حالة التّصعيد المُفاجِئ الذي تَشهده الأزمة الخليجيّة في الوقت الرّاهن بعد انهيار “مُبادرة” الحِوار القَطريّة المُفاجئة، وازدياد حِدّة الحَملات الإعلاميّة شراسةً بين قُطبيها الرئيسيين، أي السعودية وقطر، لا بُد أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يَضرب كفًّا بكف أسفًا على رِهانه على إقامة حِلف خليجي عربي، يُمكن أن يَتصدّى لمُواجهة التهديدات الإيرانيّة في مَرحلة ما بعد هزيمة “الجماعات الإرهابيّة” في سورية والعراق، وتغلغل النّفوذ الإيراني في البَلدين، على حَد وَصفه.
اللّيلة الماضية كانت ليلةً “عاصفةً” فِعلاً، جاءت استمرارًا لليالٍ أُخرى مُماثلة حَفلت بها الأزمة الخليجيّة مُنذ بدايتها قبل مئة يوم تقريبًا، فقد كانت بداياتها (أي الليلة) سعيدةً، ومُفاجئة، تمثّلت في احتفال قناة “العربية”، الذّراع الإعلامي الأقوى للتّحالف الرّباعي ضد قطر، ببثّ بيانٍ حُكوميٍّ عاجلٍ، وَرد على وكالة الأنباء السعوديّة الرسميّة، يُؤكّد أن الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر، بادر بالاتصال بالأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، عبّر خلاله عن استعداده للجُلوس على مائدة الحِوار مع مُمثّلي الدّول المُقاطِعة (بكَسر الطّاء)، ومُناقشة مَطالبها بما يَحفظ مصالح الجميع، وأكّدت المحطّة أن الأمير محمد بن سلمان رحّب بالاتصال، ووعد بردٍّ رسميٍّ بعد التّشاور مع شُركائه في التّحالف.
***
هذا الخَبر الذي جاء قبل مُنتصف الليل، ولا نَعرف لماذا تأتي جميع أنباء وتطوّرات الأزمة الخليجيّة في ساعةٍ مُتأخّرةٍ، أثار حالةً من التّفاؤل بقُرب انتهاء الأزمة، ولكن “الحُلو لا يَكمل”، مِثلما يَقول المَثل العَربي العامّي، فبَعد أقل من ساعةٍ بثّت “العربية” نفسها خبرًا عن اتخاذ المملكة قرارًا بوَقف جميع الاتصالات مع دولة قطر، واعتبار مَوقفها المُرحّب باتصال الأمير القطري “مُجمّد” ريثما تُؤكّد دولة قطر حقيقة موقفها، وفتحت المحطّة، أي العربية، شاشتها لمُحلّلين سعوديين ومصريين هاجموا دولة قطر بشراسةٍ، وتحدّثوا عن “دولةٍ عميقةٍ” تُدير شؤونها، وأكّدوا صراحةً أن الأمير تميم ليس صاحب القرار الأول والأخير، في تلميحٍ إلى والده، وأن بلاده غير جادّةٍ في حل الأزمة وتتمسّك بسياسة “التسويف” السّابقة.
كلمة السّر التي فجّرت مَوجة الغَضب السعودي هذه كانت قناة “الجزيرة”، التي تُشكّل صُداعًا مُزمنًا للدّول الأربع، ولهذا تصدّرت المُطالبة بإغلاقها الطلبات الـ 13 التي قدّمتها لدولة قطر عبر الوسيط الكويتي لرَفع الحِصار وإنهاء الأزمة.
“الجزيرة” بثّت بيانًا رسميًّا تحدّثت فيه عن “اتصالات” بين الشيخ تميم والأمير بن سلمان، وبناءً على تنسيقٍ من قِبل الرئيس ترامب، ولم تَذكر أن الشيخ تميم هو الذي بادر بالاتصال، وأوحت أن هذهِ الاتصالات جاءت تلبيةً لجُهود الرئيس ترامب لحَل الأزمة، وأعادت التأكيد على أن أيّ حواراتٍ مُستقبليّةٍ ستتم على أرضيّة احترام سِيادة الدّول.
