الانتخابات الأمريكية ..كيف تحافظ الدولة العميقة على مقاليد السلطة...

ثلاثاء, 2020-11-03 14:01

العالم وفرص تعديل السياسات الداخلية والخارجية للبيت الأبيض
 يترقب الكثيرون عبر العالم نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية والتشريعية التي تمس كذلك أعضاء الكونغرس. حيث سيتم التنافس على 35 مقعدا في مجلس الشيوخ، وكافة مقاعد مجلس النواب الـ 435، وذلك بسبب التأثيرات المرتقب أن تترتب عنها سواء داخل الولايات المتحدة أو في مناطق أخرى من العالم.
ويسيطر الديمقراطيون حاليا على مجلس النواب، وهي ميزة يستبعد أن يخسروها هذه المرة، بحسب الخبراء.

وإذا انتخب بايدن رئيسا، وهيمن الديمقراطيون على مجلس الشيوخ، فسيسيطر الحزب على أهم أدوات السلطة الفدرالية في واشنطن لأول مرة منذ بداية عهد، باراك أوباما، الرئاسي.

الانتخابات الرئاسية والتشريعية في الولايات المتحدة تحدث تعديلات في سياسات واشنطن الداخلية والخارجية ولكن التحولات ليست في الغالب جذرية لأن هناك في النظام الأمريكي الدولة العميقة وأهم مكوناتها ما يسمى المركب الصناعي العسكري وهي التي تتحكم في مختلف التنظيمات السياسية والنقابية والاجتماعية وممثليها وتمنع أي تحولات تمس مصالحها.
في الولايات المتحدة الأمريكية لا يقوم المواطنون والمواطنات بانتخاب الرئيس مباشرة وإنما يقومون بانتخاب المجمع الانتخابي، ويتكون هذا ممن يسمون بالناخبين الكبار، وهم 538 ناخبا يمثلون الولايات المختلفة. ولخامس مرة في تاريخ الولايات المتحدة، لم يتفق أغلبية المواطنين مع أغلبية أعضاء المجمع الانتخابي. ويعود السبب الرئيسي في هذا إلى أن الصراع الانتخابي يراهن على أعضاء المجمع الانتخابي وحدهم، بل ويمكن أن يصبح أحد المرشحين فائزا بالانتخابات دون الحصول على أغلبية أصوات المواطنين.

ويعتبر هذا أمرا باليا وغير ديمقراطي. وطبقا لرأي خبراء السياسة بجامعة برنستون فإن الديمقراطية في الولايات المتحدة تصبح بهذا نوعا من حكم جماعة صغيرة من فاحشي الثراء، الذين لا يريدون ممارسة سلطاتهم فقط في مجال الاقتصاد، بل يتعدوه إلى مجال السياسة أيضا.

حصلت انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2016 على 62 نقطة فقط من مجموع 100 نقطة على مؤشر سلامة الانتخابات لجامعة سيدني الأسترالية. ويصنف هذا المؤشر الانتخابات على مستوى العالم بناء على العملية التي يتم بها الوصول للنتائج. وتأتي الولايات المتحدة في المرتبة السابعة والأربعين عالميا، خلف دول مثل تونس واليونان ومنغوليا وغرينادا وبولندا أو جنوب أفريقيا.

في هذا السياق، تنتقد بيبا نوريس وهي عالمة سياسة بريطانية، بصفة خاصة تقسيم الدوائر الانتخابية ووضع قوانين الانتخاب وتمويل الحملات الانتخابية باعتبارها أهم نقاط ضعف في الانتخابات الأمريكية. فهذه النقاط تحث على الاستقطاب السياسي ولا تكاد تعرقل في المقابل التدخل الاحتيالي في نتائج الانتخابات.

يعد تمويل الحملات الانتخابية على مستوى العالم أحد أضعف أركانها. وبناء على تقديرات الخبراء في عام 2016 فإن القوانين المحلية لا تكفي في ثلثي الحالات لضمان تحقق نتائج انتخابية بمنأى عن المال. بهذا يتعرض الانتخاب الحر كمكون أساسي للديمقراطية للخطر. ويعتبر الارتخاء في القيود المفروضة على تمويل الحملات الانتخابية بالولايات المتحدة ذا دلالة سيئة.

حطمت الحملات الانتخابية الأمريكية أرقاما قياسية لجهة الإنفاق، في 2020 تم إنفاق 6.6 مليار دولار من قبل المرشحين للرئاسة، أي أكثر بملياري دولار من المبلغ الذي أُنفق خلال المنافسة بين ترمب وكلينتون قبل أربع سنوات، بحسب دراسة أجراها مركز "ريسبونسيف بوليتيكس".

وتفوقت حملة بايدن من هذه الناحية، إذ أغرقت الإذاعات في الولايات الرئيسية بالإعلانات السياسية.

وتم بالمجمل إنفاق أكثر من 14 مليار دولار في الفترة التي سبقت انتخابات 3 نوفمبر 2020، إذ تم تخصيص أكثر من سبعة مليارات دولار من هذا المبلغ لانتخابات الكونغرس.

