بقلم : جعفر محمود
........
"العبودية" ربما هذه الكلمة أو هذا المفهوم هو الأكثر تعرضا للظلم في التاريخ الموريتاني والأكثر تعرضا للتسويق، وما تحتاجه الحالة الاجتماعية الموريتانية هو إعادة تشريح هذا المفهوم والتوسع في كل أبعاده التاريخية والاجتماعية والثقافية والدينية، وتناول المستجدات التي أسس لها الفهم المتناقض لهذا المفهوم المعبر عن حالة اجتماعية تاريخية وراهنية.
دوران مفهوم "العبودية" بين منطقين منطق يمتطيه برجعية تكرس واقعا طبقيا، ومنطق رجعي مضاد يقصي القراءات التاريخية المتزنة ويسعى لتجاوز ظلم إنساني ببنائه لظلم إنساني آخر.. المنطقين أو القرائتين جعلتا من شبه المستحيل تناول المفهوم بشكل متزن وتحليله بعيدا عن حضور حجج الطرفين وقراءاتهم اللحظية التي لا تبني عيشا مديدا ولا تكرس مصيرا مشتركا.
إن الواقع أو "اللحظة"هي نتاج للماضي وهي استشراف أو استعداد للعبور للمستقبل، ومن لا يملك إجابات واضحة على تحديات اللحظة لا قدرة له في التواجد على مسرح المستقبل، و علينا كجيل صاعد ان نعي لحظتنا بكل أبعادها المركبة والمتداخلة و نسعى لتجاوزها لا ننطلق من إنكار القائم ولا ننطلق من "لعبة التجريم" التي لا تؤسس لحل جذري ولا تنتج مجتمعا سليما.. فالقانون لا يبني مجتمعا ولا ينتج عيشا مشتركا.. لأن منطق القانون الإلزامي الإكراهي يتعارض مع طبيعة الرغبة الحاضرة في التعايش انطلاقا من نفس صافية وأخوة صادقة.. والأخيرة لا تتكرس بوجود ظلم بين ولا تتكرس بوجود تباين فج بين الشرائح، إن الحل في العقدة القائمة لا يكون بالقانون كما لا يكون بالتنكر للتاريخ ولا يكون أبدا بالانتقام أو محاكمة الواقع بتهم الماضي ومحاكمة الموجودين بتصرفات الغابرين.. إن الحل من وجهة نظري ومن تصوري الحقوقي يكون بالاشتغال على تجاوز الفجوة وردم الهوة وإعادة إنتاج طبقات متصالحة مع ذواتها ولا يكون ذلك إلا بمنح الفرص وتعويض التهميش التاريخي وإعادة تأهيل من وقع في حقهم الظلم الذي كرس انزوائهم عن الميادين التي هي عصب الحياة.. إن التعامل بمنطق المساواة وفق القانون هو منطق ظالم في الحالات "المهمشة" إذ تمنح الفرصة بالتساوي بين طرفين أحدهم يتقدم على الآخر بأكثر من 300 سنة من الوعي ومن المشاركة الاجتماعية الكاملة والتامة، وهنا يكون الظلم المقدم على طبق العدل، ومن هنا يجب النظر للقضية من زواية اجتماعية حقوقية تسعى لبناء طبقة متوسطة عريضة ينتقل لها المهمشون والغائبون عن المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإعادة توزيع للثروة وتخصيص مخصصات من الميزانية لإعادة تأهيل المهمشين تاريخيا ودعم المشاريع التنموية والدراسية الخاصة بهم والضامنة لإعادة استحضارهم لدورهم الحضاري ودورهم البنائي في المجتمع وفي الدفع بعجلة التنمية والبناء.
إن هذه الحالة "الاجتماعية" ليست نشازا في التاريخ أو في المنطقة، وليست طفرة اجتماعية امتاز بها الموريتاني عن غيره من الجنس البشري، إنها مظلمة إنسانية وجدت وتواجدت في أكثر من طيف اجتماعي، وفي أكثر من بلد، والنماذج عديدة، ومنطق التسوية والحل السليم يكون إفرازا داخليا وتفاعلا بين الواقع وبين الفاعلين فيه، ولا يكون بالطرح المستورد أو بإملاءات وتوجيهات الآخرين، وهنا يجب ان نؤكد كنخبة على خصوصية أي حالة إنسانية ورفضنا لتجرديها وتحويلها لنموذج عام بما فيها حالة "العبودية" في موريتانيا، والتي تتطلب لتجاوزها تسوية بمنطق الموريتانيين وانطلاقا من ذواتهم ومن خصوصيتهم الثقافية والتاريخية، والأهم انطلاقا من التركيبة التاريخية التي كانت في الممارسات والمسلكيات وكل الأدبيات التي أطرت تلك المرحلة وضبطت الحياة فيها.
إن هذا لا ينفي أن الموقف الإنساني الرافض في كل مكان للاستغلال والقهر مهم ومطلوب لكن في سياقات العولمة، والانتقال من السيادات القومية الداخلية للبلدان لسيطرة المؤسسات فوق القومية والعابرة للقارات بمصالحها وبتوجهاتها وبطرحها ونمطها الجديد في التوسع والسيطرة.. يضعنا أمام ضرورة توخي الحذر في التعاطي مع مثل هذه الدعوات.
إن حالة الصراع في موريتانيا على مستوى الكلمة والمفهوم أنتج حالة من العجز في التفكير عن إيجاد حلول جذرية للحالة القائمة، وأصبحت كل المعركة هل توجد العبودية أو لا توجد، وبين قائلين بالوجود وقائلين بالعدم تضيع الفرصة تلو الفرصة على الشعب الموريتاني في بناء مصالحة تاريخية تتجاوز به القائم وتعبر به لبر الأمان المنشود، وتتكرس المشكلة في التغير الجيلي لكل مجتمع وتبرز أجيال جديدة لا تتمتع بنفس النفس ولا تملك نفس القدرة على التعاطي والتفكير في الحل على مسافة قريبة من المشكلة ومن تداعياتها.. ما يضعنا أمام حالة جديدة تمثل في ادعاء طرف لمظلمة وإنكار آخر لها، وهنا تضيع حقوق وتتولد أزمات أعمق.