يَصعب علينا، وربّما على غيرنا أيضًا، التأكّد من صحّة التسريبات الغربية “المُتناسلة” التي نشرتها وكالة الأنباء العالمية “رويترز″، وقالت فيها أن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز الذي يَستعد لمُغادرة البلاد لقضاء إجازة قد تطول في مدينة طنجة (شمال المغرب) بعد يومين، قد سجّل شريطًا مُصوّرًا يتضمن تنازله عن العرش لابنه الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، وأن بث هذا الشريط ربّما يتم في شهر أيلول (سبتمبر) المُقبل، ولكن القرار الأخير والأحدث الذي أصدره العاهل السعودي مساء أمس الخميس، باستحداث جهاز “رئاسة أمن الدولة” الذي سيتبع لمجلس الوزراء، أي للملك شخصيًا، ربّما يكون الخُطوة التمهيدية الأخيرة لهذه الخُطوة، أي التّنازل عن العرش.
هذا المرسوم الملكي بإنشاء هذا الجهاز الأمني، وإلحاق كل المُؤسّسات الأمنية الأخرى به، بما في ذلك القوّات الخاصّة، ووحدة مُكافحة الإرهاب، وفرع التحقيقات، يعني نزع جميع الصّلاحيات الأمنية المُهمّة من وزارة الدّاخلية، وتحويلها إلى وزارة “بروتوكولية” تنحصر مهامها في قضايا المُرور، ومُكافحة الجريمة والمُخدّرات، وما شابه ذلك من أمور جنائية.
***
صحيح أن وزارة الدّاخلية ظلّت محصورةً في أسرة الأمير نايف بن عبد العزيز بعد الإطاحة بنجله وخليفته الأمير محمد بن نايف ولي العهد “المَعزول”، وتعيين ابن شقيقه عبد العزيز بن سعود بن نايف في هذا المنصب، لامتصاص غضب هذا الفرع من الأسرة بعد عزل محمد بن نايف من ولاية العهد، وكل مناصبه الأخرى، وفرض الإقامة الجبرية عليه في قصره في مدينة جدّة، في “انقلابٍ صامت”، ولكن الصّحيح أيضًا أنه، وبعد نقل جميع صلاحياتها الأمنية إلى الهيئة الجديدة، باتت وزارة “منزوعة الدّسم” وبلا مخالب أو أنياب، وهي الوزارة التي كانت الأهم في الدّولة، وصمّام الأمان لاستقرارها، ووجود الأُسرة الحاكمة.
تعيين الجنرال عبد العزيز الهويريني، رئيسًا لجهاز “أمن الدّولة” الجديد، ربّما يكون إجراءًا انتقاليًا مُؤقّتًا، لأن الجنرال الذي عمل مُستشارا للأمير بن نايف، ويَعرف جيّدًا مفاصل وزارة الدّاخلية، ويملك كفاءة عالية في الحِفاظ على أمن البلاد ومُحاربة الإرهاب، الأمر الذّي جعله مصدر ثقة للأجهزة الأمنية الأمريكيّة التي تعاونت معه، ولا نستبعد أن يتم إعفاؤه من منصبه فور إكمال مُهمّته الجديدة في وضع هيكلية الجهاز الأمني الجديد، خاصّةً بعد تردّد تقارير غير مُؤكّدة بوضعه تحت الإقامة الجبرية بعد عزل الأمير بن نايف.
الجنرال الهويريني، بحُكم كونه من عامّة الشعب، وليس من الأسرة الحاكمة، لا يُشكّل خطرًا على الملك المُقبل، أي الأمير محمد بن سلمان، ولكن قُربه من الأمير بن نايف، وقبلها والده، لا يبعث على الاطمئنان، ولا يُوحي بالثّقة، لأن الأمير بن سلمان يُفضّل، وبالنّظر إلى تعيينات سابقة، العمل مع رجاله فقط، خاصّة في المناصب الأمنية والعسكرية الحسّاسة، وهذا الأمر غير مُفاجيء في منطقة الشرق الأوسط المعروفة بانقلاباتها وحُروبها وثوراتها والتدخّلات الخارجية، والأمريكيّة بالذّات في شؤونها الداخلية والخارجية معًا.
لا نختلف مُطلقًا في هذه الصحيفة “رأي اليوم” مع مُعظم الآراء، إن لم يكن كلها، التي تقول أن الأمير بن سلمان، وبعد هذا المرسوم، عمل على تركيز كل السّلطة السّعودية ومؤسساتها بين يديه وأنصاره، في سابقة لم تعرفها الأسرة السّعودية مُنذ سيطرتها على الحُكم، حيث جرى العُرف على توزيع دائرة المُشاركة فيه، أي الحُكم، على مُعظم أجنحتها، وتحقيق توازن في هذا المضمار، والسّعودية اليوم هي غير السّعودية التي نعرفها، وهذا لا يعني أنّها أفضل أو أسوأ، فالسّنوات القليلة المُقبلة، وفي ظِل حُروبها الحاليّة في اليمن، وربّما القادمة في قطر، هي التّي ستُجيب على هذا السّؤال.
***
عملية التّهميش لم تمس بعض أجنحة العائلة، وأبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود الأحياء، ونسبة كبيرة من أحفاده فقط، وإنّما بعض أبناء الملك سلمان، أشقاء الأمير محمد، ولي العهد، باستثناء أخيه خالد الذي جرى تعيينه سفيرًا في واشنطن، ولم يتم تعيين الأشقّاء الآخرين حتى الآن، مثل سلطان، وعبد العزيز، وفيصل، إلا في مناصب “ثانوية” في نظرهم والكثيرين غيرهم.
حتى قائد الحرس الملكي الفريق حمد العوهلي، المَعروف بولائه للملك والأسرة، أُطيح به من منصبه، وجرى تعيين الفريق أول سهيل المطيري خلفًا له، وكأنّ الأمير محمد بن سلمان يقول هذا هو رئيس حرسي الملكي المُستقبلي.
المملكة الآن حسب توقّعاتنا تنتظر مرسومًا أو إعلانًا واحدًا فقط، وهو أن يصحو الناس فجر أحد الأيام، أو في ساعةٍ مُتأخّرةٍ من الليل، على بيانٍ صادرٍ عن الديوان الملكي يُعلن تنازل خادم الحرمين عن العرش لابنه محمد بن سلمان، ويدعو أعضاء الأسرة الحاكمة وكِبار مُوظّفي الدّولة، ورجال الدّين والمُواطنين إلى مُبايعته، ولا نعتقد أنّ هذا اليوم بات بعيدًا.
هل سيكون هذا الانتقال للسّلطة بالسّلاسة “المُعلنة” نفسها التي حدثت عندما تمّت الإطاحة بوليين للعهد (الأمير مقرن ومحمد بن نايف في غُضون عامين)؟، لسنا من المُنجّمين وقُرّاء الكف، ولكن لا نستبعد أي من الاحتمالات المَطروحة، وما أكثرها هذه الأيام.
عبد الباري عطوان