سامي كليب : دفع عرب كثيرون من دمائهم في سورية والعراق واليمن ولبنان ثمنا لتحالفهم مع ايران. وتعرضت ايران لكثير من العقوبات والضغوط ثمنا لصراعها مع اسرائيل ونصرة للمقاومة في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان وبسبب وقوفها الى جانب الرئيس السوري بشار الاسد، ورئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي ثم انصار الله الحوثيين. ساهم الدم العربي في تحسين الشروط الايرانية في المفاوضات النووية. ارتكزت طهران على ثبات الجيش السوري وعلى شباب حزب الله وعلى اطراف عراقية عديدة ثم على انصار الله الحوثيين، لتثبت للغرب أن أذرعها القوية قادرة على قلب الطاولات خصوصا بعدما وصلت الى حدود اسرائيل من جانب الجولان في حال استمر التعنت في المفاوضات.
الآن وقد نجحت ايران في التوصل الى مشروع اتفاق مع الغرب، فان حلفاءها سيهللون للأمر على أساس انه انتصار تاريخي. وفي الأمر فعلا شيء من هذا لكن المغالاة لا تنفع. وسيحاول خصومها التركيز على نقاط الضعف ليقولوا ان ايران أُجبرت على التفاوض والاتفاق لأنها انزلقت الى افخاج كثيرة ولأنها بحاجة الى مالها المجمَّد في مصارف العالم، وبحاجة لانفتاح اقتصادي، وفي الأمر هنا أيضا شيء من هذا لكن المغالاة لا تنفع .
لا يوجد في المفاوضات العالمية منتصر ومهزوم، خصوصا ان المفاوضين الغربيين والايرانيين كانت لديهم قدرات كثيرة لتبادل التأثير والضغوط، لكن الأكيد انه لو كانت ايران دولة ضعيفة لما جاء الغرب يفاوضها، والاكيد لو ان ايران دولة قوية جدا لما احتاجت التفاوض. اذا نحن امام بداية تفاهم ايراني دولي لا شك سيرسم معالم جديدة للشرق الاوسط. وفي هذا الشرق صار ايران بالنسبة للغرب دولة مفصلية في محاربة الارهاب ، تماما كما هو الحال ضمنيا بالنسبة لحزب الله والجيش السوري وما هو علنا بالنسبة للجيش العراقي.
لا شك ان ربح ايران كبير في ما جرى، فهي ستستعيد اكثر من 120 مليار دولار، والشركات الغربية ستتهافت عليها للاستثمار، وصورتها في الغرب ستتسحن رغم لهاث بنيامين نتنياهو لتعطيل الاتفاق حتى آخر لحظة ، لا بل ان الاتفاق- الاطار الحالي، متقدم كثيرا على مشروع اتفاق سابق منذ سنوات لم ير النور .
كل ما استطاع الرئيس باراك اوباما قوله هو انه منع ايران من امتلاك قنبلة نووية. المعروف ان القيادة الايرانية قالت مئات المرات ان انتاج القنبلة هو مخالف لعقيدتها ومرفوض شرعيا واخلاقيا . لكن اوباما يعرف ان الشعب الاميركي يريد ان يسمع هذا منه خصوصا ان 59 بالمئة من هذا الشعب يؤيده رغم انف الجمهوريين. والادارة الاميركية تريد ايضا ان تخاطب الشعب الاسرائيلي وحلفاءها في الخليج للطمأنة رغم ادراكها بان الترسانة النووية والعسكرية المسماة اسرائيل تكذب في القلق من النووي الايراني فهي تخاف الدول لا القنبلة . بالمقابل فان اوباما يعرف ان القيادة الايراني بعد الاتفاق ستكون اكثر مرونة واعتدالا ومساهمة في اطفاء بؤر النار ، وهنا يترفع الامل الغربي بان يتعزز التيار الاصلاحي داخل ايران .
اما وقد دخلت ايران اليوم عبر " الاتفاق- الاطار " في مسيرة الاتفاق النهائي الذي من المفترض توقيعه في حزيران/ يونيو المقبل، فما هو المطلوب عربيا :
• من المهم ان توظف ايران انتصارها هذا لدفع الغرب صوب انهاء بؤر النار في المنطقة والاتجاه أكثر واسرع نحو حلول سياسية. فحلفاؤها ينتظرون غيثا من مطر سويسرا . دفعت الشعوب العربية كثيرا من الدماء . ثمة حروب انهكت دولا بشعبها وجيشها ومواليها ومعارضيها ، كما هي الحال مثلا في سورية التي كانت بلا شك حجر الرحى في وقف مشروع خطير ضد المحور الذي تنتمي اليه ايران. ضعُف المشروع بدم السوريين، ومن حق هؤلاء ان يرتاحوا . كل السوريين .
