تَستأنِف بعد غَدٍ الثلاثاء في جنيف المُفاوضات “المُباشرة” حول كيفيّة التوصّل إلى حلٍّ سياسيٍّ للأزمة السوريّة، بمُشاركة وَفدْ الحُكومة بقِيادة الدكتور بشار الجعفري، وحُضورِ وَفدٍ مُوحّدٍ عن المُعارضة السوريّة برئاسة السيد نصر الحريري، مُنسّق الهيئة العُليا الجديد، ولكن هُناك شُكوكٌ حقيقيّةٌ حول فُرَصِ نَجاحِها، لسببٍ بسيطٍ لأن العمليّة السياسيّة الحقيقيّة هي تِلك التي تَجري في مُنتجع سوتشي، برعايةٍ روسيّةٍ مُباشرةٍ، ومُباركةٍ إيرانيّةٍ تركيّةٍ ومُوافقةٍ رسميّةٍ سوريّةٍ، وتحت عُنوان الحِوار الشّعبي السّوري.
السؤال الذي يَطرح نفسه بقوّةٍ هو، أين الأمريكان، وأين السّعوديين، وأين القطريين، هؤلاء الذين كانوا يُشكّلون أرقامًا صَعبةً في الأزمة السوريّة طِوال السّنوات السّبع الماضية؟
السّعوديون والقَطريون انسحبوا من الدّوامةِ السوريّة، بعد أن تَيقّنوا بأنّ الاستمرار يَعني المَزيد من الخَسائر، علاوةً على احتمالِ الصّدام مع روسيا، التي باتت صاحبةَ الكَلِمةِ العُليا في هذا المَلف، سياسيًّا وعَسكريًّا، مُضافًا إلى ذلك انشغال الطّرفين في خِلافاتهما المُتأجّجة، أمّا الأمريكيون فيَعيشون حالةً من الارتباك غير مَسبوقة، عُنوانها حَتميّة الاعتراف المُباشر، أو غير مُباشر بالهَزيمة، ورَفع رايةِ الاستسلام البَيضاء.
***
عندما سُئِل جيم ماتيس، وزير الدّفاع الأمريكي، الأسبوع الماضي عن خُطط بِلاده بشأن وجود 500 من قوّاتها إلى جانب ضِعف هذا الرّقم من الفنّيين والإداريين العاملين في قِطاع خِدمَتِهم، خاصّةً أن السبب الرئيسي لذَهابِها لم يَعُد مَوجودًا بعد خسارة “الدولة الإسلاميّة” لأكثر من 95 بالمئة من الأراضي التي كانت تُسيطر عليها في سورية والعِراق، حاول الوزير الأمريكي المُراوغة، والإغراق في العُموميّات تَهرّبًا، وأهم ما قاله أن القوّات الأمريكيّة ستبقى حتى التوصّل إلى تَسويةٍ سياسيّةٍ بين الرئيس بشار الأسد والمُعارضة.
صحيفة “واشنطن بوست” كَشفت في تقريرٍ لها نَشرته الأسبوع الماضي أن وزارة الدّفاع الأمريكيّة تُخطّط لزِيادة عدد القوّات الأمريكيّة في شمال سورية من أجل مُواجهة النّفوذ الإيراني، حيث دَرّبت وسَلّحت قوّات سورية الديمقراطيّة ذات الغالبيّة الكُرديّة.
لا نعتقد أن إدارة الرئيس ترامب تستطيع البَقاء في سورية، سواء في الشّمال أو الجنوب، حتى لو تَضاعف عددها عشرات المَرّات، لأنّها ستُواجِه هزيمةً عسكريّةً وسِياسيّةً مُؤكّدةً، وستكون صيدًا ثَمينًا وسَهلاً لقوّات المُقاومة السوريّة و”حزب الله” والحَرس الثوري الإيراني في سورية، وقوّات الحشد الشعبي في العٍراق، لأن هذهِ القِوى، تتعطّش شَوقًا للانخراطِ في حربِ عصاباتٍ ضد الأمريكان على غِرار ما حَدث، وربّما أخطر، في العِراق بعد الاحتلال.
حُلفاء أمريكا في شمال سورية، أي قوّات سورية الديمقراطيّة، التقطت الرّسالة، وقَرأت الأوضاع المُستقبليّة المُتوقّعة في سورية، قراءةً صحيحةً، وأدركت أنّه لا يُمكن التّعويل كثيرًا على الوعود الأمريكيّة في الدّعم والمُساندة، في المَرحلة المُقبلة، وقرّرت الانضمام إلى المُعسكر المُنتصر، وكان السيد رياض درار، الرئيس المُشترك لمَجلس سورية الديمقراطيّة، الأكثر تَعبيرًا عن هذا التحوّل عندما صَرّح لشبكة “رووادو” الكُرديّة اليوم الأحد “أن قوّاته ستَنضم للجيش السوري الذي سيَتكفّل بتَسليحِها عندما تتحقّق التسوية السوريّة”.
***
الأكراد بدأوا يَتخلّون عن أمريكا قبل أن تتخلّى عنهم، وتتركهم يُواجهون مَصيرهم وَحدهم في مُواجهة التّحالف المُنتصر في سورية والعراق، وتَعلّموا دُروس الخُذلان التي تَلقّاها أشقاؤهم في شمال العراق بعد الاستفتاء، وشمال غرب سورية (قوّات الحِماية الكُرديّة) عندما باعها الرئيس ترامب للأتراك، وأعلن في مُكالمةٍ هاتفيّةٍ مع الرئيس رجب طيب أردوغان أن بِلاده ستُوقف كل أشكال الدّعم العَسكري لهذهِ القوّات من أجلِ إعادة التّحالف مع تركيا.
مُؤتمر جنيف الثلاثاء المُقبل سَيكون مُجرّد مَهرجان احتفالي، أمّا العُرس الحقيقي فسَيكون في سوتشي، بحُضور مُمثّلين عن أكثر من أربعين حِزبًا وتَنظيمًا وسلة وقبيلة، إلى جانب مُمثّلي الحُكومة لوَضعِ دُستورٍ جديدٍ، وتحديد مَوعد الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة المُقبلة، وكان قرار الحُكومة السوريّة بالمُوافقة على حُضور هذا المُؤتمر دون تَردّد ممّا يَعكس اطمئنانها لنتائِجه.
الأسد باقٍ في قَصر المهاجرين، وباتَ الحَديث عن رَحيله، بالنّسبة للمُعارضة خاصّةً، من المُحرّمات لأنّها بكُل بساطة لم تَكسب الحَرب مِثلما أفتى قداسة السيد ستيفان دي مستورا، وهو رجلٌ عالمٌ ببواطِن الأُمور، وظَواهِرها مَعًا.. وبوتين أعلم.
عبد الباري عطوان