يعتقد دافيد سيلفان، الأستاذ في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية بجنيف إن الانتخابات الرئاسية لسنة 2020 لن تشهد نهاية القوة الناعمة الأمريكية ولا عودتها، بل ستشهد حالة من "نزع الصبغة الأمريكية" عنها. فحتى لو فاز جو بايدن، ستواصل بعض المجموعات نشر أفكار وأشكال للمنظمات فوق الحكومية التي سينتشر صداها بقوة في جميع أنحاء العالم. لكن هذا الصدى يعني أن ما سوف ينتشر لن يكون أمريكيا بالمعنى الدقيق للكلمة. وقد لا يكون دونالد ترمب هو من حفر قبر القوة الناعمة للولايات المتحدة، بل مارك زوكربيرغ المليادير الأمريكي مؤسس موقع فيس بوك.

السياسة الخارجية

في السياسة الخارجية لا فرق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي سوى تعديل التكتيك وليس الاستراتيجية، ففترات حكمهما عقب الحرب العالمية الثانية حتى الآن تساوت تقريبا الديمقراطيون 36 عاما، الجمهوريون 37 عاما، قضت أمريكا أكثر من نصفها في حروب"37 سنة"، كان نصيب الديموقراطي منها 20 سنة، والجمهوري 17 سنة.

في الحقيقة كانت الفترة كلها ملطخة بالدماء، فتدخلاتها العسكرية كوريا 1954 والفيتنام 1962 حتى 1975 وافغانستان من 2001 حتى 2020 والعراق 2003 وأحيانا بمشاركة الأمم المتحدة "يوغسلافيا، الصومال…"، وحروبها الغير مباشرة من دعم الانقلابات "انقلابات ايران وتركيا، انقلاب باتيستا في كوبا"، إلى تدخلها في بلدان عديدة لدعم عملائها "عملية الخفاش الأزرق" في لبنان بمشاركة 14000 جندي لدعم حكومة كميل شمعون"، وتاريخ زاخر بدعم الحركات الانفصالية، والحكومات الديكتاتورية، واغتيال المناوئين لسياساتها "حسني الزعيم، تشي غيفارا". وبالنسبة للمنطقة العربية عملت واشنطن على نشر ما يسمى بالفوضى الخلاقة لتمزيق دول المنطقة دعما لإسرائيل التي تحصل على كل السند الممكن من البيت الأبيض لسلب ما تبقى من أرض فلسطين وشرعنة احتلالها لقدس والجولان والاراضي اللبنانية.

في مجال السياسة الخارجية يختلف برنامجا المرشحين بشأن التعامل مع الحلفاء وقضايا التغير المناخي والشرق الأوسط.

فبشأن حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط عرف عن الرئيس ترمب دعمه لحكام عرب يرى منتقدوهم أنهم مستبدون بالسلطة، ومهاجمته لحلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي، وعدم اقتناعه بالأخطار التي يشكلها التغير المناخي على مستقبل البيئة والأرض وبني الانسان.

ويأمل بايدن في حال فوزه الى إعادة ترتيب أولويات العلاقات الخارجية لبلاده والعودة الى عضوية منظمة الصحة العالمية وقيادة مكافحة العالم لفيروس كورونا وترميم صورة أمريكا التي تدعم الممارسات الديمقراطية، وليس الأنظمة الاستبدادية عبر العالم.

ويقول بايدن إنه سيجعل من مكافحة التغير المناخي والعودة الى حضن الاجماع الدولي حول هذه القضية ضمن أولويات ولايته الرئاسية.

وبالنسبة للعلاقات مع ايران أكد بايدن أنه، في حال فوزه، سينضم من جديد الى الاتفاق الموقع مع طهران بشأن برنامجها النووي.

ولعل أكبر تغيير سيطرأ على السياسة الخارجية الأمريكية في حال فوز بايدن، هو موقفها من الحرب في اليمن. إذ يعتزم المرشح الديمقراطي وقف دعم بلاده للحرب التي يعارضها عدد كبير من أعضاء الكونغرس.

وبخصوص الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لن يتغير الدعم الأمريكي القوي لإسرائيل، لكنه من غير المرجح أن يتبنى بايدن سياسات ترمب العلنية المؤيدة لضم إسرائيل لأراضي فلسطينية محتلة في الضفة الغربية.

توني أريند البروفيسور في جامعة جورج تاون يرى الانتخابات الأمريكية بمثابة مواجهة حاسمة للسياسة الخارجية، "لأننا بصدد رؤيتين مختلفتين كلياً بشأن ما يجب أن يكون عليه العالم، وما ينبغي أن تكون عليه القيادة الأمريكية". 

فالعالم وفقا لترمب هو "أمريكا أولا"، والتخلي عن الاتفاقات الدولية التي يعتقد أنها تمنح أمريكا صفقة غير عادلة. هو عالم أحادي، مربك، قائم على المعاملات التجارية. هو أيضا عالم شخصي، غير منتظم، تحدده مشاعره الغريزية وعلاقاته بالقادة، ويحركه ما يراه على موقع تويتر. 

والعالم وفقا لجو بايدن يبدو في صورة أكثر تقليدية لدور أمريكا ومصالحها، وهو ما تأصل في المؤسسات الدولية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، ويقوم على أساس القيم الغربية المشتركة. هو عالم التحالفات العالمية الذي تتزعم فيه أمريكا البلدان الحرة في مواجهة التهديدات العابرة للدول.

