اعصار كورونا .. موت الأخلاق و نهاية العولمة

خميس, 2020-03-26 01:59

يعمد الافراد عادة و تندفع المجتمعات .. في أزمنة المحن و في اوقات الهزات .. الى الطي المؤقت للخلافات و تأجيل النزاعات .. ، تصحوا الضمائر و تزهوا .. ، و  يتسابق الجميع لتنمية الروابط .. ، و تعزيز التعاون و  التناصر و التآزر  .. إلى أن تنجلي الغمة و تنطفئ الحرقة و  تندمل الجراح .. ، و  التضامن الناشئ في مثل هذه الحالات يحدث أنماطا من الروابط تحد من طغيان الشطط و النزعات الفردية .. و يندحر في ظلها  العسف و الجور النابعين  من غرائز  التوق الى المنافع و اشتهاء المصالح و تقديسها  و الميل إليها .. ،  و حينها تتهادى البشرية خلف  علاقات تخطها الضمائر المرتوية بالإنسانية و  بالانحياز  لأخلاقها و مبادئها .. فتندك  المصالح و تنهدم الذوات .. ، و تضج الحياة  باللطف و يغمرها  اللين و يغشاها التحنن و المواساة  .. و تنطمس فيها الخشونة و ينكسر الطمع و ينفل الحقد و الاجتواء . 
و في عصر العولمة الذي باتت الدول فيه تقترب في علاقة بعضها بالآخر من حالة الأفراد داخل المجتمع الواحد  .. بل و تتماثل معها إلى حد بعيد فإن دول العالم ينبغي أن تكون محكومة في علاقاتها بهذا المنطق .. خاصة بالنسبة للعالم المتقدم الذي يعزف دوما على هذا الوتر و يطرب و يرقص لدوي صوته  و ألحانه .  

لقد شكل اعصار كورونا الذي يضرب العالم و يؤذي الحياة في هذه الأيام  امتحانا  لبعض الأفراد  و لبعض دول العالم في التعاطي مع ظرف جائحته ..، و بشكل أكثر تحديدا فإنه قد ترك تساؤلات مفتوحة .. قسمت فئة التجار على المستويات المحلية الى فسطاطين في تعلقهم بالمبادئ و الاخلاق .. اذ  عمد البعض منهم الى انتهاز ظرفه متعلقين بمقولة ( مصائب قوم عند قوم فوائد ) ، و غار من وجوههم ماء الحياء ..  فاستغلوا حالة الذعر و الهلع لرفع الأسعار و تطفيف المكاييل و الغش و التزييف و الاحتكار  و المضاربة و التهريب .. سبيلا  للتربح ، و مراكمة المكاسب و المغانم الحاصلة من رحم الاوجاع و النزيف  ؟ و على المستوى الدولي فقد ظل سيل التساؤلات مدمدما في العقول جارفا فيها  ..، فهل كانت اسرائيل مقنعة أخلاقيا  في صلفها و تعنتها في الإبقاء على الحصار المضروب على قطاع غزة المكلوم  .. ؟ و هل غاب عنها أن تغول الوباء داخل القطاع القابع في درك البلاء و في أوار  المحنة منذر بإطالة أمد المعركة مع الداء مع ما في ذلك من تكاليف بشرية و مادية قد تخرج إليها مسبباته و تلتهمها في كل حين  ..  ؟  أليس في هذا الظرف ما يكفي من أسباب للجنوح لمنطق الإنسانية و إخماد  للغطرسة و إرجائها لوقت موافق  ؟  و هل كان الوقت مناسبا لقيام آمريكا برشق الصين في هذا الحال العصيب بالاتهامات المبطنة و بالتشفي الكريه " فيروس الصين و غيرها "  ؟  و هل تليق النكاية و الثأر من المبتلى ؟ ،  و هل كانت ايطاليا و اسبانيا تتعاملان حسبما يتردد بأسلوب أخلاقي و حضاري في تمييزهما بين المرضى لمنح الأولوية في العلاج على أساس السن .. ؟ ألم تخفق دول الاتحاد الاوروبي في تعاملها مع ايطاليا و اسبانيا ؟  ألا يعتبر نسفا لمبدأ العولمة  ما تقوم به اليوم بعض الدول من منع للمساعدات عن البعض الآخر .. و انكفائها   على ذاتها .. ، و اندفاعها  الى تكديس معداتها الطبية في مخازنها تحسبا لأي طارئ .. ؟ ، و في اي اطار يفهم العالم ما يتردد في الاعلام من قرصنة رسمية لبعض الدول على معدات غيرها ( مصادرة التشيك لشحنة كمامات موجهة من الصين إلى ايطاليا ، و اعلان وزير التجارة التونسي عن سرقة الايطاليين في عرض البحر لباخرة كانت متجهة إلى تونس محملة بالكحول الطبيّة ) ؟ ، ألا يعتبر الإغلاق المطلق للحدود بين الدول ، و وقف كافة اشكال الإمدادات في ظرف حرج كهذا خرقا لثقافة التضامن بين  الشعوب و الأمم  .. و خذلانا للدول النامية و تخليا عن نجدتها في أحلك الاوقات  ؟ ألا يحتاج العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى  إلى التشاور و التعاون و الترابط لدرإ هذا الخطر المشترك ؟ ألم يكن في مكنة الدول العظمى أن توظف ما لديها من تفوق و  قدرات تكنولوجية لإبتكار حل ابداعي يقيم عزلا مرنا بين الدول  يجمع بين تأمين الصحة العامة و الإبقاء على  ما  تستدعيه مقتضيات اللحظة من تعاون و تضامن ؟  خاصة إذا ما استعرنا منطق المصلحة الحاسم في أن زوال خطر الاوبئة عن أي بلد يقوم عند اجتثاثه عن غيره من البلدان .. و طالما أن حرائقه لا تزال مشتعلة في اي بلد مهما كان بعده جغرافيا و مهما كانت عزلته و انعزاله فإنه لا أمان منها .. ، اذ قد تطير جذوة من حرائقه فتذكي لهيبا في دولة أخرى .. و يضرم شهاب منه نارا في جهة أخرى ..  