الطّرف السعودي يُريد أن تَظهر دولة قطر بمَظهر الطّرف المُتنازل والمُبادر بطلب المُصالحة، والقُبول بالمَطالب الـ 13 كاملةً، والتّفاوض على آليات تطبيقها فقط، بينما يُريد الطّرف القطري في الناحية المُقابلة أن يُؤكّد عدم تقديمه أيّ تنازلاتٍ تَمس سيادته، وأنّه لبّى طلبًا من رئيس الدّولة الأعظم في العالم.
الأزمة الخليجيّة عادت إلى المُربّع الأول، ومَنسوب الثّقة بين أطرافها انخفض إلى أدنى مُستوياته، وفُرص التسوية السياسيّة باتت مَعدومةً في المُستقبل المَنظور، إلا إذا رفعت دولة قطر الراية البيضاء، وذهب أميرها إلى الرياض طالبًا الصّفح والغُفران، ولا نَعتقد أنه سيَفعل هذا في الأيام المُقبلة على الأقل، لأن جُرح الكِبرياء السّعودي ازداد عُمقًا.
أمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد، أراد أن يُضيف بُعدًا وصلابةً أمريكيّة لمُبادرة بلاده أثناء زيارته لواشنطن، واجتماعه بالرئيس ترامب يوم الخميس الماضي، ولكن النّتائج جاءت عَكسيّةً تمامًا، وأدّى تدخّل الرئيس الأمريكي ومُهاتفته لزُعماء السعودية والإمارات وقطر (جرى استثناء البحرين ومصر)، إلى تَعقيد الأزمة، أكثر ممّا هي مُعقّدة، وانطبق عليه المَثل الذي يقول “جاء يكحّلها عماها”.
هذه الأزمة وتطوّراتها كَشفت أنّه لا سيادة لأيّ دولةٍ خليجيّةٍ، أو حتى عربيّة، فمن يَملك السيادة الحقيقيّة هو البيت الأبيض وساكنه، وأيّ حديثٍ مُخالفٍ، هو مُجرّد ضَحكٍ على الذّقون، وخِداعٍ للنّفس.
***
الحَل العَسكري للأزمة الخليجيّة، بات أقرب من أيّ وقتٍ مَضى في ظِل انسداد الأُفق الدبلوماسي وتفاقم الخِلافات، ولم يُبالغ أمير الكويت عندما أكّد في مُؤتمره الصّحافي في واشنطن أن وَساطته مَنعت التدخّل العَسكري، ونَعتقد أنّها “أجّلته”.
العاصمة البريطانيّة لندن ستَستضيف مُؤتمر للمُعارضة القَطرية يوم الخميس المُقبل، ويَجري تحشيدٌ إعلاميٌّ وسياسيٌّ كبيرٌ له، وعلى أعلى المُستويات، وقد تكون هُناك قنوات تتولّى تغطية وقائعه على رأسها “العربية” و”سكاي نيوز عربية”، ومُعظم القنوات السعوديّة والإماراتيّة، وتردّد تكهّنات بأن الشيخ عبد الله بن علي آل ثاني، “أمير الظّل” القطري، هو الذي سيقوم بافتتاحه، بإلقاء خِطابٍ فيه، ربّما يتضمّن “مُفاجآت”.
لا نَستبعد أن يتدخّل الرئيس ترامب في الأزمة بشكلٍ مُباشرٍ في الأيّام المُقبلة، ويَفرض حُلوله على جَميع الأطراف، أو يُبدي انحيازًا لصالح طرفٍ ضد آخر، والأرجح أن يَميل إلى المُعسكر الذي يَملك جيبًا ماليًّا أعمق، وحَجمًا سياسيًّا واقتصاديًّا أكبر، ويَملك قُدرةً أكبر على فَهم عَقليّة رِجال الأعمال.. والله أعلم.
عبد الباري عطوان