من بين ما يتضمنه برنامج الديمقراطي بايدن الخاص بالطاقة، خفض الانبعاثات الضارة في الغلاف الجوي بحلول العام 2050 بمساعدة برنامج طاقة متجددة بقيمة تريليوني دولار، وحظر إنتاج النفط الصخري على الأراضي الفدرالية.

أما في حال بقاء دونالد ترمب في السلطة لمدة أربع سنوات أخرى، فسوف يبقى كل شيء على ما هو عليه الآن. من بين أمور أخرى، سيعني مثل هذا السيناريو الحفاظ على الوضع الراهن في قطاع الطاقة الأمريكي.

للوهلة الأولى، قد يبدو أن أسعار النفط، في حال ولاية ثانية لترمب، يجب أن تقفز، وأن تنخفض إذا فاز بايدن. لكن تجار النفط يرون أن منطق التسعير أكثر تعقيدا من هذه الصورة المبسطة الظاهرة على السطح. والحقيقة، كما يقول الخبراء، أن ما هو جيد لصناعة النفط ليس بالضرورة جيدا لأسعار النفط، والعكس صحيح.

 القاعدة الداعمة لإسرائيل

 على الرغم من أن السياسة الأمريكية تقوم على مبدأ الفصل التام بين الكنيسة والدولة، إلا أن تأثير المتدينين واضح في اختيار الرؤساء.

يحظى ترمب بدعم كبير في أوساط الانجيليين الداعمين لإسرائيل الذين من بين معتقداتهم الأساسية التي شكلت أولوية في مخططاته، بحسب ميل ويب أستاذة اللاهوت الأخلاقي في جامعة تكساس سان أنطونيو، "الدعم المطلق لإسرائيل كأرض للشعب اليهودي، لأن تحقق نبوءة إعادة بناء أورشليم ضرورية لعودة المسيح. لذلك يعد دعم إسرائيل، اختبارا سياسيا أساسيا للمرشحين الراغبين باستمالة أصوات المسيحيين المحافظين.

وإذا كانت استطلاعات الرأي تظهر عدم اكتراث الإنجيليين المتجددين بسيرة ترمب الذاتية، بقدر ايمانهم بأنّه قادر على تحقيق نبوءة ما. فبغض النظر إن كان ترمب شخصا صالحا أم خطاء وفقا للمعتقد الديني، إلا أنه يمكن أن يكون أداة في خطة الله. ويستندون في ذلك إلى حكاية قورش الكبير ملك فارس في القرن السادس قبل الميلاد، الوارد ذكره في التوراة كمحرر لليهود. فقورش لم يكن يهوديا، لكنه سمح لهم بإعادة بناء هيكل أورشليم، بحسب المعتقد الديني.

وبحسب مركز "بيو" الأمريكي للأبحاث، فإن 88 في المئة من أعضاء الكونغرس، يعرفون عن أنفسهم كمسيحيين، بحسب استطلاع أجري عام 2019. كما أن نصف الناخبين الأمريكيين تقريبا يؤمنون أنه يجب على الرئيس المنتخب أن "يتمتع بمعتقدات دينية راسخة". فيما يرى ثلث الأمريكيين أنّ السياسات الحكومية يجب أن تدعم القيم الدينية.

 الديمقراطية الامريكية حقيقة أم خيال؟

 كتب أسامة عثماني الباحث في الشأن الأمريكي في 28 مايو 2020:

يعتقد الكثير أن النظام السياسي الأمريكي هو الأمثل والأكثر تماشيا مع مبادئ الديمقراطية الحديثة. كما يرى الكثيرون حول العالم أن الآباء المؤسسين، مثل ألكسندر هاميلتون، وجايمس ماديسون، وبنجامين فرانكلين، نجحوا في بناء الولايات المتحدة الأمريكية على مبادئ الديمقراطية الشعبية. مثل هذه الأفكار جرى تسويقها إلى جل بلدان العالم إلى أن صارت جزءا لا يتجزأ من الثقافة السائدة تحت غطاء العولمة. لكن الباحث في خبايا النظام السياسي الأمريكي يمكن أن يلاحظ أن مثل هذه الأفكار هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة.

في هذا البحث النقدي سنتعرف على قواعد اللعبة الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية. التركيز لن يكون قائما على السياسات الخارجية الأمريكية ونظريات المؤامرة، بل العكس، التركيز سيكون منصبا على السياسية الداخلية الأمريكية وطريقة عمل النظام السياسي الأمريكي. يكشف هذا البحث بعض الحقائق المغيبة في ثقافتنا العامة والشعبية حول الديمقراطية الأمريكية وطريقة عملها التي تتعارض أحيانا مع المبادئ الجوهرية لمفهوم الديمقراطية.