ان الأخلاق  السوية تمج ما ينتشر في هذه الآونة من اسراف  في النكت و الفكاهة و الدعابة  و كأن البشرية في ظرف عادي ، و المتحتم  الاستعاضة عن ذلك على المستويات الفردية بمشاطرة المرضى و ذويهم مشاعرهم .. و مقاسمتهم آهات الالم و اوجاع التوعك و الاعتلال .. ، و بطرق ابواب السماء و الابتهال و التضرع بالدعاء لخالق الداء لكشف الضر و ازالة البأساء .. ،  كما  تقضي حساسية الوقت قدرا من الجدية في تعاون خبرات العالم و توجهها مجتمعة و بصورة مكثفة إلى المخابر و الدراسات و مضاعفة الجهود للوقوف على أسرار هذا المرض العضال سبيلا لإكتشاف ما يلزم له من دواء  .. بدل انفراد  كل دولة بجهدها لتستأثر وحدها بالأرباح الناجمة عن  اكتشاف قد يطول وقته و قد يعز عليها بمفردها . 
و إلى أن يحين ذلك فإن الواقع الماثل في الحال يدعونا في منكبنا البرزخي إلى التحلي بالمسؤولية و التقيد الصارم بتوجيهات الضبط الوقائي المعلنة من الجهات المختصة .. ، و اتخاذ الحيطة و التخلي عن أي استهتار أو تردد في هذا السبيل من غير تهويل و لا تضخيم .. ، ذلك أنه قد تعين علينا أن  نواجه هذا الوباء  في بلدنا بوسائلنا و بإمكاناتنا الذاتية .. و قد شاهدنا آثاره  المأساوية و مخالبه الضارية و نتائجه المنهكة في البلدان المتقدمة .. و التي لا تزال رغم ما لديها من جاهزية أعلى منا مشدوهة حائرة عاجزة عن مواجهته .. ، و لن نكسر شأفته إلا بفضل الله سبحانه و تعالى ثم بالنظافة و بالعزل الطوعي  كتوصيتين نبويتين .. ، فضلا عن  ما أفادت به التجارب و الأبحاث العلمية من فعاليتهما في لجم المرض .. ، كما تجب العناية الرسمية و الاهتمام الشعبي بشرائح واسعة منا أقعدها حظر الحركة  المقرر للحماية من انتقال العدوى عن مزاولة أنشطتها .. او تأثرت بسببه .. ، فالتخاذل عن نجدتهم و امدادهم بما يحتاجونه يوميا اضاعة للواجب و تضييع للأخوة . 

