لم تستفد بعدُ المنطقة العربية من دروس مخاطر فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن، ومن انعدام الممارسة الصحيحة لمفهوم المواطنة. ولم تستفد المنطقة أيضاً من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي ما زال تجاهلُها قائماً، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ طائفية أو إثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولهدم الكيانات والمجتمعات العربية.
12 عاماً مرّت على أول احتلالٍ أميركي لبلدٍ عربي. قبل ذلك التاريخ، كان التدخّل العسكري الأميركي في البلاد العربية يأخذ أشكالاً مختلفة، لكنّه لم يصل أبداً إلى حدّ الاحتلال الكامل، كالذي حصل ربيع عام 2003 في العراق. أميركا قبل ذلك التاريخ، هي غيرها بعده. وكذلك العراق، وعموم المنطقة العربية.
إنّ الاحتلال الأميركي للعراق في آذار/مارس 2003 هو الذي دمّر مقوّمات الدولة العراقية، وأوجد فيها الفراغ الرسمي الأمني والسياسي، ممّا شجّع القوى المحلّية على التنافس والانقسام والصراع العنفي، والقوى الإقليمية على التدخّل لأسباب مختلفة في شؤون العراق. أليست السياسة الأميركية هي المسؤولة أولاً عن خلع كل الأبواب الأمنية في العراق أمام جماعات التطرّف المعروفة باسم “القاعدة”، وعن التدخل الإقليمي المجاور الذي يشتكي منه البعض؟ ثمّ أليست هذه السياسة الأميركية هي التي دفعت بأوضاع المنطقة كلّها إلى التأزّم لاحقاً، وإلى مخاطر الحروب الأهلية التي تعيشها عدّة دول في المنطقة؟!.
طبعاً لا يعني ذلك تبريراً للسياسات الرسمية العربية عموماً، أو للنظام العراقي السابق تحديداً، ولممارسته الإجرامية بحقّ شعبه وجيرانه العرب والمسلمين، فخلاصة أوضاع العراق الآن أنّ النظام السابق كان مسؤولاً عن إحضار الاحتلال الأجنبي، والاحتلال بدوره هو المسؤول عن حال التدمير والانقسام والمآسي والصراعات الراهنة في العراق. وفي الحالتين، جرى تغييبٌ للمصالح الوطنيّة العراقيّة، وإضعافٌ واستنزافٌ للمجتمع العراقي، وتفكيكٌ لوحدة الكيان والشعب معاً. فزواج الخطايا بين الحاضر والماضي لم يولّد حالةً عراقيّة صحيّةً وصحيحة.
إنّ الحروب الأهليّة هي، في كلِّ زمانٍ ومكان، طاحونة الأوطان. وهاهي المجتمعات العربيّة أمام تحدٍّ خطير يستهدف كلَّ من فيها وما فيها. هو امتحانٌ جدّي لفعل المواطنة في كلّ بلدٍ عربي، إذ لا يمكن أن يقوم وطنٌ واحد على تعدّدية “مفاهيم المواطنة”.
إنّ غياب الولاء الوطني الصّحيح في معظم البلاد العربيّة مردّه ضعف مفهوم الانتماء للوطن، وسيادة الانتماءات الفئويّة القائمة على الطّائفيّة والقبليّة والعشائريّة. أيضاً، إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين والفقه المذهبي وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو البيئة المناسبة لأي صراع طائفي أو إثني، يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتّعدّد إلى عنفٍ دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة، والحكمة أصلاً من وجودها على الأرض!.
إنَّ الخطر الأكبر الذي يواجه حالياً العرب هو انشغال الكثير من شعوب المنطقة بصراعاتها الداخلية. والخطر هو على المنطقة العربية كلّها، وليس حصراً على الأراضي التي تشتعل فيها الأزمات. وهذه الأزمات هي تعبيرٌ عن تفاعلات ووقائع قائمة تعيشها وتشهدها الأمَّة العربية كلّها، وهي نتاجٌ طبيعي لتدخّل أجنبي يحدث دون إرادة عربية مشتركة في مواجهته، فيحصل الاستفراد الدولي والأجنبي بالأوطان العربية، في ظلِّ استمرار المشروع الإسرائيلي الهادف إلى تقسيم البلاد العربية، لتكون الدولة اليهودية الأقوى هي المهيمنة على “الدويلات” الدينية الأخرى المتصارعة.