1-النظام الانتخابي الأمريكي: الشعب لا ينتخب حاكمه

يقوم النظام الانتخابي الأمريكي على مفهوم الهيئة الانتخابية. إذ إن النظام الانتخابي الأمريكي لا يعتبر أصوات عامة الشعب كافية لتحديد الرئيس. بل تسند مهمة انتخاب الرئيس إلى هيئة انتخابية مصغرة، بغض النظر عن التصويت الشعبي. وهو ما يعني أن المرشح الذي يصوت له أغلبية الشعب الأمريكي في الانتخابات الرئاسية يمكن أن يخسر الانتخابات في حالة اختيار الهيئة للمرشح الآخر. وهو ما حصل بالفعل في الانتخابات الرئاسية في 2016، إذ فاز دونالد ترمب في الانتخابات رغم أن أغلبية الشعب الأمريكي صوت لصالح هيلاري كلينتون بفارق 3 مليون صوت. عمليا، كلينتون هي التي فازت بالانتخابات. ولكن ترمب هو الذي أصبح الرئيس بعد أن اختارته الهيئة. وهو ما يتعارض مع مبادئ الديمقراطية الشعبية والديمقراطية التمثيلية، إذ إن الرئيس غير منتخب من أغلبية الشعب، ولا يمثل هذه الأغلبية.

يبدو أن عرابي الدستور الأمريكي قد اتخذوا موقفا لا يثق في قدرة عامة الشعب على اتخاذ القرار السليم، وهو ما دعاهم لوضع نظام يعطي الجماهير الحق في التعبير عن نفسها، ولكن تحت سيطرة نخبة أكثر حكمة، خشية من سيطرة مشاعر لحظية على العامة تؤدي إلى ما أطلقوا عليه "حكم الرعاع".

2- نظام الحزبين وغياب التعددية

يعد النشاط السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية حكرا على الحزبين الديمقراطي والجمهوري. إذ يحتكر الديمقراطيون والجمهوريون كل أشكال الدعم المالي والنفوذ السياسي والعمل الحزبي. وهو ما لا يتماشى مع مبدأ التعددية الحزبية التي تميز مفهوم العمل الديمقراطي.

يظهر هذا الاحتكار خاصة في العمل التشريعي، إذ يتكون الكونغرس الأمريكي، وهو الهيكل التشريعي في البلاد، من مجلس الشيوخ ومجلس النواب. يحتوي مجلس الشيوخ حاليا على 53 عضوا من الحزب الجمهوري و45 عضوا من الحزب الديمقراطي، وعضوين مستقلين فقط. بينما يحتوي مجلس النواب على 196 عضوا من الحزب الجمهوري و233 عضوا من الحزب الديمقراطي وعضو واحد مستقل فقط. 

وتمتلك معظم الدول الديمقراطية في العالم تمثيلية برلمانية ذات تعددية حزبية، مثل نيوزيلندا، وأستراليا، وأيرلندا، ما عدا الولايات المتحدة الأمريكية التي يتقاسم الديمقراطيون والجمهوريون التمثيلية التشريعية فيها. وتعد التعددية الحزبية من أهم مبادئ الديمقراطية التي لا يحترمها النظام السياسي الأمريكي. 

3- تقنين الفساد السياسي: مجموعات الضغط والتأثير

ترى العديد من الدول الديمقراطية أن الدعم المالي المقدم للأحزاب السياسية ونواب الشعب يمكن أن يكون مظهرا من مظاهر الفساد المالي والسياسي. إذ يمكن أن تقدم أطراف معينة مساعدات مالية لأطراف سياسية من أجل خدمة مصالحها الاقتصادية والتجارية والاستثمارية. و هو ما يعبر عنه في السياسة "quid-pro-quo". وتعني هذه العبارة تقديم خدمات شخصية ذات طابع سياسي أو إداري أو تشريعي، مقابل الحصول على المال أو الحصول على معروف بقيمة الخدمة المسداة نفسها. وتعد هذه الصفقات منافية للديمقراطية، بما أنها تضع نواب الشعب والأحزاب السياسية في خدمة المصالح الشخصية والضيقة، على حساب المصلحة العليا للشعب والوطن. وتسمى مثل هذه الممارسات "اللوبيات". 

لكن الولايات المتحدة الأمريكية تعد اللوبيات، أو مجموعات الضغط والتأثير، مؤسسات قانونية لها الحق في التأثير على السياسات الداخلية والخارجية للدولة. من أبرز هذه المؤسسات يمكن أن نذكر الرابطة الوطنية الأمريكية للسلاح، والتي تتكون من أصحاب شركات تصنيع الأسلحة وتعنى بحقوق حمل السلاح. وتعد السبب الرئيسي في عدم تمرير أي قانون ينظم حمل السلاح، رغم الارتفاع المتواصل للجرائم المسلحة في الولايات المتحدة. وتؤثر هذه المجموعة في السياسة الداخلية الأمريكية عن طريق تقديم امتيازات مالية ضخمة للأحزاب السياسية، ونواب الشعب. وهو ما تعده الحكومة الأمريكية أمرا قانونيا إلى درجة إضفاء صبغة مؤسساتية على مثل هذه المجموعات.

4-بلوتوقراطية أم ديمقراطية؟

يمكن تقسيم مصطلح بلوتوقراطية إلى كلمتين من أصل إغريقي. الكلمة الأولى هي "بلوتوس" وتعني الثروة و المال. أما الكلمة الثانية فهي "كراتوس" وتعني الحكم والسلطة. ويعني مصطلح البلوتوقراطية سلطة المال. ويستعمل هذا المصطلح لوصف نظام سياسي يحكمه أصحاب المال والثروة. ويمكن تقسيم مصطلح ديمقراطية إلى كلمتين من أصل إغريقي أيضا. "ديموس" وتعني الشعب، و"كراتوس" وتعني كما أشرنا سابقا الحكم والسلطة. وبذلك مصطلح الديمقراطية يعني حكم الشعب، عكس البلوتوقراطية والتي تعني حكم الأغنياء.

أشرنا سابقا إلى أن النظام الانتخابي الأمريكي لا يسمح للمحكوم باختيار حاكمه. أي إنه لا يسمح للشعب بأن يتحكم في مصيره عن طريق اختيار حاكمه. كما أشرنا إلى أن السياسات الداخلية، وحتى الخارجية، تخضع لمصالح مجموعات الضغط والتأثير التي تحرك أولويات الدولة، حتى تتماشى مع أولوياتها ومصالحها الضيقة. أضف إلى ذلك أن 1 في المئة من أغنى أغنياء الولايات المتحدة الأمريكية يمتلكون أكثر من 40 في المئة من الثروة الإجمالية للبلاد، حسب تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست.

جدير بالذكر أيضا أن أكثر من 38 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر في الولايات المتحدة حسب إحصائيات سنة 2018، و هو ما يعادل 12 في المئة من مجموع السكان، إضافة إلى تخطي مستويات البطالة 14 في المئة وضعف التغطية الصحية بسبب غلاء الأسعار. يقابل كل هذه الأرقام رفض من الحكومات الأمريكية المتعاقبة للاستثمار في مجالات الرعاية الاجتماعية والبنية التحتية. بل من المفارقات أن تتجاوز ميزانية وزارة الدفاع 600 مليار دولار أمريكي يتجه أغلبها لجيوب المتعاقدين العسكريين من القطاع الخاص، بينما لا تتجاوز ميزانية وزارة التعليم 68 مليار دولار.

ويأتي كل هذا تحت إدارة أغنى رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، إذ قدرت ثروة دونالد ترمب بـ2.5 مليار دولار أمريكي، حسب وكالة بلومبرغ للأنباء. وطلب ترمب من الكونغرس الأمريكي رفع ميزانية الدفاع إلى 700 مليار دولار لسنة 2021، مقابل التخفيض من ميزانيات مختلف برامج الرعاية الاجتماعية، مثل قسائم شراء الطعام، وبرامج السكن الاجتماعي، والتغطية الصحية.

تحيلنا مثل هذه الحقائق على مطابقة النظام السياسي الأمريكي لمنطق البلوتوقراطية أكثر من مطابقته لمبادئ الديمقراطية. إذ تكون السلطة للأغنياء والنخبة، وتستعمل هذه السلطة لخدمة مصالحهم الخاصة. تؤثر بعض رؤوس الأموال في السلطة التشريعية، حتى تمرر مجموعة القوانين التي تساعد على مزيد إثرائهم. فكلما زاد ثراؤهم زادت قوتهم وتأثيرهم. وكلما زادت قوتهم، زاد ثراؤهم. حتى تتكون دائرة مفرغة قائمة بذاتها تسمح بتركيز متزايد وغير متناه للسلطة والثروة بأيدي النخبة الثرية والحاكمة وهو ما تحدث عنه الناقد الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه "المبادئ العشرة لتركيز الثروة والسلطة".

200 كفة

الخبير بشؤون السياسة الأمريكية كبير الأساتذة في معهد موسكو للعلاقات الدولية بافل ديميدوف يقول:

إذا وصفنا النظام السياسي الأمريكي بصورة مجازية، فيمكن اعتباره ميزانا، فيه 200 كفة لا كفتان. لأنه يجب أخذ عدد الولايات بالاعتبار. فالولايات المتحدة دولة فيدرالية بمكونات قوية ذات حقوق عديدة، هي أقل مما كان قبل 100 سنة ولكنها مع ذلك عديدة. وهذه القوانين تختلف من ولاية إلى أخرى، والعديد من المسائل اليومية تحل على مستوى الولايات. وهنا يجب الأخذ بالاعتبار قوة السلطات الثلاث - التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما على مستوى الولايات كذلك على المستوى الفيدرالي. كما أن علينا أخذ الدور المؤثر للصحافة والمركب الاقتصادي بالحسبان، وخاصة أنهما يلعبان دورا كبيرا في تغيير وزن هذه الكفة او تلك في النظام. ولكن، وبما أن جميع الكفات مرتبطة فيما بينها، فإن النظام يثير نشاط لاعبين آخرين من أجل إعادة توازنها. فلذلك وحتى لو وضع ثقل جدي مثل إرادة رئيس الدولة في أي كفة، فإن تغيير كل هذا التوازن سيكون فائق الصعوبة. أي أن أي مشروع قانون أو قرار لا يأخذ بالاعتبار مصالح جميع الأطراف لن يمكن تمريره. فمثلا كان الديمقراطيون يشكلون في السنتين الأولى والثانية لولاية أوباما الغالبية في مجلسي الكونغرس، لذلك تمكنوا من تمرير ما أرادوا. لكنهم بعد ذلك لم يتمكنوا من تمرير أي شيء لأن الديمقراطيين فقدوا الغالبية، ولم يتمكنوا خلال ست سنوات من تمرير أي مشروع قانون أو قرار.

- لكن الجمهوريين يشكلون الغالبية في مجلسي الكونغرس حاليا!

هذا صحيح، لذلك كان هناك افتراض بأن الجمهوريين سيستغلون ذلك لتمرير الكثير من القرارات والقوانين، وإلغاء تلك التي أُقرت في عهد أوباما مثل قانون الرعاية الصحية ومسألة الضرائب. حتى أن المركب الاقتصادي الأمريكي كان على ثقة بأن إلغاء بعض القيود التي فرضتها عليه تشريعات أوباما الصحية سيساعد على النمو الاقتصادي. لكن، وكما نرى، فإن انتماء رئيس وغالبية برلمانية إلى الحزب نفسه لم يضمن لترمب تحقيق إنجازات ما بسهولة. أي في ظل النظام المتبع في الولايات الأمريكية يتطلب من الرئيس معرفة كيفية التوصل إلى اتفاق مع اللاعبين الآخرين. ومع أن ترمب كان قد أصدر عددا من الآراء عن أساليب التفاوض مؤكدا أنه أفضل مفاوض، غير أنه تبين أن موقفه المتشدد ساعده في الاقتصاد ولم يساعده في السياسة الداخلية والخارجية.

- لقد بدا ترمب وحيدا في مواجهة الكونغرس والصحافة والمنظمات الاجتماعية.

يملك الرئيس عادة أساليب عديدة. فهو في النهاية رئيس حزب ومنتخب شرعيا من قبل الناخبين، أي شكليا هو ليس وحيدا. ولكن ترمب هنا أيضا بدا غير واثق، فعلى الرغم من أنه حصل على غالبية أصوات المندوبين الانتخابيين، فإن هيلاري كلينتون نالت ثلاثة ملايين صوت أكثر منه.

صحيح، أن للرئيس الحق بمبادرات تشريعية والتحاور بشأنها مع الكونغرس والتعهد بزيادة مخصصات الولاية وتسوية مشكلات هذه أو تلك من المجموعات الاجتماعية. ولكن لعدم الخبرة أو لأن ترمب يعد هذه الأساليب مضرة فهو لا يستخدمها. وهو بهذا يضع أعضاء الكونغرس في موقف محرج. فهم عليهم دعمه، بغض النظر عن عدم شعبية مبادراته.

ختاما يمكنني تلخيص الأمر كالتالي: الرئيس مثل العنكبوت في شبكته. حيث يرسم سياسته الداخلية والخارجية على إيقاع نسجه للشبكة. وهو بذلك يصبح مرتبطا بها وقد يتيه فيها. وهذا يعبر عن مدى ارتباط الرئيس بعناصر النظام السياسي الأخرى في الولايات المتحدة.

 الاستقطاب السياسي

 في كتابه "الاستقطاب السياسي في أمريكا" يقول مؤلفه إزرا كلين:

ينحدر النظام السياسي في الولايات المتحدة إلى الانقسام والخلل الوظيفي، لكنه ليس معطوبا بالمعنى التقليدي. ربما تبدو حقيقته مخيفة للبعض بحسب المؤلف، إذ يرى أن النظام السياسي يعمل تماما وفق نموذج عمل مقرر. ويكشف كيف أنه يستقطب الشعب الأمريكي، وكيف أن الشعب يستقطبه في الوقت ذاته، وكيف تحدث نتائج كارثية في الحياة السياسية الأمريكية تلقي بظلالها على معظم أجزاء العالم.

"إن النظام السياسي الأمريكي - الذي يشمل الجميع من الناخبين إلى الصحفيين إلى الرئيس - مملوء بالجهات الفاعلة العقلانية التي تتخذ قرارات عقلانية وفق المحفزات التي يواجهونها. نحن الشعب الأمريكي مجموعة من الأجزاء الوظيفية التي تتضافر جهودها في كل مختل وظيفيا".

في هذا الكتاب، يكشف كلين عن القوى الهيكلية والنفسية وراء انحدار أمريكا إلى الانقسام والخلل الوظيفي. ولا يعتبر هذا الأمر جدلا ولا رثاء، بل يقدم إطارا واضحا لفهم كل شيء من صعود ترمب إلى التحول اليساري للحزب الديمقراطي إلى تسييس الثقافة اليومية.

يقول كلين: "أمريكا مستقطبة، أولا وقبل كل شيء، من خلال الهوية. كل من يشارك في السياسة الأمريكية ينخرط، على مستوى ما، في سياسات الهوية. خلال السنوات الخمسين الماضية في أمريكا، اندمجت هوياتنا الحزبية مع هوياتنا العرقية والدينية والجغرافية والأيديولوجية والثقافية. لقد اكتسبت هذه الهويات المدمجة ثقلا كبيرا في سياستنا وتمزق الروابط التي تجمع هذا البلد معا".

يظهر كلين كيف ولماذا أصبحت السياسة الأمريكية تستقطب الهوية في القرن العشرين، وماذا فعل ذلك الاستقطاب بالطريقة التي ننظر بها إلى العالم وإلى بعضنا كبعض. كما يتتبع حلقات التغذية المرتدة بين الهويات السياسية المستقطبة والمؤسسات السياسية المستقطبة التي تقود النظام الأمريكي نحو الأزمة.

 إعصار بشري

 يتطرق المؤلف في مقدمته إلى كتاب المرشحة الرئاسية في 2016 هيلاري كلينتون "ماذا حدث؟" ويصفه بأنه "غير عادي" بسبب محتواه. فقد نشر بعد أشهر فقط من الانتخابات الرئاسية عام 2016، وهي محاولة المرشحة لفهم كيفية فشلها، مشيرة إلى الاعتقاد أن شيئا غريبا حدث في عام 2016، وتجد أن فوز ترمب نتيجة تتجاوز حدود العادي في السياسة الأمريكية إلى درجة الانحراف.

يقول الكاتب: "إن رئاسة الولايات المتحدة هي أمانة مقدسة، وشاغلها يمثل القوة التدميرية التي لا يمكن تصورها، وهنا سلمناها إلى إعصار بشري. وقد فعلنا ذلك عن قصد.. نعم عن قصد".

 التفكير في النظم

 يحاول المؤلف الدخول في عمق اللحظات المفصلية في القرارات التي يتخذها السياسيون الأمريكيون وكيفية اتخاذها قائلا: "دعوني أكون واضحا منذ البداية: هذا ليس كتابا عن الناس. هذا كتاب عن النظام. عادة ما يتم رواية قصة السياسة الأمريكية من خلال قصص الفاعلين السياسيين الأفراد، ونحن نركز على عبقريتهم، وغطرستهم، وسلوكهم، وخداعهم.. نقترح أنه كان بإمكانهم اتخاذ قرارات أخرى، أو أن أشخاصا آخرين، بدلا عنهم، كانوا سيتخذون قرارات مختلفة، وهذا الافتراض له نعمة الحقيقة، ولا تكمن فيه الحقيقة بقدر ما نعتقد، وليس بنفس قدر تلك الحقيقة في الروايات الداخلية الواضحة لاجتماعات البيت الأبيض، والخاصة بمكائد الحملات التي ستجعلنا نؤمن بهم".

ويضيف: "كصحفي، درست السياسة الأمريكية لمدة عشرين عاما. لقد حاولت أن أفهمها من وجهة نظر السياسيين والناشطين وعلماء السياسة والمانحين والناخبين وغير الناخبين والموظفين والنقاد - أي شخص يتأثر بها أو يؤثر فيها.. لقد صادفت ممثلين سياسيين ينعتونني بأني من السذج والأغبياء والأشرار. هؤلاء هم الأجزاء المكسورة من السياسة الأمريكية، ومن المثير إلقاء اللوم على مشكلاتنا الناشئة عن تدني مستوى أخلاقهم أو حكمهم السيئ. في الواقع، نفعل ذلك بالضبط في سنوات الانتخابات، عندما يؤدي عدم رضانا عن طريقة عمل النظام إلى طرد بعض الأشخاص وتوظيف أشخاص آخرين، وبعد ذلك ببضع سنوات، نجد أن النظام لا يزال معطلا، ونقوم بذلك مرارا وتكرار"..

ويمضي في حديثه قائلا: "بينما كنت أراقب الانتخابات، يتحول أبطال الانتخابات إلى الأوغاد في الانتخابات المقبلة، حيث استمعت إلى الأشخاص العقلانيين الذين يعطونني أسبابا مدروسة لفعل أشياء سخيفة، لقد فقدت الثقة في هذه القصص. نجمع المشكلات المنظمة في روايات شخصية، وعندما نفعل ذلك، تختلط الأمور في فهمنا للسياسة الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بنظرياتنا عن الإصلاح. نحاول إصلاح النظام عن طريق تغيير الأشخاص الذين يقومون بتشغيله، ليكتشفوا فيما بعد أنهم أصبحوا جزءا من النظام". 

 إنقاذ سياسات الهوية

 يتناول الجزء الأول من هذا الكتاب قصة، كيف ولماذا عملت السياسة الأمريكية على استقطاب الهوية في القرن العشرين، وما فعله هذا الاستقطاب بالطريقة التي نرى بها العالم وإلى بعضنا بعض.

في بداية الفصل الأول بعنوان "كيف أصبح الديمقراطيون ليبراليين وأصبح الجمهوريون محافظين"، يقول الكاتب: "أول شيء يجب أن أفعله هو إقناعك بأن شيئاً ما قد غير السياسة الأمريكية في كثير من الأحيان وهو وهم الاستقرار المريح. سيطر الحزبان الديمقراطي والجمهوري منذ عام 1961. وهما يناضلان من أجل السلطة والشعبية طوال الوقت. بحسب التاريخ الأمريكي، نجد أن الديمقراطيين والجمهوريين يشوهون بعضهم بعضا، ويقوضون سياسات بعضهم، ويتآمرون على بعضهم، حتى يعتدون على بعضهم جسديا. من الملائم إلقاء نظرة سريعة إلى الوراء، وافتراض أن حاضرنا هو انعكاس لماضينا، وأن الشركات التي تخوض غمار السياسة اليوم تعكس الشكاوى التي كانت لدى الأجيال السابقة من سياسات عصرهم. إلا أن الحزبين الديمقراطي والجمهوري اليوم ليسا مثل الحزبين الديمقراطي والجمهوري في العام الماضي. نحن نعيش الودية الجديدة القريبة من الميكانيكية". 