إن محنة كورونا لم تقتصر آثارها فقط على  تكبيد العالم خسائر في الأرواح .. و لا على طحنها للاقتصاد العالمي .. بل إنها أبانت المستور من الأخلاق ، اذ  كشفت علنا هشاشة و ضعفا في بعض السلوكيات .. ، و اجهزت بصورة مذهلة على العولمة التي كانت و الى حد قريب اكثر الأغاني صخبا و ضجيجا .. و أسوأ الذرائع للنيل من سيادات الدول و قهر خصوصياتها الحضارية و التاريخية بحجة ثنائية الضعف و التفوق و الحاجة إلى التعاون .. 

سينكشف الأسى قريبا ان شاء الله تعالى و سترتفع غيوم الترح و الجوى عن الأرض و الانسان .. ، و سيكتب التاريخ في دفاتره زلل النهم و خيبة الجشع لدى بعض التجار . . ، و ستحكي مدوناته  عجز  التجبر و  التطاول عن بناء حضارة تطبعها المسؤولية الاخلاقية .. ، و  ان تجريد المواقف من المثل .. و تعريتها من الاخلاق هو الفشل و الخسران  الذي يحبط قيام التضامن بين الافراد كقيمة سلوكية مثلى .. و  يعرقل قيام نظام عالمي تسعد فيه البشرية بالتضامن و التعاون  في حضن المدنية الحقة  .. و في كنف حضارة صلبة لا تتهاوى اعمدتها تحت القصف و الأعاصير .. و سيسفر ليل الأزمة عن شروق فجر جديد يشهد فيه العالم نظاما مختلفا في التراتبية و في نمط الثقافة و التنظيم ... ستتراجع دول عن مكانتها و ستتقدم أخرى .. ، فالمحن التي لا تقتل تقوي .. و الشدائد تصنع العظمة و التفوق .. ، سينقشع هذا الدخان عن تشكل نظام عالمي جديد يستند على منطق مغاير لما كان سائدا  في مجالات الأمن و الاقتصاد و السياسة و الاجتماع .. ، فالتهنئة لدولة الصين الشعبية على تصدرها للمشهد القادم .. و ألف تحية لكل دول عالمنا العربي و الإسلامي الذي برهن  في هذا الظرف الخاص على قدرات عالية على التحرك السريع الناجع و الانضباط في جميع الخطوات مع ايقاع المسؤولية الاخلاقية و المآثر الحسنة .. 
و لا شك أن  تبوأ المكانة اللائقة  في مرحلة ما بعد الكورونا  مرتبط في شق منه بهذه النجاحات ، و في الشق الآخر بجودة الاستعداد للحد من آثارها السلبية .. ، و دولنا بلا شك ستحسن الخروج كما أحسنت الدخول بفضل الله سبحانه و تعالى .. ، فانتهاجها لمسالك الجدية و الصرامة في المعترك الحالي كاشف عن جلال لهفتها و عظمة تطلعها لحوز الظفر و الانتصار .. ، فضلا عن ما يعطيها الموقع و التاريخ و يمنحها الاقتصاد المتنوع من فرص واعدة في هذا الاتجاه .. و لا حدود للطموح و لا نهاية لسقفه طالما ان الإرادة قائمة و العزم ناهض ..

القاضي آدو ببانه