فلو لم تستبِح جيوش دول عربية سلطات أوطانها أولاً ثمَّ حقوق دولٍ عربيةٍ أخرى، ولو لم تستبِح حكومات عربية حقوق مواطنيها، هل كانت الأمَّة العربية لتصل إلى هذا الحدِّ من الضعف والعجز والانقسام والاستباحة من الخارج؟.
إنّ أبرز التحدّيات التي تواجه أي وطن أو أمَّة تتمحور حول مسألة الحرّية، سواء أكانت “حرّية الوطن” من الاحتلال أو “حرّية المواطن” من الاستبداد الدّاخلي. لكن رغم صحّة هذا الأمر من الناحية العامّة، فإنَّ أساس المشكلة في الواقع العربي الراهن هو غياب الاتفاق على مفهوم “الوطن” وعلى تعريف “المواطنة”. ولعلّ ما حدث ويحدث في عدّة دول عربية من صراعاتٍ على “الوطن” ومن انقساماتٍ حادّة بين “المواطنين”، لأمثلة حيّة على مكمن المشكلة السائدة الآن في المجتمع العربي.
أيضاً، نجد أنَّ حال الضعف العربي المتراكم في العصر الحديث هو بناء تدريجي، قام على انعدام التوافق أولاً على مفهوم “الأمّة العربية” – وهي هنا مشكلة تعريف “الوطن” – بعد انتهاء حقبة السيطرة العثمانية، ثمّ على تجزئة المستعمر الأوروبي للمنطقة العربية، وقيام أوطان ضعُف فيها الولاء الوطني الواحد وانعدم فيها “مفهوم المواطنة” وساد في معظمها أوضاع انقسامية طائفيّة وقبليّة، فامتزجت التجزئة بين البلدان العربية مع الانقسامات الداخليّة في الأوطان.
إنّ مواجهة الاستبداد الداخلي من خلال طلب الاستعانة بالتدخّل الخارجي أو من خلال العنف المسلّح المدعوم معظم الأحيان خارجياً، جلب ويجلب الويلات على البلدان التي حدث فيها ذلك، حيث تغلب حتماً أولويات مصالح القوى الخارجية على المصلحة الوطنية، ويكون هذا التدخّل أو العنف المسلح نذير شرٍّ بصراعاتٍ وحروبٍ أهلية، وباستيلاءٍ أجنبيٍّ على الثروات الوطنية، وبنزعٍ للهويّة الثقافية والحضارية الخاصّة في هذه البلدان. لكن “التسامح” أيضاً مع الاستبداد من أجل مواجهة الخطر الخارجي، أو تغليب الحلول الأمنية على الحلول السياسية، يدعم كلَّ المبرّرات والحجج التي تسمح بهذا التدخّل الأجنبي المباشر أو غير المباشر.
إنّ سلبيّات الواقع العربي الراهن لا تنحصر فقط بالمخاطر الناجمة عن عدم إدراك العرب دروس تاريخهم وأهمّية موقع أوطانهم وثرواتها، بل أيضاً في سوء رؤية أصحاب الأرض العربية لأنفسهم ولهويّتهم ولكيفيّة إصلاح أوضاعهم السياسية والاجتماعية.
وتنذر تداعيات العنف الداخلي المسلّح، المرافق الآن لانتفاضاتٍ شعبية في بعض البلدان العربية، بالتحوّل إلى حروبٍ أهلية عربية يكون ختامها نجاح المشروع الإسرائيلي حصراً، حتّى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة.
هي ثلاثة عناصر تصنع الآن الحاضر العربي: أوّلها وأهمّها، اهتراء الأوضاع السياسية الداخلية بوجهيها الحاكم والمعارض. وثانيها، التدخّل الأجنبي في شؤون الأوطان العربية. وثالثها، هو غياب المشروع الفكري النهضوي الجاذب لشعوب الأمَّة العربية ولجيلها الجديد التائه بين السلبية والتطرّف.
لذلك كان مهمّاً استيعابُ دروس تجارب شعوب العالم كلّه، بأنّ الفهم الصحيح لمعنى “الحرّية” هو في التلازم المطلوب دائماً بين “حرّية المواطن” و”حرّية الوطن”، وبأنّ إسقاط أيٍّ منهما يُسقط حتماً الآخر.
صبحي غندور *مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن.