ما يجرى اليوم في امريكا من ازمات (ترامبية) ، كان يتطلب منا منذ ترشحه للرئاسة، بصيرة لا بصرا لرؤيته على حقيقته، وهي ازمات مثيرة بلا شك.فقد تحدّى ترامب كل القواعد والمؤسسات التي حكمت السياسة الداخلية الأميركية، وجاء من خلف المشهد، لكي يصبح هو النجم الفائز في واحدة من أكثر الانتخابات الأميركية غرابة.ولم يتعامل أحد مع ترامب بجدية، بل قدموه في صورة المهرج، المرشح الذي ينشر الفكاهة والمرح ،بل تواطأ الجميع مع هذه الصورة لترامب، المؤسسات السياسية والإعلامية، ومؤسسات استطلاع الرأي العام، ولم يعتقد احد ان ترامب الذي يعيش وسط دولة مؤسسات يمكن أن يشكل انقلابا على الصيغة الأوبامية، ويعيد ماكان معطلا من قرارات استراتيجية الى الحياة بطريقة جريئة!
لقد جاء ترامب في عصر رقمي ،حيث السيادة المطلقة فيه لوسائل التواصل الاجتماعي ،وعصر مستقبله مجهول بالازمات الاقتصادية ،وأجيال رقمية ضائعة في تخمة المعلومات المتناقضة،وشعور عام في الاحباط من كل شيئ ،وانسان امريكي مثقل بهموم الضرائب والصحة والخدمات . والاهم كما ارى ،بأن سايكولوجية الأجيال الجديدة ،هي سايكولوجية الشخصيات غير التقليدية في السلوك والأفكار في الاختيار، فنحن امام جيل متغير المزاج والرؤى ،وعالمه.. عالم افتراضي يقوم على الخيال والغرابة والتجديد، لكن الأكيد ان العامل السايكولوجي ،وليس العقلي، كان وراء فوز هذا الرجل! كما أن هذه الأجيال الرقمية كانت كارهة لمؤسسات،( الدولة العميقة) وسطوتها وسيطرتها وفسادها، فمعظم الرؤساء الأمريكيين السابقين مروا بمرحلة عضوية الكونغرس بمجلسيه، الشيوخ والنواب، أو كانوا حكاماً للولايات، وبالتالي تعاملوا مع مؤسسات الحزبين وكانوا جزءاً منها، إلاّ دونالد ترامب، فقد جاء من حياة صَاخبة ضاجّة بالفضائح والمَشاكل ،ومن عالم البيزنس، المال والأعمال، وغبار المناجم !
وهناك ظواهر آخرى كظاهرة (الشعبوية)، أى أن الطبقة المتوسطة والأقل من المتوسطة أصبحت نشيطة وفعالة بصورة غير مسبوقة فى السياسة الأمريكية . وظاهرة فشل سياسات إدارة أوباما كان أحد الأسباب المهمة فى هزيمة كلينتون ، حيث كان رمزاً للرخاوة والميوعة وشخصيته باهتة لم تحقق شيئاً ، فخسرت أميركا معظم اصدقائها وهيبتها كأقوى دولة في العالم. كل هذا يدل على أن ترامب جاء تعبيراً طبيعياً عن المجتمع الأمريكي المتطرف والذي بات يتصرف فيه الأغلبية على أنهم أقلية لشعورهم أنهم مهددون في المستقبل وهذا يدفعهم للتطرف أكثر واختيار شخص كترامب ، وكل هذا يدل أيضاً على أن هدوء المتجمع الأمريكي واستقراره مهددان أيضاً بالإضافة لزيادة اشتعال العالم .
من الجانب الآخر لابد من الأعتراف بأن خطبه الكاسحة غير العادية ، وتغريداته الصاروخية ،أحبتها الجماهير الهائجة المتماشية مع غرائزهم وإنفعالاتهم ، وهو القائل ( أنا الناجح ..انظروا لتاريخي، أنشأت العديد من المشاريع العملاقة الناجحة، وهذا ما سأقوم به لأميركا، عكس بقية المرشحين.. الذين لم يفعلوا شيئاً ذا قيمة في حياتهم ولا يجيدون إلا الحديث) ، وسأكون (أكبر رئيس مولّد للوظائف خلقه الله بتاريخ أميركا ).والتاريخ يقول لنا أن الجماهير تنفعل فتعمل ولا يهم أن تندم فيما بعد.
لقد اخطأ منجموا السياسة في دراسة شخصية ترامب ، ومن يقف وراءه ،فالرجل ليس كما يتصور البعض رجل خارق بهذه الطريقة التي نراها ،وبقراراته الجريئة التي تتحدى العالم،فالرجل جاء في الوقت المناسب ،والزمن الجميل لصانعي الاستراتيجية الامريكية ، وكذلك لصناع القرار في اسرائيل التي كانت وراء فوزه كما اعتقد ،فالرجل اداة قوية في تنفيذ المخطط الكبير في المنطقة العربية الذي يبدو اليوم في مراحله الاخيرة نضوجا وحضورا، وهو مخطط جهنمي لايمكن لاحد من قادة امريكا القبول به ، الا هذا الرجل المهووس بثقافة العظمة والاموال .
وكما يعتقد بعض الكتاب فأن ترامب يسيرعكس الصورة التقليدية المعروفة عن المجتمع الأميركي، باعتباره مجتمعاً مفتوحاً ومتنوعاً عرقياً وثقافياً ودينياً وإثنياً. كما أنه يكسر الانطباع الزائف أن منظومة القيم الديمقراطية الأميركية التي كانت تقوم على التعدّد والتسامح وقبول الآخر قد تراجعت بشكل كبير، وأنها لم تعد ملهمة للكثيرين من الشعب الامريكي.
أنا أعرف ان الكثير حزين على مجيء ترامب لأنه رجل مهووس بثقافة (الدولة العظمى) ، لكنني أقول الحقيقة المرة ، وماذا فعل عقلاء حكام أمريكا، ومنهم بالطبع أوباما، في أوطاننا من فوضى خلاقة وتقسيم المقسم وتشريد وقتل الملايين من البشر؟
فلا تستعجلوا ترامب فأنه سيكون عاقلا بعض الشيء ، ومجنونا كبيرا في اتخاذ القرارات المصيرية ،مثلما حدث في قضية القدس والمهاجرين والنووي الايراني ،لكنه نفذ أجندات من أوصلوه الى الحكم ، وجعلوه بلدروزا امريكيا مفخخا لتفجير الازمات وتأمين الطرق لترتيب الواقع الذي يريدونه !
ايها العرب …انتظرو الرجل المجنون،ربما يحقق بعض طموحاتنا أكثر من العقلاء الذين أغرقوا أوطاننا بالدم ،وشردوا العباد خارج بلدانهم ،وأنتجوا لنا داعش وأخواتها ،وعطلوا طموحات شبابنا واحلامهم ، وجلبوا لنا حكاما جياعا من الشوارع لينهبوا أموال الشعب .
نعم مثلما راهنت على ترامب بفوزه بالأنتخابات الرئاسية ،اراهن علية انه سيجلب لنا بعض طموحاتنا ، ويقتل البعض الآخر. ومع ذلك لا أمل أن ننتظر من الادارة الامريكية رؤساء وقادة سيفرشون لنا الورود في اوطاننا.
وما ينتظر العرب جسيم وكبير وخطير، وعليهم الاستعداد والترقب والحذر!
والحكيم تكفيه الاشارة…
البرفسور ياس خضير البياتي
[email protected]