لماذا يُطالِب نِتنياهو بتَأجيلِ إعلان “صفقة القرن” بعد هَزيمَتِه في قِطاعِ غزّة؟

سبت, 2018-11-24 22:45

لا يُفاجِئنا طلب بِنيامين نِتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيليّ، مِن حَليفِه الأوثَق دونالد ترامب تأجيلَ الإعلان عَن تفاصيل “صفقة القرن” بسبَب الأزمة السياسيّة التي تجتاح دولة الاحتلال الإسرائيليّ على أرضيّة الفَشَلِ العَسكريّ والاستخباريّ الأخير في قِطاع غزّة على أيدِي رِجال المُقاومة، فجَميع اللَّاعبين الرَّئيسيين في هَذهِ “الصَّفَقة” يُواجِهون ظُروفًا صعبةً، ابتِداءً مِن الرئيس الأمريكيّ ترامب، ومُرورًا بالرئيس الفِلسطينيّ محمود عبّاس، وانتِهاءً بوليّ العهد السعوديّ محمد بن سلمان، الذي يُعتَبر المِحوَر الرئيسيّ لها.
مَسؤولٌ أُردنيٌّ كبيرٌ أكّد لهَذهِ الصَّحيفة “رأي اليوم” في لقاءٍ خاصٍّ معه في مَكتَبه بالعاصِمة الأردنيّة عمّان قبل عشرة أيّام، أنّ الرئيس ترامب أجرى اتّصالات مع مُختَلف الأطراف المعنيّة بهَذه الصَّفَقة، وأنّه كانَ بصَددِ إعلانِها قبل نهايَة شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، وقال هذا المَسؤول الذي طالب بعدم ذِكر اسمه، أنّ العاهل الأردنيّ بَذَلَ جُهودًا كَبيرةً لتَرتيبِ اجتِماعٍ بين الرئيس ترامب والرئيس محمود عبّاس على هامِش اجتماعات الجمعيّة العامّة للأُمم المتحدة، ولكن الأخير رفَضَ رَفْضًا قاطِعًا، لأنّه يَعتقِد أنّ مُجَرَّد الاجتماع مع الرئيس ترامب، ودون التراجع عَن نقل سِفارَة بلاده إلى القدس المحتلة، يعني اعتِرافًا أو قُبولًا “بـ”صفقة القرن” والاستعداد للتَّفاوُض حول بُنودِها.
***
نِتنياهو يعيش أزمةً وِزاريّةً فجّرتها استقالة وزير حربه إفيغدور ليبرمان الذي أطاحَت به هزيمة قُوّاته في قِطاع غزّة، وإفشال العمليّة الاستخباريّة التي حاوَلت تنفيذها وِحدَة خاصّة شرق مدينة خان يونس، وحاوَل ليبرمان التَّغطية على هَذهِ الجَريمة بالادِّعاء بأنّه كانَ يُريد الاستمرار في الحَرب، واجتِياح القِطاع، والقَضاء على فصائِل المُقاومة فيه، وهو خِيارٌ “انتحاريٌّ” رفَضَهُ نِتنياهو لأنّه يعلم جيّدًا أنّ تكاليف أيّ هُجوم في هذا الإطار سيكون مُكلِفًا جدًّا لإسرائيل عَسْكريًّا وسِياسيًّا وبشريًّا، بسبب قُدرات المُقاومة المُتطوِّرة جدًّا، وفَشَلِ القُبب الحديديّة في التَّصدِّي لصَواريخِها التي باتَت أكثَر دقّةً وتَطَوُّرًا.
ترامب عرّاب الصفقة يعيش أزمةً داخليّةً وخارجيّةً خطيرة، فالكونغرس الأمريكيّ يُعارِض في مُعظَمِه، دفاعه المُستَميت عن المملكة العربيّة السعوديّة، والأمير محمد بن سلمان، وليّ عهدها، وتبرئته مِن أيِّ دَورٍ في جريمة اغتيال الكاتب السعودي جمال الخاشقجي، والأخطَر مِن ذلك أنّ أصواتًا داخِل مجلس النوّاب، وبدَعمٍ مِن الصِّحافة والإعلام، باتَت تُطالِب بإجراءِ تحقيقاتٍ بالعلاقات الماليّة والتجاريّة الخاصّة للرئيس الأمريكي وصِهره بالسعوديّة، وباتَ العَديد مِن النوّاب يَصفونَهُ بـ”المُهَرِّج” و”الكاذِب”.
تنفيذ “صفقة القرن” أو ما تبقَّى مِن بُنودِها، يحتاج إلى توقيعٍ فِلسطينيٍّ، ومِن قِبَل الرئيس عبّاس نفسه، باعتبارِه رئيس السلطة ومنظمة التحرير، ولكن هُناك أمْرَين يَحولان دُونَ هذا التَّوقيع: الأوّل، رفض الرئيس عبّاس الذي يقول للمُحيطين بِه أنّه لا يُريد أن يموت خائِنًا، والثّاني، أنّه لم يَعُد يُمَثِّل إلا حركة “فتح”، أو جُزء منها، فقد قاطَعت مُعظَم الفصائِل الفِلسطينيّة، إن لم يَكُن كلها، الاجتماع الأخير للمَجلِس المركزيّ (نهاية شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي)، واقتَصَر الحُضور على أنصارِ الرئيس في حركة “فتح” وبعض الفَصائِل التي ليسَ لها أي تمثيل في الشَّارع الفِلسطينيّ، ولعَلَّ التَّصريح المُفاجِئ، وغَير المَسبوق للدكتور صائب عريقات الذي قال فيه “إنّ الرئيس الحقيقيّ للفِلسطينيين هو وزير الجيش الإسرائيليّ إفيغدور ليبرمان، أمّا رئيس الوزراء الفلسطينيّ فهو المُنَسِّق بولي مردخاي”، وأكَّده موشيه يعالون وزير الحَرب الإسرائيليّ الأسبق اليوم عِندما قال في نَدوةٍ سياسيّةٍ “إنّ التَّنسيق الأمنيّ هُوَ الضَّامِن لبَقاء السُّلطة وحِمايتها مِن أعدائِها (حماس والجِهاد)، وأي تهديد بإلغائِه مِن الطَّرف الفِلسطينيّ تَهديدٌ فارِغٌ لا قيمَةَ له”.