• من الاهم ان توظف ايران انتصارها لطمأنة القلقين من العرب، وليس لرفع منسوب المواجهة. ذلك ان دخول المواجهات أتون الحروب السنية-الشيعية في أكثر من مكان صار مدمِّرا للجميع وقد يدمر الاتفاق نفسه لو استمر . من الاهم ان يكون اول خطاب ايراني رسمي بعد هذه المناسبة، مد اليد الى كل الدول العربية، كل الدول العربية ، والى أهل السنة قبل غيرهم، حتى ولو ان الايرانيين يشعرون بأن " عاصفة الحزم " وقبلها دعم الارهابين في سورية والعراق واليمن ولبنان، استراتيجيات كانت تستهدفهم بالدرجة الاولى.
• من الاهم ان تعلن ايران في اول خطاب رسمي، انها والدول العربية جميعا شركاء في هذا الشرق، وانهم جميعا سيضعون يدا بيد لضرب الارهاب ولوأد أتون الفتنة الشيعية السنية والتاسيس لشرق اوسط جديد يكون فيه التعاون الاقليمي اولوية. هذا سيخفف قلق دول تخشى ما تصفه ب " التمدد الفارسي"، ويسحب البساط من أمام اسرائيل الخبيرة بزرع الفتن بين الدول وفي قلب الدول .
• من الأهم ، انه حين تستقبل ايران الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بعد ايام، أن تمارس الضغوط القصوى لاقناعه بأن خيار الاستمرار بدعم المسلحين وتمرير الارهابيين الى سورية ما عاد ينفع، وانه من المهم ان يقتنع بان التعاون مع ايران ومصر والسعودية وغيرها يجب ان يصب في مصلحة السلام وليس لتعزيز الحلم العثماني الذي كاد يدمر البشر والحجر ويمتد دماره الى قلب تركيا .
ما كان مقبولا من ايران قبل الاتفاق بانتظار اتفاقها، ما عاد مسموحا عربيا بعده، فالعرب يريدون من ايران أمرين، حلفاؤها يريدون ان تسارع الى انصافهم ومساعدتهم على وقف الحروب وصد البلوى عنهم، وخصومها القلقون منها ينتظرون الأسوا بعد الاتفاق لجهة توسع الدور الايراني وهي قادرة على تغيير مجاري الريح حتى ولو انها تعتقد ان ثمة مبالغة خليجية في التعبير عن القلق من دورها .
تستطيع ايران بعد الاتفاق، ان تصفي حسابات مؤجلة، والغرب لن يعيقها لأنه كالمعتاد يقدم المصالح على قضايا الناس وهمومهم، ومصحلته الآن ان يستند الى ايران القوية في محاربة الارهاب حتى ولو ادى ذلك الى المساس ببعض المصالح الثابتة لبعض الحلفاء، لكنها تستطيع أيضا ان تقدم نفسها ، هي الدولة القادرة والتي تمد اليد للجميع ، وهي الدولة التي توظِّف انتصارها لطمأنة الجميع ولفتح صفحة جديدة توقف نزيف الدماء والدموع في هذه المنطقة .
ان عاصفة الاتفاق النووي جبَّت كل كل ما قبلها، ويستطيع المرء أن يفهم أكثر الآن لماذا سارعت دول الخليج ومصر وتركيا الى " عاصفة الحزم في اليمن " في آخر لحظات الاتفاق .
السجادة الايرانية حيكت على مدى أشهر طويلة ببراعة مشهودة للمفاوضين الايرانيي في ما أسماها مرشدهم السيد علي خامنئي ب " مرونة المصارع " . فلتسمر المرونة الان بالسياسة ، وسوف تدرك القيادة الايرانية تماما كيف تهديء العواصف، حتى ولو ان العوائق ستكون هائلة من المتضررين وفي طليعتهم اسرائيل واللوبي المتحالف معها في اميركا والغرب .
كفانا دماء ودموعا وفتنا.الجميع بحاجة لطي صفحة الماضي ووقف سيل الجهل الجارف القادم الينا جميعا عبر مطية الارهاب. ولا بد ان تقتنع دول الخليج أيضا بان التعاون مع ايران سيفتح المنطقة امام نهضة اقتصادية واسواق مشتركة وتبادل هائل، بدلا من الاستمرار في فتح ابواب جهنم الحالية على الجميع . هذه مسؤولية مشتركة ايرانية خليجية مصرية بالدرجة الاولى .
لو تكاتف العرب في مدريد منذ مطلع التسعينيات، وأحسنوا حياكة سجادة مفاوضاتهم، لما كنا حتى اليوم نجرجر ذل ذاك التفاوض. الغرب لا يعرف ان يفاوض الضعفاء.