هناك العديد من الأنواع المختلفة من الاستقطاب كما يرى الكاتب. لكن موضع الاستقطاب الذي يركز عليه هو الهوية السياسية.. الجدل الأساسي في هذا الكتاب هو أن كل من يشارك في السياسة الأمريكية منخرط في سياسات الهوية. يقول الكاتب: "هذه ليست إهانة، وليس من المثير للجدل أن نشكل الهويات باستمرار. بطبيعة الحال، الهوية موجودة في السياسة بالطريقة التي توجد بها الجاذبية، والتطور، والإدراك في السياسة، أي أنها موجودة في كل مكان في السياسة، وأصبحت موجودة في كل مكان في حياتنا". 

ويضيف: "الهويات عميقة جدا في نفوسنا، يتم تنشيطها بسهولة حتى من خلال الإشارات الضعيفة والتهديدات البعيدة، لدرجة أنه من المستحيل التحدث بجدية عن كيفية التعامل مع بعضنا بعض دون مناقشة كيفية تشكيل هوياتنا لهذا التفاعل. لسوء الحظ، تم تسليح مصطلح "سياسات الهوية". غالبا ما يستخدمه المتحدثون لوصف السياسة كما يمارسها أعضاء الجماعات المهمشة تاريخيا. إذا كنت أسود وكنت قلقا بشأن وحشية الشرطة، فهذه هي سياسة الهوية. إذا كنت امرأة وكنت قلقة بشأن فجوة الأجور بين الذكور والإناث، فهذه هي سياسة الهوية، إذا كنت مالكا ريفيا للبنادق ينتقد سياسات التفتيش كاستبداد أو رئيسا تنفيذيا ثريا يشكو من أن معدلات الضرائب المرتفعة تشوه النجاح، أو إصرار مسيحي على الاحتفال بميلاد السيد المسيح في الساحات العامة.. هذه كلها هويات.. حسنا، لكن هذه فقط سياسة جيدة قديمة الطراز. بطريقة ما، تصبح الهوية شيئا لا تملكه سوى المجموعات المهمشة"..

 تصحيح المسار السياسي

 يرى الكاتب أن مصطلح "سياسات الهوية" يحجب بدلا من أن يضيء، قائلا: "ولكن الاستمتاع بالهوية كشفرة، يجعلنا نفقدها كعدسة، ونعمي أنفسنا في محاولة لتحقيق ميزة سياسية. حيث نبقى نبحث بلا جدوى عما نرفض السماح لأنفسنا برؤيته".

ويجد أن هذا لا يعني أن السياسة هي معادلة يتم حلها عن طريق تحديد الهوية. تشكل الهوية رؤيتنا للعالم، لكنها لا تقررها ميكانيكيا. وبينما نتحدث في كثير من الأحيان عن الهوية بصيغة المفرد، فهي دائما مجموعة مذهلة - لدينا هويات لا تعد ولا تحصى، بعضها في صراع نشط مع الآخر، والبعض الآخر يصبح خاملا حتى يتم تنشيطه عن طريق التهديد أو الثروة. يفهم كثيرا ما يحدث في الحملات السياسية على أنه صراع على الهويات التي سيعيشها الناخبون في يوم الانتخابات: هل سيشعرون وكأنهم عمال مستغلون من قبل رؤسائهم؟ هل سيصوتون على أنهم وطنيون يسيء إليهم لاعبو اتحاد كرة القدم الأمريكي الذين يركعون خلال النشيد الوطني، أم كآباء قلقين بشأن المناخ الذي سيعيشه أطفالهم؟.

يوضح أن "السياسة الصحيحة هي التي تحقق الفائدة للجميع، والعمل على تضارب الهوية لا يحقق شيئا. الهوية بالطبع ليست بالأمر الجديد. لكن كيف توضح التغييرات في سياستنا؟ الجواب هو أن هوياتنا السياسية تتغير وتتقوى. أقوى الهويات في السياسة الحديثة هي هوياتنا السياسية، التي جاءت في العقود الأخيرة لتشمل وتضخم مجموعة من الهويات المركزية الأخرى أيضا".

يدور النصف الثاني من الكتاب حول الهويات السياسية المستقطبة والمؤسسات السياسية المستقطبة التي تقود نظامنا السياسي نحو الأزمة. ما يحاول المؤلف تطويره هنا ليس إجابة لمشكلات السياسة الأمريكية بقدر ما هو إطار لفهمها. والكتاب محاولة منه في تقديم نموذج يساعد على فهم حقبة في السياسة الأمريكية يمكن أن تبدو بلا معنى.

على مدى السنوات الخمسين الماضية، اندمجت هوياتنا الحزبية مع هوياتنا العرقية والدينية والجغرافية والأيديولوجية والثقافية. لقد اكتسبت تلك الهويات المدمجة ثقلا يكسر مؤسساتنا ويمزق الروابط بيننا. هذا هو شكل سياسات الهوية الأكثر انتشارا في بلادنا، والأكثر حاجة للتحقيق فيه.
عمر نجيب

[email protected]