إذا انتقَلنا إلى الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد السعوديّ الذي يَصِفْه ترامب بأنّه الضَّامِن العَربيّ لصفقة القرن، فإنّه الأكثَر تأزُّمًا بين اللَّاعِبين الآخرين، ويُواجِه صِراعًا شَرِسًا للبَقاءِ في مَنصِبِه، فكُل أصابع الاتِّهام تُشير إليه تقريبًا، وتُحمّله المَسؤوليّة الرئيسيّة في اغتيال الخاشقجي وتَقطيعِه، ورُبّما تذويبه، بالأسيد أيضًا، وكشف الرئيس ترامب بأنّه لولا السعوديّة لاختَفت إسرائيل مِن الوجود، كما أكَّدت تقارير إخباريّة إسرائيليّة أنّ الأمير بن سلمان هو الذي رتَّب زِيارةَ نِتنياهو للعاصِمة العُمانيّة مسقط، والأُخرَى القادِمة للمَنامة، أي أنّه عرّاب التَّطبيع بَدَأ يُواجِه مُعارضةً شعبيّةً قَويّةً حتّى داخِل السعوديّة نفسها.
الهَجمة التطبيعيّة بين إسرائيل ودُوَل خليجيّة التي أخَذَت زَخَمًا غير مسبوق في الأسابيع القَليلة الماضِية، جاءَت مِن أجلِ التَّهيئة لأمْرَين أساسيين: الأوّل: صفقة القرن وتعزيز مكانة نِتنياهو داخليًّا وتَزويده بالذَّخيرة التي تُمكِّنه مِن الحِفاظ على ائتلافِه الحاكِم، والقَول بأنّه أعادَ عرب الخليج إلى إسرائيل ودُونَ تقديم أيّ تنازلات للفِلسطينيين، والثّاني، زعامَة إسرائيل للنِّاتو العربيّ السنّي، الذي مِن المُفتَرض أن يكون رأس الحِربة في أيِّ حَربٍ ضِد إيران.
 ***
في ظِل هَذهِ السِّلسِلة مِن الإخفاقات والفَشَل، مِن المَنطقيّ أن يتم تأجيل “صفقة القرن”، وخُصوصًا أن المِحور الآخر، المُناهَض لها، يُحَسِّن مَواقِعه ويُصلّبها، ويُحَقِّق انتصارات على الأرض، ونَحنُ نُشير هُنا إلى فَصائِل المُقاوَمة في غزّة التي أرعَبَت إسرائيل، ودَفَعَت مِليونًا مِن مُستَوطِنيها إلى المَلاجِئ في مُستَوطنات غِلاف غزّة، ولو الحَرب استمرّت يومَين آخَرين لتَهاوَت العَمارات والمباني، ليس في قَلبِ تل أبيب، وإنّما في مَطار اللِّد أيضًا.
السِّياسات الأمريكيّة والخليجيّة التي تُريد تَفكيك القضيّة الفِلسطينيّة وتَقطيعِها لتَذويبِها، على طَريقَةِ جُثمان خاشقجي، وبمَناشير “صفقة القرن”، بَدَأت تُعطِي نتائج عكسيّة، وتَصُب في مَصلَحة طِهران ومِحوَرها، وها هو السيّد إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسيّ لحركة حماس يَحُط الرِّحال في العاصِمة الإيرانيّة على رأسِ وَفدٍ كَبيرٍ للمُشاركةِ في مؤتمر الوِحدة الإسلاميّة، وها هُوَ نائِبه صالح العاروري الذي وضعته إدارة ترامب على رأس قائِمَة الإرهاب، ورصدت مُكافأةً لمَن يُقدِّم مَعلومات عن أماكِن وُجودِه، يَصِل إلى القاهرة على رأسِ وَفْدٍ آخَر للحَركة، أمّا السيّد حسن نصر الله العُضو الأصيل والقَديم على اللائحةِ نَفْسِها فيَعيش أفضَلَ أيّامِه في بيروت، وباتَ يَمْلُك مِفتاح تشكيل الحُكومة اللبنانيّة، ويَجْلِس على تَرسانةٍ تَضُم 150 ألف صاروخ تُشَكِّل تَهديدًا وُجودِيًّا لإسرائيل، ولم يَعُد يذهب إلى بَعضِ العَواصِم الخَليجيّة إلا الوُزراء والفِرَق الرياضيّة الإسرائيليّة وسَماسِرَة السِّلاح.
المُعادَلات السِّياسيّة والعَسكريّة تتغيّر على الأرض، و”صفقة القرن” تَعيشُ في غُرفةِ العِنايةِ المُركّزة، هِي وجميع اللَّاعِبين الرَّئيسيين الذين اعتَقدوا أنّ الجَو خَلا لَهُم فصالوا وجالوا كيفَما يَشاؤون فانْقَلبَ سِحْرُهُم عَليْهِم.. والأيّام بَيْنَنَا.
عبد الباري عطوان