كان غِياب مُعظم الزّعماء العَرب عن قِمّة إسطنبول التي انعقدت لبَحث الانحياز الأمريكي للتّهويد الإسرائيلي للقُدس المُحتلّة، وطَمْس هَويّتها العربيّة والإسلاميّة، فاضِحًا ومُعيبًا، بكُل ما تَعنيه هذهِ الكلمة من مَعنى.
في هذهِ اللّحظة التاريخيّة الحَرجة، كان المَأمول أن تُوضع كل الخِلافات السياسيّةِ جانِبًا، وأن يَرتقي الجميع إلى مُستوى المَسؤوليّة تُجاه هذهِ الطّعنة المَسمومة، ولكنّهم خيّبوا آمالنا كالعادة، ولم يُشاركوا في المُؤتمر، بل أقدموا على تَخفيض مُستوى تَمثيلهم إلى أقل من مُستوى وزير الخارجيّة.
نحن نَسأل وبكُل صراحة لماذا غابَ العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز عن هذهِ القمّة، ولماذا قاطعها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ولم يُشارك فيها العاهل المغربي محمد السادس، رئيس لَجنة القُدس؟ فهَل القادة الأفارقة والآسيويون الذين حَرِصوا على الحُضور أكثر حِرصًا على القُدس المُحتلّة مِنّا نحن العَرب؟
***
يَقولون لنا أنّهم يُحاربون النّفوذ الإيراني الفارسي، الذي يُهدّد الأمّة العربيّة، ولكن جميع سياساتِهم، ونحن لا نَتردّد في التعميم، تَصُب في مَصلحة هذا النّفوذ وتَعزيزه، وآخرها مُقاطعة هذهِ القمّة، التي أخلوا ساحتها للرئيسين التركي رجب طيب أردوغان، والإيراني حسن روحاني، ليَتربّعا على قِمّة زعامة العالم الإسلامي، ويَقفون في صَفْ الجماهير العربيّة الغاضبة والمُحتقنة في مُواجهة الإذلالين الأمريكي والإسرائيلي مَعًا.
صحيح أنّنا كُنّا نَتوقّع تَبنّي هذهِ القمّة إجراءاتٍ عمليّة ضِد الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي، مِثل إغلاق السّفارات، أو سَحب السّفراء في أضعف الإيمان، وفَرضْ عُقوباتٍ اقتصاديّة، مثل مُقاطعة البَضائع الأمريكيّة، وتَخفيف الاعتماد على الدولار كعُملةٍ لتَسعير النفط، والتّعاملات والتّعاقدات التجاريّة، وهو ما لم يَحدُث للأسف، ولكن كيف يُمكن الإقدام على هذهِ الخَطوات ومُعظم الزّعماء العَرب، أهل القضيّة الأقرب فضّلوا عدم المُشاركة، بل وعَدم تغطية أعمال هذهِ القمّة إعلاميًّا، وما زِلنا نَأمل أن يَفي الرئيس أردوغان بوَعدِه ويُقدّم لنا النّموذج بإغلاق السّفارة الإسرائيليّة في أنقرة، وأن يَقطع العاهل الأُردني علاقاتِه مع تل أبيب، ويُلغي اتفاقيّات وادي عَربة، وبروتوكول الغاز الإسرائيلي للأردن.
إيران تَكسب في اليمن، وتَنتصر في سورية، وتُعزّز نُفوذها في العِراق، وتُجهض انفصالاً للأكراد، وتتبنّى المُقاومة الإسلاميّة في لبنان وفِلسطين، ويُهاتف الجِنرال قاسم سليماني قِيادات أجنحتها العَسكريّة، فماذا أنتم فاعلون؟ ولماذا تَلومون إيران إذا كانت تتمدّد بفَضل أخطائكم، وابتعادِكم عن قضيّة هذهِ الأمّة المَركزيّة الأولى، وعَدم تسارعكم للدّفاع عن المُقدّسات؟
كيف تُريدون أن لا يُقدِم المُحتجّون الغاضبون على حَرق صُورِكُم وإعلام بلادكم، وأنتم تُجاهرون بالتّطبيع مع العَدو الإسرائيلي العُنصري المُحتل، وتَنقلونه من قائمة الأعداء إلى قائمة الأصدقاء والحُلفاء، وتُطلقون العَنان لبعضِ مُثقّفيكم للتّبرؤ من القضيّة الفِلسطينيّة والقُدس المُحتلّة ومَسجد أقصاها، ونَزعْ القُدسيّة عَنه؟
لا نُجادل مُطلقًا بأنّكم أصدرتم بيانات تُؤكّد على عُروبة القُدس، وتُدينون قرار ترامب لاعتبار القُدس عاصِمةً للشّعب اليهوديّ، ولكنّنا لا نَرى أفعالاً، وإن رأيناها فتُوحي بعَكس ذلك تمامًا، فالحِرص على عَدم إغضاب ترامب يتقدّم على المَدينة المُقدّسة، والرّهان على إسرائيل كحليفٍ لمُواجهة إيران هو العَقيدة الجديدة.
وما خَيّب آمالنا أكثر، خِطاب “رئيس″ فِلسطين الطّويل المُكرّر الذي لم يَتضمّن كَلِمةً واحِدةً عن “المُقاومة”، أو “الانتفاضة”، أو سَحب الاعتراف بالدّولة الإسرائيليّة العُنصريّة، وتَجميد أو إلغاء اتفاقات أوسلو وكُل ما تَفرّع عنها من وقائِع على الأرض، خاصّةً قِيام السّلطة الفِلسطينيّة، فقد كان هذا الخِطاب نُسخةً من خِطاباتٍ سابِقة أُلقيت أمام الجمعيّة العامّة للأُمم المتحدة، الكَثير من الجَعجَعةِ والتّهديد، والقَليل من الطّحن والتّنفيذ.
***
رِهانُنا كان دائمًا على الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، ونُعيد التّأكيد بأنّ قرار ترامب المُهين والمُعيب، ليسَ وَحده الذي سيَصُب في مَصلحة تَصعيد التطرّف والإرهاب في مِنطقتنا والعالم، وإنّما أيضًا هذهِ المَواقف المُتخاذلة من زُعماء عَرب ومُسلمين تُجاه القُدس المُحتلّة، وما تَتعرّض له من تَهويدٍ وإذلال.
القِمّة الإسلاميّة في إسطنبول أسقطت الأقنعة، وكل أوراق التّوت، وأظهرت الوجوه والمَواقِف على حَقيقَتِها.. وهذا في حَد ذاتِه الإنجاز الأكبر لها.
إنّهم لم يَعزلوا قِمّة إسطنبول ومن شاركَ فيها أو تَزعّمها بمُقاطَعتِهم لها، وإنّما عَزلوا أنفسهم، وأطلقوا النّار على أقدامِهم، وصَبّوا أطنانًا من الزّيت على نارِ الكراهية تُجاههم، سِواء في أوساط شُعوبِهم أو الشّعوبِ الإسلاميّة، فهنيأً لهم.
القُدس هي البُوصلة.. فِلسطين هي عُنوان الكَرامة والشّرف.. وأمّتنا ستَنهض، أو بَدأت النّهوض من كَبْوَتِها.. وسَتعود قويّةً مُهابةً وأقرب ممّا تَعتقدون.. والأيّام بَيننا.
عبد الباري عطوان