه "لا يوافق على الخطوات الأمريكية بشأن شرق الفرات في سوريا وشراء تركيا للأسلحة". 

وخلص الكاتب إلى أن أردوغان يبحث عن فرص لتصحيح العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا وسيرغب في السير على قدم المساواة مع بايدن، مشيرا إلى أن الخلاف مع روسيا وإيران كان دائماً تحت السطح. ومع ذلك، يجد أردوغان وبوتين وروحاني طريقة لترك أمتعتهم عند الباب لإدارة هذه الاختلافات. ومن المرجح أن يتم حل المشكلات العديدة التي تشكل العبء في العلاقات الأمريكية التركية في إدارة بايدن. فبايدن هو نفسه دبلوماسي ماهر، ولدى الولايات المتحدة وتركيا أسباب مقنعة لإيجاد أرضية مشتركة حيث يمكن العثور عليها، مع التخلي عن فكرة نهاية "التحالف" بين الولايات المتحدة وتركيا، والتي يشير البعض إلى أنها في الغالب أوهام.

 

تركيا "لقمةً سائغة" للروس

 

تحت عنوان "الاتحاد الأوروبي وأمريكا.. لن نترك تركيا لقمةسائغة للروس" كتب المحلل حسني محلي يوم 12 ديسمبر 2020: جاء الموقف الأمريكي والأوروبي المعتدل تجاه الخلافات مع أنقرة بعد إشارات مهمة أرسلها إردوغان لكل الأطراف.

أثبت زعماء الاتحاد الأوروبي في قمتهم التي فشلت في فرض أي عقوباتٍ جدية وجديدة على تركيا أنهم لن يتركوا تركيا بإمكانياتها العظيمة في جميع المجالات "لقمة سائغة" للعدو التقليدي فلاديمير بوتين.

هذا ما أكد عليه الرئيس الأمريكي ترمب الذي تهرب هو الآخر من فرض أي عقوباتٍ صارمة اقتصاديا وماليا على تركيا ورئيسها اردوغان شخصيا وهو ما كان يهدد به باستمرار. 

كما فاجأ الاتحاد الأوروبي الجميع بقراراته التي لم تتطرق ولو بكلمة واحدة إلى "انتهاكات حقوق الإنسان والحد من الحريات الديمقراطية والقضاء على استقلالية القضاء"، وهو ما كان يفعله في قممه السابقة.

وجاء الموقف الأمريكي والأوروبي هذا بعد إشارات مهمة أرسلها إردوغان لكل الأطراف وفيها الكثير من المعاني المباشرة وغير المباشرة لأمريكا وأوروبا معا ومن دون أن يتجاهل "إسرائيل". 

فقد عين إردوغان أحد المقربين منه وهو آوفوق آولوتاش سفيراجديدا له في تل أبيب التي سحب منها سفيره السابق في مايو 2018 عندما أعلنت "إسرائيل" القدس عاصمةً تاريخية ودينية لكل اليهود. وأثار هذا الاختيار العديد من التساؤلات لأن آولوتاش ليس دبلوماسيا ولكنه درس في "إسرائيل" وهو مختص بالتاريخ اليهودي وله علاقات واسعة مع العديد من المؤسسات والهيئات والشخصيات اليهودية في "إسرائيل" وأمريكا وهو خبير في الشؤون الإيرانية أيضا.

ومعروف عن آولوتاش أنه صديق الرئيس إردوغان وصديق المتحدث باسمه إبراهيم قالين، مؤسس وقف مكتب الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عام 2005 بتعليمات من أحمد داود أوغلو الذي كان آنذاك مستشارا لرئيس الوزراء إردوغان. 

وأشارت وسائل الإعلام التركية إلى إحدى الوثائق التي سربها موقع ويكيليكس عام 2010 والتي تحدثت عن علاقة مركز "سترادفورد" الأمريكي الذراع المكشوف للمخابرات الأمريكية مع إبراهيم قالين ومؤسسة SETA التركية التي لها فرع في واشنطن. 

وجاء قرار إردوغان بتعيين مراد مرجان، وهو أيضا من خارج النادي الدبلوماسي سفيرا في واشنطن، ليؤكد رغبته في وضع وتطبيق سياسات جديدة في العلاقة مع أمريكا مع أهمية اللوبي اليهودي هناك. وتحدثت المعلومات عن مساعي إردوغان من خلال السفير مرجان لإبعاد واشنطن عن المعارضة التركية التي تحدث بايدن، بداية عام 2020، "عن ضرورة دعمها للتخلّص من حكمه الاستبدادي".

 

حساب أوسع

 

هناك مقولتان مهمتان في الثقافة التركية، الأولى على لسان كاتب النشيد الوطني التركي محمد عاكف: "يقولون عن التاريخ إنه يكرر نفسه، فلو استخلصت الدروس منه لما كرر نفسه"، والأخرى عثمانية وتقول: "ذاكرة البشر معتلة بالنسيان". 

نشر موقع الحرة الذي تديره الحكومة الأمريكية يوم 12 ديسمبر 2020 تحليلا تحت عنوان "حساب أوسع".. روسيا سمحت لإردوغان بدور قوي في القوقاز بهدف "دق إسفين" مع الناتو جاء فيه:

تواصل تركيا مراقبتها لوقف إطلاق النار في جيب ناغورنو قره باغ الجبلي، بعد التوصل إليه بوساطة روسية منفردة لإنهاء أسوأ قتال منذ عقود بين أذربيجان وأرمينيا، وهما جمهوريتان سوفيتيتان سابقتان، الأمر الذي وصفته صحيفة وول ستريت جورنال بأنه "تنازل هام من الكرملين لأنقرة".

وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن الدعم العسكري التركي القوي لأذربيجان كان حقيقة لا يمكن للكرملين تجاهلها. 

وعندما سئل عن دور تركيا الأوسع في منطقة القوقاز، بعد أيام من توقف القتال، قال بوتين على التلفزيون الروسي: "ماذا يمكنني أن أقول لك. إنها تداعيات جيوسياسية من انهيار الاتحاد السوفيتي".

وتقول صحيفة "وول ستريت جورنال" إن دخول تركيا إلى منطقة كان الكرملين يعتبرها تقليديا مجال نفوذه الحصري يشير لجهود الرئيس إردوغان لإعادة تشكيل دولته وهي عضو بحلف شمال الأطلسي والحليفة "المطيعة" للولايات المتحدة، لكنها الآن أًصبحت لاعبة قوية على مفترق الطرق بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا.

ويقول محللون أتراك إن روسيا لا تزال القوة البارزة في المنطقة، وأن التطورات الأخيرة تعزز هذه المكانة نظرا لوجود 2000 جندي روسي منتشرين على الأراضي الأذرية كجزء من اتفاقية السلام.

كما يقولون إن بوتين ربما سمح لأنقرة بأن تصبح وسيطا في القوقاز كجزء من حساب أوسع: وهو مواصلة دق إسفين بين تركيا والأعضاء الآخرين في منظمة حلف شمال الأطلسي.

لكنهم يقولون إن فكرة أن تظل موسكو مكتوفة الأيدي بينما تتعرض القوات الأرمينية، المجهزة روسيا، للهزيمة من قبل القوات الأذربيجانية، المدعومة تركيا، لم تكن واردة، حتى قبل بضعة أشهر.

وذكر أستاذ العلاقات الدولية في جامعة مرمرة بإسطنبول، بهلول أوزكان: "إنه انتصار كبير لتركيا. ربما يكون انتصار السياسة الخارجية التركي الوحيد في السنوات الخمس أو الست الماضية".

 

التحدي الإقتصادي

 

وسط دوامة التحالفات السياسية والعسكرية في منطقة الشرق الأوسط الكبير تواجه تركيا أزمة اقتصادية ستترك آثارها بشكل أو بآخر.

جاء في تقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية يوم الأحد الأول من نوفمبر 2020:

مع انهيار الليرة إلى مستوى قياسي منخفض الأسبوع الماضي، متجاوزة العتبة الرمزية البالغة ثماني ليرات مقابل الدولار، كانت ديمير أوجلو واحدة من كثير من الأشخاص في حي ماماك الشعبي الذي تقطنه الطبقة العاملة في أنقرة، الذين كانوا يراقبون انهيار العملة بقلق.

أمينة شاهين 54 عاما التي كانت ترافق حفيدها البالغ من العمر عامين في رحلة إلى الملعب، تقول: "كل شيء باهظ الثمن. سواء كانت فواكه أو خضراوات أو ملابس، جميعها تتأثر بسعر العملة".

سعى المسؤولون الأتراك إلى إضفاء بعض الإيجابية على انخفاض قيمة العملة، التي فقدت أكثر من 25 في المائة من قيمتها مقابل الدولار عام 2020.

أنفقت السلطات التركية 134 مليار دولار على مدى الـ18 شهرا الماضية في محاولة فاشلة لدعم العملة، وفقا لتقديرات بنك غولدمان ساكس الاستثماري. التدخل الذي تسبب في خسائر فادحة في احتياطيات تركيا من العملات الأجنبية، استمر نهاية شهر أكتوبر.

السياسيون الأتراك يدركون جيدا أن ضعف العملة يضر الشركات التركية المثقلة بديون بالعملة الأجنبية تبلغ 246 مليار دولار. ويعرفون أيضا أن سعر الصرف - الذي يظهر في زاوية الشاشة في القنوات الإخبارية - ينظر إليه المواطنون الأتراك على أنه مقياس للصحة الاقتصادية العامة للبلاد.

يشير اقتصاديون إلى أن أهم صادرات البلاد - بما في ذلك السيارات والسلع المعمرة والمنسوجات - تعتمد على المواد الخام المستوردة والأجزاء الوسيطة، ما يقوض حجة الحكومة بفوائد العملة التنافسية. يحتاج المصدرون أيضا إلى طلب قوي من أوروبا، وهي أكبر أسواقهم، الأمر الذي يهدد بإعاقة نموهم أيضاتزايد الإصابات بفيروس كورونا وإعادة فرض القيود.

قطاع السياحة في تركيا الذي كان من الممكن أن يستفيد من انخفاض سعر الليرة، في حالة ركود بسبب الجائحة.

أثر ارتفاع تكلفة المواد المستوردة في قطاع الزراعة في تركيا. قال موتلو دوجرو، رئيس جمعية تعاونية للمزارعين في مقاطعة أضنة الجنوبية، لصحيفة "سوزكو" المعارضة: "يتم استيراد جميع المواد التي نستخدمها تقريبا، مثل الكيماويات والأسمدة والوقود". "هذه التكاليف تدمر مزارعينا".

كان ارتفاع أسعار المواد الغذائية أحد محركات ارتفاع التضخم المزمن في تركيا، الذي بلغ معدله السنوي 11.75 في المائة في أكتوبر 2020. هذا بدوره ألحق الضرر بالأسر التركية.

يعتقد كثير من المحللين أن المشكلات الاقتصادية التي تواجهها تركيا هي أحد الأسباب التي جعلت أردوغان يتبنى أسلوبا قتاليا متزايدا في السياسة الخارجية، ويخوض في صراعات في سوريا وليبيا والعراق وشرق البحر المتوسط ومنطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها في القوقاز.

لكن الرئيس التركي عالق في حلقة مفرغة، مع تصاعد التوترات الجيوسياسية التي تغذي انخفاض العملة.

وفقدت العملة التركية نحو 24 في المائة من قيمتها عام 2020، بسبب تضاؤل احتياطيات النقد الأجنبي وتدخل باهظ التبعات للدولة في سوق العملة.

لقد بات من الصعب كتابة أخبار حول أسعار صرف الليرة التركية بشكل يومي، نظرا لتقلباتها المفرطة، فما بين كتابة هذا التقرير ونشره للقراء يمكن رؤية مستويات قياسية جديدة في العملة، والتي تشهد سقوطا حرا.

صحيفة "sozcu" نشرت تقريرا تحت عنوان "الليرة التركية تنافس البيزو الأرجنتيني، مع انخفاض قيمتها"، وقارنت وضعها الأسبوعي من عام إلى عام، وعلى مدار ثلاث سنوات مقابل الدولار الأمريكي، مشيرة إلى أن "أداء الليرة مقابل الدولار ينافس البيزو الذي أفلس".

التدهور الذي تشهده الليرة التركية ليس مشكلة اليوم فقط، فعندما ننظر إلى أداء العملات مقابل الدولار في العالم، في البيانات الأسبوعية والسنوية و 3 السنوات الأخيرة نجد بأن الليرة التركية هي من بين العملات الثلاثة الأكثر انخفاضا (البوليفار الفنزويلي خارج القائمة).

على الرغم من ربط الانهيار بأكثر من زاوية بالفائدة وعدم رفعها من جانب "المركزي"، إلا أن اقتصاديين ذهبوا إلى ما هو خارج الحدود، وأشاروا إلى أن السياسات التي تتخذها الحكومة في أكثر من محور، كان لها وقعا كبيرا على ما تشهده العملة الوطنية في الوقت الحالي.

 

عمر نجيب

